قراءات نقدية

عبد الستار نورعلي: وحدة النقيضين في رباعية يحيى السماوي (في يدي وردٌ)

في التيار الكهربائي هناك سلكان نقيضان: سالب وموجب، لكن حين يتصلان يحدث أحدُ أمرين: صعقة كهربائية حارقة أو: إضاءة كاشفة لمصباح

النقيضان المتصلان، المتحدان، والمرتبطان عضويّاً، وانفعالياً في تلاحم بيّن في قصائد يحيى السماوي، يحدثان كلا الأمرين معاً، الصعقة والإضاءة، ليتركا أثراً بالغاً بعدهما في ذائقة القارئ: الصعقة والدهشة، والانتباه والشدّ، وشحنة من الهزّة الشعورية. ثمّ الإضاءة الكاشفة بعدها لما خلف هذه الصعقة الحسّية، أثناء التلقي:

ليلٌ وصبحٌ

شمسٌ وظلٌّ

ثأرٌ وصفحٌ

الصاحي... النائم

الأحلام واليقظة

تكتب وتمحو

فالجمع بين النقيضين، كما ورد في رباعية الشاعر الكبير يحيى السماوي التالية أدناه (مثالاً لما ذكرنا)، لا يأتي من فراغ، بل منْ طبع شاعريّ شعريّ - لا صنعة شعرية جامدة تقليدية - ومن بوحٍ شجيّ سلس رهيف، أثناء نزول الوحي بعد تجربة وجدانية عميقة الغور في النفس، ضاغطة لتنفجر، وهي سمة جمالية بلاغية حاضرة في صياغات شعر شاعرنا الكبير. وهي لا تتوفر إلا لشاعر مقتدر بقامته، تقف خلفه موهبة ثرية، وتجربة غنية طويلة، وخزين شعري، وثقافي عام. إنه يخلق من النقيضين لوحة متكاملة الألوان والأبعاد، فكأنهما نسيج واحد متشابك الخيوط بلونين مختلفين، يضيفان جمالية مبهرة للنظر شكلاً، وللنفس مضموناً، ومدهشة للتلقي حسّاً، إذ لا يمكن الفصل بينهما؛ لأنه يكمل أحدهما الآخر. فلا بد حين يُذكر واحد منهما أو يُرسم أنْ يؤتى بالثاني لتكتمل الصورة المرسومة في القصيدة، فتكون لوحة موحدة متقنة تجمع الضدين معاً، في إطار فنيٍّ من الأحاسيس والروح، لوحة مرسومة بألوان القوس قزح الحسية التعبيرية، والتصويرية، واللغوية، ببلاغتها التي تتغذّى من بلاغة الشاعر الخاصة المتميزة، والمتصفِّ بها، والتي هي من سمات شاعريته وشعريته غير المألوفة.

هذا الجمع بين الضدين (النقيضين) في لوحة شعرية واحدة، وصورة ممتزجة في وحدة موضوعية حسية روحية غير مرئية، ولا مُلتقَطَة بتعمّد وسبق إصرار شعري، وتخطيط مُسبَق، إنما تأتي هكذا عفوية من طبع السماويّ الشعري الفذَ، حين يهبط الوحي عليه، بلا استئذان، أو دقّ باب المشاعر والإيحاء، ومنهما يبدأ في نسج سجادة شعرية ملوّنة؛ ليكون النقيضان فيها شكلاً فنيّاً منسجماً متآلفاً في الشكل والمضمون داخل روح القصيدة وصورها، ومشاعر وإرهاصات وخيال الشاعر المُحلّق الغنيّ، فتعمل على إبراز جمالية وحلاوة القصيدة، وإشباع ذائقة المتلقي الباحث عن الجمال والدهشة والبريق في القصيدة، التي تشبع ظمأه الجمالي والشعري لما يثير الإبهار من الشعر. فلا تكون القصيدة مجرد شكل بلاغي تصويري وأسلوب جميل جذاب، وإنما عمقاً غزير المعان،ي والصور، والإشارات، والدلالات، والأبعاد، والثرّ بما يزخّه التاريخ الأسطوري، والديني، والثقافي، والسياسي، والاجتماعي، مما تكتنز القصيدة بها، وبالتضمين منها، واستيحائها، أحداثاً، وشخصياتٍ، وأقوالاً، وحِكَماً، ومواعظَ حسنة نستلهم حكمتها، ورؤيتها، وبُعدها الإنساني المضيء.

الشعر الحقّ، والأصيل، والخالد، هو ما قلناه أعلاه في بعض ما نقرأه في قصائد شاعرنا الكبير السماويِّ يحيى.

هذا غيض من فيض شاعريته الفذّة، التي ليست بحاجة الى شهادة؛ فهي تحصيل حاصل.

***

عبد الستار نورعلي

الأربعاء 25.6.2025

.....................

الربـاعـيـة

فـي يـدي وردٌ وفـي روحـيَ جُـرحُ

فـالــنَّـقــيـضـانِ أنــا: لــيــلٌ وصُـبـحُ

*

والــصّـديـقـان أنـا: شــمــسٌ وظِــلٌّ

والـــعَـــدُوّان أنـــا: ثــأرٌ وصَـــفـــحُ

*

لا أنـا الـصّـاحـي فـأغـفـو عـن قـذىً

أو أنــا الــنـائــمُ جــذلانَ فــأصــحــو !

*

لـم تــزلْ صــفـحـةُ عــمـري زَبَــداً

تـكـتـبُ الأحــلامُ والـيـقـظـةُ تـمـحـو !

 

في المثقف اليوم