قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: قراءة نفس - رمزية وتأويلية في نص الشاعر خلدون عماد رحمة

"بثوبِ صلاتها المطرّز بالدعاء".

صباحُ الحياةِ يا أمي": الحضورُ الغائب والرمزُ الأمومي في مرثية خلدون.

تعالج هذه الدراسة نصاً نثرياً شِعريّ اللغة كتبه الشاعر والناثر خلدون عماد رحمة في رثاء والدته الراحلة انتصار، مقارِبة إياه من زوايا نقدية نفسية وتأويلية ورمزية. يُقرأ النص بوصفه انبثاقاً وجدانياً عميقاً تتجلى فيه صورة الأم لا بصفتها فرداً غائباً، بل حضوراً متعالياً يتجاوز حدود الزمن والواقع. تقترح هذه الورقة أن الأم في النص ليست فقط أمّاً بيولوجية، بل كائناً رمزياً مركّباً يعبّر عن الأصل، والكينونة، والحقيقة المفقودة، والهوية الجذرية. من خلال تحليل الصور الشعرية، والبنية النفسية الرمزية، تسعى الدراسة إلى إظهار كيف يتحوّل الفقد إلى طقس استحضار، وكيف يتحوّل الألم إلى طاقة رمزية كاشفة عن أعماق اللاوعي الفردي والجمعي معاً.

النص الأدبي موضع الدراسة:

بثوبِ صلاتها المطرّز بالدعاء، بضحكتها الدافئة كامتلاءِ الفمِ بالحليب، بمراياها العميقةِ حيثُ أراني بكلِّ أبعادي، بأصابعها إذْ يكون المرمرُ طرياً، بعينيها الخالدتين اللتين تفضيان إلى برزخٍ يفصلني عن العالم، بحكمة صبرها ورهافة حسّها وبراعة حدسها، بلحمها ودمها، بكلِّ ما فيها… دخلتْ غرفتي.

هل أنا حيّ لأصدّق ما أرى؟ دخلتْ عليّ بفرحٍ هادئٍ فتصدّعَ جبلُ حزني، أضاءت غاباتِ عزلتي بنورٍ يشعشع من أقمارِ محيّاها، غطّت المكانَ بحريرِ حنانها، صبّت روحَها في صدري فاندهش الطفلُ الغامض في روحي، خطفتني برائحةِ عطرها السريّ الطالع من مشيتها الملائكيّة.

التبسَ عليّ صحوي، شككتُ بجسدي أتحسّسُه، غرقتُ حواسي ببحر الجنون.

جلستْ أمامي على الكنبى وقالت بصوت الحبّ:

– صباح الخير يا أمّي

صرختُ من جوفي:

– صباحُ الحياةِ يا أمّي

همست:

– أشتهي فنجانَ قهوةٍ من يدكَ

ارتبكتُ جداً حتى احترقت شجرةُ الكلام في حنجرتي، فأوحيتُ لها بلغةِ العينِ الدامعة:

– سأغلي القهوةَ على نارِ قلبي.

وضعتُ الركوة وعدتُ مُسرعاً نحوها… لم أجدها… لم أجدْ إلا ثوبَ صلاتها مُعلّقاً على كتفِ غربتي.

أولاً – القراءة النفسية: الأم كصورة أولى وكمعادل للذات:

يمثّل حضور الأم في النص حالة اندماج سيكولوجي، يُعيد القارئ إلى مفهوم "الأم الكبرى" في علم النفس التحليلي اليونغي،ـ نسبةً إلى كارل غوستاف يونغ ـ والتي تمثل الرحم الأول، والأمان الكلّي، والمصدر الذي لا ينضب للمعنى والاحتواء. هذه الأم ليست فقط واقعية، بل هي المتجلية عبر كل تفصيل شعري وحسي: ثوب الصلاة، الضحكة، المرايا، الأصابع، العينان. إنها تجسيدٌ للحنوّ الكلي.

لكن حضورها أيضاً مشبعٌ بالانفصال، لأن كل عنصر يشي بنهاية أو فقدان، بما في ذلك اللحظة الأخيرة التي لا يُبقي منها سوى "ثوب الصلاة". هذا ما يشير إلى أن الذكرى في النص لا تُستدعى فقط، بل تُعاد كتابتها كواقع بديل عن الحاضر، عبر إعادة تمثيل "زيارة طيفية" للأم.

ثانياً – القراءة الرمزية: الأم كبرولوجيا الحضور والمطلق:

تمثّل الأم في هذا النص معادلاً رمزياً لفكرة "الحق" أو "الوجود الأصلاني". فالموت لم يُلغِ كينونتها، بل منحها حضوراً مطلقاً في عالم الشاعر. تقول الرؤية الرمزية إنّ الحضور لا يتحقّق بوجود الجسد، بل بسطوة المعنى. ولهذا تتكرر في النص صور النور (يشعشع، أقمار، غابات العزلة)، وهي استعارات ترمز إلى الخروج من العتمة إلى الانكشاف.

الأم هنا ليست شخصية فحسب، بل هي مفهوم كليّ للحنان الإلهي والسكينة الوجودية. وهي التي تخرج الشاعر من غربته – "صبّت روحها في صدري" – وهذا ليس فعلاً شعرياً فحسب، بل فعل تخلّق رمزي: "خلق جديد" للذات من خلال استحضار الأم كفكرة مطلقة.

ثالثاً – التأويل الوجودي: الحضور كأفق للحب، والفقد كمعنى للحضور:

عندما تقول الأم: "أشتهي فنجان قهوة من يدك"، تتحوّل هذه الجملة إلى استعارة عميقة لممارسة الحبّ الهادئ والمشاركة الإنسانية الكاملة. إنها لحظة اندماج تتجاوز الزمن، لكنّها أيضاً لحظة انكسار، لأن الواقع لا يفي بالوعد. يفور القلب لا الركوة، ولا تصل القهوة إلى فمها، لأن الغياب أسبق من الغلي.

وفي اللحظة الأخيرة، حين لا تبقى سوى "ثوب الصلاة"، تتكثّف دلالة المفارقة بين ما هو حاضر (الثوب، الذكرى، الحب) وما هو غائب (الذات الأم). وهكذا يصبح النص مرثية وجودية، حيث الذكرى ليست للموتى بل للأحياء الذين يُقتلعون من أمومتهم فجأة.

خاتمة:

إنَّ نص خلدون عماد رحمة لا يُكتب في باب الرثاء فقط، بل في باب الميتافيزيقا الشعرية للغائب، وهو نص يوسّع مفهوم "الحضور" ليتجاوز الجسد إلى الأثر، و"الحنان" ليتحوّل إلى رؤية كونية. وفي هذا المسار، تتحول الأم من شخص إلى بنية دالة، من جسد إلى لغة، ومن ألم إلى نور. لذا فإن "صباح الخير يا أمي"، ليست تحية يومية، بل إعلان ولادة متجددة من رحمٍ يتجاوز الموت.

***

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين .

في المثقف اليوم