قراءات نقدية
البرهان حيدر: شرح ونقد قصيدة "ومضات" ليحيى السماوي

ملخص تحليلي للقصيدة
تعد "ومضات" نموذجًا مكثفًا لشعر يحيى السماوي، حيث تجسد ثنائية الحب والوجود عبر استعارات جسدية طازجة ورمزية تراثية مُعاد تشكيلها. القصيدة تنتمي لقصيدة النثر العربية، معتمدة على التكثيف والمفارقة، وتمزج بين البراءة والعاطفة الجياشة، وهو ما يُميز تجربة السماوي الشعرية .
الشرح التفصيلي للمقاطع مع التحليل
1. المقطع الأول: الحب كفعل طفولي مقدس
"فمي طفل .. / دُميَّتُهُ شفتاك"
- الشرح: يحوِّل الشاعر فمه إلى "طفل" والمحبة إلى "دمية"، مستخدمًا استعارة تُجسد العلاقة الحميمة كلعبة طفولية بريئة.
- التحليل: هذه الصورة تعكس التبسيط الشعري الذي يميز السماوي، حيث يختزل التعقيد العاطفي في علاقة أبوية (فم/طفل) وجسدية (شفتان/دمية). التوظيف يذكرنا بقصيدته "شاهدة قبر من رخام الكلمات" حيث الجسد يُصبح مادةً للإبداع والألم .
2. المقطع الثاني: الكتابة كفعل جسدي
"فمي قلمٌ .. / لا يُحسن الكتابةَ / إلاّ / في دفترِ شفتيك"
- الشرح: الكتابة هنا مشروطة بالوجود الجسدي للمحبوبة، فـ "دفتر الشفتين" هو حيز الوجود الوحيد للإبداع.
- التحليل: الصورة تكرس الارتباط العضوي بين الجسد والكلمة، وهو ما نجده في ديوان "كتاب الحب/فصل القبلة" للسماوي . التكثيف يُحيل إلى فلسفته: "الإبداع لا ينبثق إلا من جسد الحبيبة-الوطن" .
3. المقطع الثالث: التحول الوجودي عبر النظرة
"لكثرة تحديقي... / سريري بستانا!"
- الشرح: التحديق المستمر في "قميص النوم الأخضر" يُحدث تحولًا سحريًا: العين تُنبت عشبًا، والوسادة تتحول إلى شجرة كرز.
- التحليل: السماوي يستخدم الانزياح الأسطوري (تحول الأشياء عبر الحب) لخلق عالم موازٍ. الأخضر يرمز للخصوبة، والكرز للحياة، في إشارة إلى قدرة الحب على تحويل المنفى إلى جنة .
4. المقطع الرابع: الوطن المجازي
"أنا وطنٌ / أنت عاصمته!"
- الشرح: الذات تُصبح "وطنًا" والعاشقة "عاصمته"، في مفارقة تدمج الحب بالانتماء.
- التحليل: هذه الصورة تُجسد المنفى الداخلي للسماوي، ففي حواره يقول: "العراق وطني ومنفاي في ذات الوقت" . العاصمة هنا مركز للوجود، كما النهر السومري في "نبضات".
5. المقطع الخامس: الثنائية المقدسة (القرب/البعد)
"أيتها البعيدة... / أنتِ مطلعها!"
- شرح: البعد الجسدي ("بُعد الشيطان") يقابله القرب الروحي ("قرب الله").
- تحليل: السماوي يعيد صياغة الرمز الديني لخدمة التجربة الإيروتيكية، كما في "تفاحة آدم" في "نبضات" . القصيدة تُختزل في بيت واحد، كناية عن مركزية المحبوبة في الوجود.
6. المقاطع الأخيرة: الحسية والبراءة
"سأقشِّركِ مثل برتقالة... / لا يأكلُ دُميَتَهُ الوحيدة"
- الشرح: العاشق يعد بعدم الإيذاء ("جنوني لا أنياب له") ويؤكد براءة رغبته ("الطفل لا يأكل دميته").
- التحليل: الجمع بين العنف الرمزي ("قضم"، "أنياب") والطمأنينة ("آمنةً") يعكس تناقض المشاعر الإنسانية. الصورة الأخيرة تُختتم بـ الطفولة الشعرية التي يصفها السماوي: "تحت عباءة كهولتي يختبئ طفل" .
السمات الفنية والموضوعية
1. التكثيف والانزياح:
- كل مقطع يُشكل "ومضة" مستقلة، لكنها ترتبط بشبكة رمزية موحدة (الجسد، الطفولة، الوطن). السماوي يُعرف بـ "اقتصاد اللغة" وفق الناقد عصام شرتح .
- الانزياحات تُكسر المألوف: "العين تُنبت عشبًا"، "السرير يصير بستانًا"، مما يخلق شاعرية مفاجئة.
2. الرمزية المزدوجة:
- الرموز تحمل دلالتيْن: جسدية (الشفتان، القميص) ووجودية (الوطن، المنفى). الناقد حيدر الحمداني يرى أن السماوي "يحول الرموز التراثية لتعبر عن الحب الفردي" .
3. المفارقة والتناقض:
- الجمع بين "البعد/القرب"، "العنف/البراءة"، "المنفى/الوطن". هذه الثنائيات تعكس رؤية السماوي للحب كـ "فردوس يُطهر من خطيئة المنفى" .
4. اللغة والإيقاع:
- اللغة بسيطة لكنها مشحونة بالمجاز، مع إيقاع داخلي يعتمد على التكرار ("فمي... فمي") والتوازي ("بعيدة... قريبة"). السماوي يرفض التزمت الشكلي لكنه يحافظ على موسيقى الشعر .
نقد وتقييم القصيدة
الإيجابيات
- جرأة الصور: تحويل الجسد إلى طفل/قلم/وطن يُعد تجديدًا في الشعر العربي، خاصة في المزج بين الحسية والبراءة .
- التماسك العضوي: رغم انفصال المقاطع، إلا أن شبكة الرموز (الجسد، الطفولة، الكتابة) تُوحد القصيدة، وهو ما يتوافق مع معايير قصيدة النثر حسب رحمن غركان .
- التكثيف المكثف: مثل "أنا وطنٌ / أنت عاصمته!" يختزل علاقة الحب بالوطن في بيتين، وهو ما يعد "نموذجًا مصغرًا" لأسلوب السماوي .
السلبيات المحتملة
- المبالغة في الاستعارات الجسدية: بعض الصور ("سأقشِّركِ مثل برتقالة") قد تُرى كـ "سادية ناعمة"، كما انتقد بعض النقاد قصائد السماوي .
- الانزياح المفرط: تحول "الوسادة إلى شجرة كرز" قد يبدو غامضًا للقارئ غير المتعمق في رمزيته.
السياق في تجربة السماوي
- المنفى والطفولة: القصيدة تعكس هاجس السماوي بالمنفى ("أنا وطن") واللجوء إلى الطفولة كملاذ روحي، كما في "شاهدة قبر..." حيث يقول: "كنت طفلاً حتى على مشارف الستين" .
- الحب كفردوس بديل: في ظل غياب الوطن، يصير جسد الحبيبة فردوسًا، كما في "نبضات" حيث "الفردوس" مكان للطهارة .
الخاتمة: "ومضات" كمرآة لتجربة السماوي
"ومضات" ليست مجرد قصيدة حب، بل هي تأمل وجودي في علاقة الذات بالآخر والوطن. السماوي هنا يواصل مشروعه في "تحويل الألم إلى فن"، كما في قوله الشهير: "سأقيم من تلقاء حزني مهرجانًا للفرح" . القصيدة تثبت أن شعره – كالماء في رمزيته – قادر على خلق الحياة حتى في صحراء الغربة، مُحققًا المعادلة الصعبة: البراءة في العاطفة، والخلود في اللحظة.
***
البرهان حيدر