قراءات نقدية
عبد النبي بزاز: الميزات والمكونات الشعرية في مجموعة

"غراب يواري سوءة الليل"
يتميز ديوان " غراب يواري سوءة الليل " للشاعر المغربي رشيد سبابو بميزات وخاصيات تعبيرية ودلالية تضفي عليه نزعة شعرية أكثر انفتاحا على عناصر ذات أبعاد رمزية تختزل الزمان والمكان والأعلام فضلا عن مكونات بلاغية وإيقاعية تغني نسيج المجموعة الشعرية من خلال ما تثري به نصوصها من تنويع وعمق يفتح أفقا مغايرا لإواليات التلقي القائم على تعدد افتراضات القراءة، ومقصديات التأويل، حيث يطالعنا من أول نص " غراب يواري سوءة الليل " العنصر المجازي بمختلف ضروبه وأنواعه من استعارة في: " أحيك من الشعر لباسا فضفاضا... أغطي عري ذاتي بالكلمات البتولة " ص 6، في استعارة اللباس المحاك من الشعر، وتحويل الكلمات إلى غطاء، وتشبيه، ضمني، للشاعر بقطرة ماء: " وربما أكون قطرة ماء تسللت من فم عطشان وانتحرت غارقة في نهر الحب " ص 13، هي القطرة المرتسمة على فم عطشان، يتوق لإرواء عطشه ولو بقطرة ماء لا يتوانى الشاعر في إلباسها مسوحا استعارية تنتهي بها منتحرة غرقا في نهر الحب، صورة تندرج في سياق نسق بلاغي جمالي تتنوع مساراته وتتعدد: " أقلعت عن تدخين الحياة " ص18، في تبديل للسيجارة بالحياة، وما يفرزه ذلك من تصورات ورؤى تنزاح عن النمط الشعري السائد والمألوف. واستعارة الصمت للتفاصيل، وخلط الأوراق للنسيان: " تصمت كل التفاصيل عندما يخلط النسيان الأوراق.. " ص22، مع إلباس التفاصيل والنسيان رداء فضفاضا، وما يحمله كفعل بحمولات غريبة وعجيبة من امتدادات بعيدة المرامي، ومتشعبة المقصديات.وفي تساوق مع عنصر الاستعارة تبرز العديد من الصور الشعرية، مثل: " حب يتدفق من بين يدي إله " ص17، حب لا متناهي الحدود، غير محدد الكنه والماهية ينبثق من ذات إلهية علوية المقام، سامية المرتبة، وتصوير لنغم الناي وما يحمله من شجن وكرب: " ناي يبكي بصخب " ص 24، ومدى هيمنة الزمن وتحكمه في مصير أشخاص: " فلننسلخ من قبضة الزمن " ص 30، يسعون للتخلص من قيوده المحكمة، وأصفاده الثقيلة. وصفات عميقة المعنى والدلالة تتمثل في انكشاف الليل: " سنعود إلى بيتنا قبل أن يتعرى الليل " ص 31، وما يسببه التيه من بلل للآخرين : " فيصيبنا بلل التيه " ص 31. ونظرا لما تحمله النصوص من طابع مجازي غني بأشكاله التعبيرية والتصويرية، وأبعاده الدلالية يصعب الإحاطة بأغلبها في مقاربة محدودة فقد اكتفينا بالتمثيل لبعضها. ورغم أن نصوص المجموعة ذات صيغة نثرية فلم يسلم بعضها من صبغة إيقاعية اخترقت تركيبها، وتسللت لصلب تفاصيلها وتشكلاتها كما في قول الشاعر: " اقتربت احترقت " ص8، بتكرار حرف التاء في نهاية جملتين فعليتين تتشكلان من فعل وفاعل، وحرف الميم في: " ظلام مزيدا من الظلام..." ص 8، وحرف القاف في: " هذه المدينة الصاخبة تزيد من قلقي من زقاق إلى زقاق " ص 34، وما يخلقه تكراره من نغمة تكسر رتابة النزعة النثرية وتوالي مقاطعها، وحرف التاء في: " أحببت كرهت تمردت بكيت " ص35، وإن كانت تروم تشكيل نوعا من التناغم خارج نظام التفعيلة وضوابطها. والطابع الرومانسي الذي لم تخل منه بعض نصوص المجموعة الشعرية كما في " نورس بلا وطن حيث نقرأ: " حيث يمكنني مشاهدة البحر يبتلع الشمس بروية. " ص 16، في تصوير رومانسي مجازي أخاذ. تصوير يتكرر في: " نورس يشرب القهوة ويسمع لموسيقى البحر... " ص16، وهو وصف ينأى عن التعبير الشعري السائد والمألوف ؛ إذ كيف لنورس أن يحتسي القهوة، ويصخي لموسيقى البحر ؟! ونص " على وجه الماء " حين يصف الراعي وهو يعبر عن لحظة الرحيل بمعزوفة يصدح بها نايه: " يعزف الراعي على الناي سمفونية الرحيل " ص19، ولعنصريْ الزمان والمكان حضور بارز في ثنايا الديوان، وما يميزهما من تواشج وتداخل، دائب التفاعل والتأثير: " النهار هنا لا يبكي والشمس لاتريد مفارقة هذا التراب العطشان..." ص33، في تصوير لثقل الزمن وتمططه وتمنعه عن الانتهاء في رحاب قرية (الزحيليكة) يطوقها الفراغ، ويغمرها السكون والرتابة، ورغم ذلك لا يعمها الحزن، ولا تشيع مظاهره بين جنباتها: " هذه القرية تحمل كل شيء عدا الحزن كل مرة آتها حزينا.. تحضنني كطفل جائع يهتدي لثذي أمه " ص 34، وهي صورة تعبر عما تعج به هذه القرية من مشاعر حنان وحدب جديرة بالتخفيف من ثقل ووزر الغم والكآبة عكس مدينة سلا بوفرة أزقتها ودروبها، وترامي أطرافها وأرجائها الضاجة صخبا وجلبة: " هذه المدينة الصاخبة تزيد من قلقي من زقاق إلى زقاق أجر رجلاي هاربا مني إلى الفراغ... " ص 34، ورغم ما تبعثه في الذهن والوجدان من إلهام على الإبداع الشعري إلا أنها لا تزيغ عن أفق يكتنفه الحزن والضياع: " كتبت مائة قصيدة كلهن حزينات اغتصبهن الضياع " ص 35، فإذا كانت قرية الزحيلكية موطن هدوء وسكينة فسلا مصدر كدر وألم: " أنا و"سلا " وجهان لألم واحد " ص 35. وتشير بعض النصوص إلى رموز لأسماء وأعلام من مختلف الحقول والمجالات أسطورية ميثولوجية ك "إيروس " من آلهة الإغريق: " أين إيروس ؟ " ص8، وفلسفية مثل الفيلسوف الألماني " نيتشه ": " أضرب بمطرقة " نيتشه " على رأس الوجود... " ص 29، وتشكيلية في إشارة للوحة " الموناليزا ": " خلق " الموناليزا.. " ص30، وأدبية شعرية بذكر الشاعر الفلسطيني محمود درويش والكاتب الروماني سيوران: " قصائد درويش ولعنات سيوران " ص 37، وقيس بن الملوح المعروف ب " مجنون ليلى ": " لازال المجنون يبحث عن ليلى.. " ص 24، مع ما تحبل به هذه الرموز من دلالات فكرية، وميثولوجية أسطورية، وأدبية إبداعية، وفنية جمالية بمختلف أشكالها وأسسها وثوابتها ومرتكزاتها.
فديوان " غراب يواري سوءة الليل " يزخر بخاصيات إبداعية بارزة على مستوى العناصر المستخدمة، والأسماء المستوحاة، وما تحفل به من حمولات رمزية ودلالية أغنت المجموعة الشعرية، فأضحت أكثر انفتاحا وتنوعا ورحابة.
***
عبد النبي بزاز
.....................
* غراب يواري سوءة الليل(شعر) رشيد سبابو، مطبعة الخوارزمي ـ الدار البيضاء 2022.