قراءات نقدية
قلولي بن ساعد: "سيرة موتى لم يبكهم أحد" للروائي عبد القادر برغوث

أسئلة الرواية الغيرية في ضوء النقد الثقافي
يمكن القول بكثير من النسبية بأن رواية (سيرة موتى لم يبكهم أحد) للروائي الجزائري عبد القادر برغوث، تعد في نظري إحدى النصوص الروائية الجزائرية القليلة، التي
تستمد محمولها الموضوعاتي من الذاكرة الإجتماعية لكاتب هذه الر واية، وموضوع الذاكرة والسرد صار في السنوات الأخيرة أكثر الموضوعات تناولا من قبل الباحثين المتخصصين في حقلي الدراسات الثقافية والنقد الثقافي، بالمعنى الذي نجده يتواتر في مضمون كتابين في الفضاء الثقافي المغاربي الأول:
أصدرته باحثة جزائرية هي الدكتورة حياة مختار أم السعد بعنوان (الذاكرة في السرد أزمنة الحروب والمنافي والكراهية).
وضعت فيه موضوع الذاكرة والسرد أمام امتحان النقد الثقافي عندما حاولت مساءلة النص الروائي العربي على ضوء قضايا (التمثيل الثقافي والرد بالكتابة) وغيرها من مفاهيم سرديات النقد ما بعد الكولونيالي، ضمن دائرة التداول السردي لقضايا الذاكرة في السرد الذكوري والسرد النسوي معا.
والثاني:
هو كتاب (سرديات الأمة تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة) للناقد الثقافي المغربي الدكتور إدريس الخضراوي قارب فيه عددا مهما من النصوص الروائية المغربية على ضوء مفاهيم النقد الثقافي خاصة منها النصوص التي تحتفي بالذاكرة المغربية جاعلة منها موضوعا للإشتغال الروائي ضمن ذلك الأفق الذي يسميه الناقد الهندي ما بعد الكولونيالي هومي بابا (الأمم سرديات) وهو مايتجلى في عنوان كتاب إدريس الخضرواي
(سرديات الأمة تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة) على صعيد الإقتباس العتباتي.
ويمكن اعتبار بعض مقالات الناقدة الجزائرية الدكتورة ليندة مسالي تصب في هذا الإتجاه أيضا.
هذا ما يجعلني أرى بأن الروائي عبد القادر برغوث لم يتجاهل موضوع الذاكرة وحاول تناوله روائيا ضمن فضاء محدد هو الفضاء الإجتماعي السهبي في الجزائر العميقة وتحديدا في بادية الجلفة الواقعة حاليا على بعد ثلاثة مئة كلم جنوب الجزائر العاصمة.
الفضاء الذي يعرفه الروائي معرفة جيدة، ثم تحويل مواد الكتابة من الحيز الجغرافي الإجتماعي إلى الحيز النصي لتشكيل مجتمع النص أو المجتمع التخييلي للرواية، مع وعيه التام بعدم الخلط بين الفضاء الجغرافي والفضاء الروائي وبين الفضاء والمكان والفضاء النصي.
وهي الحدود الإبستيمية التي عالجت بعض أسئلتها النظرية باحثة جزائرية هي الدكتورة سعدية بن ستيتي في كتابها المهم (الإطار المفاهيمي للفضاء الروائي)، عندما نبهت إلى عدم الإنسياق وراء ذلك الخلط بين هذه المفاهيم مجتمعة (الفضاء الجغرافي والفضاء الروائي والفضاء والمكان).
ولست هنا في وارد العودة إلى الأسباب والملابسات التاريخية والمفهومية التي جعلت الدكتورة سعدية بن ستيتي تنبه لهذا الخلط المفاهيمي، مما سيبعدنا عن الغاية المتوخاة من هذا المقال وهو تقديم قراءة نقدية لرواية (سيرة موتى لم يبكهم أحد) وليس للحديث عن كتاب الدكتورة سعدية بن ستيتي حديثا نقديا هو أقرب لما يسمى في النقد المعاصر بنقد النقد.
وعبد القادر برغوث لا يقدم نفسه على صعيد الوعي بالقراءة ناقدا أو منظرا وقراءاته لبعض كتب النقد الروائي في نظري لا تتجاوز بعض حالات الممارسة الروائية عندما تكون مؤثثة ببعض ذخيرة الروائي النقدية.
والدليل على ذلك أنه لا يراكم من النصوص الداخلية والعناوين الفرعية لها أو مايسميه أحد عمداء فلسفة العتبات النصية وهو جيرار جينيت (النصوص المصاحبة أو النصوص الموازية).
بل يكتفي ببعض العناوين القليلة وهي عناوين بسيطة وموحية ولا تحتاج إلى عناء كبير على صعيد القراءة والتلقي على غرار:
(رؤيا / الوالدتان / أصل الشجرة / الرحيل الكبير / المتربصون / انسلاخ / القمل / الجوع / القهر / فك رقبة)
وغير ذلك من ما له صلة بالأصول الجينية للكلمات، التي تتألف منها هذه النصوص الصغرى أو (النصوص المصاحبة) في انعكاس محمولاتها الدلالية والثقافية على مضامين المتون الصغرى للرواية.
وهي متون تتوزع على فضاءات واسعة من الفضاء النصي للرواية بدء من العنوان الرئيسي للرواية ثم الإستهلال ومابقي من (النصوص المصاحبة أو النصوص الموازية) للنص / العنوان (سيرة موتى لم يبكهم أحد).
سيرة موتى لم يبكهم أحد / (التفكيك الثقافي) للعنوان يحيل العنوان إلى موضوع السيرة ثم إلى الآخرين / الموتى لأن الموت في حد ذاته آخر لا أحد منا يعلم شيئا عن هذا الآخر المخيف بل لا يعلم كيف يموت وأين سيموت ؟
مما يعني في النهاية بأن الأمر يتعلق بنص روائي يتناول سيرة غيرية أو آخرية هي سيرة موتى أصبح أغلبهم في حكم الغائب.
وقد لا تتردد الرواية الحديثة في احداث نوع من الإرباك، عندما تتعمد ممارسة استهداف ما يسميه أحد نقاد فلسفة العنونة وهو الدكتور عبد المالك أشهبون " بالتشويش على القارئ وقصدية التحايل عليه خلافا لهدف العنونة في الرواية التقليدية الذي كان لا يتجاوز بعض قضايا الإفصاح والإبانة والتلخيص " (01).
التشويه الماثل في قصدية المؤلف لموتى آخرين هم الموتى الأحياء المقيمين داخل فضاء بيني لاهم من الأحياء ولاهم من الأموات.
وهي قصدية أقرب إلى التورية أو (التورية الثقافية) بالمفهوم الذي يقترحه محمد عبد الله الغذامي كأداة إجرائية ضمن مشروعه عن النقد الثقافي في كتابه المهم (النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية).
مع العلم أن الأمر يتعلق هنا بسيرة هي السيرة الروائية الغيرية أي سيرة الآخر المحلي وليس الآخر المختلف عنا أثنيا وعقائديا وهوياتيا.
إنها السيرة الغيرية في بعدها السيري أو الفكري كما تتجلى في عدد مهم من السير الغيرية التي كتبها بعض الكتاب عن زملاءهم أو أساتذتهم من الكتاب الآخرين، على غرار ما فعله الأستاذ خضرون عمر مع صديقه حميد ناصر خوجة في كتابه (حميد ناصر خوجة الى آخر نفس في الشعر / اليد الممدودة سيرة في أجزاء كما يرويها الأصدقاء والأقارب وكما يرويها ناصر خوجة في شعره ونثره).
وكما فعل الناقد الفرنسي بونوا بيتيرز مع أستاذه جاك ديريدا في كتابه (البحث عن ديريدا دفتر كاتب سيري).
ويستوقفني هنا عمل آخر كان قد انجزه أحد طلبة إدوارد سعيد وهو تمثي برنن بعنوان (إدوارد سعيد أماكن الفكر).
وهي بالطبع سيرة غيرية تطلبت من تلميذ إدوارد سعيد العمل عليها لسنوات لتقديم سيرة مغايرة لإدوارد سعيد غير الموجودة في الكتب سيرة يقول مؤلفها بأن:
" الذين عرفوا إدوارد سعيد في كتبه فقط، لم يروا كل مافيه لم يروا صبيانيته بلا شك.
لم يروا ولاءه العميق لأصدقاءه، لم يروا فيه الإعتداد بالنفس، والنزق الذي يظهر أحيانا والحاجة المستمرة إلى الحب والدعم المعنوي " (02).
أجل لقد كانت هذه السيرة الغيرية التي كتبها عبد القادر برغوث سيرة روائية غيرية بالمعنى الذي يحضر في ذهن الروائي عبد الرحمان منيف عندما يعتبر بأن الرواية العربية كلها هي سيرة من لا سيرة له، وليس بعيدا عن عبد الرحمان منيف يقسم الروائي واسيني الأعرج السيرة الغيرية إلى جزئيتين أساسيتين:
"سيرة غيرية عامة، تهتم بتفاصيل شخصية ما وفق مرجع حقيقي يبررها، أي أن الكاتب يصبح مثل المؤرخ لا يحيد عن الحقيقة كما حدثت، أو على الأقل يفترض ذلك. المؤلف في هذا النوع من السيرة الغيرية، مجرد آلة ناقلة "(03).
فيما الجزئية الثانية من السيرة الغيرية التي يحبذها الأعرج واسيني، هي السيرة الإبداعية، التي تتحول فيها في نظره " المادة التاريخية الحياتية التي عاشها شخص ما، إلى إطار مرجعي للكتابة الحياتية التي يخترقها التخييل، ويجعل فيها المؤلف المبدع الصامت يتكلم وفق رؤية مدروسة ومحتملة الوقوع، ويملأ البياضات " (04).
وهي السيرة التي نرى ملامحها الأساسية في نصه الروائي المهم (كتاب الأمير مسالك أبواب الحديد) بوصفه نصا روائيا غيريا (الغيرية المحلية)
مثلما نرى بعض ملامحها قد تحققت أيضا في هذا النص الروائي (سيرة موتى لم يبكهم أحد).
وإذن من هم هؤلاء الموتى وكيف ماتوا أو مات بعضهم وما مصير غيرهم من الموتى الأحياء والأموات.. ؟.
الموت في الرواية
الرواية كما نعلم والحديث هنا ينصرف لرواية (سيرة موتى لم يبكهم أحد)، رغم أنها مكتوبة في مرحلة ما بعد الكولونيالية، لكنها تستمد عناصر ديمومتها الفنية وأسئلتها النصية من الزمن الكولونيالي، الزمن الذي كانت فيه الجزائر تحت السيطرة الإستعمارية.
وعليه فالراوي عندما كان يستدعي بعض الشخوص الروائية من الذاكرة الثقافية لمخياله الإجتماعي، لم يتجاهل بالطبع هامشية هذه الشخوص من منطلق اقامتها داخل ذلك الفضاء الجغرافي السهبي الذي لم يكن كما هو عليه الأن محررا، بل كان تحت سيطرة الكولونيالية البيضاء بكل استيهاماتها ضمن ذلك الاستقطاب الذي بررت إحلاله الدراسات السوسيولوجية الكولونيالية وبعض توجهات خطاب الإستشراق الغربي، حيث نتج عن ذلك ماوصفه لاحقا أحد النقاد وهو إدوارد سعيد (بالجغرافيا الكولونيالية).
وهي الجغرافيا التي كان قد خصص لها الناقد الثقافي أزراج عمر مقالا مهما تحدث فيه عن البعد الثقافي للجغرافيا من خلال رؤية إدوارد سعيد.
هذه بعض علامات رواية الهامش الاجتماعي، وهي رواية تكاد تخلوا تماما من (الشخوص العالمة) بتعبير محمد عابد الجابري أو (الشخوص المفهومية) بمنظور جيل دولوز بإستثناء ذكر مستشفى يحمل اسم النقيب محمد بن شريف وهو (شخصية مفهومية).
لكونه يؤرخ له بأنه من الأوائل الذين مارسوا الكتابة الروائية بلسان الآخر في شمال إفريقيا وليس في الجزائر فقط، وذكره لم يتجاوز الإشارة إلى المستشفى الذي يحمل اسمه.
وهو مستشفى العرب مستشفى النقيب محمد بن شريف الذي تقول الرواية بأنه كان يستقبل كل يوم عشرات الحالات بسبب الأوبئة والأمراض وسوء التغذية
ناهيك عن بعض الإشارات العابرة التي تتخلل بعض ثنايا الرواية كحديث الراوي مثلا عن تكوين المختار الإبن الثاني لغانم الذي تقول الرواية بأنه حفظ القرآن الكريم وحفظ موطأ الإمام مالك ومتن ابن عاشر.
او تكوين غانم نفسه الذي أرسلته والدته الزهرة لإحدى زوايا تعليم القرآن بطلب من المرابطة التي قالت لها:
" ورأس أبي أراهن بضفيرتي هاتين أقصهما إن وقع كلامي على الأرض أن ابنك هذا سيكون كالشجرة التي يستظل تحتها الناس ويأكلوا من ثمارها إنه مبارك " (05).
ولحسن حظ الفتى تقول الرواية بأن غانم بعد أن حفظ القرآن الكريم وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره استخلصه شيخه الجنيدي من دون طلابه كلهم ليودعه علمه وفقهه وأسرار التصوف والكون والفهم وغيرها.
أو حديث الراوي عن التحول الذي طرأ على حياة المختار عندما التحق بالمدارس الفرنسية وتعلم لغة الآخر الفرنسية بسرعة فائقة، ثم تأقلم مع زملائه من الطلبة والأساتذة وأغلبهم من أبناء القياد والفرنسيين واليهود ولم يشعر بأية وحشة أو ضيق.
هذه هي بعض الحالات القليلة التي تقدم لنا فيها الرواية صورة جزئية لحضور شخصية ثقافية.
أما باقي الشخوص الروائية فهي كلها من الهامش الإجتماعي وكلهم يمثلون الوجه الآخر من الحياة الأخرى الأشبه بالموت.
لقد كان أول الموتى الذي دفعت به الرواية خارج المجتمع التخييلي للرواية هو المخزوع زوج الزهرة الأول الذي أنجبت معه توأمين هما سليم وأبوزيد، قتل المخزوع في الصحراء بعد فضيحة السرقة التي أقدم عليها، ثم اكتشف أمره ووقع عليه فعل القتل فقامت بدفنه الزهرة من دون عزاء يذكر أو ندم على موته.
فيما قتل ابنه أبو زيد حسب اسمه الحقيقي أو شمعون بحسب الإسم الذي وضعه له المربي اليهودي الذي أخد أبوزيد وسليم لتربيتهما.
وهو اسم يهودي أختاره له والده الثاني بالتبني قتل في ميتة تقول الرواية أنها لا تختلف عن مقتل والده الأصلي المخزوع بسبب إدمانه القمار ثم انضمامه إلى عصابة سطو عجلت بحتفه إثر شجار مع عصابات أخرى منافسة.
والرواية لا تتردد في تقديم والده من التبني عيزرا والذي تبنى معه شقيقه الآخر يعقوب وهو سليم حسب اسمه الأول الذي اختارته له والدته الزهرة قبل تسليمهما لليهودي عيزرا بهدف تربيتهما بإيعاز من جنية الصحراء عندما وجدت الزهرة نفسها في العراء الصحراوي بلا مأكل ولا مشرب ضائعة تريد النجاة بنفسها والعودة إلى بيت ذويها بعد رحلة مضنية قادها إليها المخزوع قبل أن يغادر الحياة غير آسفة عليه.
هكذا تقدم الرواية عيزرا " كيهودي يهفوا للولد منذ زمن بعيد وهو المحروم من الخلف لقد قرر أن يرحل مع زوجته من مسعد ثم يعود إليها بعد عام مدعيا بأن الولدان من صلبه وصلب زوجته وسيسميهما يعقوب وشمعون " (06).
ثم ماتت الزهرة نفسها بعد أن حققت حلم حياتها وهو رؤية ابنها سليم الذي عاد إليها بهوية مركبة أو هوية متشظيية كما جاء في نص الرواية نصفه عربي والنصف الآخر يهودي.
"غادرت الحياة راضية مبتسمة فتفرق الرجال بعد وفاتها وعاد سليم أو يعقوب إلى أمريكا حسب وصية والده بالتبني، وهكذا قرر أن يعيش بهوية متشظية وقصة لم يكن له يد في بدايتها ونهايتها غامضة لا يعلم عنها شيئا " (07).
وهي هنا الهوية الخطابية المنبثقة من "الخطاب الروائي " بالمعنى الباختيني نسبة إلى الناقد الروسي ميخائيل باختبن وهو بالطبع خطاب متعدد ومعقد يقدم للقارئ مختلف المنظورات لشخوص روائية لا تتطابق هوياتها بالضرورة مع هوية الكاتب الفعلية حتى ولو كانت صادرة عن شخوص هم من صنع الروائي بالمعنى الذي يتجلى في منظور إدوارد سعيد عندما كان يرى بأن الرواية هي ذلك الإحساس بوجود فضاء متنازع عليه.
أو الهوية بوصفها سردية بالمعنى الذي تحدث عنه ناقد من نقاد ما بعد الكولونيالية وهو الهندي هومي بابا عندما كان يرى بأن (الأمم سرديات)، فعل ذلك هومي في كتابه المهم (الأمة والسرد)،.
والسرد المقصود هنا ليس فقط السرد القصصي والروائي، بل السرد في مفهومه الفلسفي كما يتجلى في عمل مهم من أبحاث فيلسوف ما بعد الحداثة فرانسوا ليوتار الذي كان أول فيلسوف ما بعد حداثي يخصص كتابه (الوضع ما بعد الحداثي)، لذلك الذي سماه (السرديات الكبرى والسرديات الصغرى) ممثلة في بعض الفلسفات التي حكمت العالم كالماركسية والليبرالية وغيرها.
وكما يتبدى في تلك الصيحة التي كان أن أطلقها رولان بارت عند كان يرى بأن السرد موجود في كل الخطابات وليس فقط في الخطاب القصصي والروائي.
بما يعني الإقتراب من معنى (الهوية المنزوعة المركزية)، كما وصفها الناقد الثقافي البريطاني ستيوارت هول في ارتباطها بقضايا الهجنة الثقافية في ضوء النظرية ما بعد الكولونيالية الميالة لنقد الأنساق الثقافية المضمرة في الخطاب الهوياتي أو (الهوية عبرثقافية) بمفهوم الباحثة الأستاذة صليحة مرابطي.
طالما أن كتابة السردية المضادة أو (الرد بالكتابة )، في سياق هو سياق ما بعد الكولونيالية وفقا لنوع من المقاربة التي اختارها ثلاثة من نقاد ما بعد الكولونيالية وهم بيل أشكروفت وغاريث غريفيت وهيلين تيفن في كتاب جماعي بعنوان (الرد بالكتابة النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة).هي مبرر وجودها بعيدا عن ثقافوية السردية الإستعمارية الني حاولت لي عنق التاريخ بما يستجيب لإرادة (الهيمنة بالتخييل) بمفهوم الدكتور وحيد بن بوعزيز، في مهمة عسيرة تتطلب من الروائي الحكاء التعويل على تسريد التاريخ أو الوعي بالكتابة الروائية بوصفها تاريخا هو (التاريخ من الأسفل)، حسب المفهوم الذي وضعه الناقد الهندي ما بعد الكولونيالي ديبيش شاكابراتي في كتابه المهم (مواطن الحداثة مقالات في صحوة دراسات التابع).
سيرة موتى لم يبكهم أحد في مهب الأنسنية
لكن هل كتب مؤلف رواية (سيرة موتى لم يبكهم أحد) تاريخ الهامش الإجتماعي السهبي كما يعرفه كله أو بعضه أو سمع عنه من أفواه الجدات والآباء وبما وصله من السرديات الشعبية والروايات الشفوية غير العالمة..؟.
أم أنه اكتفى فقط بكتابة سيرة بعض الموتى الذين هاله أمرهم، فتكفل وهو الروائي المقتدر بكتابة سيرتهم السيرة الغيرية أو السيرة الآخرية ضمن نص روائي هو الثاني له بعد عمله الأول (جبال الحناء) ثم مجموعته القصصية الوحيدة (ديدان آخر الليل) ضمن ذلك الأفق من (الكتابة الروائية الأنسنية) بمفهوم إدوارد سعيد.
أعتقد أنه لم يفعل ذلك بعد، ولا يمكن لأي كاتب مهما بلغ من الموهبة أن يكتب ما يحلم به أو يضعه نصب عينيه ضمن نص روائي واحد، وقد يفعل ذلك ضمن عدد من النصوص وليس من خلال نص واحد بذلك المنظور الذي يتجلى في عمل نقدي مهم للناقد والسوسيولوجي الفرنسي لوسيان غولدمان عندما تمكن من استخراج ما سماه (بالرؤيا للعالم).
ولكن من خلال نصوص باسكال وراسين وليس من خلال نص واحد لأحد منهما وهي رؤيا كان يرى غولدمان أنه لا يمكن استخراجها من نص واحد لكاتب فرد بل من مجموعة من النصوص في مرحلة معينة من الزمن.
وحسبه أعني برغوث عبد القادر أنه تمكن من كتابة رواية سيرية غيرية تستمد من الحياة الأخرى للسيرة الغيرية (سيرة موتى لم يبكهم أحد) مشروعية أدبيتها.
وبصراحة مطلقة لا أدري إن كان الروائي عبد القادر برغوث قد قرأ شيئا عن أنسنية إدوارد سعيد ضمن كتابه المهم (الأنسنية والنقد الديمقراطي).
غير أنه من حقي كناقد ثقافي أن أضع ذلك ضمن انحياز السارد إلى الفضاء الإجتماعي الذي تشكل منه وعيه فأفرز نصا ابداعيا عمل فيه على (دنيوة) الفضاء الجغرافي السهبي بحسب المفهوم الذي قام بنحته إدوارد سعيد في كتابيه (العالم والنص والناقد) و(الثقافة والإمبريالية) وهو (الدنيوة) ضمن مشروعه في النقد الديكولونيالي لقراءة النصوص الإبداعية في بعدها الدنيوي الإنساني بوصف دنيوة الفضاء الجغرافي موضوعا للفضاء النصي الروائي أتاح للروائي التعامل مع شخوصه الروائية كشخوص متخيلة، فوضعهم الأموات منهم والأحياء داخل أجندة برنامجه الروائي مبديا بعض الحنو الإنساني على مصائرهم التراجيدية ضمن عمل نقدي هو أشبه بالتأويل النقدي أو التأويل الثقافي.
كأننا في هذه الحالة أمام اختبار فرضية البحث عن مشروعية (الأنسنية النصية) من داخل النص الروائي وهي تستمد دلالتها المفهومية والنظرية من ذلك الجمع المركب الذي أوجده إدوارد سعيد بين "الحركة الإنسنية والممارسة النقدية أي الأنسنية بما هي توجه عمل المثقف النقدي في عالم اليوم المضطرب والعاج بالنزعات العدوانية والحروب والإرهاب " (08) وما إلى ذلك.
الأنسنية النصية والجماليات الديكولونيالية
وينبغي أن لا ننسى بأن الأنسنية النصية كما تشكلت من داخل النص الروائي لا تتجاهل القيم الفنية للنص الروائي، بل لا تتجاهل تحديدا الهوية الجمالية للنص الروائي التي تشكل مشروعية النص الروائي كما حاولت استخراجها والبحث عنها من داخل النصوص الروائية العربية روائية وناقدة، هي الأستاذة شهلا العجيلي من خلال كتابها (الهوية الجمالية للرواية العربية رؤية ما بعد استعمارية)، من منظور النقد الثقافي في صلته بدراسات ما بعد الإستعمار لتستقرأ تاريخ الأدب العربي عموما بما هو " تاريخ تطور الأشكال التي لا يمكن عزلها عن تحولات الوعي والبحث في الموضوعات الجمالية وهو البحث الأوفى للبنى الفنية " (09).
فعلت ذلك الروائية السورية شهلا العجيلي بعد أن خصصت لمسألة الهوية الجمالية في النصوص الروائية العربية ثلاثة فصول كاملة تكفلت بالحفر الإيركيولوجي بمفهوم ميشيل فوكو من باطن النصوص الروائية العربية والنصوص النقدية العربية والغيرية، وهذه الفصول هي:
01) الوعي الجمالي في طلائع الرواية العربية
02) تفكيك التجربة الإستعمارية روائيا
03) تحولات الهوية في الرواية العربية.
لقد كان عبد القادر برغوث يملك من الوعي الجمالي ما أهله بأن يستثمر في السرديات الشعبية والأقوال المتواترة لما وصله من مرويات ذاكراتية وهو المتلقي والناص الذي يحسن كيف يختار وماذا يختار من المواد السردية المتوفرة له في الفضاء الإجتماعي السهبي كي يحولها إلى سرد روائي هو (السرد الإنبثاقي) بمفهوم الدكتور محمد بوعزة على اعتبار أن السرد الإنبثاقي هو "سرد ثقافي انبثق من تواريخ الصمت الكولونيالية المكرسة بالقوة " (10).
ضمن لغة سردية وفنية تحتفي بالجماليات الشعبية، وقد وصفها المفكر الصيني إين آنغ عندما كان بصدد تطوير ومناقشة أفكار بيير بورديو بخصوص موضوع الجماليات الشعبية "بأنها نقيض النزعة الجمالية البرجوازية التي يتم الحكم فيها على موضوع فني انطلاقا من معايير شكلية ومعممة للغاية تخلوا خلوا تاما من أية عواطف أو متع ذاتية " (11).
كنوع من (الرد بالكتابة) على دعاة الجماليات الرفيعة أو نصوص (الحداثة الرفيعة) بتعبير الناقدة المصرية ماري تيريز عبد المسيح بما يعني الإقتراب من ما أصبح يسمى في الدراسات ما بعد الكولونيالية (الجماليات الديكولونيالية)، كما حاولت التأسيس لها نظريا أستاذة فلسفة الجمال بالجامعة التونسية الدكتورة أم الزين بن شيخة المسكيني، رابطة ذلك بإعادة قراءة فلسفة الجمال الغربية على ضوء ثنائية (الإختلاف والغيرية) من أجل غاية مهمة وضعتها في الحسبان وهي (تحرير المحسوس من الهيمنة المركزية)
بل " تحرير الخطاب الجمالي من وهم الكونية الغربية التي بنت عليها أوربا مسار الحداثة الغربية وقيمها المعرفية والأنطولوجية والتأويلية " (12).
وهي بالطبع لا تتنكر لبعض الجماليات الغربية التي لا تركز على إقصاء الجماليات الأخرى من خارج الفضاء الأمبراطوري الغربي ولا تتعامل معها بنوع من الدونية والإنتقاص والإلغاء.
"إن مهة تحرير المحسوس من وجهة نظر نزع الإستعمار الغربي الجمالي عنه لا يتضمن أية كراهية للغرب، إنما يقتضي فقط اعتبار الجماليات الغربية مجرد فصل في تاريخ أنماط الكينونة في العالم " (13).
كأنها هنا تقترب من ذلك التمييز الذي وضعه المفكر المغربي عبد الله العروي عندما أن يميز بين غربين هما:
الغرب الثقافي ثم الغرب الإستعماري المتأخر.
وهو موضوع آخر يطول شرحة، ليس هنا مجاله وقد أعود إليه في مناسبة أخرى بعيدا عن هذا المقال المخصص لنقد وتحليل نص روائي هو (سيرة موتى لم يبكهم أحد) للروائي عبد القادر برغوث.
***
قلولي بن ساعد / كاتب وناقد / الجزائر
......................
مصادر
01) العنوان في الرواية العربية / عبد المالك أشهبون / ص 22 نشر مشترك منشورات دار محاكاة ودار النايا للنشر والتوزيه دمشق الطبعة الأولى 2011
02) إدوارد سعيد أماكن الفكر تأليف تمثي برنن ترجمة محمد عصفور ص 27 منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت مارس 2022 العدد 492
03) السيرة الغيرية الإبداعية / واسيني الأعرج صحيفة المدينة / تاريخ النشر: 21 يونيو 2018
04) المرجع نفسه السيرة الغيرية الإبداعية / واسيني الأعرج صحيفة المدينة / تاريخ النشر: 21 يونيو 2018
05) سيرة موتى لم يبكهم أحد / رواية / عبد القادر برغوث ص 54 / منشورات فهرنهايت الطبعة الأولى 2023
06) سيرة موتى لم يبكهم أحد / رواية ص 41
07) سيرة موتى لم يبكهم أحد / رواية ص 139
08) الأنسنية والنقد الديمقراطي إدوارد سعيد ترجمة فواز طرابلسي ص 18 / منشورات دار الآداب بيروت الطبعة الأولى 2005
09) الهوية الجمالية للرواية العربية / رؤية ما بعد استعمارية / شهلا العجيلي ص 13
منشورات الإختلاف وضفاف / الجزائر بيروت الطبعة الأولى 2020
10) سرديات ثقافية من سياسات الهوية إلى سياسات الإختلاف / محمد بوعزة ص 58 منشورات الإختلاف / ضفاف / ودار الأمان الجزائر بيروت الرباط الطبعة الأولى 2014
11) أنظر دراسة إين لانغ / دالاس والثقافة الجماهيرية ضمن الفصل الخامس من كتاب الكرنفال في الثقافة الشعبية إعداد وترجمة خالدة حامد ص 157 منشورات دار المتوسط ميلانو إيطاليا 2017
12) هل يمكن الخروج من الغرب نحو جماليات ديكولونيالية / بن شيخة المسكيني جريدة عمان / 12 / 12 / 2023
13) نفس المصدر هل يمكن الخروج من الغرب نحو جماليات ديكولونيالية