قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: التصوّرُ الميتافيزيقي بين يقينِ الدوغمائية ورُؤيا الشعر

نحو انكشافِ كينونةِ الجمال.. في مفارقةِ الإبستمولوجيا والاستطيقا

في جوهرِ الفكرِ الفلسفي، يبرز التصوّرُ الميتافيزيقي بوصفِه فعلاً تأويليّاً يُعيد مساءلةَ ما يُدَّعى أنَّه يقينٌ، ويفتح الوجودَ على احتمالاتٍ تتجاوز التشييءَ العقلي، متوغّلاً في مستوياتِ المعنى ما قبلَ المعرفي وما بعدَ اللغوي. وهنا، يُصبح التفكّرُ في الميتافيزيقا تفكّراً مزدوجَ الحضور: من جهةٍ، يفضح أسسَ الدوغمائية التي تسعى إلى احتكارِ الحقيقة، ومن جهةٍ أُخرى، يُتيح انفتاحاً استطيقيّاً يُؤسّس لوعيٍ شعريّ يُقوِّض الوثوقيّاتِ المتكلّسة، ويُعيد الجمالَ إلى قلبِ الوجود.

أولاً: التصوّرُ الميتافيزيقي كمساءلةٍ لليقين

لطالما سعى التصوّرُ الميتافيزيقي في الفكرَين الغربي والعربي على حدٍّ سواء إلى مساءلةِ ما يُقدَّم بوصفِه يقيناً، لا سيّما في بنياتِ المعرفةِ التي تُغلّب الحسمَ والاطمئنانَ على الشكِّ والتأويل. فالدوغمائية، كما يشير بول ريكور، ليست سوى انغلاقَ الوعي على نسقٍ مغلقٍ من المعاني، يُعيد إنتاجَ ذاتِه بواسطةِ الإيمانِ الأعمى بالحقيقة، لا باختبارِها عبر الممارسةِ النقديّة والوجوديّة.

ومن هذا المنطلق، يتعارض التصوّرُ الميتافيزيقي مع كلّ نسقٍ إبستمولوجيّ يُشيّئ المعنى ضمن بُنى عقلانيّة مغلقة. فالفلسفةُ التي لا تُساءِل يقيناتِها تغدو عقيدةً متخشّبة، لا أداةً لتحريرِ الفكر. وهنا، يلتقي التصوّرُ الميتافيزيقي مع مشروعِ ديكارت في الشكِّ المنهجي، ولكن بتوسيعِ أُفُقِه نحو مساءلةِ جدوى كلّ معرفةٍ تدّعي الكونيّة والامتدادَ المطلق.

إذًا، فإنّ الميتافيزيقا – في أفقِها الأعمق – لا تُؤسّس لليقين، بل تُعرّي كلَّ يقينٍ من وَهمِ الامتلاك، وتُعيد الفكرَ إلى مساحتِه الأصليّة: الحيرةِ، والتوتّرِ، والانكشافِ، والقلقِ الخلّاق.

ثانياً: من العقلِ إلى الحواس – الاستطيقا الشعريّة كمجالٍ وجودي

في مقابلِ هذا التصوّرِ النقديّ للميتافيزيقا المعرفيّة، تنهض الاستطيقا الشعريّة بوصفِها تصوّراً ميتافيزيقيّاً مغايراً، لا يتّكئ على اليقين، بل يحتفي بالانكشافِ الجمالي.

فالشعرُ، في جوهرِه، ليس نُطقاً بالأشياء، بل وقوفاً عند كينونةِ الأشياءِ كما تظهر وتتجلّى في لحظةٍ شعريّةٍ مكثّفة. وفي هذا السياق، لا يمكن اختزالُ الشعرِ إلى مجرّدِ بنيةٍ لغويّةٍ أو بلاغيّة، بل يجب النظرُ إليه كنداءٍ وجوديّ: استدعاءٌ لجمالِ الوجود، بما هو ظاهرٌ لحائيّ، وباطنٌ مستتر؛ أي بما هو تجربةٌ انخطافيّة تقطع سياقَ اليوميّ والمألوف.

الشعرُ، وفق هذا الفهم، ليس صورةً للواقع، بل تمزيقٌ لسطحه من أجلِ انكشافِ جوهره. إنّه تجلٍّ للكينونة في انزياحاتِ اللغة، وانفلاتِ المعنى، وتوتّرِ الإيقاع. وهنا، يتقاطع التصوّرُ الاستطيقي مع ميتافيزيقا هايدغر، الذي رأى في الشعر موطنَ الحقيقة، وفضاءً للانكشافِ الأنطولوجي؛ فـ"القصيدة جسدُ الحقيقة في هيئةٍ جمالية"، وهي التي تُعيد للوجودِ دهشتَه الأولى.

ثالثاً: الجمال بوصفِه انزياحاً وجوديّاً

إنّ الجمالَ الذي يتمخّض عن التصوّرِ الشعريّ ليس جمالاً شكليّاً، بل هو أثَرٌ كينونيّ لانزياحِ اللغةِ عن وظيفتِها التداوليّة، وانتقالِها إلى فضاءِ المجازِ والحدسِ والانخطاف.

هنا، تُصبح الكينونةُ ذاتاً مولِّدةً للفوارق، لا للتماثلات، وتُصبح الذاتُ الشاعرةُ شاهدةً على لحظةِ انفجارِ الوجود، لحظةِ تولُّده الشعريّ.

ولذلك، فإنّ التوتّرَ الذي يعيشه الشاعرُ ليس قلقاً سيكولوجيّاً، بل توتّراً وجوديّاً، نابعاً من رغبةٍ جامحةٍ في تجاوزِ العاديّ، ومجابهةِ كلِّ ما هو مألوف. وهذا التوتّرُ هو ما يُنتج الانزياح، ويُضفي على التجربةِ الشعريّة طابعَ المجازفة، لا بوصفِها تزييناً لغويّاً، بل كاندفاعٍ في تيّارٍ جارِف، بحثاً عن المعنى في قلبِ اللايقين.

إنّ الشاعرَ، كما يرى رولان بارت، لا يقول الحقيقة، بل يخلق إمكانيّاتٍ جديدةً للوجود. ولذلك، فكلُّ قصيدةٍ هي شكلٌ من أشكالِ مقاومةِ التكرار، ومجابهةِ الرتابة، وتفجيرِ الراكدِ اللغويّ.

رابعاً: الشعر كرؤيا كينونيّة

في هذا الأُفُق، يمكن القولُ إنّ الشعرَ ليس قولاً عن الوجود، بل هو الوجودُ في حالتِه الشعريّة، أي في لحظةِ تجلّيه الجماليّ الأقصى.

فالشعرُ لا يَصف الجمال، بل يكشفه. لا يُفسّر العالم، بل يُجسّده. لا يُعيد إنتاجَ الواقع، بل يخلقه خلقاً جديداً.

وهكذا، تتجلّى القصيدةُ بوصفِها "جسداً جماليّاً" حيّاً، لا بوصفِها نصّاً مغلقاً. وهذا الجسدُ الجماليّ لا يكتمل، بل يظلّ يعود إلى كينونتِه كلّما استُحضِر، وتُلي، وتأوِّل.

القصيدةُ لا تُستهلك، بل تُبعث في كلِّ قراءةٍ جديدة، وكلِّ تأويلٍ جديد.

إنّها ليست وثيقةً، بل كائناً حيّاً، يعود إلى ذاتِه في دورةٍ انكشافيّةٍ لا تنتهي.

خاتمة: انفتاحُ الميتافيزيقا على الجمال

إذًا، فإنّ التصوّرَ الميتافيزيقي لا ينبغي أن يُختزل في صرامةِ النسقِ العقليّ، بل ينبغي أن يُعاد فهمُه بوصفِه أُفُقاً مفتوحاً على الجمالِ، والدهشةِ، والتجربة.

وبين مساءلةِ الإبستمولوجيا وانخطافِ الاستطيقا، يمكن للإنسانِ أن يجد موقعَه في العالم، لا بوصفِه سيّداً عليه، بل مُنصتاً له، مدهوشاً من ظهورِه، مفتوناً بجمالِه المستتر.

ولعلّ أعظمَ ما يمكن أن يفعله الفيلسوفُ أو الشاعر، هو أن يُعيدَنا إلى لحظةِ البدء، إلى حيثُ الكينونةُ تُولد من جديد، وحيثُ الوجودُ يُنشد ذاتَه عبر القصيدة، ككائنٍ يتكلّم الجمالَ بلغتِه الأصليّة.

"ليس الشعرُ كلمات... الشعرُ هو جسدُ الوجودِ حينَ ينطق ذاتَه في لحظةِ كشفٍ لا تُقاس بالعقل، بل تُعاش."

***

عماد خالد رحمة – كاتب وناقد

 

في المثقف اليوم