قراءات نقدية
آمال بوحرب: حين تنام القصيدة ويصحو الخراب

قراءة في نص "وطنٌ يبيع ملامحي" للشاعر الدكتور حامد عبد الضبياني
يعتقد الفلاسفة الوجوديون على مدى فترة طويلة مثل “ألبير كامو” و”جان بول سارتر” أن الغربة الوجودية إحدى أعمق أزمات الإنسان الحديث إذ يعيش الفرد في واقع متسارع ومضطرب تتهاوى فيه اليقينيات الروحية والفكرية فيجد نفسه ممزقًا بين توقه للمعنى وصمت العالم من حوله ويولد هذا الشعور غالبًا من فقدان الانتماء أو من إدراك هشاشة الوجود وعبثيته فيستمر الإنسان في ممارسة حياته وسط الآخرين منخرطًا في تفاصيلها اليومية لكنه يؤدي أفعاله بشكل آلي ويحمل داخله فراغًا صامتًا وانفصالًا عن الذات فلا يجد في بيئته أو في علاقاته ما يمنحه ارتباطًا حقيقيًا أو إحساسًا راسخًا بالانتماء في عالم يزدحم بالرصاص أكثر من الأغاني وحيث تذبل الملامح قبل أن يكتمل الحلم يطل نص “وطنٌ يبيع ملامحي” للشاعر والأديب الكاتب الدكتور حامد الضبياني كوثيقة وجدانية مفتوحة على الخراب ليس بكاءً على الأطلال، ولا حنينًا إلى زمن مضى ولكنه شهادة شعرية على عصر عربي مكسور تتقاطع فيه الغربة الوجودية مع الخرائط الممزقة ليصبح الوطن فكرة مؤجلة والإنسان ظلًا يبحث عن جسده.
الغربة الوجودية
١ - الغربة الوجودية الذات في رماد الغيم
“رماد غيم كان يحلم أن يكون مطرًا” هنا تبدأ الحكاية بحلم يولد ميتًا الظل الوحيد على جدران المقابر هو صورة مكثفة لذات فقدت مرآتها حيث يغدو الأمل مؤجلًا في ليل مغلق هذه ليست غربة جغرافية بل عزلة داخلية شبيهة بما وصفه “كامو” و”هايدغر” مواجهة مباشرة مع عبث العالم وغياب المعنى فالمرأة التي “تمشي على ،رمل القصائد حافية القلب” كانت توقظ في الشاعر شهوة الطيران لكنها تسقط فجأة كضحية حرب لم تُعلن الحب هنا ليس مجرد علاقة شخصية بل رمز لقيم الجمال والدفء التي تنهار تحت ضغط الصراع كما حدث مع “نزار قباني” حين تحوّل شعره من الغزل إلى المراثي السياسية.
سؤال الهوية في شوارع محفّرة
“من أنا” سؤال يتعثر في طرقات العراق الممزقة وينام في زوايا الوطن كجثة عاشق إنه سؤال وجودي يتجاوز الشخصي ليصبح جماعيًا تمامًا كما في أسطورة سيزيف عبث في التكرار لكن مع وعي يرفض الاستسلام لتتنقل الكاميرا الشعرية في النص بين مدن عربية محطمة لتسرد جغرافيا الألم بمرارة مكثفة في سوريا تتحول حلب التي كانت تضج بالضحك والحياة إلى جدران قاتمة تمضغ الأطفال وتلفظهم على خرائب الزمن ،صورة تختزل مأساة الحرب التي أدمت الطفولة وأفقدت الحياة رونقها وفي لبنان ينبعث نواح الأرز كرمز للذاكرة الوطنية التي تتألم فيما ترتدي بيروت جراحها كعباءة ملك مذبوح كناية عن سقوط المجد والحضارة تحت وطأة النزاعات التي حوّلت المدينة إلى مشهد من الدمار والوجع أما اليمن فتُصوّر بسعادة طفلة مكسورة كمرآة تحطمت تحت أقدام البنادق في مشهد بصري قوي يعكس كيف انهارت البسمة والبراءة وسط دوامة القتل والغياب هذه الخريطة الشعرية ليست مجرد توثيق جغرافي بل هي مرآة مكسورة تنعكس فيها شظايا الفقد والألم حيث تحمل كل قطعة من هذه الأرض المنهكة ،وجهًا خاصًا للدمار الذي أصاب الشعوب وأوقف الزمن في لحظة مأساوية يمكن الاستشهاد في هذا السياق بشعر “نازك الملائكة” التي جسدت في قصائدها مأساة الحرب والدمار في الوطن العربي وكذلك بالأدب السوري المعاصر الذي وثق النزاع من منظور إنساني عميق مثل أعمال “محمد الماغوط” التي استخدمت الرمزية لتصوير المآسي الجماعية.
انهيار القيم
تعكس هذه الصورة الصادمة في القصيدة “أمهات يبعن أولادهن مقابل رغيف ورجال يخلعون الوطن كقميص متسخ” عمق المأساة التي لم تعد تقتصر على الخراب الجغرافي أو السياسي بل تتغلغل في نسيج الروابط الاجتماعية والأخلاقية التي تُشكّل جوهر الانتماء الإنساني هنا يتحول الوطن من كيان جامع يحفظ كرامة أفراده وهويتهم إلى مسرح لانهيار القيم حيث يختفي التضامن ،ويتبدد الشعور بالمسؤولية تجاه الآخر الأمهات اللاتي يبعن أولادهن لا يرمزن فقط إلى الفقر المدقع بل إلى قمة اليأس التي تدفع الإنسان إلى التفريط في أغلى ما يملك مقابل بقاء مادي هش بالمقابل الرجال الذين يخلعون الوطن “كقميص متسخ” يعكسون حالة الخذلان واللامبالاة وإسقاط الهوية الوطنية كعبء ثقيل لا يحتمل هذه العبارة تختزل الانفصال التام بين الفرد والوطن فتبدو المواطنة هنا صراعًا فرديًا بائسًا يخلو من التضامن والمعنى ويغرق في وحشة الغربة النفسية والاجتماعية من منظور فلسفي يمكن قراءة هذه الصورة في ضوء أفكار “سارتر” حول الخيانة والاختيار الحرّ حيث يصبح التخلّي عن الوطن رمزًا للانفصال الوجودي ،عن الذات وتجسيدًا لاضطراب الروابط الإنسانية في زمن الانهيار بذلك لا تعبر العبارة فقط عن مأساة سياسية واجتماعية بل عن أزمة وجودية شاملة تعصف بالعلاقات والهوية في عالم مكسور.
البنية الفنية وديناميكية الإيقاع
القصيدة تتكون من مقاطع مترابطة عبر لازمة “حين تنام القصيدة” التي تعمل كمحور إيقاعي ودلالي هذه اللازمة ليست مجرد تكرار بل هي نقطة انطلاق لتحولات النص حيث تنتقل القصيدة من حالة السكون (النوم) إلى اليقظة والتجدد الإيقاع الداخلي يتسم بالسلاسة والتدفق مستندًا إلى تناغم الأصوات (مثل الجناس والتكرار الصوتي) وتوزيع الصور الشعرية التي تخلق إحساسًا بالحركة الدائرية كما لو أن النص يحاكي دورة الحياة والموت ديناميكية الإيقاع تتجلى في التوازن بين التدفق الحلمي والتوقفات التأملية على سبيل المثال عبارات مثل “حلمًا ريًا ضيًا” تحمل إيقاعًا موسيقيًا يعزز الإحساس بالانسيابية، بينما عبارات مثل “تراتيل صمت” تخلق لحظات توقف تأملي يدعو المتلقي إلى التفكر في الصمت كجزء من الإبداع هذا التناوب يعكس حالة نفسية متأرجحة بين النشوة الإبداعية والتأمل العميق.
المضمون والدلالات الرمزية
أ- الوجود والعدم
مفهوم “نوم القصيدة” يمكن قراءته كنموذج للسكون الإبداعي أو انقطاع الوحي لكنه يتجاوز ذلك ليصبح استعارة للانتقال بين الوجود والعدم الشاعر يستخدم الموت كفعل إرادي (“أموت على صدرها”) ليؤكد قدرته على التجدد من خلال القصيدة هذا يعكس رؤية صوفية ترى في الموت بوابة للحياة كما في الأبيات التي تصف بعث القوافي هذا التحول يحمل بعدًا نفسيًا حيث يعبر عن صراع الشاعر مع الفراغ الإبداعي وانتصاره عليه عبر اللغة
ب. الحب تجربة صوفية ونفسية
المحبوبة في القصيدة ليست مجرد كيان بشري بل رمز للإلهام أو القصيدة ذاتها هذا التماهي بين المحبوبة والقصيدة يخلق توترًا نفسيًا بين الرغبة الحسية والتوق الروحي عبارة “أموت على صدرها” تجمع بين الحسية (الصدر) والروحانية (الموت كتضحية) مما يعكس حالة نفسية معقدة يعيشها الشاعر الشوق إلى الاتحاد بالمطلق (القصيدة/المحبوبة) والخوف من فقدان الذات في هذا الاتحاد هذا البعد النفسي يجعل القصيدة تجربة داخلية تعبر عن صراع الشاعر مع ذاته ومع اللغة.
ج. اللغة أداة خلق وخلاص
اللغة في القصيدة ليست مجرد وسيلة تعبير بل كيان حي يتفاعل مع الشاعر عبارة “زعمت احتدام الحروف ولادة مجدًا” تشير إلى اللغة كقوة خلاقة قادرة على إعادة صياغة الواقع هذا الاحتدام يعكس حالة نفسية من التوتر الإبداعي حيث يصارع الشاعر الحروف ليولد منها معنى جديد الصمت الذي يظهر في “تراتيل صمت” يصبح جزءًا من اللغة مما يعزز فكرة أن الصمت نفسه لغة تحمل دلالات عميقة
د. السدرة والرؤية الكونية
رمز “سدرة المشتهى” يحيل إلى التجربة الصوفية الإسلامية حيث تمثل السدرة نقطة الاتصال بين الإنساني والإلهي في القصيدة تصبح السدرة رمزًا للخلاص الروحي والإبداعي الشاعر يعزف “تراتيل صمت” المحبوبة مما يوحي بأن الصمت ليس فراغًا بل حالة تأملية تؤدي إلى الوحي هذا البعد يمنح القصيدة طابعًا كونيًا حيث تصبح القصيدة صلاةً ووسيلةً للتسامي.
الصور الشعرية واللغة
الصور الشعرية في القصيدة متعددة الطبقات تجمع بين الحسية والروحية على سبيل المثال “أموت على صدرها”: صورة حسية تحول القصيدة إلى جسد محبوب لكنها تحمل دلالة روحية تعبر عن التضحية من أجل الإبداع “لشعرِ لتولدَ من مقلتيكِ صلاةَ نبيٍّا”: المقلتان تصبحان مصدرًا للوحي والقصيدة تتحول إلى فعل مقدس مما يعزز الطابع الصوفي “شرود الغزالة في لاوعي وعي الكلام”: هذه الصورة تجمع بين الرقة (الغزالة) والفلسفة (لاوعي الوعي) معبرة عن حالة الشاعر المتأرجحة بين الحلم والواقع اللغة تتسم بالمرونة والموسيقية مستخدمة أدوات مثل الجناس (“موتي المرتجى” و”موتكِ المشتهى”) والتكرار الصوتي.
العزلة النهائية
شاعر على “شرفة مرضه” يكتب قصيدة ذابلة الحبيبة غائبة والانتظار كمحطة قطار نسيها الزمن هنا تلتقي الغربة الجسدية والوجدانية في مشهد هادئ لكنه خانق في مشهد العزلة النهائية يقف الشاعر على “شرفة مرضه” كرمز لحالة الانكفاء والانفصال عن العالم حيث يتحول المرض إلى مساحة استعصائية تلتقي فيها الغربة الجسدية بالوجدانية في آن واحد القصيدة التي يكتبها “ذابلة” ليست مجرد كلمات بل انعكاسٌ لصحة متداعية لروح تنحني تحت وطأة الضعف والاحتضار وكأنها آخر نبضٍ يتلاشى بصمت غياب الحبيبة هنا لا يقتصر على فقدان الشخص الحبيب بل يتعداه إلى فقدان الأمل والدفء العاطفي الذي يحرّك الحياة فتتحول “أنفاس الربيع في شتاء القصف” إلى صورة مكثفة عن تضاد الحياة والموت الحضور والغياب أما الانتظار فهو كمحطة قطار “نسيها الزمن” يعبر عن حالة من التجمّد والجمود انتظار بلا وعد أو خلاص حيث تتلاشى الزمنية وتصبح اللحظة أبدية في فراغها مما يعزز شعور الوحدة المطلقة التي يرزح تحتها الشاعر ويجعل من العزلة ليست فقط حالة جسدية بل مصير وجودي لا مفر منه هذه العزلة تحيلنا إلى مفاهيم الوجودية التي تركز على الفقدان والعدم وعلى الصراع الداخلي بين الذات وحقيقة الوجود كما هو واضح في أعمال “سارتر” و”كامو” حيث الإنسان يواجه ذاته في لحظة انكشاف مطلقة بلا حيلة إلا التمرد الصامت على
البعد النفسي في نص «وطنٌ يبيع ملامحي»
يتمحور حول حالة الانفصال العميق بين الذات وواقعها حيث يعكس النص أزمة الهوية والاغتراب الداخلي يستعمل الشاعر صورًا مكثفة ومجازات تترجم صراعات نفسية معقدة مثل “رماد غيمٍ كان يحلم أن يكون مطرًا” والتي تعبّر عن الحلم المفقود والذات المحاصرة بين الألم والأمل المؤجّل تتكرر عبارة “أنا؟” لتجسد نداءات النفس المتألمة الباحثة عن ذاتها وسط ضياع الوطن فتُشعر القارئ بحالة القلق والتوتر النفسي المستمر هذا التكرار الإيقاعي يعمل كنبض داخلي يبرز اضطراب الذات ويعكس شعور الانفصال والغربة الوجودية التي يعيشها الفرد حيث تنكسر الروابط مع المحيط ومع الذات ويصبح الإنسان أسيرًا لحالة من الفراغ العاطفي والوجداني
الديناميكية، و تتجلى في حركة النص بين الأمكنة العراق سوريا لبنان اليمن كل انتقال يفتح مشهدًا جديدًا من الخراب وكأن الشاعر يجول بكاميرا شعرية عبر خرائط الألم يربطها بخيط داخلي من التوتر المستمر عبر التضاد المطر والرماد الضحكة والموت الإيقاع يتصاعد ثم ينكسر محاكيًا موجات الصدمة والانكسار.
البعد الفكري
يتجاوز النص المأساة الذاتية إلى أفق وجودي وسياسي حيث يرى “ألبير كامو” أن الإنسان يعيش في عالم عبثي يبحث فيه عن معنى لكنه يواجه فراغًا وجوديًا يجعل منه كائنًا ممزقًا بين الحاجة للمعنى وصمت الكون وكما يقول “جان بول سارتر” الإنسان محكوم عليه بالحرية لكنه يجد نفسه في حالة من الاغتراب عندما يفتقد القدرة على صنع معنى حقيقي في عالم متغير ومليء بالخذلان فالخذلان الجمعي في النص يجعل الناس يخلعون انتماءاتهم كما يخلعون قميصًا متسخًا في تعبير عن فقدان الثقة بالوطن والذات يستدعي النص رموز الشعر العربي ك”البدر شاكر السياب” و”نزار قباني” و”أبو القاسم الشابي” الذين عبروا عن الحلم والرغبة في التغيير لكن “الشابي” يؤكد في قوله إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر إلا أن النص يذكّرنا بأن القصيدة وحدها لا تغير التاريخ دون فعل حقيقي
البانوراما الوحدانية
وطن يبيع ملامحي ليس نصًا شعريًا عاديًا بل بانوراما وجدانية عميقة تجسد انهيار الذات وتفكك الجغرافيا في آن معًا من خلال صور ومجازات مشحونة بالكثافة العاطفية مثل رماد غيم كان يحلم أن يكون مطرًا ينقل النص تجربة الغربة الداخلية والحلم المجهض فيما يتكرر سؤال أنا كنبض قلق يعكس رحلة البحث عن الهوية في فضاء متشظ ومراوغ.
الخلاصة الفلسفية
النص يدمج الحلم بالخذلان والذات بالوطن ليصوغ بيانًا شعريًا ضد التلاشي كما أشار “سارتر” إلى أن التمرد هو رد فعل الإنسان على العبث والإرادة في استمرار الصراع رغم العدم هي إرادة الحياة ذاتها فالذات المنكسرة في النص ليست فقط ضحية بل مقاومة وجودية متجددة صرخة تنبع من أعماق الغربة لتعبر عن تحدٍّ للنسيان والهزيمة وتعلن أن النجاة تكون في الصراع المستمر للحفاظ على الذاكرة والهوية حتى في قلب الخراب وبهذا التحليل يجوز القول إن الشعر قد ارتقى إلى مجالات الفلسفة بطرحه لقضايا عميقة ووجودية إذ يمكن اعتبار الشعر وسيلة فكرية حسية تعبّر عن التجربة الإنسانية بطرق تجريدية ورمزيات تحمل معاني فلسفية عميقة الشعر لا يقتصر على التعبير عن المشاعر فحسب بل يتناول أسئلة الوجود والذات والهوية والعبث والمعنى ما يجعله قريبًا من الفلسفة في السعي لفهم الإنسان والعالم كما أشار الفيلسوف “بول ريكور” إلى أن “الشعر والفلسفة يتشابهان في البحث عن المعنى لكن الشعر يفعله عبر الصور والإيقاعات والفلسفة عبر المفاهيم المنطقية” لذلك يمكن القول إن الشعر يُعدّ شكلًا من أشكال الفلسفة الحسّية التي تُقدّم رؤى إنسانية عميقة خصوصًا حين يتناول نصوصًا مثل «وطنٌ يبيع ملامحي» التي تطرح أزمة الاغتراب والهوية والخراب فتكون صرخة وجدانية وفكرية في آن واحد .
***
د. آمال بوحرب - ناقدة وباحثة
........................
وطنٌ يبيعُ ملامحي
بقلم: حامد الصبياني
***
رمادُ غيمٍ كان يحلم أن يكون مطرًا
أنا الذي لا ظلَّ لي
إلّا على جدران مقابرَ أُغلِقت في الليل
بالأمل المؤجَّل...
كنتُ أحبُّها —
تلك التي تمشي على رمل القصائد
حافيةَ القلبِ
تُوقظ في دمي شهوة الطيران
فإذا بها
ضحيّةَ حربٍ لم تُعلن بعد.
من أنا؟
سؤالٌ يتعثّر في شوارع العراق المحفَّرة،
تأكله أقدامُ الصمت
ويغفو في زوايا الوطن كجثةِ عاشق.
أين سوريا؟
أين زُرقةُ حلبَ حين كانت تضحكُ؟
أين درعا، والقصير، والحمص الذي لم يعد يُطهى؟
جدرانها تمضغُ أطفالًا
وتبصقهم على خرائب الوقت.
وفي لبنان،
ينوحُ أرزُ الجبل
على نهدِ أُغنيةٍ محترقة،
بيروت تُلبس جراحها كعباءةِ ملكٍ مذبوح.
اليمن؟
كان يضحك كطفلٍ ببراءةِ القهوة
فصار يبكي بسواد البنادق،
تكسّرتْ "سعادته"
كمرآةٍ دهسها الغياب.
وفي كلِّ البلاد —
أُمهاتٌ يبعنَ أولادهنَّ
مقابل رغيفٍ…
ورجالٌ يخلعون الوطنَ
كقميصٍ مُتَّسخٍ بالخذلان.
أنا؟
مَنْ أنا؟
غريبٌ في لغتي
مكسورُ اللغةِ،
يكتبُ من شرفةِ مرضه
على ورقِ المغادرة.
صحّتي؟
قصيدةٌ ذابلة
كُتبت على ضوءِ سِرْجٍ خافت
ينهار كلما حاولتُ الوقوف.
حبيبتي؟
ذاهبةٌ كأنفاسِ الربيع في شتاء القصف،
بقاياها بين دفاترِ الموتى،
ضحكتها سقطت في وادٍ
لا يعرف طريقَ الرجوع.
أنتظر...
كمحطةِ قطارٍ نسيها الزمن،
لا قطارَ يأتي،
ولا مسافرَ يعيد لي اسمي القديم.
أنا؟
بكاءُ السيّاب في موجِ البصرة
أنا؟
قُبلةُ نزارٍ ضاعت في رصاصٍ أعمى
أنا؟
صرخةُ الشابيّ حين ضاقت به بلاده،
وأقسمَ أن يغيّرها…
لكنَّ القصائد وحدها لا تغيّر التاريخ.
أنا؟
غريقٌ يكتب وصيّته في هواءٍ بلا نافذة.
أنا آخرُ شهقةٍ في صدرِ هذا الوطن،
آخرُ أغنيةٍ
لم تجدْ من يسمعها.
***