قراءات نقدية

عبد السلام فاروق: شريف صالح في رواية "مجانين أم كلثوم"

يفتح نوافذ الوعي الجمعي للمصريين

لا تزال الأيام تمضي، متسارعة كالريح، تذرو الذكريات خلفها كأوراق الخريف اليابسة، حتى ليخيل إليك أن الحياة الرقمية قد طمست معالم الماضي، وألغت ذلك الصوت الهادئ الذي كان يخترق الأعماق، فيوقظ فيها ما غفا من المشاعر والأحاسيس. ولكن ها هي بعض الروايات تأتي كالنسيم العليل، رقيقة السبك، متينة البناء، لتذكرنا بأن للإصغاء لذة لا يعرفها إلا من توقف ذات مساء ليسمع صوتًا قديمًا يتردد في أذنيه، فيملأ عليه وجدانه حنينًا وشجى.

ومن بين هذه الروايات، تطل علينا "مجانين أم كلثوم" للكاتب شريف صالح، كأنها نغمة عذبة تنساب من الماضي لتستقر في الحاضر، فتجعل من صوت أم كلثوم كيانًا وجوديًا يحمل في طياته وجدان أمة بأسرها. إنها سرد لأحداث أو سيرة لفنانة تغوص في تلك الطبقات الخفية من الوعي الجمعي، حيث تصبح الأغنية زمانًا لا ينضب، ومساحة يتأمل فيها الإنسان حبه وهويته وانكساراته، وكأن كل استماع جديد هو ولادة أخرى للأغنية ذاتها.

تنتقل بنا الرواية بين الماضي والحاضر، بين صالات الأمس الذهبية وشاشات اليوم الباردة، فترسم بخيوط من نور خريطة عاطفية تمتد عبر الأجيال، وتؤكد أن الفن الأصيل لا يشيخ، بل يتحول إلى لغة يفهمها الكبير قبل الصغير، ويحفظها الجديد كما حفظها القديم. وهكذا، تصبح "مجانين أم كلثوم" أكثر من عمل روائي؛ إنها مرآة تعكس جزءًا من الفن جسر بين زمنين

ما أن تمسك بالرواية بين يديك، حتى يخيل إليك أن الصفحات تنبض بالحياة، وكأن بين السطور صوتًا خافتًا يهمس في أذنك، صوتًا تعرفه قبل أن تعرفه، تحمله في أعماقك كأنه نداء قديم يبحث عنك منذ زمن. إنه صوت أم كلثوم كما يتردد في أعماقك، حين تكون وحدك مع نفسك، فتتحول الأغنيات إلى طقوس، والكلمات إلى أسرار وجودية.

في هذه الرواية، تتحول الست إلى ماء يروي ظمأ العطشى إلى زمن مضى، زمن كان فيه الفن نقاء والكلام عذوبة. ينسج شريف صالح حكايته بخيوط من نور، فيجعل من الأسطورة مرآة يرى فيها القارئ وجهه الخفي، وكأن الكاتب يقول لنا: "ما أسهل الحديث عن أم كلثوم، ولكن ما أصعب أن ترى نفسك في صوتها!"

وهكذا، تصبح أم كلثوم جسرًا بين زمنين: بين صالات الخمسينيات الفاخرة، حيث كان الجمهور يصفق بحرارة كأنه يودع روحه بين يديها، وبين شقة صغيرة في العصر الرقمي، حيث يجلس شاب وحيد يبحث عن معنى في أغنية قديمة تلمع على شاشة هاتفه.

التفاصيل استعارات للوجود

يحول صالح التفاصيل إلى استعارات وجودية، فيجعل من كل أغنية عالَمًا قائمًا بذاته. فبطء "سلوا قلبي" يصبح درسًا في الصبر على جراح الحب، وارتجال العود في "أنت عمري" يشبه تموج بحيرة تلامس شواطئ الروح. حتى همسات الجمهور بين الإعجاب والحنين تصبح حوارًا داخليًا: "أتراك تذكر؟ أتراك تنسى؟

وهكذا، تتحول النوستالجيا في الرواية إلى جرعات متدفقة من الذكريات، تختلف من قارئ إلى آخر، بحسب ما يحمله كل منا في قلبه من حنين إلى زمن مضى.

الواقع والأسطورة

يرسم الكاتب بالكلمات لوحات تخلط الواقع بالأسطورة، فيجعل من لحظة استماع البطل إلى "غريب على باب الرجاء" مشهدًا لرجل يقف على حافة شارع مظلم، بينما تتساقط النوتات الموسيقية على جبينه كندى الصباح. أما الجمهور في هذه الرواية فإنه شريك في الخلق. فوجوه الماضي في قاعات الحفلات، بأناقتها التي تتحدى الزمن، تواجه شابًا معاصرًا يكتب تعليقًا على اليوتيوب بلغة لا يتقنها، لكن دموعه تترجم كل اللغات.

الصوفية والتجليات

ثمة لمحة صوفية في الرواية، تستحضر روح ابن عربي والرومي، حيث يبحث العاشق عن حبيبه في صدى الصوت، عابرًا الأزمنة والغرف. فالفناء هنا ذوبان في اللحظة الفنية التي تعيد تشكيل العالم. مع "ليلي ونهاري"، يتبدد الزمن الخطي، ويصبح حلقة تدور فيها الأفراح والأتراح.

وتسير الرواية على إيقاع التداعي الحر، فكل مقطع غنائي يفتتح فصلًا جديدًا، ويحدد نبض السرد. ففي "أوقات الليل" مع "سهران لوحدي"، تروى حكاية السهر، حيث تتشابك ليالي البطل في القاهرة المعاصرة مع ليالي الملحنين القدامى في شارع محمد علي.

الحنين قوة للبقاء

الحنين هنا محاولة لاستعارة قوة الماضي لمواجهة حاضر هش. فحين يستعيد البطل ذكرياته مع "هذه ليلتي"، فإنه يبحث عن ذاته المسروقة. بينما الجمهور الذي يتابع الحفلات عبر الشاشات، وسط ضجيج العصر الرقمي، يعيد صياغة أم كلثوم كحصن ضد انهيار الزمن.

أتدري ما الذي يفعله الحنين الحقيقي؟ لا يكتفي بأن يجعلك تبكي على زمن مضى، بل يمنحك عينين جديدتين لترى الحاضر. هكذا تأخذك رواية "مجانين أم كلثوم" بين يديها بلطف، فتسير بك في دهاليز الزمن كما تسير بك أم كلثوم في "ألف ليلة وليلة"، خطوة خطوة، حتى تصل بك إلى تلك اللحظة التي تكتشف فيها أنك لست مجرد مستمع، بل جزء من الأغنية ذاتها.

تكتب الرواية عنا نحن من خلال أم كلثوم . كأن شريف صالح أمسك بمرآة مكسورة، كل قطعة منها تعكس وجهاً مختلفاً: هنا رجل في الخمسينيات يسمع "الأطلال" فتشبك أصابعه بقوة كأنه يمسك بذكرياته من التطاير، وهناك فتاة في العشرين تبحث عن معنى في "أنت عمري" بين زحام المترو الحديث.

الحب.. أغنية

أجمل ما في الرواية أنها لا تتعامل مع الأغاني كتحف في متحف، بل كأشجار حية تنمو فينا. حين يسمع العاشق "حيرت قلبي معاك"، لا يقول "يا جميلة هذه الأغنية"، بل يقول "كيف عرفت ما بداخلي؟". وفي مشهد يقطع القلب، تقف زوجة أمام سرير زوجها المريض، تهمس بكلمات "دليلي احتار" وكأنها تمسك بيديه لتعبر بهما آخر الجسر. هنا تصبح الكلمات دواءً، والصوت حناناً لم يعد موجوداً إلا في الأغاني القديمة.

تختم الرواية بمشهد يلخص كل شيء: رجل عجوز يجلس وحيداً في غرفة مظلمة، يشغل "ليلة حب" على جراموفون قديم، فتنفتح النوافذ فجأة بدخان السجائر وضحكات الأصدقاء الذين رحلوا منذ عقود.

الرواية تحكي عن ذلك الجزء فينا الذي يرفض أن يموت. وكما تقول الست في "أغار عليك": "اللي راح مش راح.. واللي جاي لسه جاي". الذات العربية، حيث تلتقي الذاكرة بالموسيقى، فيصير الحنين شكلًا من أشكال البقاء.

في النهاية، تتركنا الرواية أمام سؤال أبدي: "هل انتهت أم كلثوم؟" المشهد الأخير، في مقهى قديم، حيث تتسرب أغنية "حيرت قلبي معاك" من مذياع صدئ، يعيدنا إلى البداية، لكن بحكمة أعمق. فالحب، كأغاني الست، دائرة لا تنتهي؛ كلما اكتشفنا سرًا، ولد آخر.

وهكذا، تبقى أم كلثوم، كما رسمها شريف صالح، كائنًا سائلاً يسري في شرايين الذاكرة، كأنين دائم يربط الماضي بالمستقبل.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم