قراءة في كتاب

حميد ابولول: العراق بين أزمة الحكم ومأزق الشرعية

قراءة مقارنة في ضوء كتاب إحسان نراغي "من بلاط الشاه إلى سجون الثورة"

يمر العراق اليوم بأزمة سياسية خانقة تمثل حصيلة مباشرة لتراكمات اثنين وعشرين عاما من سوء إدارة الحكم وتغول الأحزاب السياسية في بنية الدولة والمجتمع. لقد أفضت تلك الحقبة إلى انهيار شبه شامل في مستويات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بحيث غدا المواطن العراقي يشعر بالاغتراب عن دولته، تماما كما شعر المواطن الإيراني في أواخر سبعينيات القرن العشرين قبيل اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979.

وفي هذا السياق، تكتسب شهادة المفكر الإيراني إحسان نراغي في كتابه "من بلاط الشاه إلى سجون الثورة" (ترجمة ماري طوق) أهمية استثنائية، لأنها توثق من داخل النظام نفسه مظاهر العطب الذي أصاب السلطة البهلوية قبيل سقوطها. ففي حواره الشهير مع الشاه (محمد رضا بهلوي) في يوم الاثنين 22 أيلول 1978الساعة الثالثة والنصف، يقدم نراغي تشخيصا دقيقا لأسباب الانهيار، يمكن قراءته اليوم كمرآة تعكس ملامح المأزق العراقي الراهن.

يقول نراغي للشاه إن الطبقة السياسية في إيران "غير قادرة على مواجهة الأحداث الراهنة، لأنها فقدت ثقة المجتمع وصارت تعيش في دائرة مغلقة من الامتيازات والترف".

من خلال ماقاله نراغي فأن هذا الوصف ينطبق بدرجة لافتة على الحالة العراقية بعد عام 2003، إذ تحولت الأحزاب الحاكمة (شيعية، سنية، كردية) إلى طبقة مغلقة تتقاسم الموارد والمناصب دون امتلاك كفاءة إدارة الدولة أو الحس الوطني وانا برغبات خارجية(غربية وشرقية). فبدل أن تكون النخبة السياسية مرآة لتطلعات الشعب، أصبحت عبئاً عليه، مما أفرز حالة من الانفصال بين السلطة والقاعدة الاجتماعية هي في جوهرها أزمة شرعية، وليست مجرد أزمة أداء إداري.

وفي موقف أخر يشير نراغي إلى أن المجتمع الإيراني، عندما "يخترق الدين الحياة السياسية"، يتوقع من قادته أن يكونوا مثالاً في التقوى والتقشف والنزاهة، وأن "يتجنبوا مظاهر الترف والأبهة". فالبعد الأخلاقي في القيادة هو ما يكسب السلطة شرعيتها الرمزية.

لكن الشاه، كما يظهر في رده، لم يفهم أن البساطة ليست تمثيلاً للفقر بل أسلوب حكم يعبر عن القرب من الناس.

وفي العراق اليوم، تعاني السلطة من أزمة مشابهة؛ فغياب الصفوة الأخلاقية لدى القادة السياسيين وتضخم الامتيازات وتراكم الثروات غير المشروعة التي سنت بقوانين بعد عام 2003 كلها أضعفت الثقة العامة وأفقدت النظام السياسي شرعيته الأخلاقية، وهي الشرعية الأشد رسوخا في المجتمعات الدينية المحافظة والمجتمعات الشرقية.

كذلك حذر نراغي الشاه قائلاً: "إن بلادنا تتجه إلى ما يشبه الانفجار الثوري... التفاوت الاقتصادي والثقافي الهائل بين سكان المناطق الشمالية وبين جماهير أحياء جنوبي طهران يصب الزيت فوق نار الثورة ".

وهذا التحليل الذي ادلى به نراغي للشاه يكاد ينطبق بحذافيره على الواقع العراقي المعاصر، حيث تشهد البلاد تفاوتاً طبقياً واجتماعياً صارخاً بين النخب السياسية والاقتصادية في العاصمة والمراكز، وبين الطبقات الفقيرة في المحافظات والأرياف وبالخصوص في المناطق الشيعية .

إن غياب العدالة الاجتماعية والخدمات الأساسية، واستشراء البطالة والفساد، يغذي مشاعر الاحتقان ويخلق أرضية خصبة لأي انفجار اجتماعي أو حراك ثوري قادم وبالخصوص ما حصل بالعراق ابان سيطرة داعش واستغلال الأوضاع في الحافظات الغربية في العراق عام 2014، وما حدث في ثورة تشرين 2019 وثورة عاشوراء في بغداد والمحافظات الجنوبية عام 2022 .

أن من أبرز ما يكشفه حوار نراغي مع الشاه هو عجز القيادة عن إدراك اللحظة التاريخية، إذ قابل الشاه نصائح نراغي بنوع من الإنكار والاستعلاء، متمسكا بالرموز الشكلية للسلطة غير مدرك أن شرعيته تتآكل من الداخل.

وهذا الإنكار للواقع هو ما نراه اليوم في العراق، حيث تصر القوى السياسية على إنكار الفشل والفساد والانقسام، وتتعامل مع الأزمات بوصفها مؤامرات خارجية لا بوصفها نتائج طبيعية لخلل بنيوي في النظام السياسي. ومن ثم تغلق كل فرص الإصلاح الحقيقي، كما فعل النظام البهلوي قبل سقوطه.

إن قراءة تجربة نراغي مع الشاه لا تقتصر على التاريخ الإيراني فحسب، بل تمثل تحذيراً للنخب الحاكمة في كل زمان ومكان. فالتاريخ لا يعيد نفسه بصورة حرفية، لكنه يعيد إنتاج أزماته في ظروف مشابهة.

وما يمر به العراق اليوم هو في جوهره مأزق شرعية أكثر منه أزمة حكومة. فالشرعية تبنى بالإنجاز والنزاهة والقدوة، لا بالشعارات أو التحالفات الطائفية.

فإذا لم تقدم النخبة العراقية على مراجعة جذرية لأسلوب الحكم وهذا مستبعد من خلال التصرفات والتنازلات وبالخصوص في الانتخابات السابقة التي قام بها التيار السيطرة مع الاعتزال عن السياسية والتنازل عن (72) مقعد حصل عليها بالانتخابات، فإن الانفجار الاجتماعي أو التفكك المؤسسي سيصبح مسألة وقت.

وخلاصة القول إن شهادة إحسان نراغي، التي سجلها في أواخر عهد الشاه، ليست مجرد سرد لذكريات بلاط متهاو، بل تحليل لبنية الأزمة السياسية حين تنفصل السلطة عن المجتمع وتفقد قدرتها على الإصغاء لصوت الإصلاح.

وكما قادت تلك العزلة في إيران إلى سقوط النظام عام 1979، فإن العراق يقف اليوم على مفترق طرق مشابه، تتصارع فيه إرادة التغيير الشعبي مع جمود البنية الحزبية.

ومن ثم، فإن الدرس الأهم من المقارنة هو أن الأنظمة التي لا تجدد نفسها من الداخل، يسقطها الشارع من الخارج.

إن الإصلاح الشجاع، لا القمع ولا التجميل السياسي، هو الطريق الوحيد لاستعادة الثقة وإنقاذ الدولة من مصير محتوم.

ومن الله التوفيق

***

الأستاذ المساعد الدكتور حميد ابولول جبجاب

أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المساعد/ جامعة ميسان

................

المصادر

(1) نراغي، إحسان. من بلاط الشاه إلى سجون الثورة. ترجمة: ماري طوق. بيروت: دار الساقي، الطبعة الثانية، 1991م.

(2) عبد الإله بلقزيز. أزمة الدولة في الوطن العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2015م.

(3) فالح عبد الجبار. العمامة والأفندي: سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2009م.

(4) حنا بطاطو. العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية. ترجمة عفيف الرزاز، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1992م.

(5) محمد عابد الجابري. الدين والدولة وتطبيق الشريعة. الدار البيضاء: مركز دراسات الوحدة العربية، 1996م.

في المثقف اليوم