قراءة في كتاب
عدنان حسين أحمد: نصر الله الداوودي

من الهواية والشغف إلى المهنية والاحتراف
صدر عن دار "رؤى للطباعة والنشر" بكركوك كتاب "نصرالله الداوودي.. فارس الكلمة وشهيد الصحافة العراقية" للكاتب الصحفي والمحامي عرفان سعدالله وهو شقيق الراحل ومدير مكتب جريدة العراق بديالى قبل سنوات الاحتلال من قِبل القوات الأنگلو - أمريكية. ينقسم الكتاب إلى قسمين أساسيين حيث شارك في القسم الأول أكثر من مئة كاتب وصحفي وأستاذ جامعي. أمّا القسم الثاني فيـتألف من "نعايا ومراثٍ لروح الفقيد بمداد الأخوة ودموع المخلصين" بلغ عددها 22 نعيًا ومرثية و"تجليات الأصدقاء وهمسات الأحبة بأقلام المحبّين" التي بلغت 40 تجليًا وهمسة عبّروا بواسطتها عن محبتهم الكبيرة للراحل الأستاذ نصرالله الداوودي الذي غادرنا بجسده بينما ظلت مآثرة تدور بيننا وتُذكِّرنا بحضوره الآسر دائمًا. وبما أنني كتبتُ خاتمة هذا الكتاب فأجد من المناسب أن ننشرها على الملأ لكي يطلّع عليها القرّاء الكرام ويكوّنون فكرة أولية قبل الشروع بقراءة الكتاب الذي يحمل البصمات الفنية مدير دار النشر الدكتور جليل آل حطّاب الزهيري وخاصة في المتن إضافة إلى رأيه الفني في جمالية الغلافين الخارجي والداخلي للكتاب.
بين ولادة نصرالله الداوودي في 10- 12 - 1951م في ناحية السعدية التابعة لقضاء خانقين، محافظة ديالى، واستشهاده في 27 - 10 - 2004م على أيدي عصابة إرهابية مجرمة في بغداد قرابة 55 سنة تُجسّد رحلته الحياتية التي عاشها وهو في ذروة نضجه الإعلامي والسياسي والفكري. ومع أنّ حياته كانت قصيرة قياسًا بأقرانه ومجايليه إلاّ أنها كانت مثمرة، ومليئة بالمواقف والإنجازات الكبيرة التي يفتخر بها الأهل والأقارب والأصدقاء.
ولد نصرالله الداوودي لعائلة كوردية كبيرة تتألف من سبعة أشقّاء وسبع شقيقات إضافة إلى الأبوين الكريمين اللذين سيُحسنان تربية هذا العدد الكبير من الأخوة والأخوات في ظروف اقتصادية لم تكن سهلة آنذاك الأمر الذي سيدفع نصرالله وهو أكبرهم سنًا إلى مساعدة الوالد والتخفيف من أعبائه المادية حيث افتتح محلاً للحلاقة يدرُّ عليه رزقًا حلالاً يعزز به المصاريف اليومية لهذه الأسرة الكبيرة العدد.
درسَ نصرالله الداوودي في مدارس ناحية السعدية الابتدائية والمتوسطة والثانوية التي اكتفى بها أول الأمر لينقطع إلى العمل مُكتسبًا الخبرات التي كانت تتراكم يومًا بعد يوم. وعلى الرغم من ولعه المبكر بالقراءة والكتابة إلاّ إنه تأثر لا شعوريا بسلوك والده الحاج سعدالله الداوودي الذي كان يعلّق في دكّانه صور الزعماء والقادة الكورد مثل الشيخ محمود الحفيد، والشيخ عبدالسلام البارزاني، والجنرال ملا مصطفى البارزني، وبعض شهداء الحركة الكوردية. ولعلّ مُشاهدة هذه الصور منذ وقت مبكر من حياته هي التي حرّضت ذهنه على التفتّح والولوج إلى غابة السؤال السياسي الذي سيقوده لاحقًا إلى أسئلة فكرية وفلسفية إلى حدٍ ما عن حق الكورد في الحرية، والكرامة، وتقرير المصير إذا اقتضت الضرورة.
مواهب رياضية
عُرف نصرالله الداوودي بمواهبة الرياضية والفنية المتعددة؛ فهو يلعب كرة القدم، ويبرع في كرة السلّة، ويتألق في الكرة الطائرة، وأكثر من ذلك فهو يهوى كرة المنضدة ويلعبها مع بعض زملائه الرياضيين. وقد أخبرني بعض أصدقائه أنه كان يمارس ألعاب الساحة والميدان، ويتابع بشغف البرامج الرياضية على شاشة التلفزيون، ويقرأ الأخبار الرياضية في الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية آنذاك. ومن هنا تولّد لديه الاهتمام الأولي بالصحافة الرياضية التي سأعرّج عليها بعد قليل. أمّا هواياته الفنية فهي تنحصر بالرسم والخط والتصميم. ويشير غالبية المعلِّمين والمدرِّسين والأصدقاء الذين عرفوه بأنه كان خطّاطًا ماهرًا لا يمكن للعين الثاقبة الحساسة أن تخطئ لمساته الفنية الواضحة ولا غرابة في أن تكون صحيفة "العراق" خلال السنوات التي تسنّم رئاستها من أجمل الصحف اليومية في العراق تصميمًا وإخراجًا وتخطيطات داخلية، بل أنّ لون عنوانها الأزرق بتدرجاته العديدة سيضعها في المرتبة الأولى من الناحيتين الفنية والجمالية. وعلى الصعيد المهني فقد كان حلاّقًا ماهرًا و "حداثيًا" في ذلك الوقت حيث كان يقص شعر الزبائن بطرق جميلة وجذّابة تلفت الأنظار وتستفز الذائقة التقليدية في الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي.
عمل الداوودي مراسلاً لصحيفة "التآخي" التي كان مقرها في مدخل شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي، وظل كذلك حينما انتقلت إلى شارع 52 بالقرب من ساحة "الواثق" حيث تنقّل بين الإدارة والتحرير حتى يوم 16- 17 / 01 / 1991م حيث ترك رئيس التحرير صلاح الدين سعيد الجريدة في ذلك اليوم وفُصل منها ليصبح نصرالله الداوودي رئيسًا للتحرير بالوكالة. ونظرًا لخبرته الطويلة في العمل الصحفي منذ عام 1968م، وعمله في أكثر من صحيفة رياضية مثل "الشعلة الرياضي" و "الجماهير" الكويتية التي أدار مكتبها في بغداد، و "العراق الاقتصادي" فلاغرابة أن يُسنَد إليه منصب رئيس تحرير جريدة "العراق" أصالة هذه المرة، وسيظل محافظًا على هذا المنصب حتى سقوط النظام في بغداد يوم 9 / 4 / 2003م.
لم تكن الإشارة إلى هواياته الرياضية ومواهبه الفنية المبكرة فرصة للترويج لذلك الشاب المتفتح والإشادة باهتماماته المتعددة، وإنما ستؤسس تلك الهوايات مناخًا مناسبًا وحاضنة دافئة لصحفي مهني سيجد ضالته في الصحافة الرياضية أول الأمر ثم ينتقل منها إلى الصحافة العامة بتفرعاتها العديدة. ففي عام 1981م أُسست جريدة "الشعلة الرياضي" التي كان يرأس تحريرها الأستاذ صباح ميرزا الذي ارتأى أن يكون نصرالله الداوودي نائبًا لرئيس التحرير، وهذه سانحة حظ لا تتوفر للكثير من رموز الصحافة الرياضية حيث فتحت له آفاق السفر والمشاركات في الدورات الأولمپية والكثير من البطولات العربية والأوروپية ويكفي أن نشير هنا إلى مشاركته في دورة موسكو للألعاب الأولمپية سنة 1980م، ودورة لوس أنجلوس سنة 1984م، ومونديال المكسيك سنة 1986م، ودورة سيئول سنة 1988م، ودورة كأس الخليج العربي في الرياض في السنة نفسها، ودورة مسقط وغيرها من المناسبات الرياضية التي لم تكن متاحة للكثير من الصحفيين الرياضيين المتميزين.
كما أُتيحت لنصرالله الداوودي فرصة المشاركة في المؤتمرات الدولية التي غذّته بالكثير من المعلومات وفتحت له آفاقًا جديدة مُزوِدةً إياه بالخبرات والمعارف والتجارب التي ستنعكس في عمله وسلوكه اليومي، وطريقة تفكيره الإنسانية المتحضرة.
مواقف جريئة
كان الداوودي شخصًا عصاميًا يُثقف نفسه بنفسه ويعلّمها كل يوم. وربّ قائل يقول بأنه لم يكن يحب الجانب الأكاديمي وهذا صحيح لأنه كان يراهن على الموهبة واكتساب المعارف، والتزوّد بالخبرات الحياتية. كما أنه لم يكن مثقفًا تقليديًا فلاغرابة أن يندفع صوب المغامرة والتجديد والبحث عن الحداثة في المواد التي يوافق على نشرها، ويتبّناها، ويدافع عنها أمام الجهات المعنية التي لم تترك الحبل على الغارب. ولكي نؤكد شجاعة نصرالله الداوودي سأورد ثلاثة أمثلة على نشره بعض المواد الجريئة التي لا تُحمد عقباها في بلدٍ مثل العراق. فبعد غزو الكويت كتب د. هاني الحديثي مقالاً أدرجهُ تحت عنوان "نحو برنامج وطني شامل" يتمحور على كارثة غزو الكويت وتداعياته على العراق والشرق الأوسط عمومًا، وارتدادات هذا الحدث الخطير على العالم العربي. وكاد هذا المقال الحسّاس أن يطيح بكاتبه ويضعه أمام المساءلة القانونية لو لم يتحمل نصرالله الداوودي مسؤولية نشره، والدفاع عن كاتبه. أمّا المادة الثانية فهي قصيدة جريئة كتبها الشاعر جلال عبدالله خلف تحمل عنوان "أطلق يراعك" وهي تزيّن مقالته الجميلة المعنونة "نصرالله الداوودي... سيرة ومسيرة" المنشورة في هذا الكتاب والتي تكشف بما لا يقبل الشك أنها قصيدة جريئة لم تخشَ الطاغية ولا تُعير بالاً لزبانيته الذين يتسللون إلى أروقة الصحف والمجلات والمنابر الإعلامية بأشكالها المتعددة ويدبّرون المكائد والمؤامرات في ليلٍ دامس الظلام. أمّا المثال الثالث والأخير فهي استكتاب الصحفي الجريء داوود الفرحان الذي أرّق النظام بعموده اليومي في صحيفة "الجمهورية" وأوقِف عن الكتابة بسبب هذه الجرأة المفرطة التي لم يكن يتحمّلها، ويدافع عنها غير نصرالله الداوودي. وثمة أمثلة كثيرة لا يسع المجال لذكرها جميعًا.
أتاحت منابر الصحافة المكتوبة لنصرالله الداوودي أن يواصل دراسته ضمن اختصاصه الصحفي الذي يحبّذه وينتسب إليه حيث التحق سنة 1980م بمدرسة التضامن للصحافة في بغداد التي تمنح شهادة معادلة للدبلوم. كما انتظم في العديد من الدورات الصحفية سواء في داخل العراق أو خارجه وأفاد منها الكثير وخاصة دورة كلية الصحافة في بودابست التي وسّعت مداركه في التعامل مع المادة الصحفية المكتوبة بطريقة حِرفية جذّابة.
يكاد يتفق غالبية الكُتّاب والصحفيين وبقية الشخصيات من الضباط والمعلّمين والمدرّسين والمهندسين وشيوخ العشائر الذين كتبوا عن الرحيل المُفجع لنصرالله الداوودي بأنّ طيبة هذا الرجل وسلوكه الإنساني والحضاري مع الآخرين هي حقيقة دامغة لا يرقى إليها الشكّ. فهو مُحب للجميع ومؤارز حتى للناس الذين ينتقدوه في السرّ ويتزلّفون إليه في العلن حينما يكونون بحاجة ماسة إليه وهناك أمثلة كثيرة لا حاجة لنا بذكرها أو التوقف عندها ويمكن للقارئ الحصيف أن يجدها في واحدة من مقالات هذا الكتاب الذي يتمحور على سيرة الشهيد نصرالله الداوودي الحياتية والإبداعية والنضالية.
شهادات صادقة
تُعدّ هذه المقالات والقصائد والاستذكارات التي دبّجها الكُتّاب والأصدقاء والمعارف بمثابة شهادات حيّة، ووثائق صادقة لأكثر من 100 كاتبًا وهي تعطي، في مجملها، صورة كاملة عن ثقافة الشهيد نصرالله الداوودي، وتوجهاته الفكرية والسياسية والإعلامية. كما أنها تصوّر بدقة قصة نجاحه على مدى ثلاثة عقود أو يزيد من العمل الصحفي الذي أمضاه في عدد من الصحف العراقية وعلى رأسها جريدة "التآخي" التي تحولت لاحقًا إلى جريدة "العراق" بحُلتها الجديدة شكلاً ومضمونًا.
وثمة ملحوظة مهمة أخرى مفادها أنّ منْ يقرأ هذه الشهادات الحيّة والصادقة سيكتشف أنّ أصحابها قد قدّموا كشفًا بأسماء عدد كبير من الكُتّاب والصحفيين الذين يربو عددهم على المئة كاتب وصحفي سواء من طاقم الجريدة أو من خارجها وسنورد بعضًا من هذه الأسماء على سبيل المثال لا الحصر لأن ذكرهم جميعًا يحتاج إلى مساحة واسعة لا تتوفر في هذه الخاتمة المٌقتَضَبة وهم عزيز عقراوي وهاشم عقراوي وصلاح الدين المختار، وصالح الحيدري، ودارا توفيق، وحبيب محمد كريم، وأكرم علي حسين، وموحان الظاهر، وغالب زنجيل، وأحمد شبيب (أبو صارم)، وهناء جبار، وعبدالستار طاهر شريف، وهارون محمد، وعباس البدري، ورياض قاسم، وعبدالقادر العزاوي، وجليل كمال الدين، وعبدالمجيد الشاوي، وباقر سماكة، ونهاد التكرلي، وفاضل عزيز فرمان، وعادل كامل، ومنير عبد الأمير، وعبدالستار البيضاني، وصلاح شوان، وعادل الشوية، وفيصل صالح، وعبدالقادر العاني، ومهدي شاكر العبيدي، وموسى جعفر، ورشيد الصفّار، وعبدالهادي الفكيكي، وعبدالوهاب الطالباني، وسعد محمد رحيم، وكاتب هذه السطور المتواضعة وعشرات الأسماء الإبداعية الأخرى التي استقطب غالبيتها الشهيد الراحل نصرالله الداوودي ومهّد لهم سُبل الكتابة في صحيفة "العراق" ووافقَ على أن يكتب البعض بأسماء مستعارة كما هو الحال مع الشاعر حميد سعيد الذي توارى خلف اسم مُعبِّر جدًا وهو "عبدالله الأمين".
دعوني في هذه المناسبة أن أتوجّه بالشكر الجزيل لشقيق الشهيد الراحل الأستاذ الصحفي والمحامي عرفان سعدالله الداوودي على التفكير بإنجاز هذا الكتاب القيّم، وسهرهِ عليه. فمنذ عدة أشهر وهو يواصل العمل ليلَ نهار ويتصل بأصدقاء الشهيد وأقرانه ومجايليه من الكُتّاب والصحفيين والأساتذة الجامعيين وبعض الشخصيات العامة ويحثّهم على كتابة المقالات الموضوعية والقصائد الوجدانية التي تلامس شغاف القلب عن شقيقه الشهيد الراحل نصرالله الداوودي. وقد طلب مني شخصيًا أن أعيد صياغة بعض المقالات التي تفتقر إلى السلاسة والتماسك واللغة القويمة، خصوصًا وأنّ البعض من الكُتّاب هم من الأخوة الكورد أو التُركمان أو هم من العرب الأقحاح لكنهم من خارج الوسط الأدبي أو الإعلامي ويكتبون بما تجود به قرائحهم لذلك اجترحنا العناوين المناسبة للكثير من المقالات وأدخلنا بعض التعديلات هنا وهناك من دون أن نؤثر على جوهر الأفكار والآراء التي وردت في متون مقالاتهم الجميلة والصادقة والمعبِّرة في آنٍ معًا.
***
عدنان حسين أحمد (لندن)