أقلام حرة
عبد الأمير الركابي: الرؤية الثانيه الغاية للوجود والعالم (2)
ينظر متفلسفو الغرب وتابعيهم النقليين الى البدئية العظمى الافتتاحية باستصغار مستهينين بقيمه ومستوى الاختراقية الكونية المتصله باللحظة الابتداء من علاقة العقل بحالته القصورية الابتدائية للكون وظواهره والوجود ومقتضياتيه، ومن هذا المنطلق يمكن ان تلحظ ظاهرة الميل الى تقديس المنجز المتاخر والحداثي في هذا المجال على حساب ماقبله وماكان لحظة الافتتاح في كشف العقل بصيغته المتوفره عن العلاقة بالوجود وهي المهمه الاعظم مقارنة بكل ماقد بني عليها واستند لها.
وهكذا وضع تسلسل الوعي ضمن متواليه: الاسطورة، الدين، الفلسفه، كما فعل هيغل على سبيل المثال، وكان الفلسفة هي القمه الاعقالية البشرية، مع ان مثل هذه المعادلة تبدو بوضوح مختلة فالدين ليس بالمرحله التي يمكن نسبتها للماضي المنقضي، وهو موجود في الحياة وفي الكينونه البشرية بقوة تفوق بما لايقاس موقع الفلسفة النخبوي المحدود، بحيث يحتل المنظور الماورائي موقع العنصر الوجودي المجتمعي خارج السياقات الجغرافية والكيانيه على مدى يشمل المعمورة بمعظمها بصفته لازمة وجود، بما يمكن، لابل يجب ان يجعل من محاولة وضع مثل التدرجات المذكورة اعلاه في خانة التوهمية غير المدقق فيها، والمرتكزه لاعتبارات السطحية الموكوله الى العجب المتاخر بالذات بناء على مفعول عنصر حضر من خارج العملية المجتمعية بصيغتها الاولى اليدوية، من دون اي قدرة على الارتقاء لمستوى وحقيقة الفعالية العقلية البدئية الوجودية كما عاشتها المجتمعات الاولى ابان تبلورها الافتتاح.
وتستوجب هذه الظاهرة اعادة قراءة للسردية العقلية الادراكية البشرية، بين منجز الافتتاح البدئي وذلك اللاحق، وبالاخص منه الذي رافق ونجم عن الانقلاب الالي بصيغته الاولى المصنعية الاوربية وتوهماتها، الامر الذي يمكن ان ياخذنا الى القول بان المنطلق الرؤيوي الاول المجتمعي بصيغه الاسطورية السماوية بازاء الوجود والكون المبهم، هو الصيغة العليا من الرؤية العقلية البشرية المؤجله، والتي لم تكن قادرة على التحقق في حينها، لاسباب تتعلق بنوع وسيلة الانتاج المتاحة والممكنه من جهة، وحكم القصورية الاعقالية الابتدائية، ولزوم تجاوزها الى النطقية التحولية الباقية خافيه، تتعدى القدرات المتاحة من الادراكية العقلية حتى اللحظة الراهنه.
وهنا تقع القصورية الكبرى في النظر الى الحقيقة الوجودية والمسار البشري المقرر والمصمم بنية وكينونه، مع العجز عن التعرف على الحقيقة المجتمعية الاساس اللاارضوية الدالة على خضوع الوجود لقوة التحولية العظمى الى العقلية بدل الجسدية، فالمجتمعات تبداكمنطلق بالتبلور في ارض سومر، لاارضوية ذاهبة الى مابعد ارضوية جسدية وهذا هو جوهر الوجود البشري ومنتهاه، مقابل ذلك الذي يرى المجتمعية جسدية ابدية ونهائية، فيعمد الى تكريس هذا النوع من النظر على انه الواقع، الى ان ذهب ليدعمه لاحقا بما يعتبره "منظور العلم" والعقلانيه، مقابل الماورائية والميتافيزيق، هابطا بالمروية المجتمعية التحولية الى الدرك الارضوي المغلق، بما في ذلك منتهياته المفترضة "الاشتراكية" وعموم صيغ اليوتوبيا الارضوية، التي تقف بالكينونه البشرية عند حدود ونطاق الجسدية الحاجاتية التي هي بالاحرى محطة لازمة مؤقتة وعابره، مفروضة لاجل توفير اسباب الانتقاله العظمى التحولية مابعد الجسدية.
الابراهيمه العراقية السومرية هي التعبيرية الاولى اللاارضوية اي التعبيرية التحولية الاولى ضمن اشتراطات استحالة التحقق، وتحت وطاة اشتراطات اليدوية وغلبة الارضوية وطفولة العقل، تتكامل برغم مجافاة الواقع نبويا حدسيا بما يوافق اشتراطات الازدواج البشري المجتمعي التفاعلي الانتقالي الطويل، الذاهب الى نهاية الطور اليدوي الانتاجي، حين تبدا بالتبلور ساعتها ومن هنا فصاعدا اسباب التعبيرية الثانيه اللاارضوية، "العليّة / السببية" ويصير الانتقال من الجسدية واقعا معاشا، مع توفر اسبابه على صعيد وسيلة الانتاج العقلية/ التكنولوجية العليا، والرؤية المنتظرة، تلك البدئية الثانيه، الغاية والغرض الاعلى.
والتعبيرية اللاارضوية التي هي اول رؤية ابتدائية للكون والوجود هي المنظور "العلمي" الاول للكون والوجود قبل اوانه، يقر اولا بوجود قوة عليا خارجة عن الارادة البشرية هي المتحكمه بمسارات الوجود، وهي حين تتم صياغتها في حينه، فانها تاتي ملزمه بالخضوع لما متاح لها من ممنكات التعبير اللاارضوي. وهنا نجد التوافق الضروري بين اشتراطات الوجود البشري الاولى ومستوى الادراكية وبين اجمال البنية الربانيه من دون تجاهل عبقرية الصياغة ضمن المتاح آنيا مقابل المنظور الفرعوني التالهي الارضوي الجسدوي، المادي الارضوي الموكول للحاجة، لنصبح امام رؤية تسحب السلطة من الارض لتودعها في السماء، متعدية الملوك والفراعنه وكل صنوف الحكام، فاذا ادمج حكم الغائية الكونيه العليا ب "الله" فان اللحظة وشروطها وسبل وممكنات التعبير عنها ضمانا لفعلها، تكون مرهونه بممكنات الرؤية الاولى للوجود والعالم والكون، بالاخص ضمن اشتراطات اليدوية، الى ان تنتهي مفاعيلها وتحل ساعة الانتقال الالي التكنولوجي العقلي، ووقتها تحل ساعة العلية السببية اللاارضوية التي يسمونها ارضويا " العلمية" و"العقلانيه" الارضوية، وقد آن اليوم اوان انحسار فعلها المؤقت التوهمي، مع بدء تبلور الاسباب الضرورية للتحوليه العظمى ماديا " تكنولوجيا".
لم يصل الكائن البشري مستوى يؤهله للتعرف على قوانين تطوره ومسارات وجوده وغاياته، فهو مايزال مجرد موضوع، ثمه قوة عليا هي المتحكمه به وبكل مايخص ترقية ووجهته، فاذا حدث وانبثقت الرؤية الثانيه للوجود من هنا فصاعدا، وغدا الكائن البشري قادرا على التعرف على اليات وجوده ومساراته، فان مفهوم " الله"، اي الغائية الكونيه العليا الناظمه للكون والياته، لابد سيصبح اكثر ملموسية، وياخذ بالتشكل بما يوافق صيغة التحول العظمى البشرية الى "الانسان/ العقل"، على انقاض "الانسايوان" الحالي المنتهية صلاحيته، بما هو محطة انتقالية اخيرة بين "الحيوان" و"الانسان"، ووقتها حين يكون العقل المتحرر بذاته من وطاة الجسدية،هو الحاضر الفعال، فان كل مايخص النظر للذاتيه والكينونه والوجود يصير في عالم اخر مختلف نوعا، لسنا بعد قادرين على وصفه، مع ان العمل على استجلائه صار هو المهمة الاعظم على مستوى التاريخ البشري الممتد عودة الى عصور الحيوانية، ذهابا الى الخليه الاولى.
***
عبد الأمير الركابي






