أقلام حرة

حميد علي القحطاني: حين تعتاد الأرواح القيد

تأملات في عشق الاستبداد ومهابة الحرية

ليس غريباً، بل قد يكون متوقَّعاً في مجتمعات طبعها الخوف وسادها القهر، أن ترى شعوباً وأفراداً يرضخون للظلم، ويُذعنون للاستبداد، ويُسلّمون أعناقهم للطغيان، تفضيلاً لذلك على خوض غمار الكفاح من أجل حقوقهم المشروعة وحرياتهم الإنسانية. فالكفاح، في نظر هؤلاء، مكلفٌ لا بالجهد فحسب، بل بالنفس والطمأنينة والأمن، لذلك لم تكن الجموع يوماً هي من تصنع التغيير، بل دائماً قلّة، قلّة ترفض أن تكتفي بالأنين، وتختار بدلاً منه أن تصرخ، أن تقاوم، أن تُشعل الشموع في وجه ظلمات القهر، سواء أتى هذا القهر من احتلال غاشم، أو من سلطان جائر، أو من تقاليد وأعراف تشبه السجون بأقفالها الحديدية.

وقد رأينا بأم أعيننا مثالاً جليّاً في العراق بعد سقوط الطاغية في 2003، إذ تمنّى كثير من الناس- ويا للمفارقة- عودة القبضة الحديدية، وتشوّقوا إلى سطوة الجلاد أكثر من شغفهم بتذوّق طعم الحرية! أهو الخوف من الحرية؟ أهو الفزع من المسؤولية الملازمة لها؟ أهو تربية القهر التي تجعل التمرّد على الطغيان يبدو كفرًا، والحرية نفسها تبدو جريمة؟

شاهدت اليوم مقطعاً مصوّراً لمراهق عراقي يحاول الانتحار من على أحد جسور الديوانية. سبب بسيط ظاهرياً: أزمة حب. لكن ما شدّني لم يكن الفعل، بل ردود الأفعال. قرأت التعليقات، فوجدت أكثر من ثمانمائة تعليق، جلّها يدعو إلى ضرب المراهق، إلى تأديبه بعنف، إلى تربيته من جديد بالسوط والعقاب، كما لو أن القسوة علاج للضياع، أو أن الإهانة تبني إنساناً.

قلّة نادرة هي من كتبت بتفهم، بمحاولة تأمل، بتساؤل عن السبب وراء الانتحار، لا في الموقف العاطفي العابر، بل في التربية، في البيئة، في ثقافة لا تسمح للهشاشة أن تظهر، ولا للضعف أن يُفهم، ولا للألم أن يُسمع. ثقافة ترى في الانهيار ضعفًا أخلاقيًا لا إنسانيًا، وتظن أن الصرامة تبني النفس، بينما تهدمها من الداخل دون أن تدري.

”يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنكُمْ، وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا“... فهل نؤمن بضعفنا كبشر؟ أم نخاف أن نُبصر في المرآة وجهاً هشاً فنغطيه بغلاف من قسوة تربّينا عليها وورثناها دون مساءلة؟

السؤال الأعمق هو: هل يخشى الناس أن يُعيدوا النظر في طريقة عيشهم؟ أن يتأملوا ثقافتهم وعاداتهم؟ أن يتوسّعوا في مساحة الحرية داخل ذواتهم ومجتمعاتهم؟ حتى وإن قادتهم هذه الحرية إلى حياة أسهل، ألين، أكثر انسجاماً مع الرفق والعقل؟

نيوتن رأى التفاحة تسقط مراراً، ككلّ الناس. لكنه، في لحظة تأمل واحدة، صرخ: وجدتها! لا لأنه رأى ما لم يره غيره، بل لأنه فكّر كما لم يفكر غيره. التأمل-لا المشاهدة - هو مفتاح الإدراك.

وإن لم يتربَّ النشء على قواعد إنسانية تجعل من التفكير فريضة، ومن الحرية قيمة، ومن المسؤولية شرفاً، فإنهم سيظلون يحنّون إلى قسوة المستبد، ويهابون نور العقل، ويركعون لصنم الطغيان.

وعلى المربّين، والأهل، والمهتمين بالشأن التربوي أن يعوا أن أدوات تشكيل الوعي اليوم لم تعد كما كانت. فلم تعد الخطبة والموعظة والصف المدرسي تكفي، بل العالم كلّه صار يربّي أبناءنا: الإنترنت، الإعلام، التفاعل اللحظي على المنصات.

إن المغبون حقاً هو من لا يُراجع نمط عيشه كل يوم، ولا ينقّح عاداته، ولا يحرّر نفسه من تقاليد لا تصلح إلا للقيود. فالعيش المتأمل هو العيش الرفيع، والمجتمع الذي يُدمن النقد الذاتي هو المجتمع الذي يرتقي.

***

حميد علي القحطاني

 

في المثقف اليوم