أقلام حرة
عبد السلام فاروق: رؤوس أم قطع شطرنج؟.. لعبة الأمم التي لا تعرف الرحمة!

ليس هناك أكثر خداعاً للبصيرة من مشهد الخرائط السياسية وهي ترسم وتمحى، الدول تتهاوى وتقوم، والملايين من البشر يتحركون عليها كدمى يحركها خيط غير مرئي. إنه مشهد مهيب ومخيف في آن واحد.. مشهد "لعبة الأمم" التي تتساقط فيها الرؤوس وكأنها قطع شطرنج، لكن دماءها حقيقية، وآلامها ليست من خشب.
في غرفة عمليات السياسة الدولية، حيث تحسب التكاليف والمنافع بدقة محاسب بارع، تفقد كلمات مثل "الضمير" و"الإنسانية" قيمتها السوقية. يصبح الإنسان مجرد رقم في معادلة، ومجرد وحدة في إحصائية. عشرات الآلاف من الضحايا؟ محزن بالتأكيد، لكنه "ثمن مقبول" إذا ما قورن بـ"المكاسب الاستراتيجية". خراب مدن بأكملها؟ "خسائر جانبية" في طريق تحقيق "مصلحة عليا". اللغة نفسها هنا تصبح جزءاً من اللعنة، فهي تجمل القبيح وتخدر الضمير العالمي.
ولهذا توارثت الحكمة الشعبية عبر الأزمنة تلك النصيحة البليغة: "عند صراع الأمم احفظ رأسك". إنها ليست دعوة للجبن، بل هي صيحة تحذير من دخول معركة أنت فيها مجرد وقود، وليس فارساً. هي ذروة الوعي بأنك أمام آلة طحن لا تميز بين بريء ومذنب، ولا تعرف سوى لغة القوة والمصلحة. إنه قانون البقاء للأكثر حذراً، لا للأكثر حماسة.
لكن المفارقة المؤلمة أننا نرى، في كل صراع، جحافل من "المغفلين" يندفعون بحماسة من يصطاد الفرصة الذهبية، ليقدموا رؤوسهم وأرواح أهلهم على طبق من فضة - أو على طبق من دمار - لمصلحة من لا يعرفهم ولا يهتم بمصيرهم. يظنون أنهم أبطال في ملحمة وطنية، وهم في الحقيقة مجرد دمى في مسرح عرائس كبير. يبيعون أوطانهم وأبناء جلدتهم بأبخس الأثمان، مقابل وعود كاذبة أو أوهام مجيدة.
هؤلاء.. ينبهرون ببريق الشعارات الرنانة، ويتعلقون بأوهام صنعها لهم سحرة السياسة والإعلام. يخوضون المعارك بدلاً عن أصحابها الحقيقيين، ثم يتركون بعد ذلك في العراء يواجهون مصيرهم المأساوي: الخيبة والخذلان، والخراب والدمار. يشربون كأس السم حتى الثمالة، ثم يكتشفون أنه كان مجرد شراب مغلف بعسل الأكاذيب.
الغريب في الأمر أن التاريخ لا يتوقف عن تكرار هذه المسرحية، بنفس الحبكة ونفس النهاية المأساوية، لكن مع ممثلين جدد. كأن هناك نسياناً متعمداً، أو رغبة انتحارية في خوض التجربة ذاتها.
فهل من مستفيد؟
بالطبع هناك مستفيد. هناك من يبيع السلاح، ومن يسيطر على الممرات المائية، ومن يعيد ترتيب الخرائط لصالحه. هناك من يحقق "التوازنات الاستراتيجية" على جماجم الأبرياء. هم قلة، لكنهم يملكون مفاتيح اللعبة.
أما الدرس الأهم، فهو أن على الأمم التي تريد أن تحفظ كرامتها وتصون وجودها، أن ترفع سقف وعيها. أن تعي أن العالم غابة، والقانون الدولي مجرد حبر على ورق حين تتعارض مصالح الكبار. وأن قوتك هي الضمان الوحيد لاحترامك. لا تكن أنت الوقود الذي تشعل به نيران الآخرين. لا تكن أنت الرقم الذي يضاف إلى إحصائية الضحايا.
النتيجة مؤلمة لكنها الحقيقة: في ساحة "لعبة الأمم"، إما أن تكون لاعباً، أو تكون حلبة اللعب. لا مكان للمشاهدين الأبرياء. فإما أن تتحكم بمصيرك، أو يتحكم بك الآخرون. والفرق بين الخيارين هو الفرق بين الكرامة والذل، بين البناء والخراب، بين الحياة.. وبين أن تصير مجرد إحصائية في نهاية النهار.
نعم.. هذه هي الحقيقة المرة التي يجب أن نعترف بها: العالم ليس جمعية خيرية، والسياسة الدولية ليست حلقة نقاش أخلاقية. إنها معادلة قوة صرفة، تحكمها مصالح متصارعة، وتتحكم فيها موازين القوى. والسذاجة الكبرى أن نتعامل مع هذا الواقع بمنطق الوعظ الأخلاقي أو المشاعر العاطفية.
الشرعية الدولية.. الوهم الجميل
كم هو مأساوي أن نرى من يعلق آماله على "الشرعية الدولية" و"منظمات الأمم" وكأنها محكمة عدل عليا. إنها في حقيقة الأمر مسرح للصراع نفسه، لكن بأقنعة دبلوماسية وبيانات مطولة. حق النقض (الفيتو) هو التعبير الأصدق عن هذه اللعبة: أنا القوي لدي الحق في إلغاء كل ما يهدد مصالحي، حتى لو كان تحت مسمى "الشرعية". فكيف نطلب من النمر أن يحكم في قضية الحمل؟!
والسؤال الذي يجب أن نوجهه لأنفسنا قبل أن نوجهه للعالم: لماذا أصبحنا نحن "وقود" صراعات الآخرين؟ لماذا تستطيع قوى دولية أن تستخدم أرضنا ودماءنا كمسرح لتصفية حساباتها؟
الجواب يكمن في غياب المشروع الحضاري الحقيقي. الأمة التي لا تملك مشروعها التنموي والسياسي والعسكري المستقل، تصبح بالضرورة ساحة لصراعات الآخرين. الأمة الضعيفة والمفككة هي الجائزة التي يتنافس عليها الصيادون.
من يملك القوة يكتب التاريخ
انظر إلى صفحات التاريخ.. من ينتصر في ساحة المعركة هو من يكتب الرواية، هو من يحدد من "البطل" ومن "الإرهابي"، من "المقاوم" ومن "المحتل". الأخلاق تتبع القوة، وليست سابقة عليها في الميزان الجيوسياسي. وهذا لا يعني الدعوة إلى التخلي عن الأخلاق، بل يعني الفهم الواقعي: أن تكون أخلاقياً وقوياً، فهذه هي المعادلة الصعبة والنبيلة. أما أن تكون أخلاقياً وضعيفاً، فمصيرك أن تكون ضحية.
طريق النجاة ليس في الانكفاء على الذات أو تبني نظريات المؤامرة التي تبرئنا من المسئولية. الطريق يبدأ بالاعتراف بالمرض: مرض التخلف والتبعية. يمر عبر بناء الذات من الداخل: تعليم ينتج عقولاً مفكرة، لا حافظة. اقتصاد منتج، لا مستهلك. نظام سياسي يوطن السيادة ويبني مؤسسات الدولة، وجمهورية جديدة .
عندما تبني أمتك جيشاً قويا يحميها، واقتصاداً يغذيها، وفكراً يحركها.. عندها فقط، تتحول من كونك "قطعة في لعبة الآخرين" إلى "لاعب في حلبة الصراع". عندها فقط، يحترمك الخصم قبل الصديق.
الخطيئة الكبرى!
أكبر خطيئة ترتكبها النخب في العالم الضعيف هي انتظارها "صحوة ضمير" لدى الآخر القوي. إنها تعلق مصير شعوبها على فكرة أن الأمم القوية سترثي لحالها، أو أن المنظمات الدولية ستنصفها. هذه ليست سذاجة فحسب، بل هي انتحار سياسي. الضمير الدولي يظهر فقط عندما يتقاطع مع المصلحة الدولية. انظروا إلى سرعة التدخل في أزمات، وتلكؤه في أزمات أخرى. الفارق ليس في درجة المعاناة الإنسانية، بل في المكاسب الجيوسياسية للمتدخل.
نعم، هناك لحظات في التاريخ يبدو فيها أن "الضمير العالمي" تحرك. لكن المحلل الاستراتيجي لا ينخدع بالمظهر. حتى هذه اللعبة الأخلاقية هي جزء من حسابات القوة. عندما تتدخل قوة عظمى بدافع "إنساني"، اسأل دائماً: أين مصلحتها؟ هل هي السيطرة على موارد؟ هل هي تحجيم خصم؟ أم هي تحسين صورة ذهنية لتحقيق نفوذ أوسع؟ القاعدة الذهبية هنا: لا يوجد غداء مجاني في السياسة الدولية.
من يملك قرارك.. يملك حياتك
الخيط الفاصل بين الأمم التي تقرر مصيرها والأمم التي يقرر مصيرها غيرها هو "سيادة القرار". عندما تكون قراراتك الاقتصادية، وأمنك القومي، وسياساتك الخارجية، مرهونة بإرادة خارجية، فأنت لم تعد سيداً في دارك. أنت أصبحت مجرد حارس عن هذه الدار لصاحبها الحقيقي. والصراعات الدولية غالباً ما تكون أدوات لاختراق هذه السيادة المتبقية، أو لإعادة تأكيد التبعية.
لا أقترح هنا الانعزال أو المواجهة المباشرة الساذجة. الحكمة تقتضي فهم قواعد اللعبة الدولية، ولكن بلغة تخدم مصلحتك. الصين لم تواجه أمريكا مباشرة، لكنها بنت قوتها في صمت لعقود. سنغافورة تحولت من جزيرة فقيرة إلى قوة اقتصادية دون أن تخوض حروباً. المهمة ليست في رفض اللعبة، بل في إتقانها بحيث تحولها من تهديد إلى فرصة. استخدم التنافس بين الكبار لصالحك، كما فعلت مصر في السبعينيات عندما استخدمت التنافس الأمريكي السوفيتي لتحقيق انتصارات دبلوماسية وعسكرية.
الطريق الوحيد للخروج من هذا المتاهة، وهذا ما أدركته الدولة المصرية، هو الانتقال من وضعية "التابع" إلى وضعية "الشريك الصعب". عندما تملك ما يحتاجه الآخرون - سوقاً، موقعاً استراتيجياً، موارد، عقولاً - تتحول من حالة الدفاع إلى حالة المساومة. ولكن لتصبح شريكاً صعباً، يجب أن تبنى داخلياً ما يجعل شراكتك مطلوبة، وليس مجرد منة من الآخر.
الخلاصة التي لا خلاص بدونها
لا تطلبوا من العالم أن يرحمكم.. فلن يرحمكم. لا تنتظروا من أحد أن يقدم لكم الحرية على طبق من فضة.. فلن يفعل. التاريخ لا يسير بمنطق العواطف، بل بقانون القوة والضعف، البناء والانهيار.
الخيار الوحيد أمامنا هو أن نعود إلى أساسيات البقاء: نبنى قوتنا بأنفسنا، نوحد صفوفنا، نطور أدواتنا. نتعلم من أخطاء الماضي، لا أن نكررها كالأغبياء. فإما أن نكون.. أو لا نكون. هذه هي معادلة الوجود الوحيدة في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء.
***
عبد السلام فاروق