أقلام حرة

عبد السلام فاروق: الفوضى المنتظمة.. أزمة الجوائز الثقافية في مصر

تبدأ الحكاية من العبث. من عبث منظم، يرتدي رداء المؤسسة، ويتستر خلف أسماء كبرى، لكن روحه تشي بالفوضى. وزارة الثقافة المصرية، هذا العالم الواسع، الذي يحتضن تحت سقفه ثروة من الهيئات والمجالس: المجلس الأعلى للثقافة، والهيئة العامة للكتاب، وقصور الثقافة، والمركز القومي للترجمة، وأكاديمية الفنون... وغيرها.

لكنك إذا اقتربت، تجد هذه الجزر المنعزلة. كل كيان يعيش في قارته الخاصة، يحرس حدودًا وهمية، ويفتخر بسيادته على أرض لا تزرع سوى الأوراق والإهمال . قل أن تسمع همسة تنسيق، أو نبضًا لرؤية واحدة. وأوضح تجليات هذا التشظي يأتي في أكثر الملفات إثارة للأسئلة: جوائز الوزارة الثقافية. ذلك العالم الموازي الذي يحكمه التخبط، وتسوده معايير مرتجلة، وتلعب به أهواء الاستمرارية والتوقف، كقارب في لجة بلا دفة.

الاسم الواحد والأبواب المتعددة

انظر إلى اسم واحد: "نجيب محفوظ". اسم يملأ العالم، ويكفي أن يرفع راية ليكون مَعلَمًا. فماذا تفعل دولة تفتخر به كأبرز أدباءها؟ تكرره. وتكرره بطريقة تثير الحيرة.

في المجلس الأعلى للثقافة، توجد "جائزة نجيب محفوظ في الرواية العربية". أُطلقت عام 1999، ثم غابت ثمانية عشر عامًا، كأن الاسم ذهب في إجازة طويلة. عادت عام 2017، بجائزة مالية مقبولة، تمنح لمصري وآخر عربي.

لكن المفارقة الأكثر سخرية تأتي هذا العام. فبينما قد يستعد المجلس لإعلان الفائزين يخرج علينا المسئول عن معرض الكتاب، معلنًا ميلاد جائزة جديدة! تحمل الاسم نفسه: "نجيب محفوظ"، لكنها هذه المرة تابعة للهيئة المصرية العامة للكتاب، وبقيمة أكبر.

سؤال مباشر: ألا تلتقي الهيئتان تحت سقف وزارة واحدة؟ ألا يعلم كل منهما ما يفعله الآخر؟ أم أن الأمر تحول إلى سباق لرفع راية الرمز فوق مبنى، وكفى؟

ثم تأتي المفارقة الأوسع. فهناك جائزة ثالثة، خارج أسوار الوزارة تمامًا: "الجائزة الدولية لنجيب محفوظ" التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة منذ 1996، وهي جائزة محترمة، تترجم الفائز للإنجليزية، ولها ثقلها.

والسؤال الجوهري: كيف تترك الدولة المصرية، بمؤسساتها الرسمية، اسم علمها الأدبي الأبرز يدار - ولو جزئيًا - من قبل جهة أجنبية، مع ما يحمله ذلك من احتمالية تحميل هذا الاسم الرمزي تصورات قد لا تتطابق تمامًا مع سياقه الثقافي الأصلي؟

الحل ليس في منع الآخر، إنما في ترتيب البيت أولاً. لماذا لا تكون هناك جائزة مصرية رسمية واحدة قوية، شفافة، وذات قيمة معتبرة، تحمل اسم محفوظ، وتدار بتنسيق كامل بين المؤسسات، ويكون لها حضورها الدولي المحترم؟ حضور يدار بعقل مصري، ويحفظ للإرث هيبته.

جوائز لا تطعم خبزًا

انتقل من أزمة الأسماء إلى أزمة القيمة. انظر إلى عشرات الجوائز التي تعلن عنها جهات مثل المجلس الأعلى للثقافة وقصور الثقافة. ستجد قيمتها تتقافز بين خمسة آلاف وعشرة آلاف جنيه، بل إن بعضها يهبط إلى ألف أو ألفين. في زمن تضاعفت فيه تكلفة الطباعة، وصار شراء كتاب واحد رفاهية لكثير من المبدعين الشباب.

يأتي التبرير الجاهز: هذه الجوائز للشباب، أو للتحفيز. وكأن الشباب يعيشون خارج كوكب الحياة، لا يدفعون إيجارًا ولا ثمنًا للورق. هل يعقل أن تكون قيمة جائزة "وطنية" لإبداع أدبي، أقل بكثير من مكافأة لاعب كرة قدم مبتدئ في ناد من الدرجة الثالثة؟

النتيجة: تتحول الجائزة من وسيلة لدعم المبدع، إلى مجرد "إعلان شكلي". ورقة تعلق على الحائط، من دون أي أثر فعلي في دفع مسيرته خطوة واحدة للأمام. وغالبًا ما تصاحب هذه الضآلة المالية ظاهرة تكرار الأسماء نفسها في لجان التحكيم أو قوائم الفائزين، مما يحول الجائزة إلى دائرة مغلقة، أو مكافأة داخلية. هنا لا يصبح الحديث عن هزالة مادية فحسب، بل عن هزالة معنوية تدفع بالثقة في المؤسسة إلى الحضيض.

الشروط العجيبة: عقاب التميز!

وإذا خرجنا من دائرة القيمة إلى دائرة المعيار، نجد العجب. خذ ما أعلنته قصور الثقافة عن "جائزة الثقافة الجماهيرية في الآداب". من شروطها: ألا يكون المتقدم قد حصل سابقًا على إحدى الجوائز العربية الكبرى! وأن يكون قد مضى على نشر كتابه الأول عشرين عامًا!

تأمل الشرط الأول: فهو يقصي مبدعًا حصل على "البوكر" أو "زايد" أو "كتارا".. ليمنح الجائزة لمن لم يحصل عليها! أي فلسفة هذه التي تعاقب التميز والنجاح، وكأنها تقول للكاتب: "احتفظ بتميزك لنفسك، فلدينا جوائز للمغمورين فقط"؟

أما الشرط الثاني – عشرون عامًا على الكتاب الأول – فيبدو وكأنه يستهدف جيلاً محددًا من كتاب التسعينيات. فهل الجائزة لفئة عمرية؟ ولماذا عشرون عامًا بالضبط؟ أليس في هذا الشرط التعسفي قتل لروح المنافسة وتحديد مسبق للفائزين؟

هذه الشروط لا تحتاج إلى ناقد أدبي لفك شفرتها. إنها تطرح سؤالاً بسيطًا: ما الفلسفة الثقافية التي تحكم هذه الجوائز؟ أم أنها مجرد قواعد إدارية عشوائية، وضعت على عجل، من دون تفكير في الغاية؟

جوائز بلا ذاكرة

وأخيرًا، تأتي قضية النسيان المؤسسي. فمعظم جوائز الوزارة تعيش في لحظتها الإعلانية فقط. تُعلن، ثم تختفي بعد حفل التسليم، كأنها لم تكن. أين الأرشيف الشامل؟ أين أهدافها ومعاييرها عبر السنين؟ أين قوائم الفائزين منذ البداية؟ والأهم: أين أسماء لجان التحكيم في كل دورة؟ تلك اللجان التي تملك سلطة منح الشرعية.

على النقيض، تأخذك الجوائز الكبرى عالميًا وعربيًا إلى مواقع إلكترونية واضحة، تفصل كل شيء: الفلسفة، الشروط، الأعضاء، الأرشيف. إنها تمتلك ذاكرة موثقة، ووجودًا مستمرًا يضمن الشفافية. أما عندنا، فالكثير من الجوائز تفتقد لأبسط مقومات الاحتراف: الذاكرة. وهذا الغياب ليس تقصيرًا تقنيًا، لكن دليل على نظرة قاصرة للجائزة كـ "فعل إداري" ينتهي بتوزيع الشيكات، وليس كـ "مشروع ثقافي" متكامل يبني تاريخه ويراكم رصيده.

في الختام: الاستثمار في الخيبة

أزمة جوائز وزارة الثقافة هي أزمة رؤية وتنسيق قبل أن تكون أزمة موارد. الدولة تعلن في كل مناسبة دعمها للثقافة كركن من أركان القوة الناعمة. وأول تجليات هذا الدعم الحقيقي يجب أن يكون في إعادة هيكلة هذه المنظومة المضطربة.

لا بد من خطوات عملية عاجلة:

1. التوحيد: تشكيل لجنة عليا تتبع الوزير مباشرة، مهمتها حصر ومراجعة كل الجوائز، ودمج المكرر، ووضع خريطة تكاملية تمنع التضارب. جائزة واحدة قوية لنجيب محفوظ خير من ثلاث.

2. إعادة النظر في القيمة: ربط قيمة الجوائز بتكلفة المعيشة والتضخم، وجعلها قيمة تحفيزية حقيقية تليق بالجهد الإبداعي وتحدث فرقًا.

3. مراجعة المعايير: إلغاء الشروط التعسفية، ووضع معايير واضحة تركز على الجودة الإبداعية، وليس اعتبارات إدارية غامضة.

4. بناء الأرشيف: إنشاء منصة إلكترونية موحدة توثق تاريخ كل جائزة كبرى، وفلسفتها، وأرشيف الفائزين ولجان التحكيم. الجائزة بلا ذاكرة هي جائزة بلا هوية.

5. الشفافية: إعلان أسماء لجان التحكيم مبكرًا، ونشر تقارير مبررات الفوز (ولو مختصرة)، لبناء جسر من الثقة.

الجائزة استثمار. استثمار في المبدع، وفي الإبداع، وفي صورة مصر الثقافية. وهي عندما تكون رشيقة، متماسكة، شفافة، وعادلة، تصبح محركًا حقيقيًا للمشهد. أما وهي على حالها اليوم - متعددة الأسماء، هزيلة القيمة، غريبة الشروط، وبلا ذاكرة - فهي لن تكون أكثر من ضجيج إداري، يضيع في زحام الصور الاحتفالية، ولا يترك وراءه سوى ركام من الخيبة، ومساحة شاسعة من الفراغ، يتساءل فيها المبدع عن مصير الثقافة في بلد يدعي أنه صاحب أعرق حضارة عرفها التاريخ.

***

د. عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم