قضايا

غالب المسعودي: العَدَمِ السُّرْيَالِيِّ (1)

مقدمة: السُّرْيَالِيَّةُ هُنَا هِيَ شَهَادَةٌ عَلَى فَشَلِ اللُّغَةِ، وَعَلَى أَنَّ الكَلِمَاتِ تَفْشَلُ فِي الإمْسَاكِ بِـالإفْرَاطِ الوُجُودِيِّ. العَقْلُ الَّذِي يَسْعَى لِلمَنْطِقِ يَنْزَلِقُ عَلَى هَذَا الأُفُقِ السَّائِبِ حَيْثُ لَا يَلْتَقِي شَيْءٌ بِشَيْءٍ، وَيُصْبِحُ كُلُّ شَيْءٍ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ القَوَاعِدَ وُضِعَتْ لِتُخَالِفَهَا الذَّاكِرَةُ.

العَدَمُ السُّرْيَالِيُّ هُوَ أَنْ تَرَى فِي مِرْآتِكَ شَيْئًا يَتَذَكَّرُ، بَيْنَمَا أَنْتَ مُصِرٌّ عَلَى نِسْيَانِهِ. أَصْلَ الغِيَابِ لَيْسَ فِي الخَارِجِ، بَلْ هُوَ كَامِنٌ فِي مَجَرَّةٍ مِنَ المَرَايَا المُتَصَدِّعَةِ دَاخِلَ كُلِّ جُمْجُمَةٍ. أَنْ تَكُونَ وَاعِيًا هُوَ أَنْ تَكُونَ مُذْنِبًا بِامْتِلَاكِكَ فَائِضًا مِنَ الرُّؤْيَةِ البَائِسَةِ. كُلُّ لَحْظَةِ يَقَظَةٍ هِيَ تَأْجِيلٌ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ لِلْجُثَّةِ الَّتِي سَتكونُهَا حَتْمًا. انه الْمَتْنُ الجامِعِ واَلْوُجُودُ اَلكامِلُ لقَطِيعِ النِّهَايَةِ. هُوَ كِتَابٌ أَزْرقٌ لَا يُقْرَأ، كُلُّ كَلِمَةٍ مِنْهُ نَجْمٌ فِي سَمَاءِ اَلسُّكُونِ، اَلْقَطِيعُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَيْدٍ، إِنَّهُ يَسِيرُ بِإِرَادَتِهِ إِلَى اَلْعَدَمِ بِحُبُورٍ، الكل يَظُنُّ أَنَّهُ سَيَعِيشْ.

الْعَدَمُ السُّرْيَالِيُّ هُوَ تَنَفُّسُ الأَحْلاَمِ فِي ذَاكِرَةِ التُّرَابِ، هُوَ إِذْنٌ بِالْغِيَابِ وَالْحُضُورِ فِي الزَّمَنِ الْمُتَلاَشِي، وَهُوَ يَتَقَيَّأُ مَرَارَةَ الفراقْ. وهوَ المِرْآةُ الَّتِي اِعْتَرَفَتْ بِكَ، ونَسِيَتْ أَنْ تُعِيدَ لَكَ وَجْهَكَ. وهو خَيْطُ البِدَايَةِ الَّذِي وَجَدْتَهُ، ثُمَّ اِكْتَشَفْتَ أَنَّهُ يَلْتَفُّ حَوْلَ قَدَمِ كُرْسِيٍّ مَكْسُورٍ فِي غُرْفَةٍ مُهْجُورَةٍ، وهو الضَّحِكَةُ الَّتِي لَمْ تُرَدَّ عَلَيْكَ، بَعْدَ أَنْ أَفْصَحَتْ عَنْ سِرِّكَ الأَعْظَمُ لِعَلْبَةِ سَرْدِينٍ مَفْتُوحَةٍ. اللَّحَظَاتُ الَّتِي ظَنَنْتَهَا نِهَايَاتٍ، صَارَتْ مُجَرَّدَ مُزحةٍ لِلْفَرَاغِ الَّذِي يَنْتَظِرُكَ. المِفْتَاحُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قُفْلٌ، كَانَ فَقَطْ رِيَشَةَ طَائِرٍ تَسْقُطُ عَلَى بَابِ الوَعْيِ المَوْصُودِ، الأَزْمَانُ الَّتِي لَمْ تُسَجَّلْ عَلَى السَّاعَاتِ، تَتْرُكْ خَلْفَهَا شَكْلِ ظِلِّكَ وَهُوَ يَنْتَحِرُ فِي مَاءِ اليَقِينِ السَّائِلِ ، الحَقِيقَةُ العَارِيَةُ الَّتِي نَظَرْتَ إِلَيْهَا، فَرَأَيْتَهَا مُجَرَّدَ جَرة قَدِيمَةٍ يجْتمَعُ  فيها غَسِيلَك تَحْتَ ضَوْءِ الشَّمْسِ السوداء صارَتْ الندَمَ الَّذِي لَمْ يعْرِفْ صَاحِبَهُ، وَلَكِنَّهُ أَلْزَمَكَ بِدَفْعِ ثَمَنِ جَمِيعِ الأَخْطَاءِ الأَبَدِيَّةِ مُقَابِلِ تَذْكِرَةِ عَوْدَةٍ إِلَى اللاَ وُجُودِ الأَوَّلِ، العدَمُ السِرياليُ إِذَنْ هوَ اِكْتِمَالُ الدَّائِرَةِ فِي مَنْطِقِ اللا شيءِ وهوَ اِكتمالٌ مطلقٌ. أقْسِمُ بِـرَحِيلِ الظِّلِّ، وَوُصُولِ مَا لَا يُسَمَّى، ودَائِرَةِ اللَّا مَعْنَى وَهيَ تكْتَمِلُ عِنْدَ زَاوِيَةِ الرَّقْمِ وَبِـمِيَاهِ أُوتُونَبِشْتُمَ إِذْ عَادَتْ تُرَابًا، وإن التُّرَابَ رَجْعُ هَمْسٍ فِي أَذُنِ الخُلُودِ المَنْسِيِّ، عُلْبَةٌ فُتِحَتْ بِلَا مِفْتَاحٍ، َلَمْ يَكُنْ بِدَاخِلِهَا سِوَى عَجْزٌ جَمِيلٌ في طَورِ الاِكْتِمَالِ، إنّ رِيَشَةِ المَتْنِ الجَامِعِ حِينَ تَنَاقَضَتْ، َصَارَتْ مَكْتَبَةَ فَرَاغٍ عَلَى جَبْهَةِ الشَّخْصِ المُنْتَظِرِ. وهيَ اللَّحْظَةُ الَّتِي يُدْرِكُ فِيهَا الوَعْيُ أَنَّ المُطْلَقَ لَيْسَ نُقْطَةً عَلَى مُحِيطٍ، بَلْ هُوَ المُحِيطُ نَفْسُهُ وَقَدْ تَقَوصَرَ حَتَّى اِخْتَنَقَ. فَلَا تُنَادُوا القَطِيعَ لِيَعُودَ، لقَدْ وَجَدَ فِي اِخْتِفَائِهِ غَايَةَ اِنْفِرَادِهِ. هَا قَدْ شَهِدْنَا، كَيْفَ تُصْبِحُ الضَّحِكَةُ السَّرْمَدِيَّةُ هِيَ الشَّكْلَ الهَنْدَسِيَّ الوَحِيدُ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَحْوِي العَدَمَ السُّرْيَالِيَّ. وَبِالْحَقِّ المُطْلَقِ، لَمْ يَبْقَ إِلَّا الصَّفْحَةُ البَيْضَاءُ، فَـاُكْتُبْ مَا شِئْتَ، فَلَنْ يُجِيبَكَ أَحَدٌ.

التفاهة هي ديانة بلا كتاب.

كل جسد مذبحٌ صغير، وكل يوم قدّاس للمكرّر

الغريب كان خطأً مطبعيا

العبث، ابتسامة خرجت من فمٍ لا يعرف لماذا وجد

البرج الزجاجي...! وهمٌ شفاف.

الحرية دائمًا تُلمَع كالطُعم.

حين تقترب ينكسر الضوء في ألف شظية تجرح يديك

لا شيء تكرهه الجماعة أكثر من المختلف.

ليس لأن المختلف قوي، بل لأنه يذكّرهم بضعفهم.

الوحش الذي ابتلع الغريب لم يصنعه القطيع.

صنعه خوفهم من السؤال.

القطيع لا يقتل، إنه يمسح.

يزيل الأثرَ كما تُزال بقعة ماء عن زجاج.

كان يمكن للغريب أن يصعد.

لكنه لم يفعل.

الخيانة...!

الخيانة ليست حين يسحقك الآخرون.

بل حين تخونك قدماك وأنت واقف تحت البرج.

انهيار البرج هو طريقة الوجود في السخرية

من محاولاتنا.

كأن الوجود يهمس: لم تكن جادًّا بما يكفي…

ولذلك تستحق الغرق.

البقعة السوداء في الأرض هي المَعلمُ الوحيد

لكن لا أحد يراها؛ القطيع لا يرى إلا ما يكرّره.

العدم بريءٌ منهم أكثر مما هم أبرياء

من أنفسهم.

نحن جميعًا ذلك الغريب.

نبتسم مرة، نرتجف أمام المعنى.

ثم نُبتلع ببطءٍ حنون، كما لو كنا نطلب من الوحش أن يخلّصنا من إرهاق الفكر.

القطيع يمشي ببطء، وكأن الزمن نفسه قد صار

مرضًا معديًا.

لا يحتاجون إلى قيود؛ أعناقهم معلقة بخيط من الضجر.

التفاهة ليست عادة… بل عطر يُسكَب فوق الجثث

كي تتظاهر بأنها أحياء.

الغريب كان شرارةً يتيمة.

والشرارات لا تُنجب

نارًا وسط بحر من الماء الفاسد.

ابتسامته جُرحت قبل أن تُولد.

البرج الزجاجي لم يكن برجًا، بل جرحا في السماء.

من يحاول التقدّم نحوه، يكتشف أن الجرح يبتعد كلما اقترب.

حين اتحد القطيع في جسد واحد، لم يكن صوتُه

صراخًا…

بل موسيقى مقابر، إيقاعٌ بطيء يلتهم القلب قبل أن يلتهم اللحم..

لم يمت الغريب حين ابتلعوه.

الموت نهاية كريمة

ما حدث كان أخطر ذوبانٌ داخل العدم

كما يذوب السكر في كأسٍ من المرارة الأبديّة

البرج حين سقط لم يُحدث دويًّا.

الشظايا تحولت إلى غبار متلألئ كأقمار ميتة.

الجمال أحيانًا أقسى من الخراب، لأنه يلمع لحظة قبل اختفائه.

البقعة السوداء التي تركها الغريب على الأرض

لم تكن أثرًا… بل نافذة مغلقةً، كُسر مقبضها.

تنظر إليها السماء وتضحك.

القطيع استأنف مسيره، بطمأنينة من يعرف أن

العدم رحيم أكثر من المعنى.

فالمعنى يُحرق، أما اللا معنى فيُخدّر.

نحن جميعًا ذلك الغريب، لحظة ابتسامنا في وجه العدم،

ثم نلين، ونسمح للكسل أن يطبطب علينا حتى يبتلعنا كاملين.

التكرار ليس عادةً، بل قَدَرٌ يتربّص بنا،

كما يتربص الليل بالمدينة التي تنطفئ أنوارها واحدًا تلو الآخر

في الوادي، الأرض تُعيد نفسها كل صباح

لم يكن هنالك زمن؛ بل نسخة واحدة لا تعرف الفناء، ولا تعرف النمو.

كل شيء يُعاد كأنه لم يحدث.

الضحكات الباردة، الخطوات الثقيلة، صوت الأجساد وهي تصطدم بالأرض.

القطيع

يمشي بلا هدف، بلا ندم، بلا توقّف، بلا عدد.

لا أحد يعرف العدد، لأن العدد نفسه يبدو رفاهية غير ضرورية او

شعيرة...!

من لا يفكّر، ينسجم.

ومن ينسجم، يحيا وهم الخلود

التكرار طقس مقدّس،

الضحك يُقال ولا يمارس.

الطعام يُهرس كما الاشعار.

حتى الاستراحة تُمارَس بنفس الخطى، بنفس الجلوس،

بنفس البُكم.

الجماعة لم تكن سلطة سياسيّة. لم تكن نظامًا يقمع.

كانت مرضًا يتنفس داخل الأجساد، يسرق منها الوعي ويمنحها راحةً قاتلة.

الاختلاف خطأ مطبعي في نص مطبوع منذ الأزل.

وُلد الغريب، وبخروجه عن الرتابة بدا كخلل في الماكينة الكونية.

كان مجرد ابتسامة تُضيء وجهًا عاديًا، لكنها في الوادي كانت خيانة عظمى.

أن هنالك شيئًا آخر ممكن.

ابتسامته سقطت صمتًا كثيفًا فوق الساحة،

كما تسقط قطرة دم في كأس ماء ساكن فتكشف كل ما هو متسخ.

البرج الزجاجي:

كل أفق هو فخّ، وكل خلاص يلمع كطعنة في ضوء الشمس.

على تخوم الوادي ظهر البرج. كان شفافًا، يلمع

في عيون من لا يجرؤ على النظر.

كان بابه مفتوحًا لكنهم جميعًا أعرضوا عنه،

القطيع يخاف من العلو، يخاف من النوافذ التي تطل على اللا شيء.

الغريب اقترب.

رأى في الزجاج انعكاسًا....

لم يكن نفسه؛ كان شبحًا آخر مبتسمًا بحزن عميق.

لكنه توقّف عند العتبة، لم يدخل، لم يخطُ.

كل الإمكانيات تضيع عند هذه اللحظة، لحظة عدم الاختيار.

الجماعة لا تُعاقب المختلف… بل تمحوه، كما

يُمحى حرف زائد من مخطوط مقدس.

اتحد القطيع في لحظة صاخبة، وذابوا في جسد واحد.

لم تعد هنالك أفواه كثيرة، بل فم واحدٌ مصمت، عين واحدة تُطل على جحيم من تراب.

ابتلعوا الغريب دفعةً واحدة

ابتلعوه كما يبتلع الليل نجمة يتيمة.

السقوط احتمالات، الاحتمالات إذا لم تُستَعمل، تتحول إلى غبار.

والغبار

أجمل أشكال الموت

حين ابتُلعَ الغريب، لم ينتظر البرج الزجاجي مصيره.

اهتزّ في الضوء، ثم تهشّم إلى غمامٍ من شظايا شفافة. لم يُسمع دويّ، بل رآه القليلون ومضةً كقمر صغير انطفأ فجأة.

البقعة السوداء

الأثر هو الكذبة الوحيدة التي يتركها الوجود

كي يوهمنا بأنه مرَّ فعلًا.

أينما وقف الغريب، بقيت بقعة سوداء لا تُمحى

ليست دمًا، وليست نارًا، بل حفرة في الوجود نفسه

القطيع تجاوزه كما لو أنه لم يكن شيئًا.

عادوا إلى صلاتهم الرتيبة، إلى خطاهم البيضاء الميتة

صلوات العدم.

العدم لا يحتاج لجنود...! نحن نحارب أنفسنا بالملل

فيربح هو الحرب.

كل ضوء هشّ. الهشاشة قدر الضوء

إن كنتَ ستصعد، فاصعد حتى النهاية.

النصف خيانة، والتردد مقبرة.

الجماعة هي المخدّر. الفرد هو الجرح، والأفق

لا يرحم إلا من ينزف حتى العظم.

لقد ابتُلع الغريب، لكننا جميعًا ابتلعناه

بصمتنا…

كلُّنا شركاء في ابتلاع أنفسنا

الوادي ظل كما هو

القطيع يمشي، البرج غاب، الغريب كأنه لم يولد.

وحدها البقعة السوداء بقيت، تنظر نحو السماء وتبتسم

هكذا يعمل العدم، لا يحتاج إلى حرب، يجعلنا نرتاح في التفاهة.

كل وعد هو خيانة مؤجلة؛ حتى البدايات لها رائحة النهاية.

السريالية ليست حلماً، بل دقة الكابوس في قلب اليقظة.

العدم ليس فراغاً، بل اكتظاظ لا يحتمل بأسباب عدم الوجود.

***

غَالِبُ المَسْعُودِيُّ

في المثقف اليوم