قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: قراءةً نقديّة موسّعة لِمقطع "قِصّة من أم درمان"

في وصف العيون، للشاعر السوداني صلاح أحمد إبراهيم مستنداً إلى أربعة مسارات متكاملة: المنهج الأسلوبي، والرمزي، والنفسي، والهيرمينوطيقي (التأويلي).

سأبقي التحليل لصيقاً بالنصّ الماثل أمامنا دون الاتّكاء على سياقات خارجيّة لا يلزمها النص، مع إبراز ديناميّات الصورة والإيقاع واللغة.

1) مدخل: بؤرة الرؤية وتحوّل العالم:

يبدأ النصّ بإزاحة العالم لصالح مركز بصريّ واحد. يقول الشاعر صلاح أحمد إبراهيم:

«عيناك وأخضر المكان / وتسمّرت عيناي في عينيك / ما عاد المكان أو الزمان / عيناك بسْ».

يُعطِّل الشاعر مَقوليَّتي المكان والزمان ليُشيّد “كوناً بصرياً” مكتفياً بذاته. إنّها لحظة حوُّل من عالم مُمَوْضع إلى عالم مُشخَّص في “عيناك”. هكذا تتحوّل الرؤية من وسيلة إلى غاية، ومن قناة إدراك إلى كينونة مكتفية، فيرتفع “البصر” إلى منزلة “المصير الجمالي”.

2) المنهج الأسلوبي: بناء التوهّج بالمثنّى والتوازي والتكرار

أ- هيمنة المثنّى:

يتصدّر المثنّى النصَّ: «عيناك، روضتين، واحتين، بركتين». هذه الصيغة ليست نحويّة فحسب، بل استراتيجيّة تشكيل تخلق إيقاعَ ازدواجٍ متناغم يعمّق المعنى: حضورٌ مزدوج يحقّق التوازن (عينان/قطبان)، ووعدٌ بالاكتمال (روضتان/واحتان/بركتان).

ب- التكرار الاستهلالي:

تتوالى “عيناك” في مطالع الأسطر كنبضٍ سمعيّ يرسّخ البؤرة الدلاليّة. هذا الإلحاح البلاغي يخلق سُلَّم تصعيد، يقول :

«عيناك أصدق كلمتين / عيناك أسعد لحظتين … عيناك أنضر روضتين … أجمل واحتين … أطهر بركتين».

يتقدّم الحصر بالتدريج من “صدق/سعادة” إلى “نضارة/جمال” ثم “طهارة”؛ أي من خصائص شعوريّة ومفهوميّة إلى خصائص قيميّة وروحانيّة.

ج- التوازي والتضامّ الموسيقي:

الجُمل القصيرة المتوازية والتراكيب الثنائية تصنع إيقاعاً حدسياً مُقنعاً. كما ينهض الجناس الداخلي والسجع الخفيف (المفردات المتقاربة وزناً ونبراً: “ماستين/ كلمتين/ لحظتين/ روضتين/واحتين/ بركتين”) ببناء موسيقى داخلية ناعمة.

د- مفاصل ضبط التهويل (الاحتراز البلاغي):

عبارات مثل «هذا قليل / هذا أقل / ما قلت شيء» تعمل كصمّامات أسلوبيّة تضبط المبالغة، فتحوّل الإفراط إلى تواضع جمالي: كأنّ اللغة تعترف بعجزها أمام “المدرك الفائض” عن القول.

هـ- استعارات متسلسلة وصور متراكبة:

«عيناك جرَّتان من عسل المفاتن / آيتان من سور المحاسن / مثل صبيتين / أروع ماستين…».

تتلاحق الاستعارات على نسقٍ تكراريّ يُنتج تراكُمَ بهاء بدل تشبيهٍ واحدٍ حاسم. هذا التراكم استراتيجية تصويرية تُشبه “تلقيح الصورة بالصورة” لخلق توهّج مستمر.

3) المنهج الرمزي: ماءٌ ونورٌ ومقدّسٌ لذائذي

أ- الماء والبركة:

«عيناك أطهر بركتين من البراءة / نزل الضياء ليستحمّ بها / فألقى عند ضفّتها رداءه».

تستدعي “البركتان” حقلاً رمزياً مائياً: التطهّر، الولادة الجديدة، الاستشفاء. الماء هنا مجاز للتطهير الجمالي؛ الرائي يتطهّر بالنظر، والضياء نفسه — رمز الصفاء والعلو — “يستحمّ” بهما.

ب- النور والقداسة الخفيفة:

«آيتان من سور المحاسن»، و«نزل الضياء». حضور ألفاظ تُحاذي المعجم الديني (آية/ضياء) يرفَعُ “العينين” إلى عتبة مقدّسٍ لذائذي: قُربٌ من المعجم الروحي دون الوقوع في المباشرة الوعظيّة. إنّه تقديسٌ جماليّ يُصعِّد الغزلي إلى مقام الرؤيا.

ج- العسل والسمرة:

«الفتنة العسلية السمراء / والعسل المصفّى والهناء».

العسل رمز اللذّة الحلال والشفاء والصفاء، والسمرة إطار حسّيّ ثقافيّ يحمِّل الصورة هويةً محليّة دافئة. يتجاور “الحلال/الشفاء” مع “الفتنة/الهناء” لتوليد سيمفونية حسيّة أخلاقيّة: لذّةٌ مصفّاة لا ابتذال فيها.

د- قوس الكمان:

«ومسكت قوس كمانتي».

الموسيقى هنا ترجمة جسديّة للانفعال؛ فالقوس يحوّل الارتعاش الداخلي إلى نغم. حضور الكمان يُربط بالأنين والرهافة، فيحوِّل نظرة العشق إلى أداء فنّي: الرؤية تصير عزفًا.

4) المنهج النفسي: التثبيت على “موضوع النظر” وتعليق الزمن

أ- التثبيت وتجربة الانخطاف:

«تسمّرت عيناي في عينيك / ما عاد المكان أو الزمان».

تسمير النظرة يشير إلى حالة “انخطاف بصري” يتوقّف فيها الزمن النفساني. يتراجع العالم الموضوعي لصالح موضوعٍ مُطلَق (العينان) يمتصّ الطاقة النفسيّة للمتكلّم.

ب- من الرغبة إلى التطهير:

ينتقل النصُّ من لذائذ الحواس (العسل/الفتنة) إلى رموز التطهير (البركتان/الضياء)، بما يوحي بمسار نفسي من الإيروسي إلى الإيتيقي-الروحي. إنّه تعالٍ للهوى من حسيّته إلى معنى يطلب التزكية والسموّ.

ج- أنا/آخر: المرآة التي تُتمّم الذات:

تتَّخذ العينان وظيفة “مرآة” يعود إليها الشاعر ليجد اكتماله. تكرار، يقول: «عيناك فوق تخيّلي / فوق انطلاق يراعتي / فوق انفعال براعتي / فوق تأمّلي» يكشف عن اعتراف بالعجز: الموضوع (الآخر) يتفوّق دائماً على أدوات الذات (التخيّل/الكتابة/الانفعال/التأمّل). هنا يتشكّل تواضع معرفي يهب العشق صدقيّته.

5) المنهج الهيرمينوطيقي: الدائرة التأويلية وأفق التلقي.

أ- من الجزء إلى الكلّ وبالعكس:

كلّ صورة جزئيّة (عسل، آيتان، روضتان…) لا تفهم إلا داخل كلٍّ إنشائي تتحرّك فيه اللغة من الوصف إلى التقديس. وبالعودة من الكلّ إلى الجزء تُقرأ الصور على أنها درجات في سُلّم الرؤيا.

ب- تعدّد الطبقات الدلاليّة:

العبارة «آيتان من سور المحاسن» تسمح بتأويلين متجاورين: آيتان = علامتان باهرتان للجمال، وآيتان = إحالة ثقافيّة إلى لغة الوحي بوصفها أقصى معايير البلاغة. التعدّد مقصود، لأنّ وظيفة النص دفع القارئ إلى توسيع أفق التوقّع لا غلقه.

ج- اقتصاد النفي إثباتاً:

«هذا قليل / هذا أقل / ما قلت شيء» نفيٌ يتضمّن إثباتاً معاكساً: كلُّ ما قيل لا يفي، إذاً فالموصوف أسمى من القول. هذه حركة تأويليّة تُديم التلقّي: كلُّ قراءة “قليلة” وتحتاج إلى قراءة أخرى.

6) البنية الإيقاعيّة والصوتيّة: من النَفَس إلى النَّغَم.

النصّ يتنفّس عبر جُمَل قصيرة متتابعة، كنبضات. التكرار يخلُق لازمة سمعيّة (عيناك…) تتنامى فوق سُلمٍ دلاليّ. إنّ حضور الألف والمدود والنون والميم يشيع نعومةً في الختمات الصوتيّة، بينما صيغ التفضيل والجمع/المثنّى تصنع دفعاً إيقاعياً تصاعُدياً. وذكر “الكمان” يوفّر ميتالغوية موسيقيّة: القصيدة تعزف ذاتها بذاتها.

7) حقول الصورة: من الطبيعة إلى الطهارة

الطبيعة الخضراء: «أخضر المكان، روضتان، واحتان». يستعيد النصّ يوتوبيا خضراء تُقابِل قحْل العالم خارج العينين.

الماء والنور: «بركتان، ضفّة، نزل الضياء ليستحمّ». تماهٍ بين عنصرين لتكوين طقس اغتسال جمالي.

اللذّة المصقولة يقول الشاعر صلاح أحمد إبراهيم: «العسل المصفّى، الهناء». لذّةٌ مشروعة مؤطرة بالسعادة والصفاء.

الطفولة والبراءة: «مثل صبيّتين، البراءة». يُسند إلى الجمال أخلاقية النقاء لكبح شطحات الإيروسي وتهذيبها.

8) جماليّات “العجز الخصيب”: ما بعد اللغة

المنعطف المركزي هو الاعتراف بأنّ الموصوف يفيض عن القول:

«عجز الخيال / عيناك فوق تخيّلي … فوق انطلاق يراعتي … فوق انفعال براعتي … فوق تأمّلي».

هذا العجز ليس فقراً بل خصباً؛ لأنّه يحفظ للمحبوب هالته، ويمنح النصّ قابليّة لا نهائيّة للتأويل. هكذا تتحوّل البلاغة من إقناعٍ إلى إيقاظ.

9) خلاصة تركيبية:

-أسلوبياً: يقوم النصّ على تكرار استهلاليّ وهيمنة المثنّى وتوازي الجُمَل القصيرة، منتجاً تصعيداً دلالياً مضبوطاً بعلامات “تقليل” واعية تُكثّف الهالة.

- رمزياً: تتضافر حقول الماء/النور/العسل/البراءة لتصوغ مقدّساً لذائذياً يزاوج بين المتعة والتطهّر.

-نفسياً: نعاين تثبيت النظرة وتعليق الزمن، والانتقال من الإيروسي الحسّي إلى سُلَّم روحيّ يُقنّن الرغبة ويهذّبها.

-هيرمينوطيقياً: يُنتج النص وفرةً تأويليّة عبر تعدّد الإحالات وتكتيك “العجز الخصيب”، فيُبقي المعنى مفتوحاً على قارئٍ يضيف من خبرته ومخياله.

بهذه العناصر يتبدّى المقطعُ كتمرينٍ فنّيّ على تحويل “العيون” من محطّ وصفٍ غزليّ مألوف إلى كونٍ رمزيّ تتعوَّم فيه الدلالات بين الطبيعة والمقدّس، وبين اللذّة والتطهّر؛ لتصير الرؤيةُ نشيداً يَعزفُه الكمان من وتر اللغة، وتصدّقه النفسُ في لحظةٍ يذوب فيها الزمانُ والمكان.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين.

....................

عيناك وأخضر المكان

وتسمرت عيناي في عينيك

ماعاد المكان أو الزمان

عيناك بسْ

ومسكت قوس كمانتي

عيناك إذ تتألقان

عيناك من عسل المفاتن جرتان

عيناك من سور المحاسن آيتان

عيناك مثل صبيتين

عيناك أروع ماستين

هذا قليل

عيناك أصدق كلمتين

عيناك أسعد لحظتين

هذا أقل

عيناك أنضر روضتين

عيناك أجمل واحتين

ما قلت شئ

عيناك أطهر بركتين من البراءه

نزل الضياء ليستحم بها

فألقى عند ضفتها رداءه

الفتنة العسلية السمراء

والعسل المصفى والهناء

وهناك أغرق نفسه

عجز الخيال

عيناك فوق تخيلي

فوق إنطلاق يراعتي

فوق إنفعال براعتي

عيناك فوق تأملي

 

في المثقف اليوم