قضايا

علي حسين: 125 عاما على ميلاده.. كيف نقرأ نيتشه اليوم؟

(اسكن بيتي الخاص

لم احاكِ أحد في شيء ابداً

وأسخر من كل معلم

لم يسخر من نفسه)

نيتشه

بعد سنوات من رحيله – توفي في الخامس والعشرين من آب عام 1900- ستصبح صورة نيتشه بوجهه الحائر وشاربه الكث ونظرته المجهدة، هي الملصق الذي يعلقه الكتاب الطليعيون في العالم، وتحول الى الفيلسوف الذي يرغب الجميع بالانتماء لمدرسته، والشخصية الخارقة التي تثير شغف الشباب، وتذكر الفلاسفة والطلاب والادباء ابن " فرانشيسكا أولر"، المراة التي حاولت ان تجعل من ابنها نسخة منها، وستبلغ شهرته الحد الذي تجعل منه فيلسوفا مطابقا لذوق العصر، تُدرس كتبه في معظم الجامعات، وتجد فلسفته مكانا لها في اعمال ألبير كامو، وآندريه جيد، ود. هـ. لورانس، وجاك لندن، وتوماس مان، ويوكيو ميشيما، ويوجين أونيل،، وجورج برنارد شو، وهايدغر وسارتر وفرويد وجاك ديريدا وميشيل فوكو وجيل دولوز.

ظهر " نیتشه " في نهاية حقبة بارزة جعلت ازمات الانسان الداخلية والخارجية تشهد على الإفلاس التدريجي لتقاليد الانسانية. كان واحدا من هؤلاء الذين رفضوا الخديعة، وبينما بدا وجه من أوجه تفكيره اشبه بالنبؤة، جاء الوجه الآخر صلبا، مليئا بالتشاؤم. وقد أعطت افكاره على مدى اكثر من مئة عام تشخيصا وتحليلا من أشد ما عرف عصرنا قسوة وكشفا للحقائق، وهو من ناحية أخرى، كان يسعى الى فلسفة حية، تعاش، فلسفة يمكن أن تؤثر في وجودنا تأثيرا فعليا.

يقول زراداشت لرفاقه: " إنني وحدي أذهب يا رفاقي!وانتم وحدكم أذهبوا ! أنا أريد ذلك. في الحقيقة أعطيكم هذه النصيحة: ابتعدوا عني كثيراً، واعتقوا أنفسكم مني ! والخير لكم أن تخجلوا مني.. أنتم تقولون أنكم مؤمنون بي، ولكن ماذا يهمني أيمانكم يا من آمنتم بي، بل ماذا يهمني كل المؤمنين ! أنتم لم تبحثوا بعد عن أنفسكم، ولذلك وجدتموني، هكذا يقول المؤمنون كلهم. ولهذا أرى أن كل ايمان هو شيء ضئيل حقير. والآن، آمركم أن تفقدوني لتجدوا أنفسكم." – هكذا تكلم زرادشت ترجمة علي مصباح -

غالبا ما يعتبر نيتشه احد الأباء الروحيين للفلسفة الوجودية الحديثة التي ظهرت في القرن العشرين، ويكتب عبد الرحمن بدوي ان تاثير نيتشه على سارتر وهيدغر وكامو ربما يفوق تاثير كيركغارد.

عندما توفي سورين كيركغارد عام 1855، كان نيتشه في الحادية عشرة من عمره، لم يسمع به ولم يقرأ له، ولم يكن من الممكن أن يلتقيا أبدا. لكن بحلول نهاية حياة نيتشه، أصبح كيركيغارد معروفا في ألمانيا. في عام 1888، قبل عام من هجوم الجنون على نيتشه، اثار المفكر الدنماركي جورج براندس انتباه نيتشه إلى كتابات كيركيغارد، وكتب في رسالة بعثها في الحادي عشر من كانون الثاني عام 1888: " هناك كاتب من بلدان الشمال الأوروبي، قد يثير اهتمامك عمله، إذا تمت ترجمته فقط، سورين كيركيغارد، عاش في الفترة من 1813 إلى 1855 وهو، في رأيي، أحد أعمق علماء النفس الموجودين ".- الوجودية توماس آر فلين ترجمة مروة عبد السلام -، وقد رد نيتشه على رسالة براندس قائلاً: " خلال رحلتي القادمة إلى ألمانيا، أخطط لدراسة المشكلة النفسية لكيركغارد. سيكون هذا، بالمعنى الأفضل للكلمة، مفيدا بالنسبة لي ". لكن كان الأوان قد فات على نيتشه حيث أصيب بالجنون بعد فترة وجيزة. انتهت حياة كيركغارد بعد ان انهار في الشارع وتوفي بعد فترة وجيزة، رافضا ان يقف قس على جنازته، وطلب فقط أن يتذكره جميع الأشخاص الذين أحبهم والذين لم يتمكنوا أبدا من فهم معاناته. وايضا انهار نيتشه في الشارع بعد رؤيته لسائس يجلد حصانا، حيث اتجه نحو الحصان واخذ يحضنه وهو يصرخ.

في كثير من الأحيان، يتشابه كيركغارد ونيتشه، في نظرتهما الى التدهور الأخلاقي الذي اصاب المجتمع وفساد الكنيسة، وفي توجههم الوجودي وفي اهتماماتهم النفسية، لكنهم اختلفوا في خيبة امل نيتشة الكاملة في الدين واعلانه موت الإله، وفي إيمان كيركغارد المستمر بوجود الله، إلا ان نيتشه وكيركغارد يشتركان في فهمهما للفلسفة باعتبارها " اكتشاف متصل ودؤوب للذات " ولهذا كانت افكارهما انعكاسا تاما لحياة كل منهما، وقد استطاع نيتشه ان يحقق هذه الميزة بدرجة اكبر من كل الفلاسفة الذين اعتنقوا الوجودية، فكان يقول " لقد سطرت كتبي بدمائي ". وكما كانت مؤلفات كيركغارد صدى للمراحل والازمات التي مر بها، كذلك كانت فلسفة نيتشه تمثل حياته بشكل صادق، وبدت اشبه بترجمة لمأساته الذاتية، وقد اصبح ارتباط الفلسفة بحياة الفيلسوف، ضرورة لازمة للفكر الوجودي، كان نيتشه يسخر من المفكر الخالص او المجرد الذي يدعي بانه بمنأى عن مقتضيات الوجود الفردي. سار الكثير من الفلاسفة الوجوديون على منهج نيتشه، حيث اصبحت الفلسفة عندهم قائمة على التجربة الذاتية قبل كل شيء.

لا يوجد هدف أبدي ولا يوجد معنى أو مغزى مطلق للوجود البشري، هكذا يكتب كامو في مقدمة اسطورة سيزيف وهو يقتبس هذه العبارات من هكذا تكلم زرادشت لنيتشه. يصر نيتشه على ان ما نصادفه في الحياة مجرد تفاهة، اطلق عليها تعبير تفاهة اللامعنى. لايوجد إله وبما انه لايوجد إله لايوجد معنى مطلق للحياة البشرية، أن أرادتنا وقدرتنا على اتخاذ القرارات هي التي تميز البشر عن باقي المخلوقات وان انحطاط الأنسان العصري يظهر في كونه جبانا يفتقر الى فضيلة الشجاعة. ووفق نيتشه ان الأنسان، ليس خاضعا لقيم او أعراف أو قوانين آخر لكنه يملك الشجاعة ليخلق قيمه الخاصة وليعيش وفق قواعده الخاصة.

في كتابه فلسفة نيتشه – ترجمه الياس بديوي - يؤكد اوين فنك ان نيتشه هو المفكر الذي قال " لا " لتاريخ الحضارة الاوربية، ان نيتشه ينتقد كل ثقافة الماضي، ويجعلها موضع تساؤل.

كان كارل ياسبرز أول فيلسوف وجودي يتحدث عن كيركغارد ونيتشه كثنائي فلسفي وعلى الرغم من آرائهما المتناقضة حول وجود الله، اعتبر ياسبرز أن كيركغارد ونيتشه هما أهم مفكرَين في القرن التاسع عشر بعد هيغل، والمفكران اللذان مهدت أعمالهما بشكل فعال للفكر الأوروبي في القرن العشرين. في رأي ياسبرز، سعى الرجلان إلى قيم الصدق والالتزام و" الحقيقة الأصلية"، متجاوزَين حدود القدرة الجسدية والنفسية على الاحتمال. كانا بالفعل استثناءين، " ومثل سقراط، عاشا وعانيا بسبب صدق تعاليمهما، وكانت حياتهما أشبه بما وصفه ياسبرز ﺑ " حطام سفينة"، ويختتم ياسبرز بمقولة نيتشه: " اجل اني لا اعلم من أنا، ومن أين نشات، أنا كاللهب، احترق وبكل نفسي. نور كل ما أمسكه، ورماد كل ما أتركه. اجل اني لهيب حقا ".

لعل كتاب (هكذا تكلم زرادشت) يعد من اكبر الكتب اثارة للجدل، حاول نيتشه ان يقدمه الى المطبعة بجزءين، وقد تأخر صدور الجزء الاول بسبب انشغال المطبعة بطبع نسخ من التراتيل الدينية، وعندما ارسل الجزء الثاني الى الطبع رفض صاحب المطبعة، طباعته بدعوى انه كتاب فاشل، وكان كلام الناشر صحيحاً، فلم يبع من الجزء الاول سوى اربعين نسخة، حيث استقبل الكتاب ببرود قاتل من قبل المهتمين بالفلسفة، فلم يرحب به احد بل حتى زملائه السابقين في الجامعة اعتبروا الكتاب فاشلاً لأنه يريد ان يقتل جميع الأديان والآلهة: "لأنني عشت جميع الأخطار، فسأدفنكم بيدي انا، لقد ماتت الآلهة القديمة منذ زمن بعيد، ولقد كانت نهايتها حسنة وفرحة". ويذهب نيتشه ابعد من ذلك حين يعلن " ان الضعفاء والعجزة يجب ان يفنوا، هذا أول مبدأ من مبادئ حبنا للإنسانية "، تلك هي القيم التي بشر بها زرادشت نيتشه فليس الوجود إلا "الحياة"، وليست الحياة إلا "الإرادة"، وليست هذه الإرادة إلا "إرادة القوة". بعد ذلك نسمع زرادشت وهو يقول واعظاً: "عيشوا حياة الأخطار وأقيموا مدنكم الى جانب الأقوياء، وابعثوا بسفنكم الى البحار المجهولة، ثم عيشوا حالة حرب ".

كان عام 1888 وهو آخر السنوات التي تمتع فيها نيتشه بسلامة العقل، عاماً خصبا للغاية، وان كان على نحو اخر متزايد الغرابة، لقد بدأ يكتب ما سيعتبر ا واحدا من اهم كتبه " أفول الاصنام " ثم تركه، فقد وجد نفسه تائهاً، انه دائما على بعد خطوات من المستشفى، كان نيتشه يريد ان يحول نفسه في السنة الاخيرة من حياته الى اسطورة، لكنه يعود الى الكتاب بعد اشهر، كان عنوان الكتاب محاكاة ساخرة لاوبرا فاجنر الشهيرة " أفول الآلهة "، وعلى الرغم من انه انتهى من الكتاب وهو على حافة الانهيار، فان أفول الاصنام احتوى على اطول أغنيات نيتشه واكثرها حماساً التي يوجهها الى غوته، الذي اصبح بالنسبة لنيتشه النموذج الاصلي لـ " الإنسان الاعلى ".في هذا الكتاب يحذرنا نيتشه من الاصنام التي تريد السيطرة علينا.

في عام 1889 تحققت نبوءة نيتشه اذ اصيب بهزة عصبية افقدته صوابه، فقد انهار في ميدان في تورينو، وحمل في قطار الى مصح في المانيا لتعتني به أمه العجوز وشقيقته حتى وفاته بعد أحد عشر عاماً حيث بلغ الخامسة والخمسين. لينتهي عمل فيلسوف كان وسيظل له اثر قوي على حياتنا، فنيتشه من الفلاسفة القلائل الذين عرفوا كيف يوجهوا الانسان الى معرفة نفسه والوقوف ازاءها مجرداً، وكان هذا الفيلسوف يدرك ان الاجيال القادمة ستجعل منه احد انبياء البشرية، فكتب في اوراقه التي عثر عليها بعد موته ان: " كتاباتي هدفها التفكير في الوجود الانساني، ولاشيء غير هذا، لقد كتبت لاولئك الذين يجدون متعة في التفكير وفي أعتلاء الاراضي المرتفعة ".

أدرك نيتشه قوة واهمية ما يكتبه، فقد شبه نفسه بـ" الديناميت " وان كلماته مثل الصواعق. وقد اكدت الحرب العالمية الاولى ان اسم نيتشه سيرتبط بشيء كبير. واخذ الشباب يقرأون نيتشه على انه تجربة غيرت معنى الحياة. يكتب كولن ويلسون ان قوة كلمات نيتشه كانت مستمدة من التاثير الكبير الذي مارسه على تفكيرهم، ويتذكر صاحب اللامنتمي ان تجربة قراءة نيتشه بالنسبة له ولجيله من تيار الوجودية الجديدة الذي ظهر في بريطانيا، لم تكن مجرد ترفيه، بل انها علمته قوة واهمية التمرد، كما انها نمت في نفوسهم الموقف العدمي من الحياة، فقد كان نيتشه يرى ان لا علاج يمكن ان يوقف الانحطاط سوى النزعة العدمية. يقول نيتشه في كتابه " إرادة القوة ": " ان ما ارويه هو تاريخ القرنين الاتيين. انني أروي ما سيأتي وما لا يمكن له أن لا ياتي، وهو مجيء العدمية " يكتب كولن ويلسون ان العدمية ليست غير المنطق الداخلي لهذا الانحطاط الذي يحيط بنا: " عندما قرأت كلمات نيتشه، تبينت الى اي مدى كنت اشبهه في منتصف عقدي الثاني. كان هناك نفس الاحتقار للعالم ".

يكتب نيتشه: " ما الانسان إلا جدول فسد ماؤه وتعفن، ولا يمكن أن يستلم هذا الماء احد ولا يصيبه شيء من فساده وعفونته ما لم يكن محيطا بذاته "

كان نيتشه مؤمنا بان مهمة الفلسفة تعليمنا كيف نصير نحن..وتعلمنا كيف نكتشف اعلى مقدراتنا، وكيف نكون اوفياء لها.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

في المثقف اليوم