قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: تراتيل العشق لنادية نواصر

قراءة هرمنيوطيقية، أسلوبية، رمزية وسيميائية في بنى الخطاب والنفس:
تتأسّس قصيدة «تراتيل العشق» على توتّرٍ بنيوي بين افتتانٍ حميمي يتطلّب التحقّق الآن وهنا، وزمنٍ اجتماعي–سياسي يقسو ويؤجِّل. هذه المفارقة تُدار عبر خطابٍ مخاطِبٍ (second person) يشيّد هوية «نحن» العاشقة/العاشق بوصفها خلاصاً مؤقّتاً من «مدينة القهر». hermeneutically، نحن بإزاء نصّ يوحِّد بين الحبّ بوصفه طقسًا («تراتيل»، «آيات»، «حضرة السيد الشوق») وبين الجسد بوصفه جغرافيا («تضاريسي، مدني، قاراتي»)، ليصوغ معنى الحرية العاطفية في مواجهة اقتصاد السلطة والرتب.
- المحور الهرمنيوطيقي: أفقا المؤلِّفة والمتلقي
أفق المؤلِّفة يتبدّى في مفردات تنتمي لحقلٍ تراثي–أسطوري («شهرزاد»، «تراتيل»، «آيات»، «الحوريات») متجاورة مع مفردات حداثية حياتية («علبة سجائرك»، «مدينة قهرك»). هذا التساند يشي برغبةٍ في مصالحة الموروث مع اليومي لتوليد معنى معاصر للحبّ.
أفق المتلقّي يُستثار بعتباتٍ ثقافية: «شهرزاد» تقترح حكايةً مؤسِّسة، و«النهران» تُحيل إلى حضارةٍ وخصبٍ وأساطير؛ فيما «عقرب الوقت» يحفِّز خبرةً حديثة بالضغط والإيقاع السريع.
التأويل هنا ينتقل من نصّ العشق الفردي إلى تجربة اغتراب جماعي؛ فالحبّ لا يُقاس بالرتب والمناصب («لا يؤمن بالرتب»)، بل يُقاس بصدقٍ يشتغل كمعيار بديل للقيمة في مجتمع الرأسمال والهيمنة الرمزية.
- البنية الأسلوبية: ضمائر، أفعال، إيقاع
1. هيمنة خطاب المخاطَب: تكرار «يا» النداء («يا نبضي»، «يا شاعري») يمنح القصيدة حرارةً تداولية؛ فالمعنى يُبنى بوصفه حواراً طقوسياً لا منولوجاً.
2. أفعال الأمر الرقيقة: «اطرح أوزارك»، «رتل أشعارك»، «اعزف نشيدك»، «كن أني»؛ أوامر تُمارس سلطةً عاطفية لا قهرية، وتُعيد تركيب الحدود بين الأنا والآخر.
3. التوازي والتكرار النَّفيي: سلسلة «ما زلنا… ما قلنا… ما انصهرنا…» تؤسّس إيقاعَ توقٍ مؤجَّل؛ النفي المتكرّر ليس رفضًا، بل طاقة دفع إلى اكتمالٍ لمّا يتحقّق بعد.
4. المزاوجة بين المقدَّس والحسيّ: «تراتيل/آيات/حضرة» مقابل «صدر/شفتين/حضن»؛ هذا الازدواج الأسلوبي يرفع الجسد إلى منزلة طقسٍ، ويهب الطقس جسدًا يتجسّد فيه.
- الحقول المعجمية والعلاقات الدلالية:
- حقل الزمن: «الوقت، اللحظة، الليل، الرحيل، عقرب الوقت»؛ الزمن يُمثَّل خصمًا يُغافَل ويُسرق («غافلنا اللحظة»، «سرقنا ليلتنا»)، ما يؤكد مركزية الكايروس (الفرصة الذهبية) في بنية الرغبة.
- حقل المكان/الجغرافيا: «مسافات، مدارات، تضاريسي، مدني، قاراتي»؛ الجسد مكانٌ يُسافر فيه—تَحويلٌ سيميائي من جسد/موضوع إلى خارطة/عالم.
- حقل السلطة والقيمة: «ثراء الملوك، كراسي السياسيين، قصر، قلعة»؛ تفكيك منظومة القيم السلطوية بإحلال صدق العاطفة محلّ الرتبة، وصدر الحبيب محلّ القصر.
- حقل القداسة: «تراتيل، آيات، السيد الشوق، جنّات، الحوريات»؛ الحبّ دينٌ دنيوي، طقوسه لغوية–جسدية.
- الرموز والمجازات الكبرى:
1. «النبض» و«حبل الوريد»: علاقة عشقٍ حيوية–قدريّة؛ الحبيب ليس خارج الذات، بل ملاصق لشرط حياتها.
2. «شهرزاد»: رمز الحكاية المُنقِذة؛ كما أنقذت نفسها بالسرد، تستدعي المتكلمة السرد لنجاة اللحظة العاشقة من فناء الوقت.
3. «النهران»: وفرة وخصب وذاكرة حضارية؛ خصبٌ لغوي–جسدي يفيض «أنا» و«أنت».
4. «عقرب الوقت»: زمنٌ ذي نيّة عدوانية؛ التعيين بـ«عقرب» يحمّل الزمن سِمَة اللسع.
5. «مدينة القهر»: استعارةٌ اجتماعية للهيمنة؛ مقابلها ملاذٌ حميمي يُنشأ باللغة («صدرك قصري»).
6. «علبة السجائر»: رمز اليوميّ الهشّ؛ طلبُ الاختباء فيها يشي برغبةٍ في التصاغر الحميم بوصفه حماية من الفضاء العامّ.
7. «كن أني/وأكون أناك»: ذروة الاندماج الهويّاتي؛ اصطلاحًا هي حركة من التماهي إلى التفرّد المشترك .
- القراءة السيميائية: تحويلات المعنى وتموضعات الذات
- المحور القِيَمي (القداسة/الدنيوي): العلامات الدينية («تراتيل/آيات») تُعيد ترميز الجسد، فتحوّله من «موضوع رغبة» إلى موضوع تقديس؛ بهذا ينتقل العشق من خانة اللذة المحضة إلى قيمية الترنيم.
- المحور المكاني (خاص/عام): الأشكال السيميائية «قصر/قلعة/مدينة» تُعاد كتابتها داخل الجسد—استعادة السيادة من المجال العامّ إلى المجال الحميمي.
- المحور الزمني (تأجيل/اغتنام): التعارض بين «نرجوه رويدك» و«سرقنا ليلتنا» يشي ببرنامج سردي: من قيود الكرونوس إلى فرصة الكايروس.
- البنية النفسية: التعلّق، الغربة، وسيكولوجيا الطقس
- التعلّق والاتّكاء المتبادل: الطلب «اطرح أوزارك» يشي باستضافة العبء—آليّة تهدئةٍ تُحيل إلى ملامح تعلّقٍ آمن (secure attachment) حيث تحتوي «الأنا» هشاشة «الأنت».
الغربة والذات الرفيقة: «ليل الغربة» و«مدينة القهر» يشيران إلى توحّدٍ ضدّ العالم؛ الحبّ يُعادِل تحالفًا نفسيًا في وجه القسوة الاجتماعية.
طقس التقديس: تديين الرغبة («حضرة السيد الشوق») يعمل كآلية لترسيم حدودٍ مقدّسة تحمي العلاقة من تلوّث الخارج.
ديناميّات الرغبة المؤجَّلة: تتابع «ما زلنا…» يعكس اقتصاد التأجيل؛ المتعة تتغذّى على الوعد، واللغة تُبقي الاشتهاء في حيّز الاحتدام غير المُستنفَد.
- الموسيقى الداخلية والإيقاع
- التوازي الإيقاعي: «حضن يبكي على حضن/حضن يناشد حضنه» - جناس وتقفية داخلية تخلقان نبراً مرثوياً/نشيدياً.
- التصعيد بالتكرار: التوالي النفيي يرفع الجملة من تقريرٍ إلى هتافٍ إيقاعي؛ الإيقاع هنا معنى مضاعف لا زينة.
- النعومة الأمرية: أفعال الأمر تأتي موسومة بالحنان—مفارقة صوتية توازن بين سلطة الرغبة ورقّة الطلب.
--البنية السردية: من اقتناص اللحظة إلى كتابة الخلود
النصّ يتحرّك سردياً عبر ثلاث لقطات:
1. اللقاء/الانفلات من الزمن: «غافلنا اللحظة» - خروجٌ خاطف على قانون الساعة.
2. التشييد الطقسي: تعيين أماكن وقداسات ورموز؛ تأسيس مدينة حبّ بديلة.
3. الترانيم المؤجّلة: «ما زلنا لم نرتّل…» - تأجيلٌ يقترح استدامة القصّة؛ ما لا يُكمل يُعاد كتابته.
- الدلالة الاجتماعية– القيمية:
رفض اقتصاد السلطة («ثراء الملوك»، «كراسي السياسيين») لصالح اقتصاد الصدق يشكّل موقفًا نقديًا: العاطفة معيار قيمة في وجه هرم السطوة.
- الجسد–المدينة–السياسة تتجاور لقول: الحميمية فعل مقاومة؛ إذ يتحوّل الصدر إلى قصرٍ يُضفي على الفرد كرامةً جمالية في عالمٍ مُهمِّش.
- ملاحظات نصيّة طفيفة (لا تمسّ روح القصيدة)
إذا رغبتِ الشاعرةُ بتنقيحٍ لغويّ خفيف يحفظ النَّفَس:
«هييت لك» → «هيَّأتُ لك» (إن كان المقصود التهيئة).
«ورتل اشعارك» → «ورتِّل أشعارك» (همزة «أشعار» وتضعيف «رتّل»).
«ايايات الشوق» → «آيات الشوق».
- مراجعة همزات القطع والوصل، ومسافات علامات الترقيم، وتوحيد كتابة «ما زلنا» (منفصلة).
هذه اقتراحات تقنية اختيارية؛ جمال الجملة الشعريّة قائم حتى دونها.
- خلاصة تأويلية:
«تراتيل العشق» تُنشد لاهوت الحميميّة في مواجهة قسوة الزمن والمدينة. تتّخذ من التكرار والنِّداء والأمر الرقيق أدواتٍ لإقامة قداسٍ دنيوي حيث يُعاد توزيع القيم: الصدق ثراء، والصدر قصر، واليد قلعة. رموز «شهرزاد/النهرين/عقرب الوقت» تؤسّس سرديةً تُحوّل العشق من انفعالٍ عابر إلى مشروع معنى يتحدّى اقتصاد السلطة والزمن معًا، ويؤسّس لذاتٍ مشتركة: «كن أني… وأكون أناك».
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين.
.........................
تراتيل العشق
يا نبضي واشتهائي
كيف هزمنا الوهن وقهر الوقت
وتحدينا المسافات والمدارات والتقينا
كطفلين كنا
حين غافلنا اللحظة
حضن يبكي على حضن
حضن يناشد حضنه
وانا شهرزادك هييت لك
ان انت.. يا نبضي المربوط الى حبل الوريد..
اطرح اوزارك علي صدري
ورتل اشعارك على دنيا النهرين
اعزف نشيدك على الشفتين
كن اني.
واكون اناك..
دعنا نرتشف في ليل الغربة كؤوس الصبابة
يغازل بعضنا كلنا...
انا التي يسحبني شهيق الروح الى عينيك
*
لا تحدثني عن ثراء الملوك
وكراسي السياسيين
فالعشق لا يؤمن بالرتب والمناصب
دع صدقك هو ثرائي
وصدرك قصري
وكفك قلعة رغبتي وحنيني
سافر في تضاريسي
ومدني.. وقاراتي
خباني في علبة سجائرك
حين تعود الى مدينة قهرك
هذه روحي ترنو اليك
دعنا نطارد همس المساء
المساء الماطر بلغة الوجد
يربكني صوتك.. همسك: اميرتي وسيدة نبضي
وحين يهم الرحيل بالرحيل نرجوه مجللين بنيران الشوق.. رويدك يا عقرب الوقت :(مازال الحال)
نهمس في اسفلت روحينا..
مازلنا... ما قلنا عشقنا الناري.. ما انصهرنا بعد.. ما توزعنا... ما تجمعنا. ما اعلنا جنونا.. هذا الزمن لنا
ما رسمنا على خدينا ارتعاشات الروح...
بالرغم من توحد كل منا في الاخر.
بالرغم من تماهينا فينا...
مازلنا لم نرتل ايايات الشوق
رغم كل ما رتلناه
في حضرة السيد الشوق
لم نقصص بعد رغبتنا علي كف الاشتهاء
رغم صدرك الموغل في صدري
كالسيف في كبد الشهيد
يا شاعري
كيف سرقنا ليلتنا من كف الوقت ؟!
كيف منحتني جناتك.
وكيف منحتك عشق الحوريات ؟!
اغثني من ذهولي ايها الوسيم كصباحات الربيع
الوارف كصفصاف الغابات
فانا اغمض عيني
لاعتقل لحظتنا اقصد ليلة العمر
التي اهدتها لنا الهة العشق
***
نادية نواصر