قراءات نقدية
عبد الله الفيفي: أضاليل في تاريخ الأدب العَرَبي

يذهب (عمر فرُّوخ، -1987)، في كتابه «تاريخ الأدب العَرَبي»(1)، إلى رأيٍ غريبٍ في الغزَل العُذري. فهو يتَّهم العُذريِّين بنقص الرُّجولة؛ لأنَّ الحياة الطبيعيَّة- كما يراها- في الغزَل الحِسِّي والمغامرات الجنسيَّة، ليكون «التمتُّع بالحياة الطبيعيَّة تمتُّعًا تامًّا كاملًا»! إذ قال: «ولا ريب في أنَّ الشِّعر العُذريَّ شِعرٌ عذبٌ سهلٌ محبَّبٌ إلى النفس الإنسانيَّة لأنه في الواقع يمثِّل النزوع الموجود في كلِّ نفسٍ إلى الحياة الطبيعيَّة في البَشَر. ولكن يجب ألَّا ننسَى أنَّ المحبَّ العُذريَّ رجل ضعيف الشخصيَّة لأنه في الحقيقة رجلٌ ناقص الرُّجولة! إنَّ الحَنين الشِّعريَّ في هؤلاء العُذريِّين يجب أن يكون تعويضًا نفسانيًّا لهم عمَّا فقدوه من قُدرة الشُّعراء المغامرين على التمتُّع بالحياة الطبيعيَّة تمتُّعًا تامًّا كاملًا»! وهذا الذي أفرخ عنه فرُّوخ لم يقُل به عربٌ ولا عجم، قدماء أو محدثون! عِلمًا بأنَّ عُذريَّة بعض الموصوفين بالعُذريَّة ليست بتامَّة، بل فيها ما يَنشده فرُّوخ من الغزَل الحِسِّي! فها هو ذا (جميل بثينة)(2) يصِف جسد صاحبته بصورةٍ لا عُذريَّة فيها، حيث يقول:
خـليـليَّ هل في نـظـرةٍ بـعدَ تَـوبـةٍ، ٍ
أُداوي بهـا قَـلبـي، عَـلَـيَّ فُـجُـورُ
*
إلى رُجِح الأكفالِ هِيْفٍ خُصورُها
عِـذابِ الثَّـنـايـا رِيقُـهنَّ طَـهُـورُ
فالشَّاعر يتغزَّل بغير واحدة، ويصف منهنَّ ما لا يصفه الشاعر العُذري من محبوبته. وإنْ كان (القالي)- كما نقل محقِّق «ديوان جميل»- قد أنكر أنها من شِعره. وإنكاره هو الراجح.
ولكن هل بات الشِّعر العفيف ينمُّ عن ضعف الشخصيَّة، ونقص الرُّجولة، فيما الغزَل الغريزيُّ هو لسان الرُّجولة والكمال والحياة الطبيعيَّة، كما أتحفك (فرُّوخ) برأيه؟!
الحقُّ أنَّ كتاب (فرُّوخ)، هذا الذي عنونه بـ«تاريخ الأدب العربي»، يبدو بصفةٍ عامَّةٍ مضطرب التأليف والفِكر، مهلهل الأسلوب، متسرِّع الإطلاق لخواطر الأقوال والأحكام. انظر إلى قوله، بعد الفقرة السابقة: «والمبالغة في الحُبِّ العُذريِّ أدَّت إلى ظهور الشُّعراء المجانين، أولئك الشُّعراء الذين ذهب (عقلهم) في تلك الأوهام التي كانوا (يُشَبّحونها) لأنفسهم (في خيالهم). ومع أنَّ شِعر الشُّعراء المجانين غير ثابت على القطع لشُعرائه، فإنَّ هذه الطبقة من الشُّعراء كانت موجودة وكان لها شِعر يبدو أنَّ بعضَهُ اختلط ببعض.»
فالمبالغة في الحُبِّ العُذري هي التي أدَّت إلى ظهور الشُّعراء المجانين! لا أنَّ جنون الشُّعراء حُبًّا هو الذي أدَّى إلى ظهور الحُبِّ العُذريِّ وشِعره! فالسببيَّة لديه مقلوبة، والنتيجة هي المقدِّمة! ولقد ذهب «عقلهم»- كما قال- لا عقولهم؛ لأنهم يُشَبِّحون الأوهام لأنفسهم في خيالهم!
كما يقول، في موضعٍ آخَر، مثلًا: «وقد ذكر الجاحظ سبب انتشار هذه الفاحشة بين العَرَب في «كتاب المعلّمين»، فقال حمزة الأصفهاني: «إن الشعراء قاطبةً من أيّام مولد الشعر قُبيل الإسلام في آخر بني أُمَيَّة كان تشبيبهم بالنساء لا غير».»(3) وهكذا فـ«قد ذكر الجاحظ... في «كتاب المعلمين»، فقال حمزة الأصفهاني»! فمن الذي ذكر؟ ومن الذي قال؟! ولـمَن الكتاب؟ للجاحظ أم للأصفهاني؟ ثمَّ إنَّ مولد الشِّعر قُبيل الإسلام كان في آخِر بني أُمَيَّة. وهو «في آخِر بني أُمَيَّة» أنفسهم، لا في آخِر دولتهم! وكان يقتبس هنا عن مخطوط، ذكره في الحاشية: «كتاب المعلمين مفقود، ولكنني عثرت على صفحة منه منسوخة في مخطوطة لديوان أبي نواس من جمع حمزة بن حسن الأصفهاني...». أ فكانت في المخطوط هذه التخليطات؟! وحتى لو كانت كذلك، فرضًا، فكيف ينقلها على علَّاتها، مؤرِّخًا للأدب العَرَبي بهذا العجين الفاسد؟! الراجح أنه هو من كان ينقل خطأً؛ فهذا نهجه وأسلوبه. فلنرَ:
1- ما ذكره، على كلِّ حال، لا نقف عليه في «كتاب المعلِّمين» للجاحظ، أو ما بقي منه.(4)
2- ستجد الكلام في «ديوان أبي نُواس الحسَن بن هانئ الحَكَمي»(5)، برواية: (حمزة بن الحسَن الأصفهاني) و(أبي بكر محمَّد بن يحيى الصولي)، مستقيمًا ليست فيه تخليطات (فرُّوخ) الصياغيَّة، بل وردَ هكذا: «...وذلك أنَّ الشُّعراء قاطبةً، من أيَّام مولد الشِّعر قُبيل الإسلام إلى آخِر دولة بني أُمَيَّة، كان تشبيبهم بالنِّساء لا غير... وكان لحدوثٍ سَبَبُ [كذا!] هذه الفاحشة في الخُراسانيِّين ما حكاه الجاحظ في كتاب المعلِّمين.» وأمَّا جمجمة فرُّوخ فعجيبة. فإن قيل إنه يقتبس عن مخطوط، أفما يسأل؟ أو يقوِّم؟ أو يعلِّق؟ بل يحتطب، ويسوِّد الصفحات، تحت عنوان «تاريخ الأدب العَرَبي»؟! والأغرب أنك تجد تناقُل آخَرين عن فرُّوخ، على عُجَر أسلوبه وبُجَره ولا عِلميَّته. وهكذا، كأنَّ هذا الكتاب جاء في الأصل أحاديث مجالس مرتجلة- ولا أقول محاضرات؛ لأن المحاضرات ينبغي أن يكون لها إعدادها المحكم أيضًا- وإنَّما دُوِّنت تلك الأحاديث الركيكة بأخرة ونُشِرت في كتاب، هكذا كيفما اتفق، بغير سويَّةٍ عِلميَّةٍ أو تأليفيَّة. فلا غرو أن تجد فيه مثل تلك الآراء المجانيَّة، والأحكام الصاروخيَّة، التي لا تستند على شيء.
وإذا كان هذا شأن كتب (تاريخ الأدب العَرَبي)، فكيف بسِواها. فلا غرابة، إذن، أن تزدهر في ذلك التاريخ الأكاذيب والأباطيل قديمًا وحديثًا.
هكذا قام فينا (ذو القُروح) محاضرًا. فسألته: مثل ماذا؟
ـ كثيرٌ جِدًّا. ويلحق ذلك بالمشاهير خاصَّة. وقد حدَّثتك من قَبل عن أنَّ بعضهم ينسب كلَّ شِعرٍ جزلٍ مجهول القائل- وإنْ لم يجهله سِوَى ناسبه- إلى (أبي الطيِّب المتنبِّي). وستجد من ذلك اليوم عشرات الأبيات على مواقع «الإنترنت» منسوبةً إلى أبي الطيِّب، ولا علاقة لها بشِعره. كالبيت المتداول:
لا تحسبوا رَقْـصِي بيـنَكمْ طَـربًـا
فالطَّيرُ يَرقصُ مذبوحًا من الألم!
ـ نعم، وقلتَ إنَّ البيت مكسور الوزن أصلًا، صوابه: «لا تحسبوا أنَّ رقصي...». وبعضهم يضيف: «من شِدَّة الألم»، ليزيد الشِّدة بمتنبئيَّة البيت! لكن لا يخفاك، يا (ذا القُروح)، أنَّ هذا لا يروج بين الناشئة فحسب، بل بين بعض المتأدِّبين أيضًا والمفوَّهين في كلِّ ميدان.
ـ أجل. وإنَّما أصل هذا البيت المنسوب إلى المتنبِّي أبياتٌ تُنسَب أيضًا إلى مجنون ليلى (قيس بن الملوَّح)، منها:
كَعُـصفـورَةٍ في كَـفِّ طِـفلٍ يَـزُمُّـها
تَذوقُ حِياضَ المَوتِ والطِّفلُ يَلعَبُ
*
فَـلا الطِّفلُ ذو عَـقلٍ يَـرِقُّ لِـما بِهـا
ولا الطَّـيرُ ذو رِيشٍ يَطيرُ فَيَذهَـبُ
ولقد تعاطَى البيت أو البيتين المنسوبَين إلى المجنون عددٌ من الشُّعراء على امتداد التُّراث العَرَبي، نذكر منهم: (يعقوب بن الربيع، ـ190هـ)، و(ابن الزيات، ـ233هـ)، و(أبو مدين التلمساني، ـ594هـ)، و(حسن حسني الطويراني، ـ1315هـ)، إنْ على سبيل الانتحال أو على سبيل التضمين الرديء.
ـ بل يزيد الطِّين بِلَّة على المتنبِّي شاعرٌ حديثٌ، هو (نزار قباني)، قائلًا عنه- في مقابلةٍ قديمةٍ متاحةٍ على «اليوتيوب»(6)- إنَّ المتنبِّي على إكثاره من وصف الشجاعة على الورق كان «كما يُعرف» من أجبن الناس!
ـ عجيب! من أين خرج (شاعر الفساتين) بهذه المعلومة المناقضة لحقيقة (شاعر الخَيل واللَّيل والبَيداء). إنَّما هذا جهلٌ نزاريٌّ بالمتنبِّي «كما يُعرف»، الذي كان، كما تشهد أخباره مع (سيف الدولة) في مواجهاته الحربيَّة وغيرها، شجاع الفعل كما كان شجاع الشِّعر. كما يشهد معاصروه كـ(ابن فورجة) أنه كان شجاعًا. وقد مات حتف مواجهته، لا حتف أنفه. وإنَّما وُصِف بأنه كان فيه بُخل، ولذلك سببٌ عزاه بنفسه إلى عُقدةٍ لازمته منذ صباه؛ من حيث كان «كما يُعرف» ابن سقَّاءٍ كوفيٍّ متواضع الحال، فنشأ كوفيًّا من فقراء الناس لا من أغنيائهم.(7)
ـ من أين جاء (نزار) بما قال عن (المتنبِّي): إنه كان، «كما يُعرف»، جبانًا؟!
ـ لعلَّ (نزارًا) اختلط عليه الأمر، «كما يُعرف»! وربما كان يقصد (حسَّان بن ثابت)، مثلًا. والمشهور دائمًا عُرضةٌ للأقاويل، واتِّخاذه تكئةً لتحذلق المتحذلقين، وتفاصح الأعيِـياء. بل أغلب الظنِّ أنَّ نزارًا كان يُردِّد أصداء عن حبيبه- الذي «لا يرى وهو يراهُ»- (طه حسين)، في كتابه «مع المتنبِّي». وطه حسين «كما يُعرف» كاتبٌ إنشائيٌّ مبدع، ومفكِّر فَطِن، لكنَّه ليس بذلك الباحث المحقِّق، وما ينبغي له. كان يأخذ بمنهاج الشكِّ الديكارتي في كلِّ شيءٍ، باستثناء الشكِّ في (ديكارت) نفسه ومنهاجه! مع أنَّ طه حسين، وإنْ سعَى سعيه للتشكيك في نَسَب المتنبِّي، لم يشكِّك في فتوَّته.(8) على أنَّ نزارًا لو سأل (معروفًا الرصافي)(9)، لأجابه عمَّا إذا كان المتنبِّي شجاعًا؟ وذلك بتحليل أخباره وسيرته، لا من خلال أوراقه الشِّعرية فقط.
***
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
..........................
(1) (بيروت: دار العِلم للملايين، 1969)، 1: 368.
(2) (1979)، ديوان جميل، جمع وتحقيق وشرح: حسين نصَّار، (القاهرة: دار مِصْر للطباعة)، 93.
(3) فرُّوخ، 2: 44.
(4) يُنظَر: جريس، إبراهيم خليل، (1980)، كتابان للجاحظ: كتاب المعلِّمين وكتاب في الردِّ على المشبِّهة- تحقيق ودراسة، (عكَّا: مكتبة ومطبعة السروجي).
(5) (1972- 2006)، تحقيق: إيڤالد ڤاغنر وغرغور شولر، (بيروت: المعهد الألماني للأبحاث الشرقيَّة)، 4: 141.
(6) على الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=DnRDOOroERU
(7) يُنظَر مثلًا ما جمعه حول شمائله (عبدالرحمن البرقوقي) في مقدِّمة «شرح ديوان المتنبِّي»، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1986)، 1: 5- 00.
(8) يُنظَر: (1937)، حسين، طه، مع المتنبِّي، (القاهرة: دار المعارف)، 12- 00. وتُقارن ردود: شاكر، محمود محمَّد، المتنبِّي: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، (جُدَّة: مكتبة المدني، 1987)، 399- 000.
(9) يُنظَر: (1959)، نظرة إجماليَّة في حياة المتنبِّي، (بغداد: مطبعة المعارف)، 48- 58.