قراءات نقدية
نجلاء نصير: تجليات الأسطورة والواقع.. دراسة تكاملية في رواية "امرأة نصفها بحر"

تُعد رواية "امرأة نصفها بحر" للكاتبة المصرية صابرين الصباغ، الصادرة عن دار غراب للنشر، عملاً أدبياً مركباً يغوص في أعماق النفس الإنسانية، متخذاً من مدينة الإسكندرية مسرحاً ورمزاً في آن واحد. تنتمي الرواية بوضوح إلى تيار
الواقعية السحرية (الواقعية السحرية)، حيث تنسج الكاتبة ببراعة بين واقع اجتماعي قاسٍ وعالم أسطوري فانتازي، لتقدم رؤية نقدية للمجتمع وتأملاً عميقاً في مواضيع الهوية، الحب، والخلاص. تستخدم هذه الدراسة منهجاً تكاملياً لتحليل عتبات النص، وبنية السرد، والشخصيات، وتقنيات الواقعية السحرية، وصولاً إلى فهم شامل لكيفية عمل الرواية كوحدة فنية متماسكة.
أولاً: عتبات النص - مفاتيح العالم الروائي
تعد المداخل الأولية للرواية (الغلاف، العنوان، الإهداء) بمثابة بوصلة توجه القارئ وتكثف ثيماتها الرئيسية.
الغلاف والعنوان: ازدواجية الذات
يأتي تصميم الغلاف كلوحة بصرية تجسد الصراع الداخلي للبطلة. فالفتاة التي ترتدي فستاناً أبيض تقف بين عالمين: عالم أثري صلب وعالم مائي أزرق يمتزج بملامح الإسكندرية الحديثة2. هذا التصميم يترجم بصرياً العنوان الشعري
"امرأة نصفها بحر" 3، الذي هو ليس مجرد اسم، بل استعارة تأسيسية لطبيعة المرأة المزدوجة؛ فهي تجمع بين الثبات والتقلب، الوضوح والغموض، تماماً كالبحر الذي يمثل القوة والعمق والاحتواء.
سألوني ليه مبتكبريش /وليه ماليكي السحر / قلت لهم روحوا اسألوه /برغم عمرك الطويل /ليه ما شبت يا بحر؟
تُعد هذه الكلمات بمثابة مفتاح لفهم الروح العميقة للرواية، حيث تُؤسس لعلاقة أسطورية بين المرأة والبحر.
- السؤال: يُطرح على المرأة سؤالان يتعلقان بالخلود والجاذبية: لماذا لا تكبر في السن (تتحدى الزمن)، ولماذا تحتفظ بسحرها وجاذبيتها.
- الإجابة المجازية: المرأة لا تجيب عن نفسها مباشرة، بل تحيل السائلين إلى البحر. هي بذلك تخلق مقارنة مباشرة بينها وبين البحر، فجواب سرها يكمن في سر البحر.
- سر البحر: السؤال الموجه للبحر — "ليه ما شبت يا بحر؟" — هو سؤال عن سر الأبدية والشباب الدائم رغم مرور العصور الطويلة.
باختصار، تقول المرأة إن روحها وجوهرها مثل البحر: عميقة، غامضة، لا تخضع لزمن، وتحتفظ بسحرها وقوتها إلى الأبد. هذه الأبيات تمهد للثيمة الرئيسية في الرواية وهي أن البطلة تجد في البحر نصفها الآخر ومصدر قوتها وخلودها الروحي.
الإهداء: ميثاق الانتماء
الإهداء الصريح
"إلى... مدينتي الإسكندرية" 4، التي يصفها النص بأنها "العروس التي لا تعرف شيبًا"، يؤكد أن المدينة ليست مجرد مسرح للأحداث، بل هي شخصية محورية وكيان حي. هذا الربط الوجداني ينعكس مباشرة على البطلة "أحلام" التي تجد في بحر الإسكندرية صديقها وملجأها، وتصفه بـ “عاشقي الذي ينتظرني هناك منذ بدء الخليقة.
ثانياً: الحبكة - رحلة من الواقع إلى الأسطورة
تدور أحداث الرواية حول "أحلام"، فتاة شابة تعيش في حي فقير بالإسكندرية، وتواجه ضغوطاً اجتماعية قاسية، أبرزها محاولات جارها المسن "الحاج علي" الزواج منها مستغلاً فقر عائلتها. تتأزم حياتها بعد دخولها في قصة حب خادعة تنتهي بكشف زيف حبيبها الذي يتضح أنه هو نفسه الشخص الذي اعتدى على صديقتها "سماح".
في ذروة يأسها، تحاول أحلام الانتحار، لكنها بدلاً من الموت، تسقط في بئر عميقة تقودها عبر نفق غامض إلى الإسكندرية في العصر البطلمي. هناك، تبدأ حياة جديدة وتلتقي بـ "أرتيمس"، خادم القصر الملكي، الذي تنشأ بينهما قصة حب نقية. لكن حتى هذا العالم الأسطوري لا يخلو من المأساة، حيث يُقتل أرتيمس وتُتهم أحلام بقتله. وفي لحظة محاصرتها من قبل أهل الحي الغاضبين، يأتي خلاصها النهائي من البحر نفسه، حيث يظهر الإله "بوسيدون" ليخطفها معه إلى أعماق مملكته، محققاً بذلك اتحادها الأبدي مع نصفها الآخر.
ثالثاً: الشخصيات - مرايا النفس والمجتمع
- أحلام: هي محور الرواية التي تعكس أزمة الهوية والبحث عن الخلاص. شخصيتها تتطور من البراءة والسذاجة إلى التمرد ثم الانكسار، وصولاً إلى الخلاص الأسطوري. علاقتها بالبحر هي علاقتها بذاتها العميقة والهاربة من قسوة الواقع.
- الحاج علي: يمثل السلطة الذكورية التقليدية التي ترى في المرأة مجرد سلعة يمكن شراؤها بالمال، ونظراته توصف بأنها "تلوك جسدي والشهوة تستعر داخل ويلات روحه".
- سماح: هي المرآة المأساوية لأحلام، وضحية الحب والخيانة والمجتمع الذي لا يرحم. قصتها حول "المس من الجان" هي صرخة يائسة لتغطية واقع مرير.
- أرتيمس: يمثل الحب المثالي والنقي الذي لم يكن متاحاً في عالم أحلام الواقعي. وجوده في زمن آخر يؤكد على أن هذا النوع من الحب ينتمي إلى عالم الأساطير، وموته المأساوي يعزز هذه الفكرة.
رابعاً: تقنيات السرد في الواقعية السحرية
تستخدم الرواية ببراعة تقنيات الواقعية السحرية لتصبح هذه التقنيات جزءاً لا يتجزأ من معنى النص وهدفه.
1.- الحدث العجائبي في سياق واقعي: الرواية تبني عالماً واقعياً مفصلاً ثم تزرع فيه حدثاً خارقاً وهو "السقوط عبر الزمن". هذا الانتقال من محاولة انتحار واقعية إلى رحلة فانتازية تاريخية هو السمة الجوهرية للواقعية السحرية.
2.- حيادية السرد وتطبيع الخارق: يسرد الراوي، وتتقبل الشخصية، الأحداث الخارقة كأنها جزء طبيعي من الحياة. أحلام لا تنهار أمام استحالة انتقالها عبر الزمن، بل تتكيف معه. كذلك، حواراتها مع الإله "بوسيدون" تُقدّم كلقاءات روحانية عميقة وليس كأوهام.
3.- تداخل الأزمنة والهويات: الزمن في الرواية ليس خطياً. الإسكندرية الحديثة تتداخل مع الإسكندرية البطلمية، وتصبح أحلام نفسها شخصية هجينة تعيش بهوية مزدوجة، مما يسمح للرواية باستكشاف فكرة التاريخ الحي الذي يسكن الحاضر.
4.- الرمز والأسطورة كبنية للسرد: البحر هو الرمز المحوري الذي ينظم الرواية بأكملها. هو الصديق "الكبير"، والإله "بوسيدون"، وفي النهاية هو الخلاص والمصير. الهروب إلى الماضي لم يكن سوى محطة في رحلة العودة إلى الأصل، إلى الاتحاد مع "البحر" الذي يمثل نصفها الآخر.
بالتأكيد، إليك تحليل مفصل لحبكة رواية "امرأة نصفها بحر" للكاتبة صابرين الصباغ، بناءً على النص الكامل للرواية.
تحليل حبكة رواية "امرأة نصفها بحر": رحلة من الواقعية القاسية إلى الخلاص الأسطوري
تتميز حبكة رواية "امرأة نصفها بحر" ببنيتها المزدوجة والمبتكرة، حيث تنقسم إلى جزأين رئيسيين: جزء واقعي اجتماعي يغرق في تفاصيل الألم والقهر، وجزء فانتازي أسطوري يقدم الهروب والخلاص كحل نهائي. يمكن تحليل هذه الحبكة عبر مراحلها الكلاسيكية على النحو التالي:
1. التمهيد والعرض (معرض)
- تقديم الشخصية والعالم: تُعرّفنا الرواية على بطلتها "أحلام"، فتاة شابة تعيش في حي فقير بالإسكندرية. عالمها محدود ومحكوم بالفقر والحاجة1. منذ البداية، تُؤسس الرواية لعلاقة روحانية عميقة بين أحلام والبحر، الذي تعتبره صديقها وعاشقها وملجأها الوحيد الذي تبثه همومها، وتصفه بـ "الكبير".
- بذرة الصراع: يُعرض الصراع الرئيسي مبكرًا ويتمثل في الضغط الذي تتعرض له أحلام للزواج من جارها الثري المسن، "الحاج علي"، الذي ينظر إليها بنظرات شهوانية ويرغب في شرائها بالمال مستغلاً فقر أسرتها3333. يقابل هذا التهديد حلمها بحب نقي وبريء مع جارها الشاب.
2. الأحداث الصاعدة (العمل الصاعد)
تتصاعد وتيرة الأحداث وتتعقد الصراعات لتدفع البطلة نحو حافة الانهيار:
- تصاعد الضغط الأسري: يزداد ضغط والدتها وأخيها عليها لقبول الزواج من الحاج علي، حيث يرون فيه الخلاص الوحيد من الفقر المدقع. هذا الضغط يحول بيتها إلى سجن.
- المأساة الموازية: تتشابك حبكة أحلام مع قصة صديقتها "سماح"، التي تمثل الوجه الآخر للمعاناة الأنثوية. تقع سماح ضحية لحب خائن وتحمل سفاحًا، فتضطر لاختراع قصة "المس من الجان" لتبرير حالتها أمام مجتمع لا يرحم5. هذه القصة الفرعية تعمق من الشعور بالخطر والظلم المحيط بالبطلة.
- صدمة الخيانة والقتل: تصل الأحداث إلى نقطة حرجة عندما تكتشف أحلام أن حبيبها الشاب هو نفسه من خدع صديقتها سماح وتخلى عنها. تبلغ المأساة ذروتها عندما تقدم سماح على قتل هذا الحبيب الخائن، مما يدمر عالم أحلام وآخر بقايا ثقتها في الحب والرجال.
- الانهيار ومحاولة الانتحار: بعد أن فقدت حبها وأصبحت محاصرة بخيار الزواج من رجل تمقته، تصل أحلام إلى حالة من اليأس المطلق. تقرر وضع حد لحياتها بالقفز من شرفة منزلها، في مشهد يمثل هروبها الأخير من واقعها المؤلم.
3. الذروة (الذروة)
تأتي ذروة الرواية في لحظة القفز، ولكنها لا تؤدي إلى الموت، بل إلى تحول عجائبي يقلب بنية الرواية بأكملها. هذه هي النقطة التي تنتقل فيها الحبكة من الواقعية إلى الفانتازيا:
- السقوط في البئر: بدلاً من أن تسقط في الشارع، تسقط أحلام في بئر عميقة وغامضة.
- العبور إلى زمن آخر: تقودها البئر إلى نفق طويل ومظلم، تسير فيه في رحلة رمزية نحو المجهول. في نهاية النفق، تخرج لتجد نفسها في الإسكندرية، ولكن في
العصر البطلمي. هذه اللحظة هي ذروة الحبكة ونقطة التحول التي تفصل بين عالمين، حيث يموت واقعها القديم وتولد في واقع جديد تمامًا.
4. الأحداث الهابطة (Falling Actin)
تبدأ مرحلة جديدة من القصة في هذا العالم الأسطوري، حيث تتكشف عواقب الذروة وتتشكل صراعات جديدة:
- لقاء الحب المثالي: تلتقي أحلام بـ "أرتيمس"، خادم القصر الملكي، وتنشأ بينهما قصة حب نقية ومثالية، وهو الحب الذي كانت تحلم به ولم تجده في عالمها الواقعي.
- التأقلم مع العالم الجديد: تتشابك قصة حبها مع الصراعات السياسية والمؤامرات داخل القصر البطلمي، وتضطر للتكيف مع قواعد وعادات هذا الزمن الغريب.
- تكرار المأساة: بشكل مأساوي، يتكرر نمط الفقد والخسارة، حيث يُقتل أرتيمس غدرًا، وتجد أحلام نفسها متهمة بقتله. هذا يوضح أن الظلم والخيانة ليسا حكرًا على زمنها، بل هما جزء من الطبيعة البشرية.
مستويات اللغة:
ازدواجية اللغة في "امرأة نصفها بحر": فصحى السرد وعامية الحوار
تتميز رواية "امرأة نصفها بحر" بازدواجية لغوية واضحة، حيث تعتمد الكاتبة صابرين الصباغ على مستويين مختلفين من اللغة لخدمة أغراض فنية متباينة: اللغة العربية الفصحى في السرد والوصف، واللهجة العامية المصرية في الحوار. هذا التباين يخلق بنية لغوية غنية تميز بين العالم الداخلي للشخصية والعالم الخارجي الذي تتفاعل معه.
1. فصحى السرد: لغة الشعر والوجدان
تتسم لغة السرد في الرواية بكونها لغة عربية فصحى ذات طابع شعري وبلاغي عالٍ. تستخدم الكاتبة هذه اللغة الراقية في الأجزاء الوصفية وللتعبير عن الأفكار والمشاعر الداخلية للبطلة "أحلام". تتميز هذه اللغة بالآتي:
- الكثافة الشعرية: تعج المقاطع السردية بالاستعارات والصور الفنية التي تضفي على النص عمقًا وجمالاً. على سبيل المثال، تصف أحلام نظرات الحاج علي بقولها: "ينظر إلي وجفناه كأنهما أسنان تلوك جسدي والشهوة تستعر داخل ويلات روحه". هذا الوصف يتجاوز مجرد السرد لينقل إحساسًا بالقهر والاشمئزاز.
- لغة الإحساس لا الحدث: تركز لغة السرد على نقل الحالة الشعورية أكثر من مجرد وصف الأحداث. فعندما تصف حبها تقول: "معه - له نظراته العاشقة تغير فصولي". هذه الجملة لا تروي حدثًا بقدر ما ترسم لوحة وجدانية.
هذا المستوى اللغوي الراقي يخدم في بناء العالم الداخلي لأحلام، ويجعل من تأملاتها ومناجاتها للبحر لحظات شعرية وفلسفية.
2. لغة الواقع والحياة اليومية
على النقيض تمامًا، تأتي الحوارات بين الشخصيات باللهجة العامية المصرية. هذا الاختيار الفني يهدف إلى تحقيق عدة أغراض:
- الواقعية والمصداقية: استخدام العامية يمنح الحوارات طابعًا واقعيًا ويجعل الشخصيات تبدو حقيقية وقريبة من القارئ. على سبيل المثال، عندما تسأل أحلام والدتها عن سبب تجهيزها للطعام، تأتي الإجابة بعامية بسيطة ومباشرة: "- أحلام، انهضي سنذهب إلى الحمام".
- رسم الشخصيات: تعكس لغة كل شخصية بيئتها الاجتماعية ومستواها الثقافي. حوارات الأم، وأحلام، وجيرانها تعج بتعبيرات الحياة اليومية التي ترسم ملامح عالمهم الفقير والبسيط. عندما ترفض أحلام الذهاب مع أمها، تقول بعناد طفولي: "لا، فرائحتها كريهة جدا نظفيها أنت".
- الفصل بين العالمين: يخلق التباين بين فصحى السرد وعامية الحوار فصلاً واضحًا بين عالم أحلام الداخلي الشاعري والحالم، وعالمها الخارجي القاسي والواقعي. هذا الفصل يبرز غربة الشخصية عن محيطها وصراعها الدائم بين ما تشعر به وما تعيشه.
ومن ثم يُعد التوظيف المزدوج للغة في رواية "امرأة نصفها بحر" تقنية فنية ناجحة، حيث تمنح الفصحى السرد عمقه الشعري والوجداني، بينما تمنح العامية الحوارات حيويتها وواقعيتها، مما يخلق تجربة قرائية غنية ومتعددة الأبعاد.
تستخدم رواية "امرأة نصف البحر" أسلوبا شعريا وغنائيا عميقا، حيث تتجاوز اللغة مجرد سرد القصص لتصبح عنصرا أساسيا في العمق العاطفي والموضوعي للسرد. هذه الجودة الشعرية ليست مجرد زخرفية. إنه أمر أساسي لبناء عالم الرواية، والتعبير عن الاضطراب الداخلي لبطل الرواية،
واستكشاف العلاقة العميقة بين الإنسانية والطبيعة. يستكشف التحليل أدناه الجوانب الرئيسية لهذه اللغة الشعرية مع أمثلة محددة من النص.
تستخدم رواية "امرأة نصف البحر" أسلوبا شعريا وغنائيا عميقا، حيث تتجاوز اللغة مجرد سرد القصص لتصبح عنصرا أساسيا في العمق العاطفي والموضوعي للسرد. هذه الجودة الشعرية ليست مجرد زخرفية. إنه أمر أساسي لبناء عالم الرواية، والتعبير عن الاضطراب الداخلي لبطل الرواية، واستكشاف العلاقة العميقة بين الإنسانية والطبيعة. يستكشف التحليل أدناه الجوانب الرئيسية لهذه اللغة الشعرية مع أمثلة محددة من النص.
اللغة الشعرية في "امرأة نصف البحر"
تجسيد البحر: شخصية حية
الأداة الشعرية الأبرز في الرواية هي تجسيد البحر. البحر ليس مكانا سلبيا ولكنه شخصية نشطة وحية، تشارك معها بطلة الرواية، أحلام، أعمق أسرارها وعواطفها. هذه التقنية ترفع البحر من سمة جغرافية إلى كيان أسطوري وروحي.
- البحر كصديق وعاشق: يتم تصوير علاقة أحلام بالبحر على أنها حوار حميم. تقول: "أجلس على حافته، أنظر إليه، أتحدث إليه. أستمع إلى أمواجها وهي تجيب علي، أحيانا بهمس وأحيانا أخرى بهدير ". يمنح البحر القدرة البشرية على الاستماع والاستجابة، مما يعكس وحدة أحلام العميقة وحاجتها إلى صديق مقرب غير قضائي. تزداد هذه العلاقة طابعا رومانسيا عندما تقول، "يبتسم لي .. يداعبني ويبعث بعض عاطفته على وجهي ".
- البحر كشخصية أب: خلال لحظات اليأس، يوفر البحر الراحة الأبوية. "أجلس بين يديه، يلفني بين ذراعيه الرقيقين مثل الأب العطوف". توفر هذه الصورة إحساسا بالأمان والحماية التي تفتقر إليها في واقعها القاسي.
الاستعارة والتشبيه: تجسيد المشاعر المجردة
كثيرا ما يستخدم المؤلف الاستعارات والتشبهات لإعطاء شكل ملموس للمشاعر المجردة مثل الحب والخوف والألم. هذا يجعل المشهد العاطفي للرواية حيا وواضحا.
- استعارات المعاناة: غالبا ما يتم وصف خوف أحلام وألمها باستخدام استعارات جسدية قوية. توصف النظرة المفترسة للحاج علي بأنها "فكين يمضغان جسدي"، مما يحول النظرة إلى فعل جسدي عنيف. اضطرابها العاطفي هو منظر طبيعي يجب استعماره: "الحزن يستعمر جزري".
- تشبيهات الحب والرغبة: يتم تصوير الحب بكثافة كونية وعنصرية. تصف نظرة عشيقها بأنها تغير مواسمها وحبه الصامت بأنه "صخب بهيج يضرب زوايا روحي".
- استعارات الهوية: تم تأسيس الاستعارة المركزية للرواية في عنوانها وتعزيزها طوال الوقت. المرأة هي "نصف بحر"، مما يشير إلى طبيعة مزدوجة - جزء واحد يرتكز على واقع قاسي، والآخر سائل، عميق، ولا يمكن ترويضه مثل المحيط.
الصور الحسية: عالم غني ومثير للذكريات
اللغة الشعرية غنية بالصور الحسية، وتجذب البصر والصوت واللمس لتغمر القارئ في عالم أحلام. يتضح هذا بشكل خاص في أوصافها لكل من المدينة ودولها الداخلية.
- الصور البصرية والسمعية للمدينة: الاحتفال بالعيد هو مشهد نابض بالحياة: "ساحة محطة الرمل مزينة بألوان ملابسنا، واختفت ملامحها الهادئة في صخب عال". تخلق أصوات الفرح والفوضى جوا حيويا وساحقا تقريبا.
- صور الحالات العاطفية: يتم تقديم عالم أحلام الداخلي بنفس التفاصيل الحسية. عندما تكون في حالة حب، "يمرح قلبها على أرجوحة ضلوعي، وصوت غنائها يكاد يتغلب على ضجيج الشارع". هذه الصورة المواكبة، حيث يكون للعاطفة صوت، تنقل فرحتها بقوة. عندما تكون في حالة يأس بعد خيانة عشيقها، تسأل، "كيف يمكنني محو حلمي بممحاة النسيان؟"، مما يخلق صورة ملموسة لمهمة مستحيلة.
في الختام، فإن اللغة الشعرية في "امرأة نصف البحر" ليست مجرد اختيار أسلوبي ولكنها نسيج سردها. من خلال تجسيد البحر، والنسيج الغني للاستعارات والتشبهات، والصور الحسية المثيرة للذكريات، تخلق الرواية عالما تكون فيه الحدود بين الداخلية والخارجية، الحقيقية والأسطورية، غير واضحة بشكل جميل ومخيف.
تحليل الضمائر ونوع السارد في رواية "امرأة نصفها بحر"
تعتمد رواية "امرأة نصفها بحر" على بنية سردية مركبة تتناوب فيها الضمائر وأنواع السرد، مما يخلق تجربة قرائية غنية تفصل بين العالم الداخلي الحميمي للشخصية والسياق الخارجي الأوسع. يمكن تحليل هذه البنية من خلال محورين رئيسيين:
1. السارد الأول: ضمير المتكلم ("أنا") - صوت الروح الذاتية
النوع: سارد مشارك في الأحداث (أو سارد ذاتي - Autdiegetic Narratr)
الجزء الأكبر من الرواية يُروى بضمير المتكلم "أنا"، حيث تتحدث البطلة "أحلام" بصوتها مباشرة. هذا الاختيار يجعلها هي السارد الرئيسي والمحوري في القصة.
- خصائصه ووظيفته:
- الذاتية والحميمية: يغمر هذا السرد القارئ في العالم الداخلي لأحلام، حيث نطلع مباشرة على أفكارها، ومخاوفها، وأحلامها، وصراعاتها النفسية. يخلق هذا قربًا عاطفيًا عميقًا مع الشخصية، فنشعر بمعاناتها كأنها معاناتنا.
- محدودية المعرفة: هذا السارد لا يعرف كل شيء. رؤيته مقتصرة على ما يراه ويشعر به هو فقط. نحن لا نعرف نوايا الشخصيات الأخرى إلا من خلال استنتاجات أحلام وتفسيراتها، مما يجعلنا نعيش معها حالة عدم اليقين والقلق.
- اللغة الشعرية: صوت "أنا" هو مصدر اللغة الشعرية في الرواية. مناجاتها الداخلية ووصفها لمشاعرها وعلاقتها بالبحر هي التي تمنح النص طابعه الغنائي. على سبيل المثال، قولها: "
عدت لبيتي.. قلبي يمرح فوق أرجوحة ضلوعي هو تعبير ذاتي بحت لا يمكن أن يصدر إلا عن ضمير المتكلم."1
2. السارد الثاني: ضمير الغائب ("هو/هي") - عين الكاميرا الشاملة
النوع: سارد عليم بكل شيء (أو سارد كلي المعرفة - mniscient Narratr)
بين الحين والآخر، تنتقل الرواية من صوت "أنا" إلى صوت سارد خارجي يتحدث بضمير الغائب "هو" و"هي". هذا السارد غير مشارك في الأحداث ويراقبها من الخارج.
- خصائصه ووظيفته:
- المعرفة الشاملة (العليمية): على عكس أحلام، هذا السارد يعرف كل شيء. يستطيع أن يتنقل بحرية بين الأمكنة والأزمنة، ويكشف عن أفكار ونوايا شخصيات أخرى لا تعرفها أحلام. على سبيل المثال، يصف لنا السارد ما يدور في القصر البطلمي من مؤامرات 2222، ويدخل إلى عقل الحاج علي ليكشف عن أفكاره3.
- الموضوعية وتوسيع الأفق: يقدم هذا السارد سياقًا أوسع للأحداث. فبينما تكون أحلام غارقة في مأساتها الشخصية، يرينا هذا السارد ما يحدث في محيطها: ردود أفعال أهل الحي، والمؤامرات السياسية، ومصير الشخصيات الأخرى. هذا يخلق تباينًا بين المأساة الفردية والفساد الاجتماعي الأوسع.
- ربط العوالم: يلعب السارد العليم دورًا حاسمًا في ربط الجزء الواقعي بالجزء الفانتازي من الرواية، مما يمنح الانتقال عبر الزمن مصداقية داخل عالم النص.
الخلاصة: وظيفة الازدواج السردي
إن الجمع بين السارد الذاتي (بضمير المتكلم) والسارد العليم (بضمير الغائب) هو تقنية فنية ذكية تخدم أهداف الرواية بعمق. فالضمير الأول يغمرنا في التجربة الإنسانية الفردية المؤلمة، بينما يمنحنا الضمير الثاني الرؤية الشاملة التي تضع هذه التجربة في سياقها الاجتماعي والتاريخي. هذا التناوب بين الداخل والخارج، والذاتي والموضوعي، هو ما يعطي الرواية أبعادها المتعددة، ويؤكد على ثيمتها الرئيسية: صراع الروح الفردية الحالمة (بصوت "أنا") في مواجهة واقع قاسٍ وشامل (بعين السارد العليم).
النهاية:
تأتي نهاية الرواية لتقدم حلاً أسطورياً يتناسب مع طبيعتها الفانتازية، وهو ليس عودة إلى الواقع بل تجاوز له:
- التدخل الإلهي: بينما يحيط بها أهل الحي الغاضبون لقتلها، يتدخل البحر نفسه لإنقاذها. يثور الموج وتخرج منه عربة ذهبية يجرها "أبيسدون" (بوسيدون)، إله البحر الذي كانت تناجيه1.
- الاتحاد الأبدي بالبحر: يخطفها بوسيدون من أمام أعدائها ويغوص بها في أعماق مملكته14. هذا الحل لا يعيدها إلى عالمها الأصلي، بل يحقق اتحادها الكامل مع "نصفها الآخر"، البحر، الذي كان دائمًا ملجأها ومصدر قوتها. إنها نهاية رمزية تمثل الخلاص النهائي من عالم البشر القاسي والاندماج في عالم الأسطورة والطبيعة الأبدي.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل النهاية: خلاص أسطوري أم هروب أبدي؟
تؤكد نهاية الرواية، بإنقاذ "بوسيدون" لأحلام واختفائها في أعماق البحر، على طابعها الأسطوري. يمكن تفسير هذه النهاية كخلاص رمزي وتحقيق للذات بالاتحاد مع الطبيعة والأسطورة، بعيداً عن عالم البشر القاسي. وفي الوقت نفسه، هي إقرار مرير بأن العدالة والسعادة في الواقع الذي صورته الرواية أمر مستحيل، وأن الهروب إلى عالم الخيال هو الملاذ الأخير. بذلك، تنجح رواية "امرأة نصفها بحر" في توظيف شكلها الفني (الواقعية السحرية) لخدمة مضمونها النقدي والفلسفي، مقدمةً عملاً أدبياً يترك القارئ في حالة تأمل عميقة حول طبيعة الواقع والخيال، والظلم والخلاص.
***
د. نجلاء نصير