قراءات نقدية
محيي الدين إبراهيم: الذات المزدوجة في سرديات “بيت فرويد

تحليل فرويدي لانشطار الهوية ووهم الوحدة - تفسير وتعليق على مقالة لصباح الأنباري
في قلب كل ذات إنسانية يكمن سؤال وجودي لا ينطفئ: من أنا؟.. سؤال لا يُجاب عليه بالمعطى الظاهري أو بالهوية الاجتماعية، بل بالصراع الصامت بين ما نُظهره وما نكتمه، بين وجوهنا في الضوء وظلالنا في العتمة. وقد كان الفكر الفلسفي منذ سقراط إلى سارتر مشغولًا بمشكلة الهوية والذات، لكن سيغموند فرويد هو من اقتحم هذه الذات ككائن مفكك، يرزح تحت وطأة اللاوعي، والرغبات المكبوتة، والغرائز المطمورة..
وفي زمن تتكاثر فيه التشظيات النفسية والاجتماعية، حيث تتلاشى الحدود بين الواقعي والمتخيل، يأتي الأدب بوصفه المجال الأقدر على تمثيل هذه الانشطارات، لا سيما في أشكال سردية تستبطن ما لا يُقال. ومجموعة “بيت فرويد” لصالح الرزوق ليست سوى مثال بارز على هذا الأدب الذي يكشف – لا يعالج – صدوع النفس، في صورة قصة قصيرة تتماهى مع التجربة الإنسانية في أقصى توتراتها.
* العنوان كمدخل تأويلي
تُفتتح مجموعة “بيت فرويد” لصالح الرزوق بعنوان يشي بمقصدية تحليلية؛ فالبيت ليس مجرد مكان، بل فضاء رمزي داخلي، تحيل جدرانه إلى مكبوتات ساكنيه، وتدل غرفه على حالات ذهنية متقلبة. إضافة “بيت” إلى “فرويد” تضيف بعدًا سايكولوجيًا مباشرًا، حيث يشتغل النص داخل مسكن الذاكرة اللاواعية، ويحوّل الشخصيات إلى كائنات محاصرة في غرف الذات، كما في البناء العميق للنفس حسب نظرية التحليل النفسي.
* النصوص / الرؤى: السرد بوصفه إسقاطًا داخليًا
تتوزع نصوص المجموعة في قسمها الأول تحت اسم “الرؤى”، وهي نصوص قصيرة تنحو إلى الشكل الحلمي التأملي، يطغى عليها الراوي العليم والمونولوج الداخلي. في “الإشارة الأولى”، يظهر صوت الجرس كإشارة ذهنية لبدء الحفر في الداخل، حيث تزرع “شجرة العائلة” في حديقة لا وجود لها إلا في الوعي الافتراضي.
النصوص تُبنى على استحضار الأشياء عبر ذاكرتها الرمزية، لا المادية. هذه الرؤى لا تعيد رسم الواقع بل تفككه في صور ذهنية تقوم على التكرار، والتيه، والمراوحة، بما يعكس عطبًا في البنية الإدراكية للشخصية، ويقود القارئ إلى الانخراط في عملية التأويل.
* النصوص / الخيالات: الذهان السردي ومرايا التخييل
يشكّل قسم “الخيالات” في مجموعة بيت فرويد تحوّلًا جوهريًا في استراتيجية السرد، حيث يغادر النص موقع “المراقبة” الذي اعتمد عليه في الرؤى ليدخل عالمًا أشد تشظيًا، تتحدث فيه الذات عن ذاتها من داخل المعاناة الذهنية لا من خارجها. هنا، لا تعود الشخصية موضوعًا للراوي، بل تصبح هي الراوي، والعالم، والحلم، والمخيلة في آنٍ واحد. هذا الانقلاب في موقع السرد يشكل لحظة فنية ونفسية فاصلة في منطق النص، ويؤسس لما يمكن تسميته بـ”الذهان السردي”.
* ضمير المتكلم والوعي الذهاني
في نصوص الخيالات، يحل ضمير المتكلم محل الراوي الخارجي، ليكشف عن عالم داخلي مكتظ بالتشظيات الإدراكية والتفكك الزمني. فالسارد لا يحكي تجربةً متماسكة، بل يقدّم شذرات من وعي قلق، متردد، يعيد بناء الواقع على نحو هلوسي؛ حيث تفقد الأشياء تماسكها، وتتحوّل اللغة إلى أداة تقويض لا توصيف.
على سبيل المثال، في نص “بالتفصيل”، تبدأ الجملة السردية بالفعل “ترددتُ”، وهو فعل نفسي إدراكي يعكس صراعًا داخليًا لحظة الدخول إلى العالم الخارجي. ثم يتبع ذلك التوصيف: كانت التعليمات أن أسجل عنه كل التفاصيل الممكنة… وتلقيت ذلك برسالة صوتية، وتبعها شيك مصرفي…”
يتحوّل السرد هنا إلى ما يشبه المونولوج الداخلي القسري، حيث تُفقد الحرية السردية لصالح التبعية المراقبة، وينشأ ما يشبه الهلوسة السياسية، إذ تفرض السلطة (أو اللاوعي السلطوي) شروط الحكي كما تفرض المراقبة على الجسد.
هذا النمط من السرد يوازي ما تصفه جوليا كريستيفا بـ”الهذيان النصي”، أي تفكك الخطاب نتيجة تفكك الهوية، حيث تصبح الكتابة نفسها انعكاسًا لحالة ذهنية معطوبة.
* الخيال كآلية دفاع نفسي
في النظرية التحليلية الكلاسيكية، يُعد “الخيال” وسيلة دفاع ضد صدمة الواقع، إذ تلجأ الذات إلى توليد واقع بديل يعوّض عن الفقد، أو الألم، أو القهر، وهو ما يبدو جليًا في نصوص الرزوق. الشخصيات المتكلمة لا تبحث عن الحقيقة، بل تهرب منها إلى فضاء “مُفترض”، تُصاغ فيه التفاصيل بدقة جنونية، كما لو كانت محاولة للسيطرة على واقع منهار.
وتبدو هذه البنية قريبة من مفهوم “الواقعية الذهانية” (psychotic realism) التي درسها ماتيو سبايرز في علاقة السرد بالحالات الفصامية، حيث يُبنى العالم السردي من منظور ذات مصابة بالبارانويا، فتنشأ عن ذلك لغة شديدة الخصوصية، تخترق النظام المرجعي للعالم الخارجي وتعيد صياغته بقلق.
* اللغة بوصفها مرآة داخلية
الخيالات ليست فقط محكيات متوترة، بل تجريب لغوي يمس جوهر اللغة نفسها. فالسرد يتحرك في منطقة وسطى بين التقريري والشعري، وبين الواقعي والمخيالي. تتحول المفردات إلى صور ذهنية، وتخضع الجمل لإيقاع داخلي لا يخضع لمنطق السرد التقليدي. هنا تتجلى وظيفة “اللغة كمرآة”، بالمعنى الذي قصده بول ريكور حين رأى أن اللغة لا تصف الواقع، بل تكشف عن الذات وهي تنكشف.
وهذا ما نلاحظه في نصوص مثل “اجتمعنا”، و”سألتُ”، و”أمسكنا”، حيث لا تُبنى الوقائع على تسلسل منطقي، بل على تداعٍ انفعالي يجعل الحدث انعكاسًا لحالة ذهنية لا واقعة مادية.
* الذات الساردة ككائن منقسم
الخيالات في بيت فرويد لا تحكي عن شخصيات مختلفة، بل هي تنويعات على “شخصية واحدة منقسمة” تمثل امتدادات داخلية لبعضها البعض. وهي بهذا تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ”السرد الذاتي المتشظي”، حيث تُروى القصة من عدة نوافذ نفسية في الجسد ذاته. وتشبه هذه البنية ما وصفه فرويد بـ”الانقسام النفسي للذات”، حين تفقد الأنا وحدتها تحت ضغط المكبوت أو الصدمة.
ومن ثم، فنصوص “الخيالات” في بيت فرويد تمثل قفزة سردية وفنية عميقة في بنيتها، حيث يتحول النص إلى فضاء ذهاني مكتمل الأركان: ذات سردية متوترة، عالم خارجي مُشوش، مخيلة معطوبة، ولغة منشطرة بين المعنى واللا معنى.
بهذا، يتجاوز الرزوق نموذج القصة النفسية إلى ما يمكن تسميته بـ”أدب الاضطراب الداخلي”، الذي يرصد الذهان لا بوصفه مرضًا، بل كإستراتيجية فنية لإعادة بناء الذات والواقع.
* البيت كتمثيل للهو اللاواعي
العنوان نفسه يشير إلى أن البيت (المكان) ليس إلا استعارة لـ”النفس”. حسب غاستون باشلار، البيت هو خريطة داخلية للذات: الطابق السفلي يمثل الهو، والعلوي يمثل الأنا الأعلى، والدرَج هو الطريق بين اللاوعي والوعي -4-
“بيت فرويد” بهذا المعنى ليس فقط مسكنًا، بل مسرحًا داخليًا لآلام الذات وأقنعتها، ومرآة لغرف الوعي المغلقة.
ومما سبق، يمكننا القول أنه ليس في عالمنا ما هو أكثر غموضًا من الذات. إنها لا تُدرك مباشرة، بل تنعكس في المرايا، تُفكك في الأحلام، وتُفصح عن نفسها عبر القناع. وما قام به صالح الرزوق في “بيت فرويد” لا ينتمي إلى حقل الأدب المحلي فحسب، بل يتصل بحركة أدبية-فكرية عالمية تتغذى من منابع التحليل النفسي، والوجودية، والبنيوية، وما بعدها.
تغدو القصة القصيرة هنا مرآة للتمزق الكوني للهوية، حيث يكتب الرزوق عن الإنسان بوصفه ذاتًا تبحث عن نفسها في العتمة، وتواجه أشباحها في بيت لم يُغلق بابه قط.
***
محيي الدين إبراهيم
....................
* المراجع
Lacan, Jacques. Écrits: A Selection. Trans. Alan Sheridan. Routledge, 2001.
Freud, Sigmund. “The Uncanny.” In The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud, Vol. XVII, Hogarth Press, 1955.
Klein, Melanie. The Psycho-Analysis of Children. Hogarth Press, 1932.
Bachelard, Gaston. The Poetics of Space. Beacon Press, 1994.
Ricoeur, Paul. Oneself as Another. University of Chicago Press, 1992.
Kristeva, Julia. Black Sun: Depression and Melancholia. Columbia University Press, 1989.
فرويد، سيغموند. تفسير الأحلام. ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1985.
صالح الرزوق، بيت فرويد. دار مجلة ألف، دمشق، 2011.
صباح الأنباري، “بيت فرويد ومؤثثاته الرزوقية”، مقالة منشورة في صفحة الكاتب.
* Kristeva, Julia. Black Sun: Depression and Melancholia. Columbia University Press, 1989
Spiers, Matthew. “Psychotic Realism in Contemporary Fiction.” Journal of Literary Theory, Vol. 7, No. 2, 2013.
Ricoeur, Paul. Time and Narrative, Vol. 1. University of Chicago Press, 1984.
Freud, Sigmund. The Ego and the Id. Standard Edition, Vol. XIX. London: Hogarth Press, 1961.
* صالح الرزوق، بيت فرويد. دار مجلة ألف، دمشق، 2011.