قراءات نقدية

رزق فرج رزق: جماليات الاغتراب.. الذات المتشظية في "جسر لا يتسع لشخصين"

لأمينة عبد الله

عتبات السيرة: مسيرة قلم لا يهدأ: هي أمينة عبدالله.. امرأة تحمل بين ضلوعها عوالم من حبر وورق، وتنثر في دروب الكلمة عطراً لا يتبدد، كاتبة وشاعرة لم تكن القصيدة لديها مجرد كلمات تُنظم، بل هي جسر تعبر عليه من صمت الوحدة إلى ضجيج الوجود.

من بين رفوف "الثقافة الجديدة" إلى أروقة "سيمو" في باريس، تشق أمينة عبدالله طريقها بقلم لا يعرف التوقف، موظفة في مجلة "الثقافة الجديدة"، وكاتبة حرة في دوريات رصينة كـ"الهلال" و"الأهرام العربي"، وباحثة في مركز دراسات الشرق الأوسط بباريس - وحدة القاهرة، تحولت حياتها إلى فضاء مفتوح بين عوالم الفكر والإبداع.

عضو عامل في اتحاد كتاب مصر، تجلس خلف منضدة الفحص لتقرأ للأخرين ما كتبته الحياة لهم، كما تقرأ لنفسها كل يوم نصوصاً جديدة، امرأة مطلقة، ربما جعلها الطلاق أكثر قرباً من أسرار النفس وأعماقها، فخرجت دواوينها كأنهار لا تنضب: "ألوان رغاوي البيرة الساقعة" بثلاث طبعات، و"بروفة جنرال الدخول الجنة" بطبعتين، و"بنت الشتا" بإصدار المجلس الأعلى للثقافة، وصولاً إلى "جسر لا يتسع لشخصين" الذي يختزل رحلتها مع الكتابة والحياة.

حملت قصيدتها عبر المهرجانات والمؤتمرات الدولية، من مؤتمر الأدب الإفريقي لنادي القلم الدولي 2010، إلى مهرجان طنطا الدولي للشعر، وصولاً إلى خيمة علي بن غذاهم في تونس 2022، والملتقى الثقافي دورة الأمير عبد القادر في الجزائر 2023، سكرتيرة تحرير لمجلات وإصدارات ثقافية عديدة، من "عالم الكتاب" إلى "حكاية مصر"، لم تكن مجرد موظفة بين الأوراق، بل كانت حارسة للكلمة، وقائدة لقوافل المعرفة نحو فضاءات أوسع، تتوجت مسيرتها بتكريمات محلية ودولية، من الجزائر إلى تونس، من العراق إلى مصر، حيث وقفت على منصات التكريم في الهيئة العامة لقصور الثقافة مرات عديدة، وملتقى السينما الأوروبية، وعشرات الجمعيات الأهلية والمنتديات، ظهرت على شاشات فضائيات عربية عديدة، من تونس إلى الجزائر، من القنوات المصرية إلى قناة الحرة، حاملةً صوتها الشعري المختلف، وصورتها كامرأة لا تنتمي إلا للكلمة والحقيقة، هي أمينة عبدالله.. المرأة التي جعلت من حياتها نصاً مفتوحاً، ومن قصيدتها وطناً لا تحده حدود.

القصيدة كجسر متخيّل

لا يقتصر العنوان "جسر لا يتسع لشخصين" على كونه مجرد عتبة نصية، بل هو بيان شعري مكثف يعلن عن رؤية وجودية تتصدر تجربة الديوان، الجسر هنا ليس معبراً مادياً فحسب، بل هو استعارة للعلاقات الإنسانية، للتواصل، للحب، للهوة بين الذات والآخر، بين الريف والمدينة، بين التقاليد والتحرر، وهو جسر "لا يتسع لشخصين"، مما يخلق إحساساً فورياً بالضيق، بالاغتراب، وبالمشقة التي ترافق أي محاولة للالتقاء، هذه المفارقة البصرية والوجدانية – فالجسر مصمم للعبور والوصل، لكنه هنا يرفض الاثنين معاً – تضع القارئ في قلب المعضلة الوجودية للديوان منذ البداية.

المتلقي شاهداً على تشظي الذات

الملاحظة الجمالية الأولى التي يفرضها الديوان على متلقيه هي تفكيك الذات الأنثوية وتمزقها، فالقصائد لا تروي حكاية واحدة، بل تعرض شظايا هوية متعددة الأصوات، انظروا إلى قصيدة "أحب بنصفي الأكبر":

(أكره الصبا / الأوجه التي أعرفها ببيت الأب / ... / الآن / لا أعرف ذلك الشخص المدعو أنا)

هنا تتحول عملية القراءة إلى مراقبة لصراع داخلي، المتلقي لا يقرأ عن ذات متكاملة، بل يشهد على تشظّي "الأنا" إلى كيانات متصارعة: الريفية في مواجهة المدنية، التقليدية في مواجهة المتمردة، هذا التشظي يجبر القارئ على التخلي عن دور المتلقي السلطي، الذي يبحث عن رسالة واضحة، ليصبح شاهداً على عملية الانهيار والبحث عن معنى.

جماليات الهامش: صوت الريف في صلب المدينة

يصنع الديوان جماليته من هامشية مزدوجة: هامشية الريف في المدينة، وهامشية المرأة في مجتمع أبوي، في قصيدة "بيت أبي"، يتحول الأب من رمز للسلطة إلى كائن محاصر:

(أبي ككل أقرانه الريفيين / الطامعين في الخروج من الشقة المشتركة / إلى شقة مستأجرة... / منحنا لبس الفقراء الذي يضمن له عفة المظهر / هذه الحريات المقيدة"

هنا، يصبح التلقي عملية تفكيك للصورة النمطية، الأب ليس طاغية بسيطاً، بل هو ضحية لشروط اجتماعية واقتصادية، جمالية التلقي تكمن في اكتشاف هذا التعقيد، في رؤية "الحريات المقيدة" التي تمنحها السلطة الأبوية، والتي تسهم بدورها في "مسخ" الهوية، القارئ مدعو ليعبر الجسر الضيق ليفهم تناقضات الشخصية، لا ليحكم عليها.

الانزياح اللغوي وصدمة التلقي

يستخدم الديوان الانزياح اللغوي – بوعي أو بلا وعي – كأداة جمالية تخلق صدمة تلقية. الانزياح هنا ليس عيباً، بل هو تعبير عن عدم استقرار العالم الداخلي، انظروا إلى الاستعارة في "مهن يدوية":

(أتصالح تماما مع المهن البدنية / التي حافظت على سر الكتابة)

تحويل "اليد" إلى "مهن" (بدنية) هو تشبيه غير مألوف، المهن/البدنية تصبح فضاءً حميماً يحفظ أسرار الكتابة، هذا الانزياح يوقف القارئ، يربكه قليلاً، ويدفعه لإعادة تخيل العلاقة بين الجسد والإبداع، إنه يخلق جمالية خاصة تعتمد على المفاجأة وإعادة تشكيل الدلالات.

المتلقي كشريك في بناء المعنى: قصيدة "تلك جنتي" نموذجاً

تصل ذروة جماليات التلقي في الديوان عندما تتحول القصيدة إلى حوار مفتوح مع المتلقي ومع التراث، في قصيدة "تلك جنتي"، تقدم الشاعرة رؤية نقدية جريئة للجنة التقليدية:

(أكره الجنة / التي يقف على بابها ....  معلقا في مشكاتها ........ / أعشق النار كخلية نحل تشغي بكل المغردين خارج السرب"

هنا لا يقتصر دور المتلقي على استقبال الصورة، بل يشارك في تفكيك صورة مقدسة في الخيال الجمعي.. جمالية التلقي هنا تكمن في "المقاومة" التي تثيرها القصيدة.. إنها تدعو القارئ إلى تحدي الصور النمطية عن الثواب والعقاب، والتفكير فيما تكون للعلماء والشعراء "الراقصات وصانعي الأفلام"، القارئ يصبح شريكاً في هذا التمرّد الفكري والجمالي.

الجسد كفضاء للتلقي الوجداني

يتحول الجسد في الديوان إلى وسيط رئيسي للتلقي، القصائد مليئة بالإحالات الجسدية: "جسدي يستوعينا معا"، "أرفع بنطالي كثيراً وأحفظ حذائي"، "كفك يشبه في الأثر كف مريم"، هذه الصور تجعل التجربة الوجدانية ملموسة، المتلقي لا يفهم العلاقة فكرياً فحسب، بل يشعر بها جسدياً من خلال اللغة، جمالية التلقي هنا حسية في المقام الأول؛ إنها تعتمد على قدرة القارئ على تحويل الكلمات إلى أحاسيس ومشاعر متخيلة.

التلقي كعبور على جسر ضيق

"جسر لا يتسع لشخصين" هو ديوان يرفض التلقي السلبي، إنه يبني جماليته على مشاركة القارئ الفاعلة في تشكيل المعنى، على تفكيك الذات، وعلى تحدي الثوابت اللغوية والاجتماعية، المتلقي مدعو لعبور هذا الجسر الضيق مع الشاعرة، حاملاً معه تناقضاته هو نفسه، إنها رحلة وعرة، مليئة بالشظايا والانزياحات والصور الصادمة، لكنها في النهاية تخلق تجربة تلقي فريدة، حيث يصبح فهم النص مساوياً لفهم تناقضات الذات الإنسانية المعاصرة في شرق يبحث عن جسوره المفقودة.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

في المثقف اليوم