قراءات نقدية
مثنى كاظم صادق: عند منتصف الهذيان.. قراءة في نصوص علي اللبيب الشعرية
يحيل عنوان المجموعة الشعرية (عند منتصف الهذيان)(1) للشاعر علي اللبيب، إلى بنية ظرفية مكانية، تنفتح على نقطة التقسيم بين طرفين متساويين وهو المنتصف، والهذيان هو اضطراب يصيب الوعي؛ لأسباب كامنة في النفس، ويسبب الخروج عن المنطق والمألوف.. والعنوان ببنيته الظرفية هذه بوصفه فضاءً، وبنيةً قائمةً تعتلي هذه القصائد لتشتبك معها وتقتنص اللحظة الشعرية المناسبة غير المرئية بل المحسوسة.. (إن حبك يُوَلِّدُ في داخلي الكآبة / فلا تضجري / ولا تهربي / فأخيراً قد عرفتُ / أن حبك قد علمني الكتابة) فحضور الآخر طاغٍ في النص المؤكد بحرف التوكيد(إنَّ) ضمن تقنية التوازي الشعري المكرر (إن حبك يُوَلِّدُ في داخلي الكآبة / إن حبك قد علمني الكتابة) وقد ورد الجناس غير التام (الكآبة / الكتابة) كطفلين توأمين لهذا الحب.. ويقف الشاعر عن المنتصف لهذيانات حبه كي يحقق التوازن بين المألوف وغير المألوف إذ إن نقطة المنتصف دائماً توحي بالوسطية والاتزان في عالم شفاف كعالم الحب، وما يعتريه من هواجس قلق وشغف وخوف (أنا خائفة يا صديقي / ليس من الضياع / بل ما بعد ضياعي / الصمت يحرق أحلامي / الصبر يحرق أيامي / كما يحترق الدمع) فالضمير الذاتي للمتكلم (أنا) يؤكد خصوصية هذه الخوف، بل من الاستلاب الذي يكمن ما بعد الضياع، يشتغل الشاعر على الصورة الفنية بتوظيف استعاري جميل؛ إذا جعل من الصمت والصبر مادتي للإحراق حرق الأحلام والأيام..
وبهذا خلق نوعاً من التأثيرية الذهنية اليائسة.. فالإنسان المحروق الأحلام والأيام هو إنسان محطم وضائع.. يرسم لنا الشاعر حبيبته من خلال التشبيه والثنائيات الضدية (الطباق) كي يعطينا شدة الوله والوجد الصوفي (حبيبتي كالبحرِ في أفعالها / فمرةً معي ومرةً ضدي / ومرةً تضحكُ ومرةً تبكي / لكنني أحبها) فالشاعر بين مد وجزر معها وفي حالة حيرة من عدم استقرار حالتها معه.. فهو في حالة تأرجح معها وعلى الرغم من ذلك (لكنني أحبها) وتجدر الإشارة هنا أن توظيف حرف الاستدراك (لكن)
يؤكد استقراره على حبها على الرغم من حالة عدم استقرارها معه؛ وإن الأداة لكن كما هو معروف تفيد الاستدراك وإثبات حكم مخالف لما قبلها..
استعمل الشاعر كما أسلفنا في نصوصه الشعرية صوراً حسيةً ومعنويةً ورمزية وتناصية ومن الصور الرمزية التي تتجه صوب التصوف وخصوصية التجربة الشعرية عنده وتعطي شدة الإيحاء لعالمه الشفاف وإشراقه الروحي قوله (أتأملُ عينيك / فتطول رحلتي) فالجملة فيها طاقة تعبيرية كبيرة، فالـتأمل فعل يلازم طول الرحلة، لكن لا يهم طول الرحلة وعدم نهايتها، أمام العينين الجميلتين !!.. فهو هائم في متاهة هذيانه حتى لو كانت الرحلة طويلة.. أما التناص فقد جاء يعزف على أوتار الروح وبوحها (ووجهٌ مثلُ روما / كل الوجوه تؤدي إليهِ / سلامٌ من الله عليهِ) فالتناص واضح مع المثل المشهور كل الطرق تؤدي إلى روما.. فالوجه في الشعر هو هوية الإنسان التي تعكس مشاعره وجماله ومرآة للشخصية والروح فهو وسيلة للتواصل البصري والقلبي غير اللفظي.. فالشاعر في حالة بهجة وفرح لهذا الوجه الجميل، فهو يثني عليه ويدعو له بالسلامة.. الشاعر علي اللبيب لا يرهق قارئه بطول النص، فهو يجيد استعمال نبرة الكلمة وموسيقى الجملة
***
د. مثنى كاظم صادق
.........................
(1) عند منتصف الهذيان، نصوص شعرية، علي اللبيب، مؤسسة ثائر العصامي ط1 ـــــــــ 2016م.






