قراءات نقدية

عبد الله المتقي: شواغل الحكي القصصي في "أنا والقاتلة وظلالنا" لحفيظة قارة بيبان

"التلميح ظل التصريح ".. د. حنان فاروق

أشير بداء إلى أن القصة القصيرة التونسية شهدت تراكما كميا في السنوات الأخيرة، واهتماما نقديا، وانعقاد توقيعات وندوات حولها، وتنظيم مسابقات، وتخصيص المجلات والملاحق الثقافية صفحاتها لنشرها بقصد تداولها، ولا ننسى مساهمة الإذاعة الثقافية والإذاعات الجهوية، ونادي القصة أقدم وأعرق النوادي الأدبية بمدينة تونس العاصمة حيث تأسس في منتصف الستينات (أكتوبر 1964 )، ومجلته " قصص" التي بدأ النادي بإصدارها منذ 1966.

"ولا غرو، فالقصة القصيرة هي ذلك الجنس العابر لكل الأجناس الأدبية، الراشف من رحيقها، والمقطر لها فيما يشبه الكبسولة الإبداعية، يضاف إلى هذا أن إيقاع عصرنا المتسارع اللاهث، المعقد المفتت، يجد ضالته ومبتغاه في شكل القصة القصيرة1".

وواضح هذا الاهتمام التونسي الدؤوب بالقصة القصيرة في المشهد الثقافي التونسي، الذي أنتج تجارب نوعية وكيفية، وتخوما جديدة، وتحولا في الموضوعات والأساليب، وأشكال الحياة التي يمور بها المجتمع، ونستحضر هنا على سبيل المثال: سفيان رجب، نبيل قديش، وليد الفرشيشي، طارق الشيباني، حسن مرزوقي، رضا بن صالح، محمد فطومي، ولن يسقط منا سهوا مساهمة المرأة في الرقي بهذه الكتابة، واجتذاب أشكال تعبيرية تغذي المتخيل القصصي، ف" منذ القديم ارتبط الحكي بتاء التأنيث، ومن شفاه المرأة تقطرت أبجدية الحكي الأولى، وما تفتأ ذاكرتنا مسكونة بحكي الأمهات والجدات، وما تفتأ ذاكرة التاريخ مسكونة ومفتونة بحكي سيدة الحكي شهرزاد، في لياليها البهية الخالدة مع الأيام "2.

 ومن الأسماء القصصية بصيغة المؤنث نستدعي، آمنة الرميلي، بلقيس خليف، حياة الرايس، نورة عبيد، نافلة الذهب، آمال مختار، مسعودة أبوبكر وقارة بيبان التي صدر لها عن دار نقوش عربية مدونتها القصصية " أنا القاتلة وظلالها" 2025، وتشتمل على القصصية جاءت كالتالي:

القاتلة، الجريمة، تلك الخطى، امرأة الصباح، رخام، نجوى تهوي، البوابة، بئرنا، -القصة، يوميات حلا، وجدتها، كنعان يفتح النافذة، الحاجز الأخير، صور.

فما الذي تفشي به العتبات النصية هذه الباقة من شواغل قصصية؟

العتبات النصية هي كل ما يحيط بالنص من عنوان خارجي، وعنوان داخلي، ومئقدمات، وهوامش، وإهداء، وصورة الغلاف، واسم المؤلف، إلى غير ذلك، وقد أطلق عليها جيرار جينيت النصوص الموازية، ولواحق النص، وكل ما يهتم بما يحيط بالنص، فهي " أول لقاء مادي ومحسوس بين الكتاب والقارئ الذي تراهن استراتيجية الكتابة على حسه وحدسه الإبداعيين اللذين يشفان عن أفعال قرائية تتعامل إيجابا مع هذه العتبات "3، و كل ما وجد فيه المتلقي ممرا إلى دلالة النص ومقاصده وفك مضمراته، ذلك أن العلاقة بين بين النص ولواحقه، هي علاقة اتصال، وليست علاقة انفصال، ومن هنا يمكن اعتبارها " قراءة أولى محفزة ومثيرة لشهية القارئ، فالقارئ يواجه الكتاب عادة وهو معروض على رفوف المكتبات أو واجهتها، متقدما إليه من خلال غلافه وما يتوفر عليه من " عناصر إشهارية تعلن عن " بضاعته الداخلية " التي تنطوي عليها الصفحات4"

وفي هذا المجال سنركز في تحليل النص الموازي ضمن قراءتنا ل"أنا القاتلة وظلالنا " على العناصر التالية: العنوان، اسم المؤلف، المؤشر الأجناسي، صورة الغلاف.

1-عتبة العنوان

يعتبر العنوان من أهم عتبات النص، ولذلك فهو " هوية الكتاب، واسمه الذي لا يعرف بشيء سواه، ذلك أنه قبل النص يوجد العنوان، وبعده يبقى، فهو في الأخير كلي الحضور ومطلق السيادة" 5. وسيرا على هذا المنوال، ورد عنوان هذه المجموعة القصصية " أنا القاتلة وظلالنا؟، جملة اسمية دالة على ثبوت فعل القتل كحدث واقع بالفعل، وليس غريبا أن تجد الظلال بحكم اقترانها بالغموض والموت والحياة. فابن منظور أورد في لسان عربه أن الناس يقولون للرجل إذا مات: (ضحا ظله) إذا صار شمسا.. وإذا صار شمسا فقد بطل صاحبه ومات.

هكذا يتخذ العنوان دلالة الإرهاص بتوقع حدث مرتقب يحمل عنصر القتل والمو، وإذا تتبعنا هذين العنصرين نقرأ من قصة ""القاتلة:

- "قررت أن أقتله " ص 9

- "سأقتله" ص 9

" مع ذلك سأقتله " ص 10

2- المؤشر الأجناسي

يعد المؤشر الأجناسي موجها قرائيا، يعلن عن الجنس الذي تنتمي إليه المجموعة، وعلى هذا الأساس يمكن اعتبارها عملا سرديا ينتمي الى الكتابة القصصية، مما يدفعنا إلى تحديد مفهوم القصة جنسا أدبيا نثريا يعتمد السرد والحكي، و " الكبسولة الأدبية التي تسمى القصة القصيرة، هذه الكذبة المتفق عليها بين القاص والمتلقي، حد تعبير تشيخوف، أضحت إحدى العلامات الثقافية لعصرنا، وأحد " الردارات الأدبية قدرة على التقاط إيقاعات وذبذبات العصر وتسقط أدق خوالج النفس البشرية "6

3- صورة الغلاف

يتكون غلاف المجموعة القصصية من لوحة تشكيلية تعكس امرأة بملامح ضبابية وغامضة، وتساهم دلالة اللون في نقل الأبعاد المضمرة في نفسيتها، فاللون الأسود هنا يرتبط بالموت والنهايات، كذلك اللون الأحمر يحمل سمة القتل المصبوغ بالدم.

فالصورة إذن نص أيقوني مشحون بكثافة الدلالات، تساهم في بناء معنى العنوان، وتتحاور معه ليختزلا معا ثقافة الموت والقتل، ذلك لأن " الأشياء التي ترى وتدرك بالعين، أي كل ما يشتغل باعتباره علامة أيقونية، لا ينظر إليها في حرفيتها، بل من خلال انضوائها داحل هذا النسق أو ذك" 7

4- اسم المؤلف-*

إن تموقع اسم القاصة " بنت البحر حفيظة قارة بيان" أسفل العنوان الرئيسي، يعرف بصانعة المحتوى، ويمنح الأحقية القانونية للمجموعة حتى لا توسم باللقيطة، والمساهمة في فهم النص وتأويله بشكل أعمق، ف" النظام القولي لا يكتسب نصيته من بنيته الداخلية فحسب، بل يتدخل فيها كذلك منتجه ليضيء بدوره النص".8

وعليه، لا بد من التوقف عند هذه العتبة الجوهرية، وأخذ نبذة مقتضبة عن السيرة الإبداعية لحفيظة قارة بيبان، الإبداعية، فهي من مواليد بمدينة بنزرت، نشأت منذ الطفولة على حب الأدب وعشق الفن. كتبت القصة والمقالة والرواية. انضمت إلى نادي القصة (تونس) منذ أواخر السبعينات وعضو في رابطة الكتاب الأحرار، أدرجت بعض نصوصها في برامج التعليم التونسية. ساهمت في لجان تحكيم لمسابقات أدبية، وترجمت بعض قصصها إلى الفرنسية، الأنجليزية، الإيطالية والصينية.

تكون قارة مبدعة رائعة، ووشم في ذاكرة المشهد الثقافي الإبداعي التونسي، رسخت وأثبتت أنها قارة لوحدها، وبحر من الإبداع.

في شواغل القصة

"شواغل القصة " نعني اهتمامات أو قضايا محورية تتعلق بالكتابة القصصية، وتشمل الموضوعات والمنظومة الجمالية التي تستوجب إنتاج تطريز قصصي بنسج جدلية متلاحقة بين الواقعي والخيالي، بين الحلمي والملموس، بين العقلي واللاعقلي، فضلا عن استثمار تقنيات جديدة.

ومن شواغل الموضوعات القصصية المهيمنة في هذه الباقة القصصية التي اختارت لها الكاتبة "أنا القاتلة وظلالنا " عنوانا، ترصدنا ما يلي:

- الحب

فى ثقافتنا العربية تبوأ جنسان أدبيان مقدمة الفنون فى التعبير عن الحب، الشعر والسرد لأنهما " ظاهرة كونية، وغريزة أساسية مثل الخوف والغضب والفرح" على حد تعبير صبحى درويش، فضلا على أنه تقنية تلعب دورها في إنتاج النص وجمالياته، والكشف عن طبيعة النفس الإنسانية، حتى أن الملسوعين به تفننوا في تسميته، فهو الفردوس، وجنة الحياة على الأرض، بيد أن الملفت في قصص المجموعة "، جاء مقترنا بالغياب والاستشهاد.

هكذا يبدو للوهلة الأولى في قصة " تلك الخطى " التي تحكي عن مصادفة الساردة لعشيقها في قاعة للمحاضرات بعد الغياب، ليستيقظ بداخلها الماضي، واللحظات السعيدة والملتزمة، لكن الخصيصة التي يلحظها القارئ بعد القراءة الفاحصة، هي كبرياء الساردة:

-  " مازال إحساسي به بجانبي وأنا أتقدمه بخطوتين أو ثلاث، مكابر هواي صمته " ص 25

- " يعلقني كبريائي في أشفار السماء " ص 2

خصيصة تجعل الحب ينفلت من معناه التقليدي الذي ترسخ في أذهان الناس عن الحب، حيث يبدو العاشق مجنونا يعاني من لسعات الحب، ويدمن البكاء والعزلة، فالساردة اخترقت هذا التقليد و ظلت خاضعة لتقلباتها وحرقة ماضيها الغرامي، ولكبريائها أيضا.

وفي قصة " الحاجز الأخير " يرتبط الحب الأمومي بالشهادة والاستشهاد، أم في انتظار استقبال ابنها الذي تم تسريحه بعد عشرين سنة من الاعتقال:" هو ذا أخيرا، بعد عشرين سنة، لم يكتمل ربيعه الثامن عشر حين اعتقلوه" ص 99، وبلهفة حارقة:" بعد حين سيجتاز الحاجز الأخير، ويرتمي في الأحضان، ستضمنه بشوق كل سنين الوحدة والحرمان، معا سيعودان، يده على خصرها، ويدها في يده " ص 96.

 لكن تشاء غطرسة العدو أن لا يتجاوز الحاجز الأخير، ليكون استشهاده بطريقة تنم عن السادية " ترك أحدهم قبضة شعره، وامتدت يده إلى قارورة صفراء، رفعها سريعا عاليا، صبها في الفم الذي شده مفتوحا، أمام العينين الصاختين، اقتربت ولاعة لتشعل النار ي فمه، اقتربت الولاعة أكثر، بينما كانوا يضحكون بشماتة كالحة " ص 101، وهكذا ينطفئ الحب ويتلاشى، بعد أن كان ملتهبا ومكتظا بالشوق، لكنه يبقى في النهاية شهادة إثبات على عنجهية المحتل، المفرطة في عماها واستهتارها بالمواثيق العالمية واحتقارها وتعذيبها المادي والمعنوي في حق الشعب الفلسطيني.

وفي مقابل هذه الكثرة الكاثرة من حيونة المغتصب، ثمة ضمائر حية لا بد من استدعائها واحتسابها، فضمن قصة " كنعان يفتح النافذة " التي تدور حكائيا حول استقبال باخرة منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها بميناء " بنزرت " بعد الحصار الإسرائيلي لبيروت في بدايات الثمانينيات، وتقديم الإسعافات للمصابين:" شباب بلباس موحد داكن، على سطح الباخرة، وبعض الأيادي ترتفع تحيي المستقبلين، مدرج معدني ينفتح على باب صغير واطئ، جنب الباخرة وجموع الشباب، تنزل إلى رصيف الميناء، محامل جرحى يحملها شباب الهلال الأحمر تتقدم من سارات الإسعاف " ص 88.

ونقرأ أيضا " باخرة كبيرة رصاصية اللون تحت شمس طالعة تقتحم أفق البحر الصباحي البراق " جماهير حاشدة على أرصفة الميناء وفي شرفات المباني والسطوح " ص88

مما يعني حضور ثقافة التضامن الرمزي والمادي مع الثورة الفلسطينية، فحتى وجدان الطفولة احتضن القضية:" كنت هناك في ذلك الصباح البعيد في بهو الميناء الرحيب طفلة تسائل الصور والوجوهوتترقب مجيء الضيوف الذين ركبوا منذ ثلاثة عقود تلك الباخرة، باخرة التهجير، إلى الملجإ الجديد"ص 88

وبعبارة ثانية، أمام هذه الخيانة للقضية، وأمام هذا الداء الفلسطيني، لا يظل هناك من أفق سوى الكرامة وحضور المبادرة، إذ لا بد للتاريخ أن ينصف القضايا العادلة، حتى وإن بقي عرق واحد ينبض تقول الساردة " هناك على الشرفة الخالية ظل العلم مرفوعا، يتطاير تحت ضوء بعيد باهت، يصارع وحيدا الريح والعاصفة " ص 93

- الطفولة

تبدو صور الطفل في الأدب، العربي والعالمي، كأنها تتشكل في مساحة شاسعة من النصوص وعبر مستويات ثقافية مختلفة. لا تكاد معظم الروايات تخلو من شخصية الطفل، ذلك لأن الطفولة تجربة كونية، ومرحلة يتشاركها كل البشر.

 ولما كانت الطفولة تمثل المرحلة الأولى من مراحل حياة الإنسان،.فهي تعني مستقبل الأمة وأملها، فضلا عن أنها تعرف بالبراءة، والصفاء والجمال الملائكي، وإذا تأملنا هذه المعاني بدقة، سنجد أن مفهوم الطفولة الفلسطينية ينحاز عن هذه المواصفات إلى النقيض، حيث نقف اليوم أمام جموع الأطفال الذين يفتقرون إلى أدنى حد من المواصفات الإنسانية التي تنصهر في بوتقة القتل والفقر، واليتم، والاعتقال، والتشريد، والبحث عن أهوال الحصول على بيت، أو مدرسة، أومأوى، أو رغيف خبز، أو أسرة.

“ - ارتج البيت حولنا، 2واساقط الزجاج مكسورا من النوافذ، القصف جد قريب، طرنا إلى حضن أمي، فتحت ستي ذ

- الحرب

 الحديث عن الحرب في قصص المجموعة ينطوي على اعتراف ضمني بأنها نصوص متطورة، تؤثر في البيئة المحيطة وتتأثر بها، وليست مجرد مجموعة من التراكيب وأبنية قائمة على الفراغ، بل تعرية لمثالب ما يقع، والكشف عن المساوئ والقبح، تعرية توازي الواقع الذي أصبحت فيه الحروب خردة.

وعليه، اختارت القاصة ضحايا هذه الحرب من الأطفال والفتيان، في قصة " كنعان يطل من النافذة"، بسبب الحرب يختفي الفتى " كنعان " الفلسطيني من وسائل التواصل الاجتماعي بعد اتمامه لدراسته بتونس وعودته إلى الأرضي المحتلة،:" اختفى كنعان.. . ينتظر لحظة الانبتاق من جديد، من صور الذكرى، من رفرفرة العلم على شرفتي من حرائق النيران تشعل المدينة المحاصرة، تعلو، تشعل الشاشات والعالم، تلهلب في حضني الحاسوب، وتحرق في كفي الهاتف " ص 91.

أما قصة " يوميات حلا "، فتترجم الحرب الاستشهاد والشهادة، استشهاد الطفلة والفنانة التشكيلية الواعدة " حلا "، وتترجم الشهادة يومياتها التي بقيت بعد القصف.

 ولكن هذه الصور التي اختارتها القاصة لحال الحرب في قسوتها، وفي تأثيرها تبقى شهادة لهذا الداء الفلسطيني الذي عانت منه الطفولة سنوات طويلة، وترجمة لما تفعله الحرب فينا وبنا، ولا تستثني حتى الطفولة.

وإلى جانب هذا من الشواغل الموضوعاتية، تتضمن قصص المجموعة جملة شواغل تقنية وفنية، يمكن إجمالها في الميتاقصة، الانزياح، والبياض والسواد.

- *المياتقص

يعد الميتاقص شكلا من أشكال التجريب، وتقنية ما بعد حداثية أفرزتها روح العصر، التجأ إليها الكتاب بقصد تطعيم نصوصهم السردية بجمالية جديدة، وارتياد أفق التجريب والتمرد على القوالب السردية التقليدية والمعايير الكلاسيكية المألوفة، ومن بين هذه الطرائق في إبداع النص القصصي، تقنية الميتاقص التي بدأت تأخذ لها حيزا لا فتا في الكتابة الروائية والقصصية "الميتاقص" (metafiction) مصطلح عالمي، ظهر في الغرب، وقد أخذ يتداول في العالم العربي وصار له منظروه.

وما يمكن تسجيله في هذا الصدد أن حضوره ملفت في القصص التالية " أنا القالة، الجريمة، امرأة الصباح، بئرنا، القصة، يوميات حلا، وجدتها، صور"، إذ نسجل رصدها لعوالم الكتابة، وشرح تكونها وتركيبها وتبلورها جماليا وفنيا ورؤيويا.

في قصة " أنا القارئة "، علاقة فريدة تربط الكاتبة مع بطل قصتها وتماهي الساردة معه، وتجد نفسها حاضرة بدرجة ما بما تحمله من أوصاف وجينات حقيقية، واستدعائها من المتخيل إلى العالم الحقيقي كي تلازمها إلى حد التفكير في قتله في النهاية، لكنها تظل تحتمي بغلالة فنية جمالية " ولكن حكايتي معه لا بد أن تنتهيفما عاد الهدوء والرضا ممكنا، لا بد أن تنتهي مع عصف هذا الصيف المحتضر هكذا قررت، علي قبل كل شيء، أن أتدبر وسيلة قتل لا تخيب " ص 10

لكن الأمر لا يسير كما تتمنى الساردة، بل تقف مكتوفة الأيدي، وهي ترى غرق شخصيتها تتحرك خارج مخخطها السردي " كانت الجريمة تسبح في الماء – فوق مكتبي وبطلي، " الرجل القتيل القادم " الذي تركته حانقا ينتظرني يجرفه ماء فياضانات الأرض الغاضبة بين الأوراق التي بعثرتها الريح العاصفة " ص 12، مما يؤكد. في المقابل أن للكاتب معاناته في الكتابة، والاحتيال على المتلقي واللعب معه فضلا عن جنونه الذي يحوّل الواقع إلى مادة تخييلية، أكثر إدهاشاً وتأثيراً، بكتابة قصة في قصة، تجعل من الكتابة والقص موضوعا لها داخل العمل القصصي، نص قصصي يشمل نصا نقديا هو جوهر العملية الميتاقصية.

الانزياح القصص

النص الأدبي على الدوام يروم تحقيق هويته من خلال الشذوذ والاختلاف والانحراف -عن الخطاب المألوف، ويدخل ضمن هذا المستوى من الانزياح الذي عدّه فاليري تجاوزا، واعتبره بارت فضيحة، ورآه تودوروف شذودا، ووسمه أراغون جنونا وانحرافا.

وعي القاصة باختلاف ممارستها النصية عن ممارسة سابقيها دفع بها إلى تشكيل نصها وفق منظر مغاير أصبع معه النص عبارة عن عدة مقاطع، ويشكل كل مقطع منها مرحلة من مراحل التركيب الكامل للنص القصصي، والمقطع، حسب هذا التطور البنائي، تكثيف لطاقة شعورية أو فكرية مندمجا في ذلك، مع المقاطع الأخرى، لتكون جميعها عالما قصصيا متوازنا ومتكاملا.

فالقاصة، حين عمدت إلى تركيب بعض من نصوصها القصصية من مقاطع متعددة فكي تقيم وحدة عضوية باطنية للنص القصصي حيث تتجانس التجربة النفسية بصيغة تميزها عن التجربة النصية القديمة*، التي لا يخضع فيها التركيب الداخلي للنص للتجربة النفسية المؤطرة له.

ويمكن أن نبرهن عن أنماط هذا الخرق لقوانين الربط من خلال النص ذو المقاطع المفصولة بنجيمات كما في قصة " رخام "، أو من خلال النص ذو المقاطع المعنونة كما في قصة " صور "، واللافت في قراءة القصتين، اشتراكها في خاصية الانزياح التركيبي، بصيغ تختلف من نص إلى آخر، إذا أقدمت القاصة على تحطيم الربط بين المقاطع داخل النصين، محطمة بذلك الربط السطحي بين المقاطع.

وفي نفس سياق شعرية الانحراف الجمالي تعمد القاصة إلى التلاعب بالأصوات ، نقرأ للساردة:

" صبوا في فمه ساخرين.. البنزين.. تطايرت النار من الفاه والحشا.. لم تمنع النار صرخته العالية الصاعدة من اللهيب، رااااااااجع يماااااااا.. راااااجع يماااا.. "

 تمديد للصوت " ا" زمنيا ومكانيا، زمنيا بإطالة التصويت في المكونين اللغويين ” راجع و يما ”، ومكانيا باحتلاله لمسافة فضائية دلالة على تحدي الموت والتشبث بالحياة، وإفساح المجال للشهيد للتعبير عن مواقفه واختياراته ومشاعره.

خطابات التفاعل النصي والتعدد اللغوي

يعد التفاعل النصيّ نظرية حديثة في مجال النقد، و يعني أن أي نص أدبي ليس كتلة مستقلة بذاتها، بل هو نتاج لتفاعل مع نصوص سابقة أو معاصرة، و علاقة حوارية بين النصوص، لإنتاج نص آخر مما يدل على القدرة الفائقة على استيعاب المعاني من مصادر مختلفة، و ينمّ عن الخلفية الثقافية للكاتبة.

واستنادا، على ماسبق تستضيف " أنا القاتلة وظلالنا " مجموعة من الخطابات والأشكال التعبيرية -جاءت كما يلي:

- اليوميات

اليوميات فن عريق وكوني تدون فيها الأحداث التي تترك أثراً فينا أو في محيطنا يدونها الشخص المعني، لذا فهي عبارة عن سيرة ذاتية يومية، وبهذا المعنى، تستضيف قصة " يوميات حلا "، الفنانة التشكيلية الواعد قبل قصف الطائرات وبعدها.

وبقراءة فاحصة لهذه اليوميات، يتبدى لنا القصف الجوي للأراضي الفلسطينية من قبل القوات الجوية الفلسطينية، وما تخلفه من تدمير للمستشفيات وضحايا تحت الأنقاض، نقرأ من يومية حلا المؤرخة ب14 أكتوبر 2023” النار تشتعل في المستشفى -، هناك أخي باسل، صرخت وهي تلتفت إلى النافذة المكسورة، بدا جبل من الدخان الأسود الكثيف يطلع من النار من هناك “ ص 75

الأغنية- الشعر

تلتقط قصة " صور " بشكل صريح أغنية صباح فخر " ابعث لي جواب"، كلمات حسام الدين الخطيب:

" ابعث لي جواب وطمني

ولو أنه عتاب لا تحرمني

ابعث لي جواب

ابعث لي جواب

ابعث لي جواب" ص110

وهكذا يستجلب الحكي الأغنية – الشعر، وهذا يقرب النص القصصي من لغة الشعر، ويمنح الحكي بعدا وجدانيا وإيحائيا، مما يزيد من متعة النسيج السردي، ومن ثم تحفيز المتلقي وتصيده للتفاعل مع هذا التركيب اللعبي الذي تتغياه الكاتبة.

- شعرنة السرد

إالحامل المميز في هذه المجموعة فهو "شعرنة" السرد، في سياق عملية تجريبية مرجعيتها النظرية تداخل الأجناس، حيث يستضيف القاصة في مجموعتها "لغة الشعر"، مما رتابة الحكي، ونورد بعضا من نماذج هذه الشعرنة من قصة " " كالتالي:

" انتظرت، وخطاي تنساب على الطريق، بينما كانت خطاه غير بعيدة، تسير خلفي يدوس صداها الصمت القلق المتردد يفصل بيننا " ص 23

بدت سترته الزرقاء النيلية قريبة دافئة، مؤنسة بلونها الذي أحب، ظلت الزرقة الحانية تسير قربي، تصاحب خطوي، تتابع خطوي، تصاحب الصمت الضاج بيننا، صمت غريبين بعيدين أخذهما طريق مجهول " ص 23

إن المتأمل لهذين النموذجين يقف على استخدام القاصة خاصية من خصائص لغة الشعر في السرد، وما يمكن أن يطلق عليه "شعرنة" السرد، وهي ظاهرة تأتي في سياق عملية تجريبية مرجعيتها النظرية تداخل الأجناس، وإذا ما لمسنا التراكيب التالية:

- " بينما كانت خطاه غير بعيدة، تسير خلفي يدوس صداها الصمت القلق المتردد يفصل بيننا” ص

- " ظلت الزرقة الحانية تسير قربي، تصاحب خطوي"ص24

تبدى لنا انحراف التعبير عن الدلالة الوضعية، أو ما يسميه " كوهين" بالمنافرة الدلالية، إذ لا يمكن للخطوات أن تدوس الصمت، ولا يمكن للزرقة أن تسير، وتصاحب الخطوات، مما يساهم في التوهج الشعري للمحكي السردي وتكسير رتابته، وهي ميزة وخاصية تتسرب في مجموع سرديات " حفيظة بيبان " قصة ورواية

- لعبة البياض والسواد

المقبل على قصص " أنا القاتلة وظلالنا " يثير انتباهه التوظيف المكثف للعبة البياض والسواد، أو الصمت والكلام، فهو اعتناء لافت " بما تختزله من إيقاع جسدي يحرك النص، ينقله من جموده لحيويته، من جسد ميت لجسد حي " 9

تتردد نقاط الاسترسال وتغطي مساحات كبيرة في المجموعة، وتحضر منذ القصة الأولى، تقول الساردة:" مشيت.. مشيت.. يسير بي شجن شفاف، وانتظار ما خافت، ششبه يائس.. انتظار أن يأتيني صوته، يدعوني، أن يقول كلمة واحدة توقف خطواتي الماضية.. نحو المجهول.

كان خلفي، على بعد خطوات.. كأنه يتبعني.. بل يتعني.. " ص 23

ما يميز هذا المقطع هو اتخاذهشكل التداعي الناتج عن إصابة الساردة بحالة التمزق العاطفي، والصراعات والتشتت الوجداني، ويدل على الواقع النفسي المتفكك الذي تعاني منه جراء إسدال الستار عن تجربة عاطفية عاشت لحظات سعيدة في الماضي.

وتبعا لذلك، لم تكن نقاط الاسترسال اعتباطية" وفعلا بريئا أو عملا محايدا، أو فضاء مفروضا على النص من الخارج، بقدر ما هو عمل واع، ومظهر من مظاهر الإبداعية وسبب لوجود النص وحياته " 10

على سبيل الخاتمة

مجمل القول، " أنا القاتلة وظلالنا " تجربة قصصية جديدة، تنضاف إلى عناوين المبدعة حفيظة قارة بييان، وإلى سجل القصة القصيرة بتاء التأنيث في تونس، ولا أحد يشك في أنها تجربة غزيرة، حاضرة ومستمرة، وبعبارة محددة وشفافة، هي قارة وبحر، اسمان على مسمى كما أسلفنا.

***

عبد الله المتقي

.........................

إحالات

1-  نجيب العوفي، كأن الحياة قصة قصيرة، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، 206، ص 21

2- نجيب العوفي، نفس المرجع، ص 234

3- د. عبدالمالك أشهبون، قضايا الرواية المغربية المعاصرة البدايات والتحولات والامتدادات، دار فضاءات للنشر والتوزيع، 2025، ص99*

4- محمد فري ومحمد أحميد، ، لعبة النسيان لمحمد برادة، نشر أنتير كراف، ط1، 1999، ص6

5- عبدالمالك أشهبون، نفس المرجع، ص99

6- نجيب العوفي، نفس المرجع، ص 44

7- سعيد بنكراد، النص السردي: نحو سيميائيات للإيديولوجيا، دار الأمان، ط1، 1999ـص 17

8- أحمد فرشوخ، جمالية النص الروائي مقاربة تحليلية لرواية “ لعبة النسيان “، دار الأمان للنشر والتوزيع، 1996، ص 36

9- محمد بنيس، الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاته، ج 3، دار توبقال، ط1، 1999، ص112

10- رضا بن حميد، الخطاب الشعري الحديث من اللغوي إلى التشكيل البصري، مجلة الحياة الثقافية، عدد 69-70، 1995، ص16

 

في المثقف اليوم