قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية موسّعة لقصيدة الشاعرة التونسية سلوى السّوسي

«حين يضيء الطين»

في فضاء الشعر الحديث، تتجلى النصوص النثرية بوصفها حقلًا خصبًا للتجريب اللغوي والفكري، حيث تتلاقى البلاغة بالمعنى، وتتصادم اللغة مع الوجود، لتنتج صورًا جمالية تحمل أبعادًا نفسية وفلسفية واجتماعية. ومن بين هذه النصوص، تبرز قصيدة سلوى السوسي التونسية بعنوان «حين يضيء الطين»، كنص شعري نثري غني بالإيحاءات الرمزية والدلالات المتعددة. فهي لا تكتفي بسرد حدث أو وصف مشهد، بل تغوص في أعماق الوجود الإنساني، وتستحضر الصراع بين الظلمة والنور، بين الجرح والشفاء، بين الذات والعالم المحيط بها.

تسعى هذه الدراسة النقدية إلى تحليل القصيدة على نحو موسّع، من خلال محاور لغوية وبلاغية وجمالية وفكرية وفلسفية ونفسية واجتماعية وسيميائية، بهدف الكشف عن الطبقات العميقة للمعنى، وإبراز قدرة النص على إنتاج الدهشة والتجديد، وبيان موقعه ضمن الشعر النثري المعاصر، فضلاً عن تقييمه كعمل إنساني وجمالي متكامل.

أولاً: الأسس اللغوية والبلاغية

1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب

تقوم لغة القصيدة على سلامة نحوية واضحة، مع وعي دقيق بالتراكيب العربية الحديثة التي توازن بين الفصاحة والتركيب الشعري الحر. نلاحظ اعتماد الشاعرة على الجملة الفعلية القصيرة والعبارات الاسمية المكثّفة، ما يضفي على النص توتّرًا دلاليًا وانسيابًا إيقاعيًا في آن.

تراكيب مثل:

«حين يضيء الطين»

«في طريق العودة إليّ»

تحمل انزياحًا دلاليًا واضحًا، إذ يُنقل “الطين” من دلالته الحسية (المادة/ الوحل/ الأرض) إلى دلالة إشراقية، ما يشكّل مفارقة بلاغية مؤسسة للنص بأكمله.

2. الدقة اللغوية والانزياحات:

الانزياح هنا ليس ترفًا أسلوبيًا، بل آلية توليد للمعنى.

فالزجاج المكسور لا يُرى بالعين، بل تلتقطه أعين المارّة ثم يتحول إلى فعل إيذاء رمزي:

«ترشقه في أضلعي»

هذا الانتقال من الإدراك البصري إلى الفعل الجسدي يعكس توتر العلاقة بين الذات والعالم، بين الداخل والخارج.

3. فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير

المفردات مختارة بعناية، تخلو من الترهل أو المباشرة، وتناسب موضوع القصيدة القائم على الاغتراب، العبور، والتطهير.

التوازن بين اللفظ والمعنى متحقق، فلا تطغى الزخرفة على الدلالة، ولا تسقط القصيدة في تقريرية فكرية.

ثانياً: الإيقاع والمعمار الصوتي

1. الإيقاع الداخلي

القصيدة نثرية، لكنها مشحونة بموسيقى داخلية تقوم على:

التكرار: «في طريق العودة إليّ» (لازمة إيقاعية ودلالية)

التوازي التركيبي

التقطيع البصري عبر علامات الحذف (…)

هذا التكرار لا يؤدي وظيفة موسيقية فحسب، بل يعمّق البنية الدائرية للنص: عودة لا تكتمل، ومسار وجودي معلّق.

2. الجرس والموسيقى الداخلية:

نلحظ حضور الأصوات الرخوة (الضاد، النون، الراء) التي تعزّز الإحساس باللين، مقابل أصوات صلبة (القاف، الطاء) في مواضع التهديد والقطع:

«رجال البلاد يهدّدون بقطع الطريق»

هذا التضاد الصوتي يعكس انقسام العالم بين القمع والتطهير.

ثالثاً: الأسس الجمالية والفنية

1. البنية الفنية للنص

النص قائم على سرد شعري داخلي، بلا شخصيات تقليدية، حيث تتحول:

الذات المتكلمة - إلى مركز إدراكي

العالم -  إلى سلسلة قوى ضاغطة (رجال/ نساء/ تجّار/ ضوء)

الزمن زمن نفسي دائري، لا يتقدّم خطيًا، بل يعود باستمرار إلى لحظة «الطريق».

2. الرؤية الفنية

تنظر الشاعرة سلوى السوسي إلى العالم من منظور وجودي-تطهيري:

العالم ملوث، قاسٍ، متواطئ، بينما الخلاص مشروط بالضوء، لا بوصفه عنصرًا فيزيائيًا، بل قيمة معرفية وأخلاقية.

3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي:

أبرز مظاهر التجديد:

الوضوء بالشمس

التوبة الضوئية

الضوء بوصفه كائنًا أخلاقيًا (جسور، وديع، بريء)

وهي صور تُنتج الدهشة وتتجاوز الاستعارة التقليدية.

رابعاً: الأسس الفكرية والفلسفية

1. الموقف الفكري:

القصيدة تطرح أسئلة وجودية عميقة:

من يؤذي من؟

هل الطهارة ممكنة داخل عالم فاسد؟

هل العودة إلى الذات خلاص أم وهم؟

2. الأفق المعرفي

يحضر في النص أثر:

الفينومينولوجيا (الضوء بوصفه ظهورًا)

الصوفية (الطهارة، التوبة، النور)

الوجودية (الاختيار، الموت كما ينبغي)

3. البنية العميقة (الهيرمينوطيقا)

الطين - الضوء

الجرح - التطهير

العودة - الموت

كلها ثنائيات تُنتج طبقات متعددة من المعنى، تجعل النص قابلًا لتأويلات متعدّدة.

خامساً: الأسس النفسية

1. البنية الشعورية:

النص مشحون بالقلق الوجودي، لكنه قلق منتج لا هدمي.

هناك صراع بين:

ذات مجروحة

ذات تسعى للتماسك عبر الضوء

2. النبرة النفسية

النبرة تجمع بين:

الاحتجاج الصامت

الصفاء الداخلي

القبول المأساوي بالمصير

سادساً: الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية

1. علاقة النص بالواقع

تحضر السلطة عبر:

«رجال البلاد يهدّدون بقطع الطريق»

في مقابل نساء يحاولن تبرئة ذواتهن، ما يشي بنقد اجتماعي غير مباشر للهيمنة والعنف الرمزي.

2. الخطاب الاجتماعي

النص يفكك:

خطاب الطهارة الزائف

التوبة الشكلية

التجارة بالقيم

سابعاً: الأسس السيميائية

1. الرموز المركزية

الطين: الأصل، الانكسار، الجسد

الزجاج: الهشاشة، العنف الصامت

الضوء: الحقيقة، التطهير، الوعي

2. شبكات الدلالة

حياة /  موت

جرح /  شفاء

ظلمة /  نور

عودة /  فناء

ثامناً: الأسس المنهجية

الدراسة تعتمد:

المنهج الأسلوبي

المنهج التأويلي (الهيرمينوطيقي)

التحليل النفسي الرمزي

المقاربة السيميائية

مع الالتزام بالموضوعية والتركيز على النص.

تاسعاً: القيم الإنسانية والجمالية العليا

القصيدة تحتفي:

بحرية الكائن

بحق الذات في النقاء

بجمالية المقاومة الهادئة

وهي نص إنساني يتجاوز الجغرافيا ليخاطب الإنسان في هشاشته وكرامته.

خلاصة:

قصيدة «حين يضيء الطين» نص نثري ناضج، يتكئ على لغة شفيفة، ورؤية فلسفية عميقة، وبناء جمالي محكم. إنها قصيدة عبور، لا تصالح مع الزيف، ولا استسلام للعتمة، بل بحث مؤلم وجميل عن ضوءٍ يستحق أن نُحيا به… وأن نموت كما ينبغي.

ختامًا، يمكن القول إن قصيدة «حين يضيء الطين» لسلوى السوسي تمثل نموذجًا شعريًا نثريًا متكاملًا، يجمع بين العمق النفسي والدلالات الرمزية واللغة المركبة والإيقاع الداخلي الدقيق. فقد نجحت الشاعرة في خلق فضاء شعوري ومعرفي يجمع بين التأمل الفلسفي في الوجود الإنساني والحساسية الاجتماعية تجاه واقع الإنسان ومجتمعه، مع الحفاظ على انسجام النص بين الشكل والمضمون، وبين الموسيقى الداخلية والرمزية التصويرية.

إن النص، بما يحمله من تعددية في الطبقات الدلالية وانفتاح على التأويلات، يتيح للقارئ أكثر من قراءة، ويقدم تجربة جمالية وفكرية متجددة، تؤكد قدرة الشعر الحديث على ملامسة الوجدان الإنساني، واستكشاف الذات، والتفاعل مع الواقع الاجتماعي والثقافي. وفي النهاية، يظل النص شاهدًا على حيوية الشعر النثري المعاصر، ومثالًا على قدرة اللغة على التعبير عن الصراعات الداخلية، والبحث عن الذات، والرغبة في الضوء وسط الطين.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.................

حين يضيء الطين

في طريقِ العودةِ إليّ

زجاجٌ مكسور…

تلتقطه أعينُ المارّة،

ترشقه في أضلعي.

رجالُ البلادِ يهدّدون بقطعِ الطريق،

والنساءُ يعتذرن لتاريخٍ

خدشته ظنوني،

ويقسمن أنّ أجسادهن

من الشمسِ بريئة.

في طريقِ العودةِ إليّ

تُجّارُ أسدافٍ

كسدت تجارتهم،

انقضت آجالُ بضاعتهم،

توضّؤوا بالشمس

وتابوا.

في طريقِ العودةِ إليّ

تأنّقت روحي

في حضرةِ جسدٍ

سطع في عينِ الضوء.

الضوءُ جسورٌ… جريء،

يرسمُ ظلّي عاريًا،

وينضو السِّتارُ عن روحي.

الضوءُ وديعٌ… بريء،

يعيد إليّ وجهي

لأحيا كما أشتهي،

وأموتَ كما ينبغي.

***

سلوى السّوسي | تونس

 

في المثقف اليوم