قراءات نقدية
كريم عبد الله: قراءة نقدية لنصّ الشاعرة كلثوم البوركي

ويقولون أن الأيام مضت بنا عتيّا..
وحان وقتُ الخجل من التوغل في ألوان الأمنيات
كثيرة كثيرة هي عليكِ
كلّها..؟
كيف..!وكلّما مددت يدي للمس الوقت إشتعل كأنه لحظة سقطت من عوالم الخُرافة...
مازلتُ أجتر مرارة التفاصيل التي تأبى أن تصير طوع يدي
روضتها حتى تمكن مني التعب
والوحد
والحزنُ
أفواه حولي تصرخ بكل عنجهية
طوقتني بالتّهم
اللّوم والشكوى
على أحوال أفئدتهم المثقوبة الخاوية على عروشها...
على من العتاب..؟
على المسافرة أم على خالق السّفائن و الأمواج..!
كذلك أنا مركب ضائع في اليم مثلكم..
الا ان لي منارة تشتعل من داخل روحي الى السماء
تُرشدني دائما الى الطريق...
وان شاء الله سأصلُ...
***
كلثوم البوركي – المغرب
........................
القراءة:
كأننا لسنا أمام قصيدة، بل أمام نَفَسٍ حارٍّ صاعدٍ من جوف إنسان تَشظّى بين حلمٍ لم يكتمل، وخطى ما تزال تمشي بثباتٍ فوق رماد الرجاء. نصّ الشاعرة كلثوم البوركي ليس مجرد بوحٍ أنثوي يمرّ عابرًا على سطح الألم، بل هو حجرٌ قُذف في بحيرة النفس حتى ارتجف الماء من عمقه.
لم تختر الشاعرة عنوانًا. وكأن النص لا يحتاج اسمًا، بل يحتاج قارئًا يُغلق عينيه وينزل فيه، كمن يدخل نفقًا بلا بوابة، لأنه ببساطة نفقٌ داخل الروح.
أولًا: صوت الذات… حين يصير العالم متآمرًا
منذ الجملة الأولى:
"ويقولون أن الأيام مضت بنا عتيّا…"
يظهر "هم" ويظهر "أنا". بينهما مسافة بحجم المعاناة.
"هم" يقولون. و"أنا" أتألم.
هذا الافتتاح الذكي لا يصور فقط عبور الزمن، بل اتهامًا مبطّنًا للمجتمع، لمؤسسات الخوف، للصوت الخارجي الذي يقمع التوق، ويُخجل الحلم.
ثم تأتي العبارة:
"وحان وقت الخجل من التوغل في ألوان الأمنيات…"
ليتجلّى هنا ما يشبه القمع الداخلي الذي نزرعه في أنفسنا كلما حاولنا أن نحيا خارج ما يسمح به الواقع.
كأنّ الحلم صار تهمة، والأمنية صارخة يجب إسكاتها.
ثانيًا: الرماد واللمس واللهيب
تقول:
"كلّما مددت يدي للمس الوقت اشتعل كأنه لحظة سقطت من عوالم الخرافة…"
ما أعمق هذا التصوير.
فـ"الوقت" هنا ليس زمنًا فيزيائيًا، بل هو اللحظة التي كان من المفترض أن تكون للحب، أو التحقق، أو الأمان… لكنها كلما اقتربت تحترق، كأنّها "ليست من هذا العالم".
هذا النص لا يبكي، بل يلمس الحريق وهو ينظر إليه بذهول.
كمن يرى الحلم يُولد ثم يذوب، ولا يملك إلا أن يمدّ يده، حتى لو احترق.
ثالثًا: الأصوات المشوشة والاتهام المقلوب
في مقطع صادم:
"أفواه حولي تصرخ بكل عنجهية / طوقتني بالتّهم…"
نحن أمام لحظة محاكمة، لكن المدهش أن المحاكَمة لا تجري في محكمة، بل في الحياة اليومية، في عيون الآخرين، في صمت المجتمع.
"العنجهية" هنا ليست صفة شكلية، بل توتر داخلي، صوت الفوضى التي تحاول إطفاء صوت الداخل.
ويا للمفارقة، فإن قلوب هؤلاء صارت:
"مثقوبة خاوية على عروشيها…"
في بيت مقلوب البناء، العروش قائمة، لكن القلوب خاوية.
كأنّ الشاعرة تقول: إنهم يحاكمونني من قلاعهم العالية، لكنهم أكثر خرابًا مني.
رابعًا: سؤال العتاب… أم سؤال القدر؟
"على من العتاب..؟ على المسافرة أم على خالق السفائن والأمواج..!"
هنا تبلغ التجربة ذروتها الوجودية.
فالسؤال لم يعد بسيطًا.
من المسؤول؟
أهي الأخرى (المسافرة) التي تركتني؟
أم هو القدر الذي صنع السفائن وجعل اليمّ بلا ضفاف؟
في هذه اللحظة، الشاعرة لا تشك فقط، بل تفكك العلاقة بين الإنسان والله، بين المصير والاختيار، بين الغرق والهداية.
ثم تأتي أجمل جملة، الضوء الذي يُنهي هذا الليل الطويل:
"إلا أن لي منارة تشتعل من داخل روحي إلى السماء…"
يا لروعة اليقين!
كل شيء حولها ينطفئ: البحر، الأمل، الحلم، الناس، السفائن…
لكن ما يشتعل ليس في الخارج، بل من الداخل.
وهنا يكمن السر:
المنارة ليست خارجيّة، بل تنبع من الروح.
وهكذا، رغم كل شيء، تقول بثقة:
"وإن شاء الله سأصل."
ليست النهاية سعيدة، لكنها منتصرة.
الذات ما زالت وحدها، لكن لم تعد تائهة.
وأخيراً فإن نصّ كلثوم البوركي ليس قصيدة، بل تجربة وجدانية مغموسة بالرماد والضوء معًا.
كتابة تنتمي إلى ضفاف الشعر الصوفي، وتشتبك مع قضايا المرأة، والمجتمع، والقدر، دون أن تفقد سلاحها الأساسي: الصدق والوضوح المتوتر.
لقد كتبت الشاعرة نصًّا لا يحتاج أن يعلّق في الذاكرة، لأنه يسكن في القلب.
وقدّمت تجربة تُقرأ كما تُقرأ الحياة: متعثّرة، موجوعة، لكنها مضيئة من الداخل.
***
بقلم: كريم عبد الله – العراق