قراءات نقدية
رائدة جرجيس: ما بعد الثلج.. الذاكرة والزمن في شعر فليحة حسن
قراءة نقدية في مجموعة «بعد أربعين عامًا من الثلج»
يمثل شعر الشاعرة فليحة حسن أحد المسارات الهادئة والعميقة في الشعر العراقي المعاصر، حيث لا تقوم الكتابة على الخطابية أو الانفعال اللحظي، بل على تأمل التجربة بعد إخضاعها لمسافة زمنية ونفسية. في مجموعة نصوصها «بعد أربعين عامًا من الثلج»، تبلغ هذه الرؤية ذروتها، إذ تتحول القصيدة إلى فضاء لاستعادة الأثر لا الحدث، وللذاكرة لا اللحظة.
تسعى هذه الدراسة إلى مقاربة المجموعة من منظور نقدي، بالتركيز على بنية النص ودلالته، وتمثل الذات والزمن بوصفهما محورين أساسيين في الشعرية فليحة حسن.
العنوان والعتبة النصية
وفقًا لمفهوم جيرار جنيت* حول العتبات النصية، يؤدي عنوان المجموعة وظيفة تأويلية أولية.
العنوان «بعد أربعين عامًا من الثلج» يحيل إلى زمن ممتد، مؤجل، محمّل بالتجربة والتحول. الأربعون ترمز إلى نضج الألم، اختبار الوعي، وتحول الذكريات إلى معرفة. أما الثلج فيمثل الجمود والصمت، البياض القاسي، والتعليق العاطفي، ليضع القارئ فورًا في فضاء ما بعد التجربة، حيث الوعي بما مضى يتقدم على الحدث نفسه.
الذات الشعرية وتمظهراتها
الذات هنا ليست غنائية تقليدية، ولا اعترافية مباشرة، بل ذات متأملة، حسيّة، تتحرك بين الداخل والخارج، بين الذاكرة واللحظة الراهنة. يمكن قراءتها ضمن إطار الذات ما بعد الصدمة، حيث يتحول الألم من مادة انفعالية إلى معرفة شعرية متأملة.
تتميز هذه الذات بـ:
الهدوء الداخلي، بعيدًا عن الخطاب الاحتجاجي.
الانحياز للتأمل الداخلي والتفكير في الزمن والوجود.
رؤية أنثوية للعالم، لا بوصفها موضوعًا، بل كزاوية نظر تنتج معرفة شعورية متفردة.
في النصوص نجد الذات تتحرك في فضاء يومي وشعوري متشابك: من حضورها في «موعد في المطعم»، و«نحن النساء»، مرورًا بـ «هذا المساء» و*«مدرسة لم يخبروني أن لندن باردة»، وصولًا إلى نصوص الاستبطان مثل «حينما لا تحضر قصيدتي» و«أصدقائي القدامى»*. هذه الحركة تكشف عن الوعي بالتجربة والحنين إلى من كان، وما مضى.
اللغة الشعرية وبلاغة الصمت
تعتمد فليحة حسن لغة مكثفة، اقتصادية، دقيقة، حيث تقل الزخرفة لصالح الدلالة المكثفة. يمكن الحديث عن بلاغة الصمت، حيث يشكل الفراغ بين السطور، والبياض النصي، والأفعال المقتضبة جزءًا من إنتاج المعنى الشعوري.
الجملة الشعرية غالبا قصيرة غير مكتملة، وتترك للقارئ مهمة إتمامها. هذه الاستراتيجية تحوّل القراءة إلى فعل مشاركة تأويلية، حيث يتحرك القارئ مع الذات الحسية.
تظهر هذه الخصائص في نصوص تتناول الحياة اليومية والحواس: من «نيويورك» و*«الذي يدخن الآن تحت النافذة»، إلى نصوص أكثر رمزية مثل «بالوعة اسمها الحرب» و«في ليالي الحرب»*. حتى لحظات الهدوء الشخصي، كـ «وأنا أشرب الشاي في نيوجيرسي» أو «توكيد لمعنى النفي»، تتحول إلى فضاء شعوري مكثف يعكس التجربة والوعي الداخلي.
الزمن وبنيته غير الخطية
الزمن في المجموعة غير خطي، يتحرك في شكل دائري أو متشظٍ. الماضي لا يُستعاد بوصفه حنينا رومانسيا، بل كمادة للتفكير والمساءلة. القصائد تظهر كمقاطع زمنية منفصلة، يجمعها خيط الذاكرة والتجربة، لا التسلسل السردي.
هذا الوعي الشعري بالزمن يجعل من النصوص فضاء لتجربة الوعي بالذات، حيث تتفاعل الحاضر والغياب، والغائب والحاضر، والذكريات مع الإدراك اللحظي.
الجسد والمنفى
الجسد في النصوص أرشيف للذاكرة لا مجرد حامل للرغبة. إنه يتذكر أثر البرد، التجربة، والفقد، ويحتفظ بأثر التجربة على الذات. المنفى، من جانبه، لا يختزل في الجغرافيا، بل يُعاد تعريفه كحالة ذهنية ووجودية: حالة لا انتماء هادئ، بعيد عن الخطاب الاحتجاجي، ومفتوح على التأمل والشعرية النقدية للعالم.
تؤكد مجموعة «بعد أربعين عاما من الثلج» أن الشاعرة فليحة حسن تكتب شعر التجربة العميقة، حيث تتحول القصيدة إلى مساحة للتفكير، لا مجرد انفجار عاطفي. كتابة تقوم على ضبط اللغة، تأمل الزمن، وفكّ الذات دون ادعاء أو إكثار من العاطفة المباشرة.
النصوص، كما يظهر في مضامينها، تحرك الذات الحسية، الذاكرة، اللغة المكثفة، والإيقاع الداخلي، لتخلق تجربة شعرية تتجاوز الحدث إلى أثره، والفقد إلى إدراكه، واللحظة إلى صدى الزمن. بهذا، تمثل المجموعة إضافة نوعية للشعر العراقي المعاصر، ونموذجا لقصيدة المعرفة التي تنتج أثرها عبر الصمت بقدر ما تنتجه عبر القول
***
رائدة جرجيس
......................
* جيرارد جنيث: ناقد ومنظر فرنسي .






