تجديد وتنوير

عبد الله الجنابي: فقهنة الحياة

لا شك أن الفقه كان له دور عظيم في صنع الحياة، فلقد شهدت الحضارة العربية الإسلامية تنظيمًا لحياة المسلمين في العبادات والمعاملات وتحقيق مصالحهم. وكان القرآن والسنة النبوية والقياس والاجتهاد المنابع الرئيسة التي يستمد الفقهاء أحكامهم منها لتحقيق العدالة في المجتمع. ولم يكن الأصل هو التوسع في تفاصيل غير ضرورية ولا تتصل بحياة الناس بشكل مباشر [1]

لكن الأمر تطور حين ظهرت مدارس فقهية وظهر فقهاء الحياة الذين لم يتركوا كبيرة ولا صغيرة إلا وأفتوا فيها، متجاوزين نطاق العبادات والمعاملات الشرعية حتى وصل بهم المقام إلى تطبيق المنهج الفقهي في أنواع الطعام والملابس والعطور والعادات الاجتماعية المستحدثة.

شاهدت برنامجا لفقيه يدعي انه يفتي وفق فتاوى مرجع كبير في العراق، وكان يرد بكل جدية على أسئلة ( استفتاءات كما يسميها) من مثل: هل يجوز الاستعانة بالايفون وهو منتج لدول تعادي المسلمين؟ وكثير من مثل ذلك ...

لقد أشار إلى ذلك ابن خلدون منتقدًا الإيغال في تفاصيل وافتراضات ومبالغات استنزفت وقت علماء الدين وشتت جهدهم[2]. كما كتب شمس الدين في تحليله للفكر الفقهي الشيعي المعاصر أن التفات الفقهاء الى ما لا طائل منه من تفاصيل الحياة اليومية أدى إلى إغفال الجوهر الأخلاقي والسياسي للشريعة، وأن الفقه يجب أن يركز على إصلاح القلوب وتحقيق مصالح المجتمع بدل التوسع في الفروع غير المهمة [3] . كما لاحظ الحائري اليزدي أن التفصيل الفقهي في مسائل الحياة اليومية يجب أن يخضع دائمًا للمقاصد الكبرى للشريعة، وأن الفقهاء المفرطون يتورطون في إصدار الفتاوى التفصيلية يساهمون في تشتيت اهتمام الناس عن القضايا الأساسية للإصلاح الاجتماعي والسياسي [4] .

إن هذا الطريق يجعل الفقه منشغلًا بقضايا ثانوية، وهو ما يمكن تسميته بعبثية توجيه الفكر الديني نحو ما لا يضر ولا ينفع في الواقع اليومي للناس. إن حرف الشغل الأساسي للفقه نحو قضايا تافهة يؤدي إلى تعقيد الحياة وربما إلى شللها بدل أن يكون الفقه وسيلة لتسهيل الحياة ورعاية مصالح الناس. إن تطور فقهاء الحياة بهذه الطريقة أدى إلى ضعف في قدرة المجتمع على الاجتهاد المقاصدي، إذ جعل كل عمل مرتبطًا بالفقيه ورأيه، وكأن الأصل في كل فعل هو الحرمة ما لم يُصرح بالإباحة، وهذا ضد قاعدة الشريعة الرئيسة التي جاء مقصودها رفع الحرج عن المسلمين وتحقيق مصالحهم العامة. كما ذكر الشاطبي أن الهدف الاسمى  للشريعة هي اماطة المشقة عن المسلمين، وليس إنشاء شبكة من القيود التي لا دليل عليها ولا طائل منها [5] .

إن هذه الظاهرة لها أثر سيء على التفكير الاجتماعي، إذ أن كثرة التفصيلات الفقهية التي لا حاجة لها أدت إلى قلب الشريعة إلى مجموعة من القيود التي تتعلق بأشياء عادية في حياة الإنسان بدل أن يكون الدين وسيلة لتحرير الفكر وتبسيط الحياة، وهو ما يعيق أيضًا نمو المجتمعات الإسلامية في المجالات العلمية والاجتماعية والاقتصادية، ويؤثر على الإنتاج العلمي والفكري للأمة حيث تتحول طاقتهم الفكرية والعلمية والبحثية إلى قضايا لا طائل منها ولا يمكن أن تسهم في تطوير الحياة. إن تفاصيل الحياة اليومية كثيرة جدًا ومتنوعة، ولا يمكن للفقه أن يلاحقها ويحقق فيها ثم يصدر رأيًا فقهيا فيها.

أن كثيرًا من فقهاء الحياة يكررون إصدار النمط نفسه من التقييد والتفصيل، حيث يتم إصدار فتاوى حول استخدام الهواتف الذكية والبرامج الترفيهية ووسائل التواصل الاجتماعي أو الأطعمة الحديثة أو التفاصيل المتعلقة بالترفيه، أو البت في علوم تطبيقية من مثل أبحاث الفضاء، وهو ما لا يمت بصلة مباشرة للعبادات أو المعاملات التي حددها الدين، بدل التركيز على تحقيق مصالح الأمة العليا وحماية حقوق الإنسان، وليس على تضخيم الفقه ليبقى بكل التفاصيل الصغيرة، مما يؤدي إلى تعطيل التفكير النقدي والاجتهادي، ويخلق جوًا من الخوف والارتباك لدى الناس الذين قد يشعرون أن كل تصرف يحتاج إلى إذن فقهي مسبق، وهو ما يناقض الهدف من الشريعة في التيسير ورفع الحرج.

لا يمكن أن يكون الدين أغلالًا على الإنسان في أنشطته اليومية، ولا مانعًا أمام الابتكار أو التقدم، او التفكير الحر بل يكون وسيلة لضبطه وتنظيم حياته بما يتوافق مع مقاصد الشريعة وغاياتها.

إن الاجتهاد ينبغي أن يكون مقاصديًا يوازن بين النص والمصلحة دون التورط في تفاصيل حياتية لا يحتاجها المكلفون، مع الأخذ بعين الاعتبار المستجدات التقنية والاجتماعية والثقافية بما يحافظ على روح الشريعة ويخدم الإنسان في واقعه اليومي المعاصر. وبناءً على ذلك، يظهر أن عبثية فقهنة الحياة ليست مجرد نقد نظري، بل لها آثار عملية ملموسة في المجتمع الإسلامي المعاصر، حيث ينشغل المكلفون بما لا حاجة له، ويستهلك العلماء جهودهم في مسائل تافهة، بينما تبقى القضايا الكبرى المتمثلة في التنمية المستدامة، العدالة الاجتماعية، الإصلاح السياسي، التعليم، التكنولوجيا، والصحة العامة خارج دائرة الاهتمام الفقهي العملي. ويؤكد هذا كله أن العودة إلى فقه المقاصد والاعتدال في التفصيل الفقهي هي السبيل الأمثل لإعادة الدين إلى وظيفته الحقيقية، ألا وهي تيسير حياة الناس وتحقيق مصالحهم، مع تعزيز ثقافة الاجتهاد النقدي والمسؤول الذي يوازن بين النص والمصلحة، ويعطي أولوية للقضايا الكبرى التي تمس حياة الأمة اليومية والوجودية [6].

***

د. عبد الله الجنابي

......................

قائمة المصادر والمراجع

[1] الشاطبي، أبو الحسن، الموافقات في أصول الشريعة، دار المعرفة، 1992، ص 286 .

[2] ابن خلدون. المقدمة، دار الفكر، 1983، ص 456.

[3] شمس الدين، محمد مهدي، الاجتماع السياسي في الإسلام، دار الساقي، 1992، ص 102.

[4] الحائري اليزدي، مهدي، الحكمة والحكومة، دار المعارف، 1995،ص 78 .

[5] الشاطبي، المصدر نفسه، ص 290 .

[6] ابن خلدون، المصدر نفسه، ص 456.

في المثقف اليوم