تجديد وتنوير

سامي عبد العال"ما قدْ تراه هنالك، ليس إلاَّ أصدافاً على شاطئ بحرٍ لا حدود له.."

"دوماً الأسئلة لا تهدأ.. ولن تتوقف عن اثارة  المجهول.."

رُبَّ سؤالٍ يزعجُ معرفتنا الغارقةَ في سُباتِّها حتى الإيقاظ. عندئذ لن يكون النوم حالماً، إنما أرق بملء العيون، ملء العالم والتاريخ والزمن. نوم هو اليقظة، حيث لا يستغرق النائمُ بعضاً من شعيراتَ جفونه، النوم اليقظ الذي يتقلب مع الأفكار يساراً ويميناً، أعلى وأسفل. إذن على الفكر أنْ يسهر فلسفياً، السَهر الفلسفي هو انعدام الغفلة، الجلَّد ومغالبة النعاس والفتور العقلي، هو درجة قصوى من الكشف النهاري إزاء كلِّ ليلٍ محتملٍ. كانت هذه الدرجة أحدَ أشكال الوعي بالأسئلة وشقاء العقل، لقد ظل ديوجين اللائرثي في اليونان القديم يبحث عن الحقيقةِ حاملاً مصباحه في وضح النهار!! على حد قولِ المتنبي:

 ذُو العقلِ يشْقى في النعيمِ بعقلِّه     وأخُو الجهالّةِ في الشقاوة ينعمُ.

بكلمات أخرى، يقظة الفكر هي ملء الليل (ليل الحياة والثقافة والروح واللغة) بالنهار. والنهار كلمة عامةٌ تأتي إلى عيون النائم وهو في أعماقه، كأنَّك تغمض على ضوءٍ ولا يبارحُك. النوم والموت خاصان بالإنسان، في أعماق نومك وموتك لا ينام معك أحد ولن يموت معك كذلك. فأنت النائم متوحداً مع كيانك لا يدخل إليك شيءٌ. وحين يسهر الفكر، فأنت من يشعل شيئاً من نهارٍ، بأي عنوان كان سيأتيك. علي الفكر أن يسهر حتى الفجر، ضمن هذا المعنى قد يصبح الفجر في أي وقت وبأي عيون.

ففي تاريخ الفلسفة، بدا إيمانويل كانط مثالاً لنائم أيقظه ديفيد هيوم من رقادٍ عميقٍ. وباعتراف كانط نفسه، لم يكُّن إلاَّ كائناً هائماً على وجههِ، وأخذَ يتحيّن الفرصة لقرع طبول الأسئلة. كانت أسئلة هيوم جامحةً وجذريةً حول المعرفة وعجز العقل عن تجاوز حدود الأشياء. لعل أزيزها المدوي كصدى الرصاص طال جوانبَ الفكر: مفهوماً وإدراكاً ومنهجاً. وقد جاءت مرحلةُ كانط " نقد العقل الخالص"Critique of pure reason بمثابة الصدى المباشر لهذه اليقظة المفاجئة.

كانت دلالة قرع الطبول– في الحياة البدائية- إعلاناً عن حادث كوني، حضور آلهة، طقوس، موت، ميلاد حياة، حروب. هي تناشد مجهولاً ما، تأخذ بلياقة التعامل معه وتتحين الوقت لمعرفته، وفي الأغلب كانت تحاول بالأصوات ترويضه وجعله مألوفاً. وإلى وقت قريبٍ في الثقافة الشعبية لمجتمعات شرقية (عربية)، استُعملت الطبول بهذا الإيقاع الحياتي – الكوني. كانت أصواتها تحذر من قدوم شيء مجهولٍ ليس لنا احتماله دون اليقظة أو إقامة شعائر الاحتفاء بمصير ما حياةً أو غسقاً. مثل ضرب الطبول لخسوف القمر أو لغياب بعض النجوم اعتقاداً بأنَّ كائنات شريرة تحجب رؤيتها( فقد كان يُقال القمر مخنوق). وأنَّ صوت الطبول سيجعل الكائنات تتراجع عما تفعل وتهرع من حيث أتت!! وكأننا مسؤولون عن رعاية الأشياء والعالم( عبارة هيدجر: الكائن الإنساني أو الدازاينDasein هو راعي الوجود).

الفلسفة تاريخياً أحد دروب اليقظة التي تستدرك نيام البشر. كأن انغام رباعيات عمر الخيام تتهادي بصوم ام كلثوم لإيقاظ الناس للاغتراف من معين الحياة: "سمعتُ صوتاً هاتفاً في السحَـرِ نادّىَ مـن الغيب غُفاةَ البشـرِ، هِبُوا املأوا كأس المُنى، قبلَ أنْ تملأ كأسُ العمــــــر كفُ القدر". إنَّ الفلسفة كمغامرة عقلية قصوى تستوجب انتباهاً ينزع النعاس عن الجفون، وأنْ يكون الانكباب عليها كحال المنكب على كأس المُنى، كأس العمل، كأس الطموح، كأس الفكر، كأس الحب. الفلسفة هي فن العيش بعدما كانت تمريناً أفلاطونياً على الموت. والاثنان: الحياة والموت يتبادلان الدلالة الإنسانية، فمن يبلغ موته بأريحيةٍ صانعاً مصيره الخاص، هو من يمكنه الحياة بملء الكلمة (الموت اختيار وصناعة كما الحياة).

في الثقافة اليونانية أيضاً، كان سقراط يسمى "ذباب الخيل "Tabanidae ، ذباب يجعل الخيول مستنفرةً وكثيرة الاهتزاز والصهيل. الأسئلة السقراطية كانت تنقر الوعي (مثل دجاجة تنقر الحبوب)، ليعرف ما يُحاك له، وما ينزلق إليه، وهي عمل أصبح ضرورياً بهذا المسمى في المجتمعات المعاصرة. فالوعي الغُفْل قد ينعدم يوماً ما لم تُثِرْهُ أسئلةٌ حقيقيةٌ، تصقل أدواته وتدفعه للانتباه، لأن السؤال استدعاء لحركة المستحيل ولو كان نائياً، أمَّا العجز فمن صفات الاستكانة إلى ما هو جاهز ومتاح.

الاستيقاظ أحد وجُوه الوعي الفلسفي الذي يلاحق الإنسان بضرباته. لكن طبيعياً أنْ نلتمس التوضيح: استيقاظ من ماذا وإلى أي مدى سيكون؟! هل يغيب وعي الفيلسوف أم تُوجد جوانب أخرى للمسألة؟ الأمر يضمرُ كون النوُم الفلسفي غفلةً فكريةً تلفُ العقل. وإذا كان ذلك شأن غطيط الأفراد، فما بالنا بمناخٍ ثقافيٍّ يدعو للنوم وسط قارعة النهار ووسط يقظة العالم المتطور والحي. المعنى اللطيف أنَّ الأسئلة الفلسفية اشبه بأصوات كانت تعلن النفير العام، لكنها تقدح زناد الفكر والترقب للمستقبل. ومن حينه كان العقل يتأهب لأخذ مواقع جديدة وابداع رؤى مغايرة. ولن يكون الأمر إلاَّ مرتهناً بأرق فلسفيٍ يؤكد أصالةَ التساؤل وأصالة الاستجابة الفلسفية له.

المهمة جد خطيرة للفيلسوف: أنْ يبتكر الآفاق العقلية المناسبةَ لإيقاظ المجتمعات من غفوتها وسقوطها. فالحياة اليومية أشبه بغطاء كثيفٍ حدَّ الموت لأُناس نيام على قارعة التاريخ، هم يحتاجون تدريجياً من يمزق الأحجبة ويجعل ضوء النهار نافذاً إلى عيونهم ووعيهم وأسماعهم. تبدو معاني هذا الفعل التاريخي عالقةً بالتفلسف كفنٍّ لكشف طبائع الحياة والثقافة. سيكون مرتبطاً بالنور والانكشاف والتجلي والتمزق والتفتق. إنَّ عملية تحرير الأسئلة من أغلال الصمت جزءٌ لا يتجزأ من هذه الدوائر. في تاريخ الفلسفة، لم يكن ذلك مجرد معرفة، لكنه فهم لعمل الفكر إزاء قضايا المصير والحقيقة والعيش.

هكذا كانت أسئلةُ ديفيد هيوم بالنسبة لكانط وخزات للتعرف على العالمِ والأشياءِ. لقد أكد هيوم، من نقده للفلسفات العقلية، أنَّ أفكارنا مستمَدة من الخبرة التي يحتويها العقل لا من العقل نفسه. والعالم ليس وليد أوهام خاوية، لكنه نتاج النشاط والفعل. الأمر الذي  أوعز إلى كانط بخلع سباته الدجمائي. ولا يخفى كون الدجما الفكرية كآراء جاهزة التكوين قد تلقي على أصحابها رُقاداً أبدياً ما لم يسمعوا قرع طبول الاستفهام.

في كتابه نقد العقل الخالص يبرز كانط أنَّ موضوعات "المعرفة" الممكنة هي "الظواهر"، أي موضوعات العالم الفيزيائي القابل للرصد تجريبيّاً. وقد انتقد، بالوقت ذاته، الرؤية التجريبية عند لوك وهيوم، طالما جعلت الانطباعات الحسِّية وحدها أساساً للمعرفة. والرأي عند كانط أنَّ "الأفكار من دون محتويات فارغة، والحدوس (جمع حدس) من دون المفهومات عمياء"، آخذا من أرسطو عبارة " المقولات الأساسية "، على أنها مصدر كلِّ مفاهيم الفهم، بوصفها مفاهيم قَبْلية، لا تصبح التجربة ممكنة إلاَّ من خلالها، وهي ترتبط بالضرورة وبالتجربة معاً.

وقد اعتبر كانط مقاربته للمعرفة " ثورة كوبرنيكيةً "Copernican revolution، على غرار نفي كوبرنيكوس لدوران الشمس والنجوم حول الأرض، مفترضاً أنَّ الأرض هي الدائرة  حولها لا العكس. ولقد سبقه ديفيد هيوم إلى هذا، حين حلَّل دلالة "العلاقة العلية" بين الظواهر والأحداث، من حيث لا وجود لضرورة عليةٍ حقيقيةٍ في العالم، لكن الشعور بالضرورة لا ينشأ إلاَّ من مسلمات الذهن البشري.

وتباعاً اعتقد كانط أنّ التجربةَ كفيلةٌ بحل مسألتين بدا اعتقادُه فيهما خاطئاً. مسألة: النقائض (المفارقات)، ثم مسألة: الأصل في كل فكرة كليةٍ وكل ضرورة معرفيةٍ. في هذا الشأن استيقظ فيلسوفُ النقد- بمطرقة هيوم ثانيةً- مفرِّقاً بين مادة التفكير وصورته؛ أي التمييز بين صورة الذهن verstand وصورة العقل vernunft. الصورة الأولى كالمكان والزمان بينما الصورة الثانية مثل العلة والجوهر والممكن والضروري.

لتؤكد تفرقة كانط أنَّ الذهنَ ملكة لإنتاج تمثُلات حصولاً على المعرفة، هو ملكة التفكير في الموضوع الحسي بمساعدة مقولاتٍ وأحكامٍ. أمَّا العقل، فملكة الصور اللا مشروطة، وغير المقيدة زماناً ولا مكاناً.  يتجه أولاهما إلى الجزئي، بينما يتجه ثانيهما إلى كلِّ التجربة وإلى المطلق فيها. وقد أحدثت تلك التفرقة تحولاً جذرياً نحو  طبيعة المرحلة النقدية في فلسفة كانط بمجمل زخمها.

كانت المحصلةُ أسئلةً كانطيةً أكثر جذرية: ماذا يمكننا أنْ نعْرف؟ ما الواجب علينا فعْله؟ وبماذا يمكننا عقلانياً أنْ نتفاءل؟

حيث اخفقت كلُّ إجابةٍ لا تواكب القدرةً على تجاوز المواقف الجزئية، وحيث طافت الأسئلةُ كافةَ مجالات المعرفة بحثاً عن الشيء المختلف. إنَّها كانطياً مشروطةٌ بالإطاحة بأي تأسيس لاحق على التفكير الاستفهامي. فينشأ التفكير في نقد منطلقاته، إنْ لم يهدمها مغايراً أية رؤية يتحدَّد فيها. هكذا غدت الأسئلةُ تمارين على السهر الكانطي داخل فضاءٍ يتسعُ كلما اقتربنا منه. الاسئلة تعلمنا فناً للسُهاد عبر اركان المعنى النائية نأي المجهول. وبالإمكان لو أثرنا أسئلةً دون قيودٍ إزاء الواقع المعيش، لكان التفكيرُ أكثر عُمقاً. فالسؤال ينبعُ من حرية أصيلةٍ للعقل خارج القوالب الجاهزةِ، ناهيك عن احساسه بالمشكلات بصورة مبتكرةٍ. وليس ذلك إلاَّ ليكمل "أرقاً فلسفياً" يشمل كيان الانسان.

يقول الميتافيزيقي المتشرد اميل سيوران: " هناك نوعان من العقل: أحدهما نهاري والآخر ليلي، لا يتشابهان في النوعية ولا في الجوانب الأخلاقية. تراقب نفسك في وضح النهار وتجود بما لديك ليلاً. النجاعة أو العواقب الفظة تهم قليلاً الرجل الذي يُسائل نفسه عندما يكون الآخرون فريسة للنوم، وعليه فهو يتأمل بناءً على الحظ السيئ لكونه قد وُلد، دون مبالاةٍ بأي أذى قد يسببه للآخرين أو لنفسه. بعد منتصف الليل يبدأ سُكْر الحقائق المدمرة ."

ما من فلسفة جد مثيرةٍ إلاَّ وتتوافر على مخزونٍ خصيبٍ من الأرق الفكري الذي لن يُحسم بسهولة، لأنه دائم التساؤل. فأي فلسفة تبحث عن تدمير قيود ما، قد يراها الفيلسوف أو المتصوف أو الشاعر بدقةٍ دون أنْ يراها الآخرون. كما يوضح جلال الدين الرومي أنَّ القيد قد يكون صورة هي المسخ للحقيقة، يقول: "إنك قدْ رأيتَ الصورةَ، ولكنك غفلت عن المعنى". لأن الصور هي الحجم النسبي الذي يحول دون الكل الأبعد ورائه. الصورة قيد يختزل الوعي ويحبس الخيال، لكونها تجلُّطاً للمعنى في هيئةٍ بعينها، حجاب عرضي يواري ما هو غير قابل للاختزال بلغة الفلسفة.

والمعنى المتفلت من القيود يبرز وجهين: ما هي القيود المفروضة عليه وما هي طبيعة الصوة التي تأخذ مكانه؟! يؤكد الرومي: " ولكن ما الصورةُ إذا جَاءَ المعْنى"، أي أنَّ المعنى قدرةٌ مفتوحة للخروج من الاغلال وكسرها بلا رجعةٍ، إنها مهمة التفلسف أيضاً ناهيك عن التصوف، فالإنسان العادي يرى الصورة، يحن إلى القيد، يتمنى الارتباط به، ولذلك هو دوماً يتجمل للصور واقفاً بالقلب منها، بينما أهل الفلسفة يتعلقون بالمعاني، تلك المتناثرة والهائمة خارج الصورة.

الصورة -كما يقول الرومي- هي غفلة المعنى، نوم المعنى على طريقة نوم كانط، والإيقاظ هنا هو لا عودة إلى الإطار المحدود من معانينا، بل إلى فضاء الكل اللامتناهي. وعبارة الرومي الدالة تقول: " يسمعُ الطائرُ صوتَ أبناءِ جنسهِ، فيّجيءُ من الهواءِ فيجدُ الشبكّةَ والسِكِّيْن". تلك النهاية الفارقة في الوقوع بالفخ: أنْ يكون فريسةً غير مأسوف عليها. وإذا كان الإنسان يلجأ إلى الاحتماء بالآخرين، فذلك ضياع الهواء الطلق (الحرية – المعنى– العشق). جميعناً يرى في القيود أمناً يريح هواجسه، لكن الثمن أنها افقدته أهم ميزة في الحياة، التحليق خارج الأنظمة وبعيداً عن الأسوار.

- القيود التي قد نعيها هي تكوين الفكر بحسب الثوابت والحنين إليها.

-  في وجود الآخرين، تكون الشِبَاك والسكين منصوبين للإيقاع بالحرية.

- الهواء الطلق هو الخيال الرحب الذي لا يبارح الإبداع والانطلاق.

- الأسئلة النافذة أحد أدوات تمزيق شباك الصياد الأيديولوجي أو المعرفي.

- لتكن الأفكار بكلمات الرومي خارج الأقانيم، خارج الأشكال، خارج الصور.

- التحرر لا يأتي لطائر في الهواء وإلاَّ ما الفائدة، فهو بالهواء الطلق تلقائياً، لكنه تحرر مهم لمن هم في الشباك ولا يعلمون.

هذا يعني أن ثمة بحثاً فلسفياً في القيدِ الفكري ذاته قبل تحطيمه. وهذا يفسر: لماذا يشعر الإنسانُ بقيوده بخلاف الكائنات الأخرى؟ كيف تتعلق القيود بنا نحن البشر؟ وما هي أبعادها؟ فلو اردنا تعريفاً بسيطا للإنسان، فهو الكائن الشاعر بالقيود دون سواه والذي يريد التملص منها ولو أدمتْ كيانَّه، قيود سيكولوجية وقيود كونية وقيود معرفية وقيود فكرية وأخرى سياسية ... وسيعني التعريف أيضاً وجودَ القيد بالنسبة للأسئلة بما هي طرح اشكالي. فلا استفهام دون طرحٍ لمحددات الفكر تحت نشاطه المتجاوز. أسئلة التفلسفِ أكثر جذريةً من غيرها، بل لها طابع كلي وتُرْهص بتكوين أفق عامٍ لمجالاتٍ عديدة. فالعلم لا يسائل القواعد القائم عليها. كلُّ علم هو طريق لطرح مشكلة جزئية والاستجابة لها بمزيدٍ من الأسئلةِ.

أمَّا الفلسفةُ، فتعمد إلى النبش الجذري في الأسس، تأسيس الأسس ذاتها. هي اشكالية حول (وداخل) المشكلات لا مجرد ايجاد حلول لها. لهذا هي تحتاج الحرية في طرح استفهامات توازي عمق التأسيس ومساحته. الفلسفة تعمل على أصول الرؤى وأنماطها الأولية (الروح-العقل– العالم – الكون...). إن أصالةَ السؤال في هذا الحال أكثر أهمية من الاجابة، لأنَّه يستطيع تغيير نمط التفكير. لن يكون السؤال ترفاً، لكنه ذروة الكدِّ العقلي، هذه الجدية المفرطة التي تذهب إلى أفقٍ غير مطروقٍ.

لعلَّنا نكُّف عن النظر إلى الأشياء بمجرد الأداءِ المعرفي الجزئي. لأنَّه أداءٌ لا يُعلن جديداً إلاَّ تعلُقاً بقديمٍ ما. وهو بذاته تمثيل لمنظومةٍ مستعارةٍ تستهلك فاعليتها (وفاعليتنا بالمثل) حين تُطرّح. فبالإمكان ارتداء باروكة من الشعْر دون انهاء حقيقيٍ لحالة الصلع. ونحن في حياتنا الفكرية العربية نَقلّةٌ أُمناء لمضامين فكرية ليست لنا، حتى ولو كان أسلافُنا التراثيون هم صانعيها، فما بالنا بنفس النقلِ الفلسفي من المختلف ثقافةً وفكراً. فالحرف المُقلَّد واحد، سواء أكتبه قدماءٌ هم جسدنا التراثي أم معاصرون أمامنا على ضفاف غربيةٍ!!

هل سنظل نطابق بُعداً معرفياً لحياتنا مع حيوات الآخرين؟ حياة ليست لنا وفوق ذلك نتقمصها كما لو كانت نحن. أين اسئلتنا الوجودية والثقافية المعبرةِ عن أعماقنا وموقفنا تجاه قضايا الحياة والإنسان والتاريخ والكون؟ كيف نكَّون سؤالاً راهناً في حياتنا الفكرية؟ وماذا يعني كونَّ السؤال اشكالياً لماهية أي تفكير من هذا الصنف؟

 

سامي عبد العال

 

 

جعفر نجم نصرمحاولة لكشف المفكرين المزيفين في العراق

(يوجد في هذا العالم معلمون مزيفون أكثر عدداً من النجوم في هذا الكون. فلا تخلط بين الأشخاص الأنانيين الذين يعملون بدافع السلطة وبين المعلمين الحقيقيين).

شمس الدين التبريزي


ان ادعياء العلم لم يكونوا وليدي اللحظة الراهنة، إذ شهد العالم ومنذ قرون الكثير منهم، والذي نجحوا في استجلاب الجماهير لساحتهم وسماع مقولاتهم المزيفة/ المخادعة، بل وتأييدها أو لنقل تقليدها حرفياً، ولعل محاولات التصدي لهم انطلقت بعدة وسائل وآليات عمل وبحسب خصوصية العصر وسماته وتقنياته.

ونحن إذ نحاول وضع معالم أو لبنات للتصدي لهؤلاء الذين ينفقون ليل – نهار عبر عدة وسائل- مستغلين كل قنوات المعرفة لترويج أطروحاتهم ومقولاتهم لأجل التسيّد على المجتمع والبرهنة على أنهم الاعلم، فأننا نبدأ بسؤال أولي: هل يوجد مفكر ما صديق للجميع؟ لعل هذا سؤال ضروري لأجل فتح آفاق واسعة لأجل الفهم فيما بعد أحدى أساليب أو حيل أدعياء العلم. وقبل الاجابة عن السؤال اعلاه، نذهب نحو تساؤلات محورية كمقدمة للأجابة عن السؤال آنف الذكر، وهي:

متى يمكن ان يعد كاتباً ما أو مثقفاً ما بوصفه مفكراً؟ أو متى يمكن ان نطلق عليه صفة أو سمة [المفكر]؟، أعتقد ان لذلك شروطاً عدة ينبغي الالتفات لها وهي:

أولاً: ينبغي ان يقدم مشروعاً فكرياً ذا سمات تنويرية – تجديدية - واقعية، وان لا يكون مقلداً لاتجاه أو تيار اصلاحي ما، يستنسخ مقولاته أو اطروحاته عبر استخدام لغة أدبية – فضفاضة (تلوي عنق الكلمات)؟!.

ثانياً: أن يكون له منهج واضح في التعامل مع القضايا أو المسائل التي يوجه لها سهام النقد أو التجديد أو التحديث، وأما ان يكون طرحهُ عاماً غير مستند إلى موجهات أو تأطيرات منهجية، فهو يعد بذلك مثقفاً استعراضياً، يلوك المصطلحات الفلسفية لا أكثر ولا أقل، وحينها لا يعد علمياً أو صاحب اتجاه نقدي (متميز)، ما دام قد افتقرت اطروحاته للمنهج العلمي.

ثالثاً: ينبغي ان يقدم بديلاً معرفياً –عن كل الاطروحات أو المقولات التي قال بها غيره من اصحاب المشاريع/ النقدية المعرفية، وإلا أن عملية تكرارها عبر الاستعراض يُعد هدراً أو لغواً لا قيمة له.

رابعاً: أن تكون اطروحاته أو مقولاته النقدية تستهدف قضايا محددة، أو جوانب واضحة المعالم، بدل ان يكون طرحه ضبابي/ مصلحي لا يقوم على تشخيص حقيقي، بل مجرد استعرض مقولات عامة لا تخاطب (السلطة الدينية/ السلطة السياسية/ الشريعة ونصوصها/ المجتمع وظواهره/ الغرب واتجاهاته (بلغة نقدية)، أي ان لا تكو أعماله مجرد حشو لا طائل منه عبر لغة معبأة بالمصطلحات أو العبارات الملتوية، كيما يضحك بها على الافراد البسطاء أو على بعض المثقفين/ الاستعراضيين القشريين الذين يملؤون صفحات [الفيس بوك].

أي ينبغي ان يكون المفكر قدم اطروحات مست مصالح أو قضايا أو اتجاهات حيوية داخل المجتمع العراقي، فإنه اذا لم يُغضب على سبيل المثال:

أولاً: السلطة السياسية: فهذا لأنه غير عابئ بفسادها وقصورها العام، بل هو جزء من منظومة الفساد والمروج لها عبر صمته عنها ضمنياً، بل لربما مستفيد منها.

ثانياً: السلطة الدينية (الفقهاء): اذا كان هو صاحب مشروع تنويري، اصلاحي فهو بالضرورة يؤمن بالفردانية وبعدم الوصاية على الفرد، اي لا يؤمن بالبطريركية الدينية التي تدعي الوصاية على المجتمع، وهذه أولى أو جوهر مركزية [النقد الديني] أو الاصلاحي التنويري، ان كان يدعي ذلك، وهو ان لم نتلمسه في عمل أحدهم، فهو أذن حليف هؤلاء وأبنهم البار الذاب عن حرمهم، والا لو كان لديه مقولات أو اطروحات نقدية/ أو تنويرية لمسهم في كتاباته وأذن لغدا ألد أعدائهم ومن خصومهم.

ثالثاً: فئات المجتمع العراقي: هنالك ظواهر أو قضايا اجتماعية عديدة تتطلب عملية نقدها أو اصلاحها تطال بنى اجتماعية عدة من ضمنها القبيلة والقبائلية، التدين الشعبي أو الطقوسيات الشعبية المعطلة للوعي وللأنتاج في الوقت نفسه، وغيرها الكثير من الظواهر التي ترتبط بالبُعد الديني ان كان يدعي معالجتها بأعماله، فإذا كان المجتمع يستقبل اطروحاته برحابة صدر بغير عداء، فهذا يعني انه كان يغازل مجتمع الفئات بأعماله ومن ثم فهو ليس بمصلح أو ناقد أو تنويري، لأن المجتمع لم يغضب على أعماله.

لعل معترض يقول: الكاتب الناجح هو من يداري مشاعر قرّائه ومن ثم لا يستجلب العداء منهم؟ ولماذا العداء اذا كان يكتب بلغة علمية (بحسب إدعاء البعض)؟.

لعل الجواب عن ذلك هو: ان أي عملية تشريح نقدي للنصوص الدينية أو للظواهر الاجتماعية أو للسلطات الدينية أو السياسية تستوجب وضع القراءة التصحيحية بوضع البديل الممثل بأطروحات أو مقولات النقد، بعبارة أخرى ان اي متصدي لعمليات النقد أو المراجعة داخل المجتمع يستوجب منه تحديد الجوانب السلبية التي تطال هذهِ القضايا التي يتصدى لها، فأن راجع النصوص الدينية على سبيل المثال: يتطلب منهُ نقد القراءة الرسمية لها بوضع بديل لها، يكشف من خلاله كيف ان الاجيال أو ابناء المجتمع عاشوا في غيبوبة دينية عن أدراك المعاني المغايرة لما اعتنقوه أو آمنوا به طوال قرون، فأنه ان قام بذلك يجعل من سدنة الدين التقليديين (الفقهاء) وجماهيرها المعطلة ذهنياً بمثابة أعداء شئنا ذلك أم أبينا، ولكن ان كان يقوم بقراءة مدلسة لتلك النصوص أو يقدم مشروعاً نقدياً/ استعراضياً لأجل عدم المساس بمصالحه وبمقامه الاجتماعي والثقافي، فأنه سيكون معصوماً من الناس، وسيغض الطرف عنه إلى أن يموت وهنا يشيع بوصفه المفكر الاسلامي الاكبر الذي كان حامي حمى العقيدة حياً وميتاً؟.

من الامور التي يمارسها هؤلاء الذين يدعون أنهم مفكرون اصلاحيون/ تنويريون، هي استخدام لغة فضفاضة لا يمكن لأحد ان يمسك من خلالها على عبارة تمس (الدوائر القدسية) ان كانت نصوصاً أو اشخاص أو مؤسسات، أي انهم يقومون بعملية التعمية الفكرية على الجماهير التي غدت تنتظر المنشورات (الفيسبوكية) أكثر مما تقرأ، بل نعيش الان أجيال من المثقفين يعتاشون على الغير ومناقشة منشوراته اكثر ممن يناقشون الكتب والاعمال العلمية.

ولكن للأمر السابق بقية خطيرة: الا وهي ان هؤلاء المفكرين/ المصلحين الذين يدعون انهم اصحاب مشروع محاطين بمجموعة من اشباه المثقفين والاكاديميين والمعممين الحوزويين الذين يشتركون معهم على ذات المصلحة، لاسيما وان هذا المفكر الذي لم يغضب (نملة) في كثير من الاحيان يتولى منصب كبير ومقرب من رموز دينية وسياسية ومجتمعية كثيرة، وهنا يظهر مشهد الاجتماع على (القصعة الواحدة الدسمة والوقوف على التل أسلم).

أن عملية التوعية بمخاطر هؤلاء والمتحالفين معهم أراه واجب أخلاقي لأجل اسقاط رمزيتهم المصطنعة والمختلقة والكشف عن نواياهم المريضة في الصعود عبر سلم المعرفة لأجل نيل التبجيل والاحترام بل وحتى التقديس.

ولعل الطامة الكبرى الان في المجتمع العراقي ان كل شيء مزيف، فقهاء لا يمارسون ادوارهم بردع الفساد بل يشتركون فيه، جامعيون لا هم لهم سوى قبض المعاش واستعراض أربطة عنقهم واعمالهم المسروقة، زعماء سياسيون أكلوا الجبل وشربوا دجلة بفسادهم هم وقطعانهم البشرية الخاضعة،.. الخ. من مظاهر التزييف مستمرة، ولكن أخطرها ان يكون مفكراً/ نقدياً هو غطاء لهم وحليفهم جميعاً (صديق الكل)، وهل يمكن للناطق بالحق ان يكون صديق الجميع؟!.

 

جعفر نجم نصر

 

بشار الزبيدييقول سارتر: "المُثقف هو من يهتم بأمور لا تعنيه إطلاقًأ"

ترجمة: بشار الزبيدي

يُفرق سارتر بين "تقنيي المعرفة العملية" وبين"المثقفين العضويين". فمن ناحية يرى أن المثقفين ينحدرون من الصنف الذي يُطلق عليه تسمية "العضويون" لأنهم تكونوا تقريبًا بشكل طبيعي، ونشأوا في الطبقة البرجوازية الطموحة. حيث أنتجت الرأسمالية التجارية المُبكرة العلم بوصفه أداة،وظهرت فيها الكثير من المؤسسات وأصبحت فيها التجارة أكثر أهمية. كان البحث العملي المرتبط بذلك هو الشرط الأساسي لظهور المُثقفين الذين تبنوا مُمارساتهم ووجهات نظرهم مثل التناقض ورفض أي سطوة وأي شمولية للقوانين. هذه التقنيات، التي تعلمها المُثقف العضوي بسبب انتمائه إلى الطبقة البرجوازية ووظيفته كأداة للرأسمالية،يُطبقها على مشكلات التاريخ والمُجتمع". فهو مُثقف عضوي لأنه قام بتقديم ذلك كجزء من الرأسمالية،وفَهِمَ البرجوازية على أنها شمولية تميزت عن الخصوصية الإقطاعية من خلال طريقة التفكير هذه، وانتقدها بنشاط وقرب هذا النقد من المواطنين.

ومن ناحية أخرى وكما ذكرنا سلفًا، يتفرع المُثقف في تعريف سارتر من "تقنية المعرفة العملية" وينحدر من الطبقة الوسطى أو الطبقة البرجوازية الصغيرة. يتم استخدامه في هذه الطبقة كأداة لتمثيل المصالح المتعلقة واستغلال الطبقات السفلى. تحدد الطبقة الحاكمة عدد تقنيي المعرفة العملية بناءً على غرضهم وتحدد تكوينهم بطريقة تتوافق مع إيديولوجية الطبقة. وهكذا يُصبح فني المعرفة العملية شريكًا تلقائيًا في إيديولوجية مُعينة، وهو ما يتعارض مع الشمولية المذكورة أعلاه، والتي تنسب نفس القيم للجميع، بغض النظر عن الطبقة. لذلك ينشأ فني المعرفة مع تناقض، بالأحرى تناقض بين الإنسانية، كما تعلم في المدرسة، وبين الوضع الواقعي في المجتمع حيث يسود الصراع الطبقي والانتقاء والاستغلال. يتشكل المُثقف في الحداثوية حسب سارتر من تقنية المعرفة العملية إذا أصبح مُدركًا لهذا الظلم وهذا التناقض، ومنذ ذلك الحين يرفض هذه الإيديولوجيا ويمتنع عنها. ثم يُصبح عدو للمجتمع الانصرافي ويصبح ذلك الوحش، أي المفكر، الذي يهتم بما يهمه [...] ويقول الآخرون عنه أنه يهتم بما لا يعنيه"

يذكر سارتر أيضًا في مقالته أن المثقف ليس له وضع ولا تكليف. وبما أن تأملاته عامة وبالتالي تنطبق على الجميع،فإن المُثقف نفسه يبقى مجهولاً ولا يدرك وجوده. ولكن ما هي وظيفته إذن؟  يستمر بالبحث لأنه لا يمتلك معرفة ولا قوة في البداية، مما يعني أنه يجهل الأمور، على عكس المثقف التقني. هو بمثابة "مُحقق" يستكشف أولاً وجوده ويحاول مواءمة التناقضات المذكورة، والتي يخضع لها كتقني في المعرفة العملية. يُمكنه بعد ذلك تطبيق ذلك عمليًا على المُجتمع. في الوقت نفسه، عليه أن يعترف بنفسه كجزء من المُجتمع الذي يتقصى فيه. لذا يدور الأمر هنا حول تعاكس مُستمر،"الذات يعكس العالم،والعالم يعكس الذات". وبما أن تناقض المُجتمع يتوافق مع تناقض كيانه الخاص، فمن المُستحيل عليه أن ينظر إلى المجتمع بموضوعية. ولكن لا يكفي أيضًا أن ينظر المُثقف إلى نفسه بشكل ذاتي، لأنه لا يُمكنه الانفصال من هذا المجتمع على اعتباره جزءًا منه. هذا التحول المُستمر،الذي يُسميه سارتر"المظهر الخارجي للعالم الداخلي،وإعادة  المظهر الخارجي للعالم الداخلي"،ضروري للتغلب على بعض التناقضات. يجب على المفكر دائمًا أن يعود إلى ذاته ويفهم نفسه على أنه "فرد مُتنوع" . ويجب أن يتجنب التعميمات وأن يُشير بدلاً من ذلك إلى حالات مُحددة.

لذا فإن دوره هنا هو دور القدوة كفرد مُتنوع. يُمكن أن يُساعد المظلومين على وضع أنفسهم وإدراك خصوصيتهم التاريخية. وفي الوقت نفسه، يُمكنه دعمهم في "نضالهم من أجل التوسع" ضد الظُلم والاستغلال. لهذا السبب فإن عمل المُثقف هو انتقاد أيديولوجية الطبقة الحاكمة باستمرار بحيث تُصبح عودة هذا الفكر مُستحيلة. ويستغل في المقابل المعرفة التي وفرتها الطبقة الحاكمة لتعليم الناس. يقوم بتدريب مواطني الطبقة المظلومة ليصبحوا تقنيين للمعرفة العملية ولا يُمكن للطبقة الحاكمة ان تقوم بشيء من هذا القبيل لكي تبقي النخبة المُثقفة مُتشابهة قدر الإمكان وتواصل مهامها. ووفقا لسارتر فإن الكاتب يلعب هنا دورًا مهمًا، حيث أنه بطبيعته مُقدر له اتخاذ موقف فكري.

 

 

سامي عبد العالالأسئلةُ لا تسقط كالأمطار من السماءِ ولا تنبتُ من الأرضِ كالأعشاب، لأنَّها نشاط إنساني يثير قضايا فكرية خطيرة. الخطورة من زاوية كشف أبنية الثقافة، ولماذا تتفاعل مع حركة التاريخ، كلُّ ثقافة تلقي برواسبها العميقة على ضفاف المجتمعات كالنهر الذي تكتنفه تيارات شتى فيحرك الراسخ. والثقافة الإنسانية دوماً كونية التكوين والتطور وإنْ كانت نوعية الطابع. وكلما كان الفكر متمرداً، استطاع إثارة أسئلة أكثر جرأة وابتكاراً.

لا توجد حياة إنسانية دون أسئلة تبحث في أعماقها وتنتقد أسسها القائمة. فالأسئلة ضربٌ من المواجهات بين أزمنة ما كانت لتلتقِ إلاَّ بألوان الحوار العميق. وهي تقلل درجات الصدام إلى حد التلاقح، وبدلاً من اتيانه صداماً عنيفاً، يغدو أكثر خصوبة وتجاوزاً.

توصف الأسئلة بالزيف نتيجة غياب موضوعها الأصيل. والموضوع بهذا الوصف يحتاج تاريخاً حتى يكون كذلك، أي يجب أن تكون هناك حياةً حرّة تجعل الفكر والتساؤل جزءاً من همومها اليومية. ففي مجتمعات لا تعيش عصرها، ولا تبتكر رؤاها الحيوية لن تُثار إلاّ اسئلة تافهة. وهي كضرب من المعرفة ستكون في غير موقعها النوعي. السؤال عبارة عن طلب لحوح، بحث دؤوب عما يسد حيرة الإنسان كجائع ينهشه الجوع ويبحث عن شيء يسد رمقه!!

الاسئلة الزائفة هي وليدة هامشية هذا الجوع للمعرفة والاختلاف، أنها نتاج الفراغ العبثي في معدة الثقافة وامعائها لمزيد من التحرر والامتلاء. كلُّ ثقافة لديها قدرة على الهضم واعادة انتاج محتوياتها إنَّ لم تجد جديداً لتأكله. لكن عوضاً عن توجه الأسئلة في طريق مختلف، تغدو عرضَّاً طافحاً لهذا المرض التكويني، فأي سؤال زائف هو نتيجة باثولوجيا التفكير pathology of thinking فيما لا يفيد واجترار قضايا غثة.

بكلمات أخرى تعتبر الأسئلة الزائفة مجرد ادعاءات بصيغة الطلب request خلف أشياء وأفكار لا مجال للتحقق منها هنا والآن، اشياء قد لا تخص الإنسان إلا إيماناً حتى وإن عرف إجاباتها. ابرز الأمثلة أسئلة دينية تسود من حين لآخر مثل: هل نحن محاسبون على قتل البعوض؟! ما هي اشكال الملائكة وألوانهم؟! كيف يتناسل الشيطان والجن؟! هل ثمة خطة مصممة للأقدار يمكننا كشفها بدقة؟!

علما بأنها اسئلة وسط واقع لا نعرف عنه شيئاً ومغطى بالتحريمات التي تدهس الإنسان!! التناقض الساخر: أن الواقع مجهول ونبحث عن مجهولات في عوالم أخرى لها سياقها. يبدو أن اسئلة من هذا القبيل حيل ملتوية للهروب من مناخ لا هوتي وثقافي يحول دون الفكر الحر وتدعيم حركة المعرفة والمشاركة في الحياة بكافة جوانبها.

ذلك الزيف يبرز مفارقات أوسع: كيف نتساءل عن الحقائق في مجتمع كذوب؟! كيف نبحث عن الإنسان وسط انسانية مهدرةٍ قبل كل شيء؟! على المنوال ذاته: لماذا تأتي المساواة والعدالة ضمن أنظمة سياسية قمعية لا تعترف بأية عدالة؟  لماذا نبحث عن الآخر ونحن نقتله يومياً؟ كيف ننقب عن صدق الايمان وقد تحول الدين إلى إكراه؟! كيف نبحث عن دين مزقته الجماعات الدينية إلى أشلاء؟!  لماذا نزعم أننا نتجه صوب الله ونحن نكفر كلَّ مؤمن آخر؟ لماذا نطرح أوجه اختلافنا ونحن نُسخ مشوهة من بعضنا البعض؟ كيف نلوك عبارات الحرية وقد أمست التربية تدميراً للإرادة والمسؤولية؟ كيف نريد ترسيخ قيم العقلانية بينما يسير المجتمع كالعربة الحمقاء دون كوابح؟ كيف نتطلع إلى الجنة ونحن نقف في طريق الباحث عنها بل ننتهك وجوده؟!

إذا طُرحت هكذا قضايا باحثين وراءها عن أسباب، كانت قضاياً كاشفة إلى درجةٍ بعيدةٍ. بل قد تؤكد علاقات وصوراً وأبنية فكرية لها ذات التكوين الخادع. فالسؤال هو جوهر الوجود الإنساني سلباً وايجاباً. وبإمكانه أن يكشف ما وراءه من أفكار، لأنه ابقى من الإجابة وأوسع نشاطاً. وكم من أسئلة لديها القدرة على الانفلات من عصرها، لأنها تخبو نتيجة القهر تمهيداً للظهور في وقت تال.

لكن.. بأي معنى هناك أسئلة زائفة false questions؟! هل يجري الزيف منطقياً أم بلاغياً أم حياتياً؟ الاسئلة حينما تكون مزيفة، فليست تقنية طرح لها دهشتها ودلالتها الفاعلة. ربما سيكون طرحها بهدف مغاير لما يفهم منها مبدئياً. فالسؤال -وإن كان غير ضروي - يثير أسئلة تالية لا تتوقف. وهذه سمة لا تتضح في أغلب الممارسات الفكرية الأخرى. فسؤال: لماذا لا نطير مثل الطيور في السماء؟ يبدو سؤالاً مصوغاً على نحو خاطئ. بيد أننا لو دققنا النظر سنكشف مغزاه الآخر، فنحن لا نطير، لأننا كائنات مختلفة جسداً وطاقة وقدرة، بينما الطيور مزودة طبيعياً بتلك الإمكانية.

وبالتالي من زاوية التاريخ، كان السؤال السابق مؤولاً لاختراع تكنولوجيا الانتقال عبر الفضاء وتجاوز حدوده. إذن ليس ثمة سؤال مزيف إلاَّ باستطاعتنا تأويله. سيكون مزيفاً طالما وجد ثمة سائل يلقيه في المكان الخطأ وعبر دلاله ليست له. إضافة إلى هذا، فإن السؤال يرتب وضعاً ما، فأنت تطلبه وهو يطلبك بفتح طريق معين.

إن الأسئلة الزائفة هي افراز لحياة مزيفة. فكلُّ واقع زائف لن ينتج إلاَّ شيئين:

أولاً: وعيٌّ فارغ تغذيه المشكلاتُ المفتعلة سواء بين الأفراد أو الجماعات. فالجذر الدلالي للزيف مرتبط بالتكلُّف والاصطناع والخفة وانعدام الأصالة. وهذا ما يظهر يومياً مع وسائل الإعلام ومساحات البرامج التي تغذي التراشق بين المجتمعات وتغذى فاض التفاهة المتراكم.

ثانياً: تضخم اللغة في أشكال استفهاميةٍ لا قيمة لها بحيث تشغل الفراغ. أي تصبح الثرثرة سمة عامة كجزءٍ من بناء الحياة اليومية.

والنقطتان السابقتان قد تحددان عصراً كاملاً بحجم التخلف الذي تعيشه بعض  الأنظمة الاجتماعية والسياسية. فيحدث هناك امتلاءٌ فارغ كالريح التي تصْفُر في كهفٍ أجوف.

وإذا كان الاستفهام بذلك الوضع يعد عرَّضاً، فسرعان ما يشكل جوهر الأفعال والتصورات المترتبة عليها. والمتوقع أنَّه يربك العقل الناقد بكم الإجابات التي في غير مسارها. وقد يحاول حتى الامساك بمعايير للنقد، حيث لا مشكلة ولا سؤال من أساسه. وتصبح هناك قضايا زائفةٌ وأفكار زائفة وثقافة زائفة. ليس بالمعنى الذي يقصده الفكر الوضعي المنطقي حين يطابق بين الألفاظ ومدلولها الواقعي (مبدأ التحققverification)، بل بالمعنى الثقافي المؤكد لدلالة النشاط الحي وأهمية اللغة كأفعال إنجازية. فالأسئلة انجازات عقلية لها قضايا ما كانت لتأتِ لولا طرحها باللغة التي هي بناء الفكر.

هكذا في تاريخ العالم العربي قد يوجد لدينا سياسيون دون أسئلة سياسية فعلية. ورجال دين من غير تدين حقيقي كمشروع إنساني، وعلماء عباقرة في كافة العلوم بلا علم ولا إبداع. واساتذة لامعون وألقاب أكاديمية دونما مضمون، ودولة بلا دولة وأنظمة بلا نظام، لكونها دائرة في فلك بدائي خارج التاريخ، وتوجد قوانين يقال عنها مصونة وفوق الكل بلا مشروعية حقيقية. قِسْ على ذلك أغلب الكيانات والأسماء والخطابات المشابهة والتي تسير بالطريقة ذاتها.

عندئذ: ماذا سيقدم السؤال غير التزييف؟! هو سيطرح نفسه بجدية التفكير لكن بلا قدرة على الاستفهام!! هكذا يطلقون على العملات المزيفة في الاقتصاد أوراقاً مالية بلا قيمة. إما لأنَّها لا تساوي شيئاً في الأسواق. وبالتالي تكاد تنعدم قوتها الشرائية وتزيد نسبة التضخم. وإمَّا أنها مزيفة فعلاً لتكون مجرد ورقة عليها أرقام عشوائية. من يأخذ الأسئلة على محمل الجد حتى في تاريخنا الثقافي العربي القريب؟! من ذا الذي يعني بالكد وراء الإجابات ولو وراء نصفها؟!

ستكون كلُّ تداعيات الاسئلة المزيفة غير حقيقيةٍ هي الأخرى. الأمر الذي يعطي مشروعية لكيانات تعيش في الأخيلة وحسب، لأنَّ الأسئلة ستعود إليها في محاولة لتأكيد مكانتها. كما أنها ستظل مرتبطة بظروفها الفكرية والثقافية التي ظهرت بشكل غير منطقي. فالأزمات هنا لها آثارها في أشكال عدة، من بينها الأسئلة السطحية التي تلتهم الوعي. ولئن أظهرت شيئاً فإنّها تفضح خلل استعمال اللغة بذهنية غارقة في الأوهام. والسؤال المزيف بالنسبة للثقافة العربية هو فتيل الأزمة، تلك التي ليست خاصة بمجال معين بقدر ما تتغلغل عبر مجالات أخرى.

وبالرغم من كون السؤال صيغة مقننة العبارة، إلاَّ أنه واسع الأثر. وكلما تلقى إجابة كلما ازداد التأكيد على موضوع "غير موجود". وتعبير "غير موجود" لا يعني معدوماً. فقد يمثل انشغالاً بما لا يجب وافتعالاً لأحداث ونزاعات لا طائل منها. أو بعبارة ابي العلاء المعري " لزوم ما لا يلزم". فالثقافة المزيفة تجعل الهامشي –على أهميته أحياناً- متناً ضخماً. ينشغل به الناس والاعلام والقاءات العامة والكتب الصفراء (كتب الأرصفة) بقضايا هامشية، مثل أخبار وفضائح رجال السياسة والدين وجرائم العائلات والعلاقات الجنسية وأخبار الحوادث والنزاعات الشخصية وكواليس السياسات وحماقات الأفراد وخصوصياتهم.

وبخاصة أن شبكات التواصل الاجتماعي جعلت هذه الأخبار متناً ً تلوكه العبارات وتنشره التعليقات كالنيران في الهشيم. لدرجة أن التفاعل والتغريد عبر صفحات الفيس بوك وتويتر وانستجرام يعيدان ترويجها بلا حدود. إن الذباب الالكتروني كالذباب الطبيعي يقف على الجيف والجثث ولا يعيش إلاَّ وسط الركود. وبتنا نرى استعمالاً دارجاً لوسائل التكنولوجيا والاتصال يكرس " فقر الفكر وفكر الفقر" بعبارة يوسف إدريس.

ذلك عودة مرة أخرى إلى الثالوث المحظور مقاربته أو تناوله (الدين والجنس والسياسة) في المجتمع العربي. فنتيجة انعدام الحرية وغياب المعرفة الفعلية شكل الثالوث السابق هوساً جمعياً. بل جعل الحديث فيه- ولو كان تافهاً هو الآخر- موضوعاً للرواج والاسفاف الاجتماعي والأخلاقي. المدهش أن ثمة فئات في المجتمع العربي تعرف هذه الآلية فيتربحون مادياً ورمزياً من هذا الوضع.

ففي المشهد الثقافي المعاصر، نجد الاسفاف الفني يأخذ مداه على هذا النحو. الغناء مجرد مُواء أنثوي أو تخنُث رجولي، لكنه في النهاية يسمى فناً وتفتح له الأبواب والنوافذ معاً. كذلك التمثيل الفني صراخ وعويل في الأفلام والمسلسلات ناهيك عن التكرار والسطحية. وفوق هذا وذاك يدِّر ارباحاً لا طائل لها مثلما يبدو في أجور الفنانين. كما أنه يضع القائمين على انتاجه في صدارة المبدعين كأنَّ الأمر حقيقي.

ونتيجة الأسئلة الزائفة في هذا الباب تظهر أوضاع جانبية لكنها مرَّضية. بمعنى أن الهامشي يحتل مكانة المتن التي ليست له. ليغدو ثقافة رائجة تعيد دغدغة وتفتيت القيم والأولويات في المجتمع العربي وإهدار الأنشطة الإنسانية. فأصبح الكسب الخاطف فرصة لمن يتطلع للثراء السريع. وبات معروفاً لكل شاب وفتاة أنَّ الممثلين والممثلات ورموز الرياضة ورجال السياسة هم أيقونة المجتمع. وفي هذا المناخ ظهر أيضاً بذات الأسلوب رموز الخطاب الديني ودعاته الديجيتال. هؤلاء الذين جعلوا الدين ظاهرة زائفة وكهنوتاً له كل الأتباع والمريدين، بحكم الطقوس والرسوم والقشور التي غرقوا فيها. إذ حرصوا على الشهرة وارتداء المسوح العصرية واستعمال اساليب الاعلام البرّاق والوسائط المبهرة في الدعوة والتوجيه، بينما خلا كلامهم من أي منطق وتسامح فعليين.

أبرز مثال الفتاوى الدينية حينما مثلت صلب الاسلام الراهن وجماعاته المتطرفة. وجميع الفضائيات تفتح الهواء للفتاوى ليلاً ونهاراً حتى غدت هي الدين ليس إلاَّ. وإذا كانت الفتوى قائمة فقط على أسئلة فهي ظاهرة التزييف المراوغ: الأسئلة والحياة معاً. فالدين في وجوده الإنساني لا يحتاج سؤالاً ينحرف به عن الإيمان  والامتلاء الروحي. هكذا رأينا الفتاوى المعاصرة تغزل سلطتها على استفهامات زائفة. مثل: هل اللحية من الشريعة أم لا؟! هل يكون جلباب الرجال قصيراً أم طويلاً؟ هل لبس النقاب من ضرورات الإسلام أم غير ذلك؟ (أسئلة الفتنة التي لانهاية لها) وهل الضرب المبرح للمرأة شرعي أم الضرب الخفيف؟ وهل يمكن للخاطب رؤية خطيبته منفرداً أم في وجود محرم؟ وهل للفتاة أن تتصفح الفيس بوك أم سيقودها إلى الرذيلة ويجب أن يكون معها محرم؟ (لنلاحظ الأسئلة الذكورية) وهل تستطيع المرأة شرعاً قيادة السيارة؟ (هكذا أصبح رجل الدين عسكري مرور وخفير درك)، أسئلة تعمي من يطلقها ومن يجيب عنها على السواء.

ذلك لأن القضية بالأساس ليست مهمة دينياً ولا أخلاقياً ولا لإنسانياً. كقول أبي الطيب المتنبي: أغايةُ الدين أنْ تحفوا شواربكم... يا أمة ضحكت من جهلها الأمم. كما أنَّها تستفتي كهنوتاً في شعيرات وملابس لا تمس جوهر الإيمان والروح ولا الحياة!! في الوقت نفسه الذي تقطع فيه الجماعات الإرهابية رؤوس المسلمين وغير المسلمين!!

أي منطق وراء استفهام يجتزئ مسألة تافهة؟! بينما الواقع القميء والمتدهور لم يُمس من قريب أو بعيدٍ. لقد غدا الدين الإسلامي فتاوى وراء فتاوى بأشكال غير ضرورية. فتاوى بإمكانها تحت تأثير الهوس الديني أن تفجر الناس(الارهاب والمجتمع) وغيرها باستطاعتها أن تشق المجتمع طولياً بعمق التاريخ الاسلامي (شيعة وسنة). أخطر الأمور أن يصبح الدين والله والجهاد والآخرة مجرد فتاوى لدى ذهنيات جاهلة وارواح نابضة من الحياة. لأنَّها لن تكون اعتقاداً خاصاً، بل سيتلاعب بها شيوخ الفتاوى تبعاً للمصالح. وشيوخ الفتاوى (في هذا الباب) غير مطلعين على الثقافات العصرية ولا هم يزودون أنفسهم بالرصيد الوافر من المعارف العالمية والتاريخية المتعلقة بالمجتمعات الراهنة. يتعاملون مع الظواهر الثقافية الكونية تعاملهم مع الشياطين التي تحل في خفاء وبليلٍّ بهيم، لا يدركون كيف نشأت هذه الظواهر ولماذا هي واسعة التأثير والانتشار؟!

هناك خاصية لأي استفهام مزيف: أنه يأخذ دوراته المعرفية في عمق الثقافية الجارية، وبالطبع ستلف معه اجابات وهمية (الاسئلة تتردد على ألسنة الأفراد جميعاً). وسيجري وراء المعنى جريَ السراب وراء السراب. ولدى هذا السؤال هناك الجديد: لأن رواج الاجابات يُمكِّن أصحابها من البناء عليها. فيأتي آخرون لتكملة المشوار في الطريق الخطأ. على سبيل التوضيح وقع أصحاب مشاريع النهضة العربية والاسلامية في هذه الفخاخ. كان هاجسهم الأول والوحيد التوفيق بين "الأصالة والمعاصرة "، بينما أغفلوا جوهر الحياة العربية ذاتها (الآن وليس أمساً وليس غداً). فكانت رؤيتهم للتراث غير ذات أهمية بالنسبة لحركة الحياة. لكونهم لا يرون فيه غير التاريخ الماضي لا الثقافة الكونية المتواصلة. وكذلك رؤيتهم للمعاصرة اعتماداً على  مجرد الاستعارة والنقل من الغرب. وهذه ظاهرة غريبة على المجتمعات الشرقية (الشرق كان أصل الحضارة!!) ولكن حينما افتقدت لروح الإنسانية المواكبة  للجديد، لم تشارك فيها وانكفأت على مصيرها المجهول.

ليس السؤال المزيف فردياً، إنَّه يدور مع التصورات المتداولة، ولا ينتهي عند هذا الحد. لأنه قد يتغلغل في وعينا الهائم نحو التاريخ. فيحيي صراعاً أو مفهوماً غابراً أو يستحضر صورة غابرة من التراث. وبالتالي لا يعاد طرح السؤال المزيف مصادفة، إنما يكمن في طرائق الحوار والتفكير. ليشكل بنيه فارغة تفترض أجوبة من ذات القبيل.

كذلك لا يعد السؤال الزائف كاذباً بمعناه العادي. لأنَّ الكذب صورة مخالفة لواقع الحال، بينما الزيف عبارة عن وهم هذه الصورة كأنها الحقيقة. أي إرجاع كل صفات الحقيقة لهذه الصورة ولا شيء سواها. بالتالي سيكون الزيف كذباً وتشويهاً في الآن عينه، وهو أيضاً صادق منطقياً في زيفه لدرجة التصديق، وبجانب أنه سيأخذ صفة الحقيقة والتكرار.

فارق آخر مهم أن السؤال الزائف لا يموت، لكنه يستفيق وينبعث في أوقات الأزمات. ويصر على طرح نفسه- من خلال المناخ السائد- رغم عدم وجود مبرر له. ولكن مع اكتشاف أمره بهذا الفهم السالف، يمكننا معرفة أصالته المفقودة.

يصحُ هذا فقط، إذا أدى السؤال الزائف إلى استفهامات نقيضةٍ تضعه خلال إطار إشكالي يتجاوز ادعاءاته وإجاباته. بمعنى أننا يصعب التخلص من الأسئلة الزائفة، فهي مفتاح لخريطة الأزمات وجزء من الحلول. لأنها تنمو كالأعشاب البرية المتسلقة وسط الحقول الزراعية وتتغذي على غذاء الأشجار والنباتات الاساسية!!

 

سامي عبد العال

 

 

سامي عبد العالليس العنف باسم الدين مجردَ فعل طارئ، لكنه عمل مُركَّب يحتاج خيالاً يَفوقُه تهوراً وجُموحاً. إنَّه عمليات من الشحن الأيديولوجي والتهيئة والتفنُن بتوقُّع الأثر وفوضى المَشاهِد ورسم المجال وانجاز الأفعال وانتظار النتائج وافراغ الكراهية إلى أقصى مدى. الخيال الديني imagination  religious هو الآتون الواسع الذي تُطهى فيه هذه الأشياء وتضاف إليها عناصر القسوة والتشفي (أليس الارهاب صادماً ومؤلماً في عملياته؟)، ثم ينتظر الإرهابيون نُضجَها وقطف ثمارها في أحد الجبال أو تحت سقف التنظيمات والجماعات المتطرفة.

الأمر بلغة بيير بورديو هو عنف رمزي symbolic violence مضاعَف ومغلَّظ المعاني في قفزة فوق عقلانية تسمى بالتخييل. إذن العنف موجود، لكنه يتحرك بقفزات زائدة عن الحد ويتحول عبر وسائط أخرى مشبعاً برمزيتها. هذا ناهيك عن استيلائه على فائض القداسة التي يوفرها الدين في كيان الأفراد وآفاقهم الميتافيزيقية والروحية.

ولذلك فكلُّ عملية ارهابيةٍ هي صورة خيالية imaginative image بلغت حد اللعنة كلعنة الخرافات والأساطير القديمة التي تستهدف الأعداء، حيث تجيئ العملية من النقطة العمياء وغير المتوقعة تماماً في الأداء اليومي للمجتمعات (مسرح الارهاب). وهذا ما جعل العنف والارهاب باسم الدين يحملان تلك المعالم.. كونِّهما مسكونين بجميع ما يُضاد الإنسانية عبر كل إنسان (بتعبير القرآن: من قتل نفساً فكأنَّما قتل الناس جميعاً)، كما أنَّهما- عنفاً وارهاباً- يختمران (يتكونان) بوافر الدلالة على مستوى الفكر والفعل.

 وطبعاً ليس ذلك غريباً على الكائن (الارهابي)، لأننا كذوات بشرية نحن أصلاً عبارة عن حفريات مطمورة من العنف وأخيلته المعتَّقة تاريخياً وتراثياً، سواء من جهة الغرائز أم الأفكار أم الهلاوس، وحتى الأحلام والتسامي والوداعة والعواطف.. جميعها متشربة ببقايا مهولة من العنف الرمزي. لكن الغريب هو استعمال الدين واعتباره صورا ملتحمة بتبريراته المعدَّة سلفاً كالعبوات الناسفة أو بجانب السكين التي يحملها هذا الارهابي أو ذاك. فالخيال العنيف يحتاج تغذية راجعة feedback وسقاية بماء الكراهية والغضب (تجاه كذا...) طوال الوقت.

وهذا ما التقطته الجماعات الاسلامية بحسها البيولوجي المستنفر دوماً (مثل ذئاب وضباع وحيوانات مفترسة نائمة لكنها متيقظة للانقضاض). هي حالة حيوانية رمزية تستجمع قوى الفعل المباشر دون تفكير ولا اعتبارات إنسانية. والملاحظ أنه لا يوجد لدى (تلك الجماعات) فاصل ولا فارق بين (الخيال والبيولوجيا)، بين (العقل والغريزة)، فالإرهابي كائن بيولوجي وخيالي مذهل بشكل غريب، ذهنية معجونة من التخييل الذي هو الحس التلقائي الفاعل مادياً دون ضابط. العالم كله بالنسبة إليها ساحة حرب ودماء، لا تشعر بآلام ولا بندم ولا بمراجعة نقدية لما تفعل، وتلك نراها لدى حالات القاعدة والدواعش والإخوان والتكفير والهجرة التي تتوحد بالغرائز الأولية في شكل تدمير وقتل.

 ولو سألت إرهابياً: لماذا تقتل باسم الدين؟، لكانت تلك الأفعال لديه آتية في معاني الجهاد والتسامي والشفقة على الآخرين. الشفقة من كون ضحاياه غارقين في براثن الكفر والذنوب والفحشاء، وأنه يرى ذاته نبياً في ثوب مجاهد لتطهيرهم من الآثام المؤدية لعذاب السعير. هذا هو "الانقلاب المتخيل" لفعل التدمير تجاه مخالفي أفكاره ونمط حياته. أي يعكس الحياة داخله وداخلهم، يدفعها دفعاً لصالح الموت بمبررات اعتقاده ذاهباً لتحقيق ذاته من خلالهم (الموت معاً نحن وهم). والحس البيولوجي (الغرائز والشهوات) هو الذخيرة التي تشعل خيال الارهابي في ليل العالم كما يتوهم.

 وهكذا فإنَّ الأعمال الدموية التي يرتكبها شباب اسلامي في أوروبا ليست مصادفةً، ولا سيما مع تجددها من وقت لآخر. فلم تختفِ حتى مع وباء كورونا (عمليات الطعن بفرنسا– ألمانيا– انجلترا)، رغم أنَّ القارة العجوز قد نخر الفيروس في عظامها، دخلت الملاجئ وانزوت بردهات العزل الصحي، ولم تواصل – كما يقولون- الفُحش الحضاري ولا العولمي حتى. أصبحت أوروبا رجل العالم المريض كما كانت تطلق على الدولة العثمانية في الأزمنة الحديثة.

 بالفعل أوروبا صحيَّاً – لو رسمناها بالكاريكاتور- مُلقاة على أسرّة العناية الفائقة ... تكُح وتسعل وتعطس وتتهاوى بالمرحاض ولا تجد من يأخذ بيدها!! الوجوه مجرد كمامات عمياء فوق أنوف حائرة. القارة تخشي حتى من الاتحاد الذي صنعته وتباهت به أمام المجتمعات الأخرى وقالت أن كورونا بمثابة شهادة وفاة له. وبالمناسبة حالة كورونا أظهرت عمق أزمات الحضارة الغربية التي قد تنفرط عما قريب أو بدت، ربما ترجمت اضمحلال الغرب وانحطاطه كما قال اشبنجلر وأكده إدموند هوسيرل في كتابه "أزمة العلوم الأوروبية" و مثلما عبر عنه لاحقاً سلافوي جيجك وإدجار موران: نحن إزاء الكارثة أو في انتظارها.

لكن من قال لمتطرفي الاسلام ألاَّ يرحموا انساناً أيَّا كان؟ هل الإسلام كرحمة للعالمين قال ذلك؟ أليس الحال يطال الجميع (أوربياً وغير اوروبي) فوق تراب القارة العجوز؟ هل سيفرق فيروس كورونا بين مسلم ومسيحي ويهودي ولا ديني؟ وبجانب هذا وذاك... لماذا يُمعن هؤلاء الارهابيون في قتل من يصادفون بساحة الجهاد (كما يتصورون)؟ بمعايير الأمراض: ربما يكون الفيروس أرحم من هؤلاء، فقد يصاب به إنسان ويشفى بعد فترة المرض والنقاهة، لكن  فيروس الإرهاب لا يشفى منه أصحابه فضلاً عن أعدائه ولو بعد حين.

أعمال الارهاب وُعود تاريخية ونصوص فقهاء وفتاوى لاستحلال كيان الغير بعمر الاسلام السياسي. لم يكن هذا الشاب أو ذاك الذي يطعن من يقابله في فرنسا  إلاَّ وقد رُوبي ونُشّيءَ على تصنيفات القتل تحت عمائم التنظيمات الدينية: مؤمن / ملحد، إيمان / كفر، غرب/ شرق، الله / الشيطان، حياة الهداية / حياة الضلال. وكل تصنيف من هذه التصنيفات يقف على اعتاب الجنة أو النار، حيث يراه الارهابي فيما يردد رُؤيَ العين. ولا يكتفي بهذا، بل يزعم أنه يسابق الملائكة لإدخال (من يحب) الجنة ويزج (من يكره) إلى النار. فكيف ستكون النتائج التالية في واقع الحياة والبشر؟!

هكذا ليس لمسلمي أوروبا المتطرفين إلاَّ مخزون العنف الآتي من أضابير التأويلات الدينية الغارقة بالدم. إنَّ أجسادهم وعقولهم قنابل معَدّة للتفجير تجاه أي انسان. وللأسف فإنَّ حشو القنابل شرقيٌ إسلامي خالص مثلما هي عبوات الأدمغة التي صنعتها التربية الخيالية للتنظيمات. وأن سحب الفتيل الذي ينفجر بعده كلُّ شيء هو مجرد مبرر فقهي فارغ من الحياة. لِمَ لا..؟ وهؤلاء المتطرفون مقبرةٌ حيةٌ تنمو فيها فتاوى القتل واستحلال دماء المسيحيين واليهود. ودوماً هم في بلاد الكفار كما يزعم منظرو الجهاد وممارسوه كأبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي وايمن الظواهري وأسامه بن لادن وغيرهم. فإذا كانت ديار الإسلام ديارَ أمن وسلامٍ، فإنَّ ديار أوروبا خريطة للدماء المفترضة.

 إنَّ المُسلم يصاب بصدمة قاتلة بمجرد أن تطأ قدماه أوروبا، لا لشيءٍّ إلاَّ لأنَّ ما يعرفه عن الحياة والآخر والعالم يتضاءل إلى درجة التلاشي. وأنَّه يحمل ما برأسه وحياته أينما ذهب مقيِّماً على أساسه ما يراه دون السياق واختلاف العيش. هذا التصور يخترق معظم الاتجاهات الفكرية الاسلامية: تقليدية وتنويرية.. بأي معنى ذلك؟!

 لقد نوَّه الشيخ الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي إلى باريس قائلاً: بلد النور والنار، بلد الجن والملائكة!!.. أيُّ جنٍ إذا كان ما يحمله برأسه محض هواجس من بطون كتب الفقهاء والتفسيرات والحواشي القديمة؟! وأيَّة ملائكة مادام يصف الآخر (المغاير حضارياً) باعتباره مناوئاً ديناً وأخلاقياً؟! إنَّ الطهطاوي مهما قيل عن استنارته وانفتاحه في هذه النقطة بالتحديد إلاَّ أن القراءة العميقة لكلامه تكشف: كم كانت عقول فقهاء الازهر التقليديين قشوراً مهترئة لإحساس اقصائي بالباطن، هم غالباً غير شاعرين به ويمارسونه كأنَّه الحقيقة.

الطهطاوي طوال الوقت يتحدث عن الفرنسيين وعاداتهم ومكانة المرأة لديهم والدستور وطبيعة الدولة والحياة الاجتماعية بنظرة ليست بريئة دينياً، نظرة الشيخ السلفي المتخيل الذي تربى على يديه ومازال يسكنه من الداخل. وليس هو الشيخ الذي يواكب الحضارة ولا الذي يتزامن مع الفرنسيين داعياً إلى ايجاد دستور وقانون موازيين، إنما هو الآتي من قرون على اعتاب القرن العشرين. المشكلة أنَّها قرون عاطلة من الحضارة ومليئة بالتقليد الذي انكفأ عليه المسلمون أمام عصر معرفي وحضاري (في أوروبا) لا نملك أمامه إلاَّ المفاجئة والاحتذاء. نظرة الطهطاوي هي نظرة منحازة ثقافياً إلى ما ينبغي أن يكون في ضوء التاريخ الإسلامي، أي كان نمط الإسلام لديه نموذجاً سلفياً وهو الفيصل بينه وبين العالم. نحن نريد أن نعرف ماذا يحمل في رأسه وكيف تدخلت حمولته في رؤيته؟!

 بالتأكيد أنَّ كل من قرأ الطهطاوي دهشته مؤلفاته التي تحدث فيها عن أوروبا (تلخيص الإبريز في تلخيص باريز، و المرشد الأمين في تربية البنات والابنين)، أي نظر معه (بمنظاره هو) إلى الحياة والثقافة الأوروبية، بينما هذه المؤلفات تكشف تماماً تكوين الذهنية الشرقية واللاهوتية رغم أنَّ صاحبها لديه استعداد التعرف على الآخرين. وهو إذ يفعل يقف للأوروبيين بالمرصاد كاشفاً إلى أي مدى يختلف هؤلاء عنا (ثنائية العنف: نحن- هم). وكأنه يقول نحن في حالة تناقض حضاري حادٍ، لأننا أصحاب الدين الحق وأصحاب الثقافة القويمة بينما هم أهل الباطل والانحراف. والطهطاوي في هذه اللحظة المزدوجة يقرر ما يعتقده صحيحاً لا رجعة فيه، كأنَّ (الاوروبيين) غائبون تماماً بينما الكلام يقيِّم حالهم عن كثب (أمام محاكمة تاريخية إن صح التعبير). ذلك يؤكد بخلفية المتابع نتيجة الطهطاوي القائلة: كم نحن مختلفين جذرياً عن أوروبا، ولسنا في حاجة إلى ما يؤمنون ولا ما يعتقدون ولا ما يمارسون. فقط يا ليت لدينا معارفهم وتقنياتهم وسياساتهم لإحراز سبق المدنيّة والتقدم!!

وتلك هي الرؤية السطحية التي لا تعرف تطوراً تاريخياً ولا حضارياً للغرب (التطور في اتجاه- والحياه في اتجاه آخر). وهذا لا يعني هنا دفاعاً عن أوروباً بالتبعية، ولا يعني العيش كما تعيش أوروبا فهذا مستحيل!! المهم هو كيف قيَّم الطهطاوي أوروبا وذهبت ثقافته إلى حيث لا تتطور طالما وقفت عند الشكل والاحتذاء كما نادى. ولذلك يستحيل استنساخ الحضارة ولو على ركام الماضي، لأن الثمن الباهظ هو تحويل المستقبل إلى جثة متحركة.

الأوضح من ثمَّ أنَّ الطهطاوي جعل ثقافته معياراً لدراسة الآخرين باختلاف أطيافهم. ثم وضَّعهم في قوالب ذهنية لا يعبرون عنها بالضرورة. وهذا يتضح أكثر في حديثه عن العلاقات بين الرجل والمرأة. حيث يشير دوماً إلي أخلاقيات الشرق، حين تحرص التقاليد لدينا على علاقاتٍ بعينها بين الجنسين (الأساس الاخلاقي). وبذات الوقت ينفيها – يستنكر انعدامها- إزاء الأغيار بحسب قيمهم وطرائق حياتهم الاجتماعية (هم هكذا يعيشوا)، أي سيرى أفعالَّهم كأنها جرائم وتُهم اخلاقية. وهذه النظرة عنيفة في أساسها، لأنها نمطية ولا تتجاوز الفوارق الحضارية بين الشرق والغرب، كما أنَّ المسألة ليست أخلاقية فقط. لو انها مسألة أخلاقية ما كان يجب على الطهطاوي الذهاب إلى أوروبا وهو يعرف ذلك جيداً!!

كيف إذن لأزهري معمم بالثقافة أنْ يرى الواقع والحياة خارج عمامته؟! إن

ما حدث مع الطهطاوي حدث مع محمد عبده، فلم يتخلص الاثنان من العبارات التكفيرية برداء اخلاقي. إنَّ الاخلاق التي يري البعض فرضها فرضاً تعد أكثر تكفيراً وعنفاً من الدين نفسه. الفارق أنَّ التكفير لدى جماعات العنف الديني كان بارزاً بينما كان يُغلَّف لدى المستنيرين بالإعجاب تجاه الغرب، ثم يرتدي عباءة التقييم الأخلاقي للحياة.

لكن التصنيف في قاعه البعيد واحد: المسلم/ غير المسلم، صاحب الاخلاق/ الفاسق، نحن الأفضل/ أنتم الأسوأ.. وبالتالي المواقف واحدة في ميزان العنف لو أخذنا بهذا الجانب. المنظوران الاثنان (المستنير والارهابي) لم يفهما لماذا يختلف الغرب عن الشرق، ببساطة لأنهم لم يفهما ابتداءً الأسس الفلسفية والفكرية والمعرفية للحضارة الغربية. فهم فقهاء يشربون من معين واحد في جبة عصرية لا تُغير شيئاً لا بالتاريخ ولا الجغرافيا.

ومن ثمَّ لا يجب وضع مسلمات أمام قراءة(الفكر العربي الحديث) من قبيل أن هذا شيخ عصري وذاك تقليدي، هذا شيخ حداثي وآخر رجعي. فأكبر الأخطار فلسفياً النظر إلى ممثلي الفكر العربي (الطهطاوي ومحمد عبده والافغاني والكواكبي ...) كرموز للتجديد والتنوير هكذا بمطلق الكلمات. إنَّ في كتاباتهم طبقة سرية من الجمود والتصنيف غير العقلاني لقضايا الشرق والغرب. وإذا حفرنا وراء أحدهم أو غيره سنجد أن أغلب قضاياه مشبعةٌ بآراء فقهية وانحيازات دينية(غير عقيدية) بالأساس. وأنَّ التسامح ونقل التحضر والأفكار المدنية "حيلة عصرية" لمواكبة التطور والتقدم، لكن العداء يلتقي مع سواه الأشد فتكاً في الغاية. وأنَّه كان لا مهرب حضاري لديهم من التعلُّم، بينما كراهية الغرب مستمرة بأشكال أخرى، تماماً مثل الفارق بين قطُع اليد التي تكرهها (موقف الارهاب) وبين تقبيلها مؤقتاً للإفادة منها (موقف المستنير).

 لقد كانت اجاباتهم لسؤال شكيب أرسلان: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ اجابات غير صحيحة. لأن الحضارات لا تقارن كأنها تمتلك الدرجة الصفر ذاته للتقدم والانطلاق. كما أنَّ الاستفهام يؤكد الاقصاء والتنافر بالوقت ذاته، وكذلك هو سؤال يقارن حالتين لا مجال للمقارنة بينهما حياتياً. لأنَّ كل حضارةٍ لها طابعها المميز من الوجود والفعل. وأنَّه لا يجب احتذاء الواحدة للأخرى اطلاقاً مهما تكن. وإلاَّ لأضحت أحداهما عبئاً تاريخياً ولا قيمة لها. ومن هنا أخذا بنصائح التنوير فإنَّ تاريخ العرب المعاصر كله كان سائراً بالطريق نفسه، لا قيمة حضارية لهم، إنهم مجرد طفيليات متسلقة على أكتاف الغرب... معرفة وعلماً وتقنية وفكراً.

إنَّ مناقشة محمد عبده لقضايا العصر في كتابه "الاسلام بين العلم والمدنية" أمر غير منطقي. لأنَّ الاسلام كدين إجمالاً ليس معنيَّاً بماهية المدنية والمعرفة العلمية الراهنة وماذا يجري فيها. كما أن الاسلام بتلك الصيغة " كلمة عامة" بما لا تُحد إجمالاً. فأي اسلام يقصد محمد عبده؟ هل الاسلام الاعتزالي الآخذ بالعقل وحرية الإرادة الإنسانية كما هو مشهور عنه؟ وإذا كان ذلك كذلك فلم يقدم هذا الاعتزال رؤية متماسكة حول العالم والحضارة بمنظورهما الحالي (قياس الحاضر على الماضي). تلك الأشياء المتأخرة التي تعتبر خارج نطاق الدين بأي معنى كان. ومن ثمَّ يصعب بل يستحيل التحدث عن الدين إلاَّ في إطار تجربة حياتية بعينها، وبالتالي لن تقارن تجربته (الشرقية) بسواها (الغربية) إلاَّ بالاختلافات وبعوامل القصور. إنه يجب على العرب والمسلمين ابتكار وجودهم الحضاري بمعطيات معرفية وثقافية مميزة عن سواهم وليس مجرد التوفيق والتلفيق.

كما أنَّ تصورات الدين والاسلام والحقيقة والعلم- وإنْ وردت في جذور تاريخية لدينا- لم تتخلص بعد من الدلالات التقليدية. وهذا يتجاوز فكرة الاسلام الإعتزالي أو الأشعري أو الشيعي. جميع الإسلامات تتطلب غربلةً وتنقيةً صارمتين بما يضبط حركة النصوص المؤسسة وفقاً لغاياتها مقاصدها كما يقول الأمام الشاطبي. وبما يزيل عنها كل الطباق الخارجية التي رانت عليها وأخفتها وجعلتها صوراً مشوهة في أيدي المتطرفين. لأنَّ بذور التخلف الفكري كامنة فيها كصناعة بشريةٍ تختلط بالأسس المقامة عليها إنْ لم تكُّن من السلف فمن الخلف.

الاسلام في أشكاله المذهبية ليس نقيَّاً ولن يكون، أشكال الفِرّق والملّل والنحل الكلامية هي الرواسب التاريخية التي انفجرت وكونت أخيلة المسلمين حتى الآن. وهذه مازالت حاملة لكل غلالات العنف والخشونة التي كانت شائعة في ثقافة القبيلة والعشيرة والبيئات القديمة. القضية في صورة الاسلام لا تقاس بالأوصاف العامة من جهة العقلانية والنقد والتفكير. بل بكيفية المضامين وطرق التغيير والآفاق الجديدة التي تحملها الثقافة للحياة المنتظرة منها. وأنَّ الحيوات تتلاقى خلال مستواها الإنساني الذي لا يقبل تصنيفاً ولا كراهيةً. فلئن كنتَّ أنتَ تحمل حياة مفتوحة، فإنك ستقابل المصير نفسه... وإلاَّ فالعكس مدمر.

إذا كان هذا شأن التنويريين فكيف بغيرهم؟ يذهب المسلم العادي والمتطرف إلى أوروبا وهو يدرك أنه في بلاد مختلفة. لأن الحياة تثير داخله غرائز العدوان والجموح، ذلك بفضل الالحاح الديني كما يفهمه رعاة الشرق وفقهاؤهم. ففي الفضاء العام يقوم الخطاب الديني على الاساءة والتحريض تجاه ما يسميه بالعُهر والاستعمار وانحلال المرأة. ثم يُرجِّع أسباب ذلك كلُّه إلى أوروبا وانتشار الموضات الفكرية والفنية والأيديولوجية والسهر على متابعة الوسائط الاعلامية والتواصلية. وهذا الجهل لا يدرك من فوق المنابر أنَّ الحياة ليست فقط مظاهر وأشكالاً إنما هي " قانون ثقافي". وأنَّ الأوروبي ينشغل كامل الانشغال بالعمل والانهماك في ابداع إيقاعه اليومي.

إنَّ نمط الحياة الأوروبية ينسف كلَّ تصورات الاسلاميين من الجذور، لأنه نمط يلاصق أداء الحياة المنفتحة التي قد لا تعني الفسق والفجور بالضرورة  طالما أنَّها لا تجبرك على شيء. هذا هو الأصل الذي تشتغل عليه فتاوى الفقهاء بكراهية (أي لكي تكون لهم أهمية، يجب حكم الناس بصيغة: عليك أن تفعل كذا أو لا تفعل). كان كبت هذا الانفتاح وقمعه هما المُنقذ الوحيد من عطالتهم. فمازالت روح الكهانة القديمة كامنة في شُرّاح الدين ومفسريه كما لو كانوا يمتلكون الحقائق المطلقة من فم الغيب. بينما اتباعهم ورعاياهم كائنات شهوانية تمشي على الأرض!! ولهذا حينما يعيش الاسلامي المتطرف في أوروبا، إما أنه يعرف روحها، فيتماشى مع تسامحها الإنساني وتنوعها العرقي والفكري (على الأقل التنوع الخاص)، وإما أنه يتصلب بذهنية عدوانية تقطر دماً.

الأغلب أنه سرعان ما يأخذ الموقف الثاني باطناً أو ظاهراً. لينكفئ على نفسه وعائلته معتبراً الأوروبيين مما يجب مسايرتهم شكلياً (بحكم التقية والممالأة). صورة الإسلام والمسلم في هذه الحالة ستمثل حاجزاً ضد الحياة التي يحياها. لأنَّ خياله مجرد "كومة تحريمات ثقافية" من عصور قاحلة مضت، يحملها المتطرف من خلال ذاكرة المجتمعات التي نشأت فيها وفرَّخت. فهل هناك تحرير لهذا الخيال الديني العنيف؟ وكيف يمكن تحريره إنْ أمكن؟!

 

د. سامي عبد العال

 

عبد الله الفيفيكنتُ توقَّفتُ في معارضةٍ شِعريَّةٍ نقديَّةٍ أمام بعض ما جاء في بائيَّة (أبي تمَّام) الشهيرة(1)، التي يسمِّيها بعض المعجبين "ملحمة". وهي كذلك بالفعل، لا بمعنى الجِنس الشِّعريِّ المعروف، ولكن بمعنَى ما تضمَّنته من عُنفٍ لُغويٍّ ضِدَّ المرأة، مسبيَّةً، منتهكةَ الإنسانيَّة، باسم الإسلام والعروبة والثأر والنَّصر المبين! ونحن عادةً لا نقرأ الأبعاد الثقافيَّة والحضاريَّة وراء النصوص، ولا نلتفت إلى مقدار البشاعات الملبَّسة بغُلالات البطولة القوميَّة أو الدِّينيَّة؛ فإذا هي تطغَى العواطفُ الهمجيَّةُ على العقلانيَّة، والحماسيَّاتُ العنصريَّةُ على الحساسيَّات النقديَّة. لقد جاء في قصيدة أبي تمَّام تمجيد السَّبي للنساء، بل جعل ذلك غاية (المعتصم) وجيشه من الحملة على (عمُّوريَّة)، 223هـ= 838م، وهو ما لا مسوِّغ له، مهما كان من فِعل الإمبراطور البيزنطي (ثيوفيلوس أو توفلس، -842م) وأتباعه، وإلَّا تساوت القِيَم والرؤوس في جاهليَّاتها، وإنَّما هي فُرَص القَنصِ تدور في سباسبها:

كَــــمْ نِـيْــــلَ تَحْـــتَ سَـــناهــــا مِنْ سَــنا قَمَــرٍ ... وتَحْتَ عارِضِها مِنْ عارِضٍ شَنِـبِ

كَمْ كـانَ في قَطْــــعِ أَسْبـــابِ الرِّقــــــابِ بِهــــا ... إِلى الـمــُـــخَـــدَّرَةِ العَــذْراءِ مِـنْ سَــــبَــــبِ

كَـمْ أَحْـرَزَتْ قُضُـــبُ الهِنْـدِيِّ مُصْلَتَـــــةً  ... تَـهْـــــتَـزُّ مِنْ قُـضُـــــــبٍ تَـهْـــــــتَـزُّ في كُــــثـُــبِ

بِـيْضٌ إِذا انتُضِيَتْ مِنْ حُجْبـِها رَجَعَتْ ... أَحَـقَّ بِالبِـيْـضِ أَتْرابـًا مِنَ الحُجُـبِ

فما القول في هذا الفتح العظيم لنَـيْلِ أقمار النِّساء، كما يُصوِّر أبو تمَّام، لا فُضَّ فوه، مغريًا غرائز جماهيره الذُّكوريَّة بأوصافٍ جسديةٍ حسيَّة "ملحميَّة"؟!

لو جاء هذا في غَزَلٍ، لعُدَّ شِعرًا ماجنًا فاحشًا، ولكان للمدافعين عن سفاهات الشاعر الحربيَّة مواقف أخرى. وهكذا يذهب شاعرنا الفحل إلى أنَّ قتل الرجال كان سببًا في الوصول إلى العذارَى في خدورهن، وإلى انتهاك أعراضهن، مقدِّمًا خلال ذلك معرضًا جسديًّا، يذكِّر بأسواق النخاسة الداعشيَّة، وما ذاك منَّا ببعيد! ها هي القصيدة شاهدةٌ على نفسها، وعلى ثقافتها المريضة. فماذا نقول؟! وبِمَ نُغطِّي شمس سيوفها التمَّاميَّة؟!

 - لا، لا ينبغي أن تنتقد هذا الخطاب!

...

وهذا مؤشِّرٌ واضحٌ على أنَّنا نُقدِّس الآباء والأجداد، ونَخِرُّ على نصوصهم صُمًّا وَعُمْيَانًا، وبُكمًا أيضًا، على طريقة أجدادنا من كفَّار قريش! نرفض انتقادها، مهما كانت واضحةً فاضحةً في نُبُوِّها عن الذَّوق الدِّينيِّ والحضاريِّ والإنساني. وهنا يأتيك مَن يَفِحُّ في وجهك:

- كيف تنتقد حماسةَ (أبي تمَّام)- قدَّس الله شِعره!- لحملة (المعتصم) على الرُّوم؟

وهذا سؤالٌ ينفث الكذب والمغالطة من سجائر مغشوشة! يدلُّ- كما رأينا في مقالٍ سابق- على أن المدافعين عن التُّراث بهذه الحماسة، وعن أصنامه بتلك الاستماتة، منافحين عن صريح خطابٍ غير سَوِيٍّ فيه، هم أنفسهم في حاجةٍ إلى علاجٍ قرائيٍّ قبل دراسة التراث أو الحِوار معه. والأغرب أن تكون تلك البطولة الدفاعيَّة عن البطولة البربريَّة آتية من قِبَل المرأة، التي كثيرًا ما كان الخطاب الذي تُدافع عنه لا يتوانَى في قتلها، أو التشجيع على وأدها، وانتهاك إنسانيَّتها، عربيَّة كانت أو غير عربيَّة. ولا تفسير لهذه الحُمَّى الحضاريَّة إلَّا أحد أمورٍ ثلاثة، كما أشرنا في مقالٍ سابق: إمَّا أنَّنا لا نقرأ تراثنا، وإمَّا أنَّنا نقرؤه ولا نفهمه، وإمَّا أنَّنا نقرؤه ونفهمه، لكنَّنا لا ننظر منه إلًّا إلى ما ننتقي ونهوَى، على منهاج "ويلٌ للمصلِّين..."، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى لا ننظر منه إلًّا إلى ما لا يتصادم مع تقديسنا المطلَق للسَّلف، الصالح والطالح معًا، على منهاج "إنَّا وجدنا آباءنا...".

ولقد يأتيك آخَر من آخِر الصفِّ صارخًا، إلى جانب صرخة (أبي تمَّام):

- ربما خفي على الشاعر أن الدُّوَل العُظمَى اليوم تفعل بالشعوب الضعيفة أضعاف ما فعل العَرَب؛ فهم يقتلون بالآلاف ويجوِّعون الملايين ويدمِّرون الحضارات!

موقنًا صاحبنا أنه بهذا التهافت في الاحتجاج قد أقنعك، بل قد أفحمك، ولاتَ حينَ مناص! فلا ينبغي عند صاحب هذا الخطاب أن تنتقد التراث، وإلَّا فأنت تنتقد العَرَب والمسلمين كافَّة، ولا أن تنتقد بعض ما وَرَدَ في كتب التاريخ، وإلَّا فأنت عدوٌّ لتاريخ الأُمَّة! ثمَّ بعد المغالطة تلك ينتقل بك إلى أرجوحة التبرير، محتجًّا بأنَّ الأُمم الأخرى تفعل وتفعل وتفعل، فلماذا تنتقد أن نفعل نحن كفعلهم؟ وهذا بابٌ شعبيٌّ عتيق، ينزع إلى تبرير الخطأ بالخطأ. وإلَّا لو كان ثمَّة منطقٌ سليمٌ، لكان: ما دُمْتَ تنتقد ما يفعله الآخَر بك وبالشعوب المستضعفة، فلماذا لا تنتقد نفسك وقومك وتاريخك أوَّلًا، لكيلا تفعل مثل تلك الأفعال المشينة، ولا تَسُنُّها للناس، بالقول أو الفعل أو الإقرار، بحالٍ من الأحوال؟ وإلَّا صدقَ عليك بيت (أبي الأسود الدؤلي):

لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأتيَ مِثلَهُ ... عارٌ عَلَيكَ إِذا فَعَلتُ عَظيمُ!

ومنطق "مَن يَنْهَى عَن خُلُقٍ ويَأتي مِثلَهُ " هو منطق الإرهابيِّين المعاصرين وقاعدتهم، ومنطق وَرَثَتهم فِكريًّا. فهم- وإنْ لم يكونوا بالضرورة من أتباع القاعدة عمليًّا، بأحزمة الديناميت الناسفة- أتباعهم نظريًّا بأحزمة الفِكر الناسفة، الأكثر خطورة. هذا المنطق يقول، ببلاهة:

- هم يفعلون، وينبغي أن نفعل مثلَهم، والبادئ أظلم!

إن الأزمة الثقافيَّة التاريخيَّة، إذن، تبدو أخطر بكثير من الأفعال الإرهابيَّة الطارئة، التي لا تمثِّل سِوَى أعراضٍ لأمراض مزمنة، متغلغلة في النسيج الثقافي، ومن ثَمَّ في النفوس والعقول، وما برح بيننا مَن يُحامي عنها، ويُحرِّم انتقادها، أو المساس برموزها وأعلامها. وهذا يؤكِّد الكَمَهَ الثقافيَّ المطبق، الذي لن ينقشع دون مراجعاتٍ عِلْميَّة، متجرِّدةٍ من العواطف العشائريَّة، والتبعيَّات التاريخيَّة، وجوقات الاصطفاف والترديد؛ مراجعات جديدة وجادَّة، تسمِّي الأشياء بأسمائها، بلا غمغمةٍ ولا مداجاة، فتَقبل الصواب لصوابه، وتردُّ الخطأ لخطئه، كائنًا ما كان مصدره، وَفْقَ معايير إنسانيَّة، من الحقِّ والخير والجمال، لا بمعايير التعصُّب والهوَى والقوميَّة والإديولوجيَّة وتقديس التاريخ والتراث.

 

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...................................

 (1) انظر: صحيفة "الجزيرة"، السبت 19 ربيع الأوَّل 1441هـ، ص16:

http://www.al-jazirah.com/2019/20191116/cm48.htm

 

 

عصمت نصارإذا كانت الأقوال السابقة التى أوردتها «للمنفلوطي» تبرهن على أصالة خطابه؛ فحسبنا في السطور التالية الكشف عن الجانب الاجترائي في أقواله التى عبّر خلالها بشجاعة عن رفضه للكثير من الآراء السائدة والمعتقدات الفاسدة التى تبنتها معظم قادة الرأي المحافظين ونقلوها إلى الرأي العام والعقل الجمعي وجمهور العوام، الأمر الذى جعل منها مُثّلاً مقدسة لا ينبغي الخروج عليها أو العزوف عنها.

ومن أمثلة هذه المبادئ والأصول والآراء، الإجماع أو استبداد الكثرة وتقديس العوائد وجحد البدع واتهام الأغيار بالدُّونيّة والجهل وإقناع الجمهور بأن منبر الدين الذى فسّروه وأوّلوه هو عين الحقيقة ودونها باطل، فها هو يحتج على المفاهيم والأحكام الذائعة في الدين التى تستند إلى ما يطلقون عليه إجماع، مؤكدًا أن حجية الإجماع الشرعي ليست مطلقة بل مشروطة إمّا ببرهان نقلى قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، أو برهان عقلي لا يقبل الشك في صحته - بديهي لا يختلف عليه عاقل.

إنّ من يتأمل حجية الإجماع بذلك المعنى؛ فإننا نؤكد أنه يستمد قوته من حجية العلة التى يستند إليها فلم يجمع الفقهاء في الإسلام إلا على الواضح، الضروري والثابت من الوحى - مثل قواعد الإيمان وأصول الإسلام - أما ظني الدلالة من النصوص والمحتكم إلى الواقع من الفروع والمحتاج إلى إمعان النظر لاستنباط المقصد من الأوامر والنواهي، فليس فيه إجماع، بل هو موقوف على ظهور المجددين والمجتهدين وأصحاب الرأى لمسايرة الواقعات ومعالجة المشكلات التى تتعلق بأمور الدين والمجتمع، وأن من يشكك في أن الإجماع ليس حجة في ذاته عليه بدراسة تاريخ الفقه الإسلامي واختلاف الأئمة الذى يعد برهانا على منهجية المفكرين في الاستنباط من جهة واحترامهم لرؤى الأغيار من المجتهدين بغض النظر عن كم المؤيدين أو المعارضين من جهة أخري.

وهو يتفق في ذلك مع «الشيخ حسن العطار» ومدرسة «الإمام محمد عبده»، الذين قدموا الاجتهاد في الأمور الظنية من الأمور الشرعية وبينوا أن تجديد الدين مرهون بوجود الاختلاف، كما أنهم أنكروا تمامًا الادعاء الشائع بأن خير المسلمين في التمسك أو الانتصار لرأي واحد حتى لو كان غير صائب مادامت الكثرة معه؛ فالمراد بالإجماع عندهم هو إجماع المجتهدين في كل عصر وأن رأيهم غير ملزم الآخذ به في عصرٍ آخر أو في أوضاع وظروف مغايرة لرأي المجمع عليه من السلف.

كما يرفض «محمد رشيد رضا (1865م - 1935م)» ما يدعيه بعض المحافظين بعصمة المجتهدين أو أهل الحل والعقد بل هو رأى الذى يصدق عليه الصواب والخطأ، ومن ثمّ فالمعيار هو المصلحة وتحقيق المقصد الشرعي.

ويضيف «عبدالحميد الزهراوي (1855م - 1916م)» أنه من العسير الوقوف على كل آراء المجتهدين قديمًاً وحديثًاً ومن ثم يصبح مصطلح الإجماع غير موجود في الحقيقة، ويشهد بذلك الواقع المعيش؛ فالقائلون بوجود الإجماع أقرب إلى الوهم منهم إلى الحقيقة، وأن «ابن تيمية (1263م - 1328م)» قرر بأن الإجماع المدعى في الغالب إنما هو عدم المعرفة بالمخالف.

ومن أقوال «المنفلوطي» في ذلك «ليس إجماع واحد أو عشرة آلاف أو مائة ألف متأثرين بشعور واحد مستمدين قوة واحدة على رأى من الآراء دليلًا على صحة ذلك الرأي، لأنه رأى فرد واحد تأثر به الباقي تقليدًاً وعدوى، ورأى الواحد مترجح بين الخطأ والصواب».

وقد تأثر بهذا الرأي «الشيخ على عبدالرازق (1888م - 1966م)» و«الشيخ عبد المتعال الصعيدي (1894م - 1966م)» و«خالد محمد خالد (1920م - 1996م)» وغيرهم من المجددين في النصف الأول من القرن العشرين الذين صرحوا بأنه ليست هناك سلطة كهنوتية في الإسلام، وأن باب الاجتهاد لم يغلق بعد عصر الصحابة كما يزعم بعض المتعصبين من الجامدين الرجعيين.

وينتقل مفكرنا إلى الخصومات المذهبية والمناظرات الفكرية موضحًا أن تثاقف العلماء وتناظر المبدعين مطلوب دومًاً لتقدم الأمم وانتخاب الأفضل للتغلب على المشكلات وجلب المصالح وسد الاحتياجات.

أمّا التراشق اللفظي والتعصب المذهبي والعنف الطائفي واستبداد الكثرة أو أصحاب السلطة أو المتطرفين فكل هذه الأشكال غير مرغوبة تماماً، أمّا الاصطفاف والاجتماع على قرار فليس السبيل إليه تظاهر العوام وعلو أصواتهم باسم الديمقراطية ولا أصحاب المصالح من الحكام باسم القوة والهيمنة والسيطرة ولا بفتاوى المتعالمين من أرباب الفتن الملية والطائفية بل هو الاحتكام للعقل دومًاً والقراءة المتأنية للواقع والظروف المحيطة والمنفعة العامة وفهم دقيق لمقاصد المقدس ومآلاته.

ومن أقواله في ذلك:" إن وجود الاختلاف بين الناس في المذاهب والأديان والطبائع والغرائز سنة من سنن الكون، التى لا يمكن تحويلها أو تبديلها حتى لو لم يبقِ على ظهر الأرض إلا رجلٌ واحد لجرد من نفسه رجلًا آخر يخاصمه وينازعه، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة».

«إن هذه الأحقاد الدينية التى تلتهب في صدور الناس التهابًاً لا تؤججها في صدورهم الأديان نفسها، بل رؤساء الأديان الذين يستخدمونها ويتجبرون بها في أسواق الغباوة والجهل».

ويتضح ممّا سبق أن مفكرنا «مصطفى لطفى المنفلوطي» يعد بحق من الأدباء المجددين الذين أدلوا بدلوهم الإصلاحي في الثقافة العربية، وأثروا في معظم المثقفين في النصف الأول من القرن العشرين، ولعلّ ما أوردناه من آرائه يبرر حكمنا عليه، ويؤكد في الوقت نفسه صدق دعواتنا إلى ضرورة القيام بمراجعات نقدية لأفكار قادة الرأى في الفكر العربي الإسلامي الحديث والمعاصر، والتحرر من التصنيفات والأحكام المتسرعة التى مازلنا نعانى منها. وللحديث بقية عن عالم آخر من المجددين في معية المحافظين.

 

د. عصمت نصار

 

محمود محمد عليما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي مع أستاذي الدكتور حسن حنفي بأن التواصل بين الأجيال أحد مكونات الوعي التاريخي؛ حيث إن كل جيل يبدأ من الجيل السابق ويتجاوزه؛ فلا يوجد جيل بلا أساتذة إيجاباً أم سلباً؛ وكل جيل يواصل الجيل السابق ويقطع معه؛ ولا أحد يبدأ من الصفر حتى يحدث التراكم التاريخي الضروري لبلورة الوعي التاريخي الفلسفي كنواة للوعي التاريخي العام. ولا يعني تواصل الأجيال التكرير؛ تكرير الجيل اللاحق للجيل السابق أو المديح والتقريظ الذي يصل إلى حد التملق والتفخيم والتقديس والتأليه طلبا للشهرة الإعلامية والذي ينقصه الصدق نظرا لأنه يتوجه للكل وفي كل المناسبات بلا استثناء . بل يعني القدرة علي الإكمال وإعادة القراءة من الزمن الأول؛ زمن كتابة النص؛ إلى الزمن الثاني؛ زمن قراءته والذي قد يصل إلى حد نصف قرن؛ قل أو كبر؛ وهو عمر الجيل . يعني إعادة كتابة النص الأول ونقله من ظروفه الأولي إلى ظرفه الثاني؛ وكأن الجيل السابق قد بعث من جديد في روح الجيل الحالي؛ وأخذ  يتكلم بلسانه؛ فالروح تتواصل في التاريخ؛ والتاريخ يتراكم في الروح؛ والمراحل تتوالى علي الأمد القصير والدورات تبدأ وتنتهي علي المدي الطويل

وإذا كانت لكل عصر من العصور سماته وقضاياه؛ فإن الكثير من قضايا العصر الحديث  مرتبط بالمرأة؛ فالحديث لا يتوقف ولا يهدأ عن تحرر النساء وحقوقهن السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ وعن إزالة كافة أشكال التمييز عنهن؛ كثر الحديث عن المرأة في التاريخ وعند الفلاسفة والمفكرين .

ولقد ظهرت فلسفة حديثة أطلق عليها الفلسفة النسوية أو الفلسفة الأنثوية أخذت علي عاتقها أن تري الوجود كله بعيون الأنثي؛ حتى العلوم الطبيعية أخذت نصيبها من الفلسفة؛ ومع بداية العصر الحديث ومع قيام الثورة الصناعية والحاجة للمزيد من الأيدي العاملة؛ ومع حروب عالمية استهلكت البشر كما استهلكت البيئة؛ كان التدشين لعصر جديد للنساء يدخلن آلة العمل بقوانينها الجبارة؛ وكان لا بد من قيام أفكار وفلسفات جديدة لخدمة هذا التوجه؛ فكانت حرية المرأة؛ وحرية الجسد؛ والبحث عن دور جديد للنساء ... الخ (وذلك حسب ما ذكرته الباحثة سلوى محمد نصره في مقدمة كتابها الفلسفة النسوية في فكر الإمام محمد عبده).

ومع دخول القرن التاسع عشر ظهر الفكر النسوي في شكل ثورة تطالب خلالها بحقوق المرأة نتيجة الاضطهاد الذي عانت منه عبر العصور وفي مختلف الديانات، انطلاقا من نقدها للسلطة الكلية للرجل على المرأة من خلال تغيرها لعدة مفاهيم، فتعتبر أن الأبوية ذريعة اتخذها الرجل للسيطرة على المرأة، باستغلاله لطبيعة جسدها الضعيف أمام جسده، فليكون هناك توازن على المرأة أن تحقق هويتها وذاتها بأن تكون عنصر فعال في المجتمع، لتظهر خلال هذا كله موجات وتيارات نسوية، فالموجات النسوية تمثلت في ثالث موجات ابتداءً من الموجة الأولى التي كانت تبلوراتها خلال سنة 1792م كتمهيد للموجة الثانية التي كانت بين سنة 1960م حتى نهاية القرن 20م، لتأتي الموجة الثالثة كآخر موجة التي كانت بداياتها من التسعينيات لتمتد إلى يومنا هذا؛ حيث عملت النسوية خلال هذه الموجات إعادة الحقوق للمرأة مهتمة بكل قضايا المرأة. نفسها. لنجد التيارات على تحقيق العدالة والنسوية التي تبدأ بالتيار النسوي الماركسي، ثم التيار النسوي الليبرالي، فالتيار النسوي الاشتراكي، أخيراً نجد التيار النسوي الراديكالي. لتبرز الفلسفة النسوية الغربية وحتى العربية في كافة المجالات العلمية والفكرية.

ومن أهم المفكرين الذين أولوا قضية المرأة عناية فائقة والمنظرين لأسس الفلسفة النسوية بمفهوم ورؤية خاصة تستحق الدراسة والتحليل هو الأستاذ ماجد الغرباوي؛ ذلك الرجل الذي يمثل (كما قال الأستاذ شاكر فريد حسن في مقاله ... ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء): رمز ونجم فكري وثقافي نقدي لامع يتجدد كل يوم في فضاءات العلم والثقافة والسياسة والمعرفة؛ ويقف ضمن طليعة المفكرين والمثقفين العرب المستنيرين والنقديين المشتغلين على نقد الفكر الديني والحركات الاسلامية ومسائل النهضة والاصلاح والتجديد والمعاصرة والتنوير والعنف والتسامح بين الاديان والعقائد والمذاهب؛ وقضية المرأة ومسألة تحررها المرتبطة بتحرر المجتمع كله . فهو يتمتع بموهبة أدبية ابداعية وخلاقة وآفاق علمية واسعة؛ ويتصف بالذكاء والفطنة والبصيرة الثاقبة وبعد النظر والرؤية الواضحة والوعي المتجدد المتوهج المتوقد ... وهو المفكر المتواضع الثري بالثقافة الاسلامية والفكر الانساني والوعي النقدي؛ والانسان العصامي؛ الصلب؛ المقاتل والمحارب بالكلمة والقلم؛ والثورة لديه فصل حب وعشق كوني شمولي ... هو كذلك المفكر المتمرس المتبحر في التراث الاسلامي؛ يملك الأسس العقلية المنفتحة والأدوات الفنية التي يعتمدها اسلوبه الكتابي النقدي ومقارباته الفكرية والثقافية؛ التي تعد اهم ركائز واوليات الاستنساخ للمثقف المبدع الخلاق المبتكر المجدد ... وهو أيضا كاتب وباحث عميق وجاد؛ صاحب مشروع فكري نهضوي معاصر يسعى من خلاله الى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي؛ ومن خلال قراءة متجددة للنص الديني على اساس النقد والمراجعة المستمرة من اجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهوض حضاري وعصري متقدم وجذري  يساهم في تأصيل قيم الحرية والتسامح والعدالة في اطار مجتمع مدني خال من العنف والتنابذ والاحتراب .

والسؤال الآن : ما هي رؤية ماجد الغرباوي لأفكار الفلسفة النسوية من مكانة المرأة ؟ والمساواة؛ والحرية؛ وحقوق المرأة وأيضا موقفه من الفلسفة النسوية الغربية والفلسفة النسوية العربية؟ ما وماهي المنطلقات الفكرية في نظر الأستاذ لنسوية ما بعد الكولونيالية ؟ وهل يعد القهر الذي تتعرض له المرأة موضوعا عالميا وليس موضوعا عربيا؟؛ وكيف تقهر المرأة من وجهة ماجد الغرباوي ؟ وما هو مفهوم النظام الأبوي وما ماصدقاته؟ وماهي الأصول الفلسفية لتبعية المرأة في هذا النظام ؟ وما فلسفة النظام الأبوي في تربية المرأة ؟   وذلك من وجهة نظر الأستاذ انطلاقا من الايدلوجية التي يتبناها ماجد الغرباوي ؟ وأسئلة كثيرة أخري صاغها كاتب تلك السطور وأجاب عنها بإفاضة الأستاذ ماجد الغرباوي .

إن رؤية ماجد الغرباوي تتضح من خلال مشروعه التنويري والذي يقول عنه: أما عن مشروعي، فسأبداء ببيان الخطوط العريضة لرؤيتي حول النسوية، معززة بالمبادئ التي اؤمن بها:

أولاً - أسعى في مشروعي إلى إقامة مجتمع مدني متحضر، يأخذ بأسباب العلم والمعرفة، ويعزز قيم الدين والفضيلة، باعتبارهما قيما إنسانية أصيلة تكافح الظلم والعنف وتعضّد روح التسامح والسلم الأهلي. وتقوض مشاريع الهيمنة والتوسع والسيطرة، وخطط إذلال الشعوب ونهب ثرواتهم. وتساهم في التحرر من سطوة المؤسسات الدينية والأفكار المتطرفة والهدامة. وعلى هذا الأساس أقارب موضوعات النسوية تارة باعتبارها فردا، وثانية باعتبارها جزءا من المجتمع.

ثانياً- تعريفي لمفهوم النسوية - Feminism، وفقا لمفهوم الفلسفة المعاصرة، القائمة على النقد والعقلانية، هو: (تحرير وعي المرأة وإعادة تشكيله وفق رؤية إنسانية عادلة). ليكون موضوعها: (نقد مكونات الوعي وارتهانات تشكيله). وقد تمت الإشارة له سابقا، أذكر به للمناسبة.

ثالثاً - تبدأ الخطوة الأولى على طريق تحرير المرأة، واستعادة حقوقها، من استرداد إنسانيتها، واستعادة ثقتها بنفسها، وبعقلانيتها وحكمتها وقدراتها العقلية والنفسية، بعد تحرير الوعي من تراكمات التربية والبيئة وسطوة التراث والعادات والتقاليد، وعقد النقص والدونية.

رابعاً - توظيف الخطاب الديني العقلاني، وقيم الحضارة الحديثة، والقيم الأخلاقية والإنسانية، لإعادة تشكيل وعي الرجل بالمرأة، وانتزاع اعتراف حقيقي بإنسانيتها، يضعها على قدم المساواة معه. للتخلص من منطق المنّة والشفقة والتكرّم والتفضّل المستوطن وعي الذكر في تعامله معها.

خامساً - ما لم يكن اعتراف المجتمع بإنسانية المرأة اعترافا حقيقيا يبقى التسامح معها تسامحا شكليا، ويواصل الرجل نظرة الازدراء، يضع نفسه فوقها، ويتعامل معها بتعالٍ ذكوري.

سادساً - تستمد حقوق المرأة مشروعيتها من إنسانيتها. تبقى تدافع عنها على هذا الأساس، وتشعر بالظلم والإهانة عند الاستهانة بها. أما المرأة المنهزمة فتبقى مشروعية حقوقها مرتهنة للرجل وإرادته. فتتعرض للاضطهاد والظلم، دون التمرد عليه باعتباره قدرها. وهذا فارق جوهري اؤكد عليه دائما في مسألة النسوية، وأعتبر جميع الحقوق بناء فوقيا، ينبغي أن يؤسس على أسس إنسانية وعقلية وأخلاقية. ينبغي للمرأة أن تحدد حقوقها بنفسها، بعيدا عن سطوة الرجل وسلطته. وهو ما نراه الآن، حيث الذكر هو الذي يحدد حقوق المرأة.

سابعاً - أؤمن من حيث المبدأ بحرية المرأة ومساواتها مع الرجل، ما لم تمسا قيم الفضيلة، التي هي أساس تماسك الشعوب. لذا أميل للحرية العادلة، والمساواة العادلة. والعدالة قيمة نسبية، تحددها مصالح الشعوب ومرتكزاتها الفكرية والعقدية إضافة إلى التزاماتها الاجتماعية (عادات، تقاليد، تعليمات دينية، لوائح قانونية، مقررات) التي تستمد شرعيتها من شرعية تعاقد مضمر بين أبناء الشعب، أو عقد اجتماعي، وجود الفرد يؤكد قبوله به، فيفرض عليها الالتزام به. ومن يعش داخل مجتمع، يلتزم بما يلتزم به أفراده. التزام يحيل على عقد اجتماعي يستمد شرعيته هو الآخر من عدالته والالتزام به. وقد يحد المجتمع من حريات أفراده، شريطة أن تكون قيودا عقلانية، تصب في مصلحة الجميع، وينتفي عنها صفة الاعتداء والظلم. أي أن تحديد الحرية التي هي صفة وجودية للإنسان، لا يعتبر اعتداء، مادام له مردود إيجابي على الجميع والمرأة جزء منه. فهي تتنازل عن بعض حريتها لأجل تعزيز قيم الفضيلة التي تعضد تماسك الشعب. وهكذا بالنسبة للمساواة، فهي حق للمرأة أصالة، لكن لا ينبغي للرجل استغلالها لإقحام المرأة باسم المساواة إلى سلوك يضر بمصداقيتها، كأن يجبرها على عمل شاق فوق طاقتها وقابلياتها، باسم المساواة فيوجب عليها ذلك، لذا اشترطت في المساواة العدالة، كشرط أساس لتحقيق توازن قيمي، يراعي خصائص المرأة، خاصة البايلوجية. والعدالة تحفظ حقوق الجميع، دون غَبن أو ظلم. فثمة فرق بين الحرية والمساواة باعتبارهما لازمين لوجود المرأة. وبين الحرية والمساواة كممارسة اجتماعية خاضعة لشروط العقد الاجتماعي.

ثامناً - الدين تجربة روحية تروي ظمأ الإنسان المتعطش للمطلق، والمرتهن للغيب والمقدس. يغمره قلق مصيري لا شعوري، وتوق جنوني للسمو يستبد به وهو يعيش تجربته، فتنعكس آثارها على سلوكه ومشاعره ومواقفه. والدين بهذا الفهم الصوفي يساهم في تعميق قيم التسامح والسلم الأهلي، حينما يضفي الدين معنى لحياته وتضحياته، ويرفد المجتمع بقيم المحبة والسلام، ويساهم في تماسك الأواصر الاجتماعية، والحث على العمل الصالح. وعدم التآمر ضد مصالح شعبه ووطنه. لا يسود الاستقرار والأمن، ولا تحقق المواطنة أهدافها من خلال القوانين وقوة القضاء، بل ينبغي وجود ثقافة موازية تثقف الشعب على القيم والمبادئ الكفيلة باستقرار الشعب. والدين بالمعنى المتقدم يلعب دورا إيجابيا عندما يخلق وازع التقوى، وحب الخير، وحينئذ سيلتزم بالأنظمة والقوانين حتى في خلواته بعيدا عن عدسة الرقيب الأمني. وهذا النمط الديني يعارض منطق الفرقة الناجية، ويفتح باب النجاة أمام  الجميع، ويحول دون دعوى احتكار الحقيقة، وسيادة منطق التكفير.

تاسعاً - الأحكام الشرعية، أحكام نسبية، ترتهن فعليتها لفعلية موضوعها، وبعد أربعة عشر قرنا، حصلت تحوّلات حقيقية، ينبغي أخذها بنظر الاعتبار، إذا أن الشريعة قائمة على أساس ملاكات ومصالح ومقاصد، ويمكن اعادة النظر بجملة منها، باستثناء بعض العبادات.

عاشراً - أهم إشكالية تواجه المرأة عامة والمرأة المثقفة خاصة، تحرير العقل الجمعي من ذكوريته وسلطويته واستخفافه، ليرقى إلى مستوى إنسانيته في تعامله معها. مع تعميق ثقتها بذاتها وبمنجزها، بعيدا عن تاء التأنيث، تحاشيا لإعادة انتاج الذكورة من خلال تكريس الأنوثة. وهذه اشكالية مركبة، تتطلب من المرأة عملا مزدوجا. تنقية العقل الجمعي من قيم التمايز الجنسي، وتأكيد إنسانيتها، من خلال مواقفها ومنجزاتها بعيدا عن التكريس اللاشعوري للأنوثة. فتارة تكرّس المرأة الذكورة وهي تقاوم تحدياتها، فتعيد انتاجها بصيغ مختلفة. وهذا ما يحصل حينما تصرّ المرأة على تأنيث منجزها تفاخرا أو تحديا، أو تكريسا لخصوصيتها، ليبقى المجتمع العربي في دوامة ثنائية المرأة / الرجل. الذكر / الأنثى. وتبقى نبرة الرجل تعلو صوت المرأة، رغم حضورها الكبير على المستوى العلمي والأكاديمي والاجتماعي والثقافي والأدبي والفني. بل ونافست الرجل في أعلى مناصب القيادة عندما مارست السلطة والحكم (رئيسة دولة أو رئيسة وزراء)، أو كوزيرة ومستشارة، ومديرة، ورائدة فضاء، وبرلمانية... وللحديث بقية !

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

................................

يمكنك الاطلاع على الكتاب من خلال الرابط أدناه 

 

الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري

 

 

 

 

 

 

الشعبوية تعنى بالشعب والجماهير، خاصة من الناحية الكمية وليست الكيفية، وما يؤثر في توجهات الجماهير سلباً أو إيجابا، ومتعلق في مسألة الوعي الجمعي والمجتمعي.

وقد ارتبطت الشعبوية بالعمل السياسي، ولكننا لا ننكر أنها تسربت إلى كل أنماط السلوك والعمل الاجتماعي، ويلعب وعي الجماهير دورا كبيرا أيضاً في توجيه السياسيين والدينيين وغيرهم من المعنيين في الساحات الاجتماعية.

ولو انتقلنا بالفكرة من بعدها السياسي إلى بعدها الديني والثقافي، لوجدنا أن الشعبوية هي جزء من سلطة العوام على مسيرة تطور الفكر الديني والثقافي، التي تتحكم بعمل الفقيه في استنباطات الحكم وفق أسسه السليمة، وتلعب أيضا في رسم توجهات كثير من المثقفين، ورسم معالم أولوياتهم في الاصلاح والنهضة، وعلى مستوى الثقافة والفكر والنقد والأدب.

أي ان النظام المالي ليس المعني الوحيد بهيمنة العوام على هذه المسيرة، ولكن أيضاً الشعبوية، التي إما يتقوى بها الفقيه والنخب من المثقفين والمفكرين السياسيين لطرح ما لديهم من أطروحات قد يكون بعضها تقليدياً تراثياً، أو بعيدا عن هموم النهضة ومعيقاً في مسيرة تطور الفكر الديني والثقافي، وإما أنها تكون القيد الذي يقيد الفقيه وتلك النخب ويحد من قدراتهم للإفصاح عن الحقيقة "الفتوائية" لحكم ما، خوفا من العوام، وأيضا ينطبق ذلك على النخب الفكرية والثقافية.

فلولا العوام لكان الكثير من الفقهاء والنخب مبسوطو اليد واللسان في الافصاح عن حقيقة كثير من الفتاوى والأفكار التي تم التعتيم عليها، خوفا من العوام.

فنحن هنا أمام عدة حالات أهمها:

١- شعبوية تعيق وتقيد العلماء والنخب، وهنا موقف هذه النخب يعتمد على تشخيص الأصلح والأهم، إما وفق قاعدة تزاحم وتعارض المصالح، أو قاعدة تشخيص المصلحة والمفسدة، ولكل حالة يفترض من النخب دراستها وفق أسس سليمة وتشخيص مفاسدها ومصالحها ومن ثم بناء موقف وفقا لدراسة التشخيص الأنسب، أما الرضوخ الغير مدروس بحجة الخوف على المشاريع الخاصة، أو العزل الاجتماعي، فإن ذلك يكرس مع الجهل على حساب الوعي، وهنا لا أدعو لمواجهة هؤلاء مواجهة عنفية، بل أعني أن النخب من العلماء والمثقفين وظيفتهم هنا تشخيص الموقف الأنسب لكشف الحقيقة وآليات كشفها، ورصد كل الوسائل الممكنة في مواجهة هذه الشعبوية الصوتية غالبا، مواجهة معرفية مدروسة.

٢- شعبوية ترجح آراء لحساب آراء، وهذه الشعبوية غالبا لا تعتمد في ترجيحاتها على مرجحات علمية وموضوعية مدروسة بشكل دقيق، بل تعتمد غالبا على انفعالاتها وميولها خاصة العقدية، لذلك تلعب دورا مهما في تقوية مسار ضد آخر، وفي تبني آراء وإهمال أخرى، وهذه الشعبوية يستخدمها كثير من النخب من العلماء والمثقفين في مواجهة الآراء الأخرى خاصة الجديدة منها، مواجهة ليست معرفية قائمة على المحاججات البرهانية، بل مواجهة عنيفة يسقط فيها المختلف اجتماعيا وتسقط معه آراءه حتى لو كانت صائبة، وهذه هي الشعبوية الموجهة التي يستغلها البعض لتحقيق ما يراه هو، فهناك مرجعيات دينية وعلماء ونخب وخطباء استطاعوا فعليا أن يستخدموا سلطة العوام، أي الشعبوية، في الحفاظ على مكتسباتهم الفكرية التي تعتمد على التراث أكثر من اعتمادها على أصول ثابتة ومعاصرة في الفكر الديني. وقد تكون ظاهرة المنابر وما يرشح عنها هي أكبر ظاهرة تدلل على سلطة العوام، فالكثير من الخطباء يلجؤون إلى الطرح، إما التقليدي جدا البعيد عن واقع الدين والمختلط بالأعراف والتقاليد الباطلة، وإما إلى الطرح المذهبي القصصي نزولا عند رغبة عوام الناس.

٣- شعبوية واعية تواجه الانحراف بكافة أشكاله، وتضم في صفوفها النخب الفاعلة، التي تواجه الآخر المختلف مواجهات معرفية رصينة، تقوم على المحاججات البرهانية، ويكون جل همها رفع منسوب الوعي عند الجماهير، وتحويلها لرصيد فاعل في النهضة والتغيير.

فوظيفة المثقف أن يكون هو الراصد للإشكاليات الاجتماعية وهموم المجتمع، وأن يلعب دورا فاعلا وإيجابيا في وعي الجماهير وتوجيه هذا الوعي في تحقيق واقع الاصلاح والتغيير، وليس تحقيق مصالحه الخاصة. فالشعبوية ليست شر مطلق ولا خير مطلق، بل هي تعتمد كأداة فاعلة في التغيير، على الوعي وعلى معايير الخير والحق، وهي معايير على المثقف أولا استيعابها بشكل فاعل ، هذا إضافة إلى أن المسؤولية المكتنزة في داخل المثقف هي التي تدفعه لمواجهة القوة الخفية في الاجماع الشعبوي على قضية من القضايا، لأنها تعري مخاوفه النابعة من حب الانتماء للجماعة، والتي يرتفع منسوبها عند بروز إشكاليات اجتماعية يريد أن يواجهها بوعيه لا بوعي الإجماع الشعبوي، وتحت ضغط حب الانتماء والخوف من الإقصاء الاجتماعي والعزل التي تبرز عند الإجماعات الشعبوية وقوتها الخفية، فالمثقف عليه التخلي عن هذا الشعور الانحيازي للانتماء وحاجته له، وأن يواجه هذه القوة الخفية وهذه الحاجة الذاتية بفهم الواقع، وإدراك واقع هذه الإشكاليات وجذورها ومواجهة الإجماع الغير صائب، بالحقيقة والحلول التي تحل هذه الإشكاليات جذريا وليس ترقيعيا نزولا عند رغبة المجتمع، مراعيا في ذلك القابليات المختلفة في المجتمع، وموظفا خطابا يدركه الجميع، ومراعيا الرفق في طرح الحقيقة بتدرج لا يخل بالواقع وحقيقة الحلول.

"يؤكد مولر في كتابه[2] على ضرورة الحوار مع الشعبويين والإنصات لجمهورهم وعدم معاملتهم بدونية واحتقار، وهو ما يستلزم أيضاً محاولة فهم السياقات التي تدفع بالجماهير إلى الارتماء في أحضان الحركات الشعبوية، وهو تنبيه مهم في سياق مآلات الربيع العربي، خاصة وأن هذه المآلات السلبية في عدد من دول الربيع قد أدت بالعديد من النخب إلى تغليب الرأي القائل بأن الجماهير ميالة دائماً للعاطفة والعنف. فأحد المؤشرات المثيرة للاهتمام على هذه النظرة الدونية في الدول العربية هي الشعبية التي أصبح يتمتع بها في السنوات الأخيرة كتاب “سيكولوجية الجماهير” الذي صدر منذ أكثر من قرن للمفكر الفرنسي غوستاف لوبون، وهو كتاب يؤكد على النوازع العاطفية والغرائز اللاعقلانية والتدميرية للجماهيرـ وهي رؤية  لا تخلو من التبسيط، وتؤدي في نهاية المطاف إلى نفس النظرة التحقيرية والمتعالية التي يحذر منها مولر"[3][4].

وللشعبوية اليوم أدوات عديدة وجديدة، فلم تعد الساحات العامة والأماكن الحساسة في البلد هي الساحات الفاعلة فيها تلك الجماهير، فاليوم هناك وسائل سهلة جدا ومتوفرة بشكل كبير لدى الجماهير، أهمها مواقع التواصل الاجتماعي، التي تحولت إلى منابر صوتية، يمكن من خلالها تشكيل رأي عام ضاغط يدفع باتجاهات غالبا صوتية غير مدروسة، وتكون في كثير من الأحيان مؤثرة في قرارات أي سلطة، دينية كانت أو ثقافية أو سياسية.

فبعد ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، لم تعد صناعة الوعي محصورة دون صدى، بل باتت تفاعلية ذات صدى عالمي، يتفاعل فيها الأفراد من المجتمعات المختلفة تفاعلا تواصليا ينعكس على حركة الوعي الفردي والاجتماعي، وتتواصل فيها مكونات المجتمع كافة بشكل مباشر وإن افتراضي مع النخب من العلماء والمثقفين والمفكرين والأكاديميين، وتطرح الأسئلة بكافة إشكالها دون حرج، ويتم التفاعل مع هذه الحوارات والآراء بشكل مفتوح وواسع وكبير جدا.

ويتم من خلال هذا التفاعل تشكيل حركة موجية تتسع بشكل سريع ومتدرج تنتقل فيها الآراء والمعلومات بسهولة، ويتشكل خلالها وعي غير مكتمل، كون هذه المنصات إما تتحكم بها قوانين معينة أو محددات تمنع من تعميق الأفكار وتكاملها، وتطرح رؤوس أقلام تتحول ضمن ثقافة الجمهور إلى مسلمات دون فحص كل جوانبها ومبانيها وزوايا النظر فيها. فيتم تلاقف الآراء التي قد يكون مصدرها مجهولا أو منسوبا لشخصيات موهومة، يتم تناقل هذه الأفكار كمسلمات معرفية، بسرعة كبيرة تنتشر في مساحات وعي الجمهور وتشكل إما معول هدم وتبديل، أو معول بناء وتطوير، ويعتمد ذلك على نوعية الأفكار، ومستوى وعي الوسط الاجتماعي المطروحة فيه، ومدى فاعلية النخب وقدرتها على تفنيد تلك الأفكار ومواجهة غثها وسمينها.

وفي دراسة للمركز الديموقراطي العربي بعنوان : "دور مواقع التواصل الاجتماعي في السياسة الدولية" يذكر: "لقد أحدثت مواقع وسائل التواصل الاجتماعي ثورة في عوالم الاتصال والتواصل والمعلومات ، ومست بقوة بمنظومات القيم الاجتماعية والثقافية وتدخلت على نطاق واسع في تغيير البنى والمؤسسات السياسية وفي حتى التلاعب بموازين القوى السائدة ، فقد أجمع خبراء الاتصالات على أن دخول أدوات الاتصال الجديدة إلى مجتمع ما ، يؤدي حتما إلى تعديلات وتأثيرات في منظومة القيم الإجتماعية مما ينعكس على النظام السياسي الداخلي ، وعليه فمنذ انطلاق مواقع التواصل الاجتماعي عبر شبكة الانترنيت والمتضمنة (face book  &Twitter & YouTube)    وإلى حد هذه اللحظة بلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في العالم إلى ما يقارب ٤ مليارات مستخدم يملكون حساب وصفحة، سواء أكان هذا الحساب في الفيس بوك أو التويتر او الانستغرام أو حتى تطبيقات الأندرويد) فايبر و واتس اب وتليغرام ..الخ (حيث لاتزال هذه الوسائل تلقي الرواج والانتشار السريع لأنها اصبحت (ثورة العصر) أولاً ، وثانياً هناك من وضع الخطط لنشرها عن طريق توفيرها بأسعار زهيدة الثمن وتكاد تكون مجاناً ، ولذلك يختلف تعامل الدول والمجتمعات مع هذه الأدوات التواصلية من دولة لأخرى، وذلك حسب نظامها السياسي وأيديولوجيتها ودرجة حساسيتها الثقافية والسياسية"[5] .

"أن الابعاد الخاصة بشبكات التواصل الاجتماعي والتي لا تنشأ في الأصل من فراغ وإنما تخضع الى اعتبارات إيديولوجية فمؤسسو الشبكة سواء كانوا أفراداً أو جماعات يتبنون أفكاراً معينة، وتنشأ بناء على هذه أفكار الشبكة (نموذج شبكة الفيس بوك)، وهذا لا يعني أن هناك حالة سكونية في البناء الشبكي، إذ قد تتغير الوجهات الفكرية لمؤسسي الشبكة تبعاً لتغيير الإيديولوجيا المسيطرة على تفكريهم، خاصةً أن الإيديولوجيات ليست حتمية ولذلك ظهرت محددات تبرز الطابع الإيديولوجي للشبكات الاجتماعية ومنها:

١- الإيديولوجيا السياسية وما يدور حولها من أحداث، أذ أصبحت هذه الشبكات أشكالاً من المداولة والنقاش حول الشأن العام، وسمحت للنخب تجاوز أليات تغيبها في المجال العمومي التقليدي الذي تسيطر عليه الدولة.

٢- الشبكات الاجتماعية لا تعمل بمعزل عن سياقها أي (المجتمع الافتراضي (، و إذا كانت الفرضية الأساسية للمجتمع الافتراضي منذ نشأته ترتكز على مشاركة الاهتمامات، فإن الأفراد أو الجماعات عند النفاذ إلى الشبكات الاجتماعية، يحتكمون إلى الاهتمامات التي تعد بدورها محدداً إيديولوجياً ينطوي على عنصر اختيار، يستمد مرجعيته من الأطر الفكرية الحاكمة للمستخدمين.

٣- إن الشبكات الاجتماعية أفرزت أشكالاً جديدة من الفعل الجماعي، وخلقت فضاءات بديلة اقتضت جماعات افتراضية، وتكونت حولها مشاغل مشتركة سياسيه واجتماعية وفنية ورياضية ومهنية تنطلق من أيديولوجيات متعددة. 

بروز قادة رأي عام حدد لهم منابر إعلامية وتقنياتهم الخاصة لحشد الجماهير وتعبئة الأفراد ،وقد تكون هذه من أهم المحددات الإيديولوجية للشبكات الاجتماعية ، وذلك لكون قادة الرأي العام في مواقع التواصل يؤثرون بالمجتمع، وأصبحوا فاعلون باستطاعتهم أن يغيروا في الحياة ألاجتماعية والسياسية والثقافية ، ومع هذا وفي ظل تحولات العالم سياسية وخصوصا الواقع العربي برز فاعلون جدد من مختلف دول العالم، لا يأخذون جهداً في التسلسل للمجتمع الشبكي والذي أصبح نظاماً للعلاقات السياسية والاجتماعية والإنسانية والاتصالية ومتحكما فيها أيضا ، إذ يحاول هؤلاء استغلال أية وسيلة أو منصة لتكون وسما لهويتهم[6]. 

"من الناحية السيسيولوجية، فأن دخول التكنولوجيا الرقمية في المجتمع حوّل التفاعلات بين الإفراد ووسطهم الاجتماعي، لكن التطورات الاجتماعية بقيت مستقلة عن التقنية نفسها، فالإنترنت والهواتف المحمولة لها قدرة فائقة على محو الحدود بين الفضاءين العام والخاص واختصار المسافات واختزال الوقت، مما يجعل العمل الجماعي أكثر فعالية وتأثيراً، أي أنهما يسمحان بالاتصال بين عدد غير محدود بين المساحات الجغرافية وتبادل المعلومات وتنظيم اللقاءات والأنشطة وتوفير الفرصة بغض النظر عن المسافة وطبيعة المكان ما بين الأفراد، فالتقنية نفسها ليست من يحول العلاقات الاجتماعية بل أن طريقة استخدامها هي التي تحفّز القوى التي كانت موجودة أساساً في المجتمع قبل انتشارها وتجعلها راهنة، أنهم المستخدمون أو المستهلكون أو المستعملون الذي يستخدمون التقنية لأغراضهم وليس العكس (Ayari & Geisser, 2011, 47)"[7].

وتخضع أيضا هذه الوسائل لقانون الشعبوية، كون نوعية المطروح كما أسلفنا خاضع لمستوى وعي وثقافة الجمهور، الذي غالبا لم يعد محليا خاصا، بل تجاوز التفاعل خارج الحدود الجغرافية، وتحول لتفاعلات مفتوحة الفضاء، مختلفة الثقافات والأفكار والإيديولوجيات، لكن أحد أهم إشكاليتها أنها غير مكشوفة الهوية، أي أن حقيقة المتحدث غير معروفة وقد تكون افتراضية غير واقعية، وتكون خلف هذه المنصات مجموعات أو قيادات مؤدلجة وموجهة، وطبعا هنا تصبح المساحات مختلفة وبالتالي يصبح الخطاب الموجه أشمل وأعمق ويتطلب دراية أكبر، وهو ما لا يمكن للمثقف الفرد القيام به منفردا، بل هذه المواجهة تتطلب المثقف المؤسسة، بمعنى قيام مؤسسات أهلية من أعضاء مثقفين ومراكز رصد ودراسة وتوثيق، لمتابعة آخر المعطيات الثقافية والإشكاليات التي تواجه المجتمعات في مواقع التواصل الاجتماعي، مضافا لوظيفتها الداخل محلية الخاصة بها، لذلك لم يعد مفيدا مواجهة الشعبوية مواجهة فردية من قبل المثقفين منفردين، بل على المواجهة أن تكون مؤسساتية توزع فيها الأدوار والمهام، وقائمة على أساس عمليات كالمراقبة والرصد والمعلومات ، ليستطيع المثقفين من تحليل المعلومات المقدمة ورصد الإشكاليات وفقها، وتقديم معالجات واقعية وعصرية، وهنا لا نعني بالمواجهة الصدام مع الشعب أو الجمهور المتكتل بعنوان قضية موحدة، بل نعني مواجهة الشعبوية معرفيا وإعادة صياغة وعي وازن يقلل من سلبياتها ويدفع لرفع أرصدتها الإيجابية في حركة المعرفة والتغيير والوعي. وهناك شعبوية إيجابية سأقوم بعمل إطلالة سريعة عليها. وهذه المؤسسات قد تتبناها الدولة وتفرض عليها سياق معرفي محدد وموجه، وقد تتبناها شخصية اقتصادية وتفرض وجهتها السياسية والمعرفية، وقد تتبناها مؤسسات دينية وكذلك تفرض نسقها المعرفي، ولكل الحق في التصدي، لكن في واقع الأمر معالجة هذه الإشكالية بدون تحيز معرفي، يتطلب تصدي النخب من المثقفين المستقلين، الذين يحملون هم المعرفة والوعي خارج نطاق التحيزات المعرفية خاصة السلبية منها.

خاتمة: 

هناك عوامل مهمة في بناء علاقة سليمة بين المثقف والمجتمع هي:

١- إن وظيفة المثقف ومسؤوليته تفرض عليه أن يكون كفؤا في إنجاز مهمته، هذه الكفاءة تتطلب منه فاعلية على مستواه الشخصي من حيث السعي المستديم في طلب المعارف وتوسيعها، وإدراك الإشكاليات الاجتماعية إدراكا مجملا يمكنه من خلاله أن يشخص الخلل ويضع الحلول. مسؤوليته أولا لبناءه الذاتي ليكون كفؤا للتصدي الاجتماعي، وثانيا بناء المجتمع معرفيا، وهذا متوقف على كفاءته التي من خلالها سيصنع جسور ثقة تعزز من مصداقيته اجتماعيا، خاصة عندما يربط قوله بفعله، وهذه المصداقية تؤثر بفاعليته الاجتماعية وتأثيره في وعي المجتمع.

٢- الصدق من أهم ما يجب أن يتحلى به المثقف، صدقه مع ذاته من جهة، وصدقه مع مجتمعه من جهة أخرى، وهذا الصدق يحتم عليه عدم محاباة المجتمع والنزول عند ما يريده دون تصويب ونقد وتقييم وتوجيه، فقط يكون ما يريده المجتمع حقا ولكن يحتاج أن يصوب بطريقة مدروسة لتحقيق الهدف، ويحتاج أن تستخدم طرق وأدوات سليمة، لذلك المثقف يجب أن لا يحقق رغبة الجمهور تحت ضغط الجمهور عليه، أو بحجة الإسقاط والتشهير الاجتماعي، لأن من مصاديق صدق المثقف هو صدقه مع مجتمعه في كشف الواقع والحقيقة كما هي، لا كما يريده الجمهور.

٣- الاستعداد لتقديم التضحيات لأجل مسيرة الوعي، وصيرورة المجتمع في طريق الوعي، وعدم الالتفات للمصالح الشخصية والمكاسب الذاتية في هذا الطريق.

 

إيمان شمس الدين

 ...............

 [1] من كتاب المثقف وجدلية القهر والاستبداد/إيمان شمس الدين/ ص ٢٤٢-٢٤٩+ ٣١٦/ دار الانتشار العربي ط١/ بيروت

[2] راجع الهوامش في في هذا الكتاب

[3] http://www.al-jazirah.com/2018/20180213/ar7.htm

 [4] رغم أن كتاب “سيكولوجية الجماهير” قد صدر سنة 1895، وتلته انتقادات عديدة منذ مراجعة سيغموند فرويد لنظرية لوبون سنة 1921، من المثير للانتباه ملاحظة شعبية كتاب لوبون على مواقع التواصل الاجتماعي في الدول العربية، وكذلك توالي الطبعات العربية للكتاب، حيث صدرت منذ سنة 2011، أي سنة الربيع إلى اليوم أكثر من ست طبعات. كمثال على استعمال كتاب لوبون للتعبير عن نظرة دونية للجماهير تبرر في نفس الوقت النخب الحاكمة في الدول العربية، انظر: رجاء العتيبي، “سيكولوجية الجماهير”، 13 فبراير 2018. 

[5] مجلة اتجاهات سياسية – العدد الأول ديسمبر – كانون الأول – سنة “2017” احدى اصدرات المركز الديمقراطي العربي 

[6] - بابكر مصطفى، معتصم /أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام/ مركز التنوير/ الخرطوم/ 2014/ ط 1/ ص 191-192. 

[7] التحولات في النظام العربي: الجذور والأسباب وتحديات بناء الدولة العصرية / د. حسن عبدالله جوهر ـ أ. د. غسان العزي

قسم العلوم السياسية/جامعة الكويت

 

الصفحة 3 من 3

في المثقف اليوم