ترجمات أدبية

كيت شوبان: سيجارة مصرية

بقلم: كيت شوبان

ترجمة: نزار سرطاوي

***

راح صديقي المهندس المعماري، الذي يمكن أن نعتبره رحّالة، يعرض علينا تُحَفًا متنوعة كان قد جمعها أثناء زيارته للشرق. قال وهو يلتقط علبةً صغيرةً ويُقلّبها بيده: " هذه لكِ. أنتِ مُدَخّنة؛ خذيها معك إلى البيت. أهدانيها في القاهرة رجلٌ من الفقراء المتصوفة خُيّل إليه أنني أسديتُ إليه معروفًا".

كانت العلبة مغطاةً بورقٍ أصفرَ صقيلٍ مُلصقٍ بإتقان بحيث تبدو كأنها قطعةٌ واحدة. لم تكن تحمل أيَّ ملصقٍ أو ختمٍ – لا شيءَ يَشي بما في داخلها.

سألتُه وأنا أتناول العلبةَ وأقلّبها بغباءٍ كمن يُقلّب رسالةً مختومةً ويحاول أن يُخمّن محتواها قبل فتحها: "كيف عرفتَ أنها سجائر؟"

أجاب المهندس المعماري: "لا أعرف إلا ما قاله لي، لكنّ من السهل التأكد من صِدْقه". ناولني قطّاعة ورقٍ حادة فتحتُ بها الغطاء بحرصٍ بالغ.

كانت في العلبة ستُّ سجائر، من الجليّ أنها مصنوعة يدويًّا. الأغلفة من ورقٍ أصفرَ باهت، التبغ من اللون نفسه تقريبًا. كان أجودَ من التبغ التركي أو المصري العادي؛ خيوطُه بارزةٌ من كلا الطرفين.

سألني المهندس المعماري وهو يعرض إشعال عودَ ثقاب: "أتودّين أن تجرّبي واحدةً الآن سيدتي؟"

 أجبتُ: "ليس الآن ولا هنا، لكن بعد تناول القهوة، إن أذنْتَ لي أن أدخلَ إلى غرفة التدخين. بعضُ النساءُ هنا لا يُطِقنَ رائحة السجائر".

تقع غرفة التدخين في نهاية ممرٍّ قصيرٍ منحنٍ. أثاثها كله شرقيٌّ خالص. لها نافذة عريضة واطئة تُفْضِي إلى شُرفةٍ تطلّ على الحديقة. من الأريكة التي استلقيتُ عليها، لم يكن باديًا للعيان سوى أعالي الأشجار المتراقصة. أوراق القيقب تلمع تحت شمس الظهيرة. إلى جانب الأريكة، ثمّةَ منضدةٌ صغيرةٌ منخفضةٌ تحتوي على كل ما يحتاجه المُدَخّن. شعرت براحةٍ تامة، وهنّأت نفسي أنني فررت لبعض الوقت من ثرثرة النساء التي لا تتوقف، والتي كان صوتها يصل إليّ خافتًا.

تناولتُ سيجارةً وأشعلتها، ووضعت العلبة على المنضدة، بينما راحت الساعة الصغيرة الموضوعةُ هناك تدقُّ دقاتٍ فضيةً معلنةً الخامسة.

أخذت نفسًا عميقًا من السيجارة المصرية. تصاعد الدخان الرمادي المُخضرّ في عمود صغير منتفخٍ راح يمتد ويتسع حتى بدا كأنه يملأ الغرفة. تراءت لي أوراق القيقب باهتةً، كما لو أنّ وميضَ ضوء القمر يحجبها. تسلل تيارٌ خفيّ مزعج إلى جسدي كله وصعد إلى رأسي كأنه بخارُ نبيذٍ مثير للاضطراب. أخذت نفسًا عميقًا آخرَ من السيجارة.

"آه! لقد ألهبتِ الرمال وجنتي! استلقيت هنا طوال اليوم ووجهي في الرمال. هذه الليلةَ، عندما تحترق النجوم السرمدية، سأجرَ نفسي إلى النهر."

أبدًا لن يعود.

حتى تلك اللحظة، كنت أتبعه بقدمين طائرتين، بقدمين متعثّرتين، زاحفةً على يديّ وركبتيّ، وذراعاي ممدودتان، وها أنا ذي قد وقعتُ في الرمال.

الرمال ألهبت وجنتي؛ بل ألهبت جسدي كلَّه، والشمسُ تسحقني بعسفها الحارق. ثمّةَ ظلٌّ تحت عِذْقِ النخيل ذاك.

سأبقى هنا في الرمال حتى تأتيَ الساعةُ ويحلّ الليل.

 ضحكتُ من العرّافين وسخرتُ من النجوم حين قالت إنّني بعد نشوةِ الحياة سوف أفتح ذراعيّ وأستدعي الموت، وسوف تغمرني المياه.

أه! لقد ألهبتِ الرمالُ وجنتي! وما من دموعٍ لديّ لتُطفئ النار. النهر باردٌ والليل ليس ببعيد.

أشحت بوجهي عن الآلهة وقلت: "لا يوجد إلّا إلهٌ واحد؛ باردجا هو إلهي". كان ذلك حين تزيّنتُ بالزنابق ونسجتُ إكليلاً من الزهور، واحتضنته بقوةٍ في القيود الرقيقة الحلوة.

أبدًا لن يعود. استدار من على ظهر بعيره وهو يمضى مبتعدًا. استدار ونظر إليّ وأنا أجلس هنا، وضحك، وبانت أسنانه البيضاء اللامعة.

في كل مرةٍ كان يُقَبّلني ويمضي، كان دائمًا يعود. كلما اشتعل غضبًا، ورحل عني مردّدًا كلماتٍ جارحة، كان دائمًا يعود. لكنه اليوم لم يُقَبْلني ولم يكن غاضبًا. كلُّ ما قاله:

"آه! لقد مللت من القيود والقبلات ومنكِ. سأرحل ولن تَرَيْني مرةً أخرى. سأمضي إلى المدينة العظيمة حيث يتجمع الرجال كالنحل. سأمضي إلى ما وراءَ ذلك، حيث ترتفع الأحجار العملاقة نحو السماء نُصبًا تذكاريًا للعصور التي لم تولد بعد. آه! لقد مللت. لن تَرَيْني بعد الآن."

وانطلق على ظهر بعيره. ابتسم وبانت أسنانه البيضاء القاسية وهو يستدير لينظرَ إليّ وأنا أقبع ها هنا.

آه من الساعات وهي تزحف على مَهَل! يبدو لي أنني مكثت هنا أيامًا في الرمال، أتغذى على القنوط. القنوط مريرٌ، ويشدُّ العزيمة. أسمعُ أجنحة طائرٍ ترفرف فوق رأسي، تحلّق في دوائرَ على ارتفاعٍ خفيض.

غربتِ الشمس.

تسلّلَتِ الرمال بين شفتيَّ وأسناني وتحت لساني الجاف.

إن رفعتُ رأسي، فقد أرى نجمة المساء.

آه من ألم ذراعيّ وساقيّ! جسدي موجوعٌ ومُصابٌ بكدماتٍ كأنه مُحطّم. لِمَ لا أقوى على النهوض والجري كما فعلتُ في الصباح؟ لِمَ أجُرُّ نفسي هكذا مثل أفعى جريحة، أتلوّى وأتثنّى؟

النهر قريب من هنا. أسمعه – أراه – يا للرمال! يا للبريق! كم هو بارد! شديد البرودة!

الماء! الماء! في عينيّ، في أذنيّ، في حلقي! يخنقني! النجدة! ألن تهبَّ الآلهة لنجدتي؟

آه ما أعذب نشوةَ الراحة! ثمّة موسيقى في المعبد. وفاكهةٌ هنا لمن يريد أن يتذوقها. جاء باردجا بالموسيقى – القمر يُشرق والنسيم عليل – إكليلٌ من الزهور – هيا بنا ندخل حديقةَ الملك ونشاهد الزنبقةِ الزرقاءِ يا باردجا.

بدت أوراق القيقب كما لو أن بريقًا فضيًا قد لفَّها. لم يعد الدخان الرمادي المُخضرّ يملأ الغرفة. بالكاد استطعتُ أن أفتح جفنيّ. بدا أن ثِقل القرون يخنق روحي التي كانت تجاهد أن تفلِت، أن تُحرر نفسها وتتنفس.

لقد عرفتُ مذاق اليأس الإنساني من أعماقه.  

الساعة الصغيرة فوق المنضدة تشير إلى الخامسة والربع. السجائر ما تزال في العلبة الصفراء. لم يتبقَ سوى عقب السيجارة التي دخنتُها. ألقيتُهُ في منفضة السجائر.

وفيما أنا أنظر إلى السجائر في أغلفتها الشاحبة، تساءلتُ إن كانت ثمّة رؤىً أخرى قد تحملها إلي؛ ما الذي قد لا أجده في أدخنتها الغامضة؟ ربما رؤيةُ سلامٍ عُلويّ؛ حلمُ آمالٍ قد تحققت؛ مذاقُ نشوةٍ لم تلجْ عقلي لأدرك ماهيتها.

أخذتُ السجائر وسحقتُها بين يديّ. خطوت نحو النافذة وفتحتُ راحَتيّ. التقط النسيمُ العليلُ الخيوطََ الذهبية وحملها وهي تتلوى وتتراقص بعيدًا بين أوراق القيقب.

رفع صديقي المهندس المعماري الستارةَ ودخل حاملًا لي فنجانًا آخر من القهوة.

هتف مشفقًا: "كَمْ أنتِ شاحبة!هل تشعرين أنّكِ لست على ما يرام؟"

"أجبت: "ساء حالي بعض الشيء بسبب حلم".

***

.......................

(كيت شوبان -1850 – 1904) كاتبة نسوية أميركية تنتمي إلى أصول إيرلندية من جهة والدها وفرنسية من جهة والدتها. ولدت في سانت لويس بولاية ميسوري وعاشت لفترة غير قصيرة في مدينة نيو أورليانز بولاية لويزيانا، التي شكلت خلفية لمعظم أعمالها. كتبت الرواية والقصة القصيرة. فقد صدرت لها روايتان، أولاهما بعنوان مذنبة (1890) والثانية بعنوان اليقظة (1899)، وهي العمل الأهم الذي عُرِفت به. وبالإضافة الى ذلك كتبت ما يزيد على 100 قصة قصيرة، منها "العاصفة" (1869)، "طفل ديزيريه" (1893). "قصة ساعة" (1894)، "فيدورا" (1897)، الجوارب الحريرية" (1897) و "سيجارة مصرية" (1900).

عُنِيتْ شوبان بالثقافة الفرنسية وكذلك بالنسوية، وذلك بتشجيع من جدتها الكبرى. فكانت مصدر إلهام في كتابة أعمالها الأدبية في فترة لاحقة من حياتها. فقد تَرجمت بعض أعمال غي دي موباسان، وانعكس تأثيره في تناولها لموضوعات كالجنس والاكتئاب والتقاليد الاجتماعية. كذلك تأثرت بالروائي فلوبير، وقد قارن النقاد بين روايتها اليقظة وروايته الشهيرة مدام بوفاري. أما الروائي إميل زولا فكان صداه واضحًا في طرحها للمسائل الاجتماعية والنفسية.

لم تسلم شوبان من النُقّاد، وذلك بسبب تناولها للقضايا المثيرة للجدل، كالزواج والنسوية والانتحار، خصوصًا في روايتها اليقظة. إذ أن إحدى شخصياتها النسائية لديها حبيبان، مثل السيدة بوفاري بطلة فلوبير. وهذا ما اعتبره النقاد سلوكًا منافيًا للأخلاق. لكنْ بعد وفاتها، رأى الباحثون في رواية اليقظة عملاً إبداعياً لافتًا. كما أشاروا إلى أن أعمالها تركت أثرًا عميقًا في النقد الأدبي النسوي وفي صورة المرأة في الأدب بصورة عامة.

 

في نصوص اليوم