ترجمات أدبية

كان شيوا: الأوراق الحمر

بقلم: كان شيوا

ترجمة: صالح الرزوق

***

تسللت إشراقة أول شعاع من نور الصباح من نافذة غرفة المريض. كان السيد غو مستلقيا على السرير بعينين مغلقتين، وعاملة النظافة ترش المطهر في الغرفة، وقد وصلت باكرا اليوم على وجه التحديد، كما لو أنها لم تأتي للتنظيف ولكن لإزعاجه. كان غو يعلم أنه غير قادر على متابعة نومه، وكلما حصل ذلك، تقفز أفكاره وسط الرائحة القوية للمطهر لايسول. سبحت ورقة واحدة في الهواء فوق غابة أفكاره -  غابة كانت عارية تماما، فالفصل هو فصل الشتاء الآن. وكان غو يقلب سؤالا في ذهنه لعدة أيام: هل تحمر الورقة من جهة التصاقها بالساق ثم ينتشر اللون بالتدريج في كل المسطح الورقي، أم أن كامل الورقة ينتقل تدريجيا من الأحمر الباهت إلى الأحمر الداكن؟. لم يلاحظ غو قبل مرضه هذه الظاهرة. ربما لأن فرصة ذلك تفوته كل عام. فأمام بيته توجد هضاب ينمو عليها أشجار الإسفندان. ولكنه جاء إلى هنا بعد سقوطه صريع المرض. بعد خروج عاملة النظافة، ثنى غو ساقيه ودلك بنعومة بطنه المنتفخة. وتبادر إلى ذهنه: ربما يكون جسم الإنسان أنشط حين يصل مرضه إلى مراحله الأخيرة. على سبيل المثال حياته الفقيرة بلغت بالتأكيد هذه المرحلة. وقعت مأساة في الليلة الماضية في هذا الجناح: أسرع مريض بحالة حرجة، إلى الشرفة، وهو يزمجر، وقفز منها. وبعد ذلك حل السكون على العنبر مثل الموت، كما لو أن كل من استلقى هناك لم يجرؤ على التفوه بصوت واحد. هل جاءت المنظفة لتطهير الغرفة باكرا جدا لأن شخصا لقي حتفه؟. واعتقد أن هذا تصرف غير مناسب. فالرجل لم يقتل نفسه لأن حالته ساءت ولم يعد يحتمل ألمه. كان يعلم أنه يتحسن بالعلاج الكيميائي. وفي اليوم التالي سيتم نقله من عنبر الحالات الخطرة. من كان يخمن أنه سيفعل فعلته؟ ولكن هذا الشاب بالفعل أحسن اختيار تصرفه المبتكر. زادت ثقة غو بوضعه بعد المكوث في المستشفى لفترة طويلة. على انفراد كان يثني على المستشفى ويقول إنه "رائع". كان مريضا معتكفا، واعتاد أن يتحرك على طول الممر الذي يربط المباني البيض بعضها ببعض. وفي الواقع يمكنه أن يمشي ببطء دون معونة، ولكن ألح الأطباء أن يستعمل الكرسي المتحرك. جلس في كرسي متحرك، ودفعه رجل ضخم برفق نحو غرفة العلاج. واعتقد غو أن الغاية من هذه الترتيبات هي منعه من الهرب. واشتبه في البداية بالأمر، ولكنه اعتاد عليه لاحقا، وتأقلم معه قليلا. وتخيل، حينما أصبح في كرسي متحرك للمرة الثانية، أنه جنرال يقوم بفحص متمهل لميدان معركة مغطى بالجثث. كان يرتاح بعينين مغلقتين، حينما سمع فجأة المنظفة تقول: "عندما قفز الرجل كان يصيح باسم السيد غو". وحينما فتح عينيه، شاهد المنظفة تستدير وتغادر الغرفة. أثارت كلماتها السيد غو لسبب ما، وبغتة أصبح سمعه حادا جدا: مجددا سمع شخصين يتكلمان من الطابق الأخير. ثم هبطا وهما يتجادلان حول شيء ما. وحينما بلغا الطابق التاسع، وتابعا إلى السابع، ثم السادس، ارتفعت أصواتهما، كما لو أنهما يتخاصمان. توقفا عند الطابق السادس، وخفضا أصواتهما، وتحول الخصام إلى نقاش، كما لو أنهما قطتان تموءان برقة. كانت غرفة غو في الطابق الخامس. وتوجب على الشخصين الهبوط مقدار طابق إضافي فقط، ليكونا أمام بابه. ولكنهما لم يفعلا. ووقفا هناك وتابعا الكلام. وأصبحت لغتهما غير مفهومة تماما. وكلما سمع أكثر اعتقد أنه كلام قطط. وصعدت كلمة "الرجلان القطة" إلى ذهنه، وتخيل أنه يوجد في هذا المستشفى العديد من "الرجال القطط". وهم يختبئون في الزوايا المظلمة، وأحيانا يظهرون لاحتواء وحدتهم، كما يفعل الاثنان الآن. دق الطرف الأيمن من بطنه عدة مرات، وسمع السوائل وهي تقرقع. أغلق عينيه وشاهد الورقة الحمراء ثانية. كان طرف الورقة أثخن، وله إيحاء لحمي عبثي.  شعر غو بشيء يرتجف في رأسه. أطلق "الرجلين القطة" صوتا مرتفعا قبل أن يصبح صوته غير مسموع. فتح الباب. ووصل الإفطار. 

لم يكن غو جائعا ولم يرغب بتناول الطعام. وشجعه لي المريض المجاور له: "كل قليلا. وإذا تكرر حادث من هذا النوع الليلة، ستحتاج كي تتغلب عليه إلى بعض الطاقة". كان لي في مراحل مرضه الأخيرة. وقد فقد شعره منذ فترة بعيدة، ولم يتبق له في هذه الحياة غير شهر أو اثنين. وبعد أن فكر بالموضوع اضطر غو لأن يأخذ عدة رشفات من الحليب، وأن يغسل فمه بعد ذلك بالماء. وبعد أن خف غثيانه استلقى ثانية.  لاحظ معنويات لي العالية وهو يأكل بيضته. هذا الشخص؟ ولكن كيف حصل؟ كان يريد أن يتكلم مع لي بخصوص "الرجلين القطة"، ولكنه كان منهكا ولا يسعه الكلام. لماذا، بالأمس، نادى المحاسب جينغ باسمه وهو يقفز؟. كان الأمر أشبه بالعبث. وفي هذه اللحظة رفع إحدى يديه دون وعي منه، ثم سمع لي يقول: "يا سيد غو، لا تستعمل يدك. اتركها تسقط على وجهك. ربما هي منومة".

صدمه ذلك وقال: "ماذا؟".

أجاب: "أنا أتكلم عن الورقة الصغيرة. انظر. آها. لقد سقطت على لحافك".

بالتأكيد هناك ورقة ذابلة على لحافه، دخلت من النافذة. عندما ثناها بلطف، تحولت إلى مسحوق. والتصق المسحوق بيده، فنفضه عنها. ونظف يديه بمنديل. كانت عيناه نصف مغمضتين، فاتكأ على الوسادة، وسمع الأطباء الاستشاريين يدخلون من باب الغرفة. وبدا لدى، خلال المقابلة مع الطبيب، سعيدا بدرجة غير عادية، وأجاب على أسئلته بصوت مرتفع. وأعلن أنه "هزم المرض". لاحظ غو من شق عينيه التقطيبة المهينة على وجه الطبيب المسؤول. وفكر غو: "لي يوشك على الموت. وربما الليلة؟". وفجأة قال لي: "آخ" ففتح غو عينيه. شاهد عدة أطباء يثبتون جو على سريره. وكان يقاوم بقوة، ولكنهم ربطوه بسريره بشريط متين. وكان ينوح كل الوقت، وبدا كأن عينيه الجاحظتين ستقفزان من محجريهما. أخرج الأطباء مناديل لمسح عرقهم وتنهدوا دلالة على نهاية الأمر. ولسبب ما، لم يقربوا غو، وذهبوا إلى سريرين في  الجهة الغربية من الغرفة.  وبعد أن وجهوا لبعض الوقت الأسئلة، غادروا العنبر. وجعل تصرفهم غير العادي دماغ غو ينقبض ويصبح فارغا على التناوب. وبعد قليل تقيأ غو الدم. فسال على وجهه ثم تدفق على الوسادة. كان الدم بلون أحمر مسود. ولم يستمر بصراعه، ولم يكن بإمكانه المزيد من الصراع. وكان قادرا على تحريك فمه وعينيه وأنفه فقط. كلا. أذنيه أيضا. ولاحظ غو أن أذنيه تتحركان، وجعله ذلك يبدو ظريفا مثل حيوان لطيف.

تبادر لذهن غو أن يقول: "لنتعامل يا لي مع الأمر ببساطة".

فقال له: "كم أنت------ أحمق".

لزم غو الصمت. انتفض جانب بطنه الأيمن ثانية، فربت عليه.  ثم انتفض أكثر. التهبت موجات من الحرارة في داخله، وشعر بالحمى . قارن شركاؤه في الجناح الغربي من الغرفة - امرأة ورجل - حجوزات المقابر. ارتجف غو حيال موقفهما المتأني والمتحمس وشعر بالبرد. ثم شعر جزئيا بالحر وجزئيا بالبرد فلمس تلك الأجزاء وقال بنعومة: "هذا لا يشبه ما كان جسدي عليه". وعزم في سره أن يتسلل بعد قليل ويبحث عن "الرجلين القطة". بالعادة لا يجرؤ على مغادرة الجناح، لأن لي، حالما يغادر، يضغط على زر التنبيه وتسرع إليه الممرضات. نهض غو خفية، وشق طريقه بمحاذاة الجدار، وغادر الغرفة. عند الباب نظر إلى الخلف، ورأى لي يحدق به. وفجأة انتبه أن هذا مضحك، وتقريبا انفجر بالضحك. في هذا التوقيت، كان الممر خاليا، فتسلل إلى السلالم وبهدوء صعد عليها. وحينما كان يصعد، قبض على بطنه المنتفخة بكلتا يديه وتصور أنه كنغر. وعندما بلغ الطابق السادس، سمع "لغة القطط". ولكن أين "الرجلان القطة"؟. لم يجد أحدا في ممر الطابق السادس باستثناء ممرضتين كانتا بجولة لتوزيع الأدوية. بعد دقيقة استراحة، تابع غو الصعود. في الطابق السادس، كان صبي يدفع عربته لتوفير الماء.  وقف عند طرف الممر وجلس على السلالم ليدخن سيجارة. تساءل غو كيف يمكنه التدخين قرب العنابر. ربت هذا الشخص على الأرض المجاورة له ودعاه إلى الجلوس، وتدخين سيجارة برفقته. فاجأه ذلك لكنه قبل سيجارته وولاعته. كانت السيجارة قوية. لم يشاهد غو هذا النوع من قبل. ولربما لفها بنفسه. ثم لاحظ أن كيس السجائر من البلاستيك. 

قال غو بإعجاب: "أنت تعرف كيف تلف سجائرك".

أجاب ببساطة: "يا صاحبي.... نحن لدينا الأدوات الصحيحة".

شكر غو العامل بعد الانتهاء من السيجارة، ونهض وهو ينوي أن يتابع الصعود على السلالم، وحينها سمع العامل المجاور له يموء. كان صوتا خشنا جدا. ولكن حينما نظر إليه، كان يبدو كأن شيئا لم يحدث. لو أنه لم يكن مصدر الصوت، فمن يكون؟ بدل غو رأيه، كان يريد أن يرى هل سيفعل هذا الشخص شيئا آخر.  انتظر بعض الوقت، ولكن العامل لم يفعل شيئا. وضع عقب سيجارته في جيبه، ونهض، وعاد إلى عربة الماء. دفع العربة باتجاه العنبر. بدون وعي وضع غو يده في جيبه، وأخرج عقب السيجارة، ونظر إليها، ولكنه لم يشاهد شيئا غير معتاد. التفت بحركة معاكسة وسحق العقب. فشاهد حشرة ذات قشرة تزحف بين خيوط التبغ. تفحم نصف جسمها الأسفل، ولكن لم يظهر أنها مزمعة على الموت. شعر غو بالغثيان وألقى العقب على الأرض، وبدون أن ينظر إلى الخلف، تسلق حتى بلغ الطابق الثامن، فوجده مزدحما وكل شيء بحالة فوضى. ربما ساءت حالة أحدهم، لأنه رأى عربة أدوات طبية تندفع نحو العنبر. استراح غو لحظة، وتابع إلى الطابق التاسع - وهو الطابق الأخير.

وحينما وصل تقريبا إلى الطابق التاسع، رفع نظره، فأصابته دهشة بالغة، وأوشك أن يقع على السلالم. فقد وقف هناك شخص بحلة سوداء ويضع قناع أوبرا مخيفا، وكأنه كان بانتظار غو.

قال بصوت مرتفع وجهوري كأنه ناقوس كنيسة: "مرحبا يا سيد غو".

جلس غو على الأرض، يتنفس بصعوبة ودون قدرة على الكلام. فجأة شعر بالتعب وأوجعته بطنه. كان يبدو أنه لا يوجد مرضى في الطابق التاسع. وكان الممر خاويا. وتساءل غو في أي غرفة يوجد "رجلا القطة". وهل هذا المقنع "رجل قطة" أيضا؟.

قال المقنع بصوت مرتفع: "كنت تلميذك. أنا جو - الذي قفز في النهر المتجمد وأنقذ شخصا. هل نسيت؟".

"أنت جو؟ اخلع قناعك لأتمكن من رؤيتك. ها أنت موجود ولم تختف".

تخلى عن قناعه، وشاهد غو وجه رجل غريب عنه وشاحب وبأواسط العمر. كيف أمكنه أن يكون جو الذي قفز في النهر المتجمد لينقذ شخصا، ثم اختفى؟ ذاك كان صبيا طيب القلب. ولكن يوجد خطأ في عيني هذا الرجل المتوسط العمر. كان يغطيهما سائل - وربما هو ماء أبيض. ولكن لا بأس: فاضت عاطفة غو لأنه قابل طالبا كان محببا لديه في الماضي.

"كنت أبحث عنك طيلة هذه السنوات، ومنذ فترة قريبة صادفت شخصا يعرف أين أنت. وقال إنك تختبئ هنا. هذا المكان معزول تماما".

قبض جو على ذراع غو وقاده إلى غرفة لتبادل الكلام. ذهبا إلى عنبر وجلسا على سريرين. كان معتما وأغطية النوافذ مغلقة. سعل غو بسبب الغبار الذي ثار من السرير. وتساءل متعجبا كم مضى على هذه الغرفة دون أن يأوي إليها أحد. جلس جو على السرير المقابل. حينما نظر غو إليه ليأخذ فكرة عنه، بدا هذا الرجل المتوسط بالعمر وكأنه تحول إلى ظل كاذب. وراقبه جو يكابد وهو يستلقي، ويرفع اللحاف المغبر، ويغطي به نفسه. سعل غو مجددا.

قال: "أنا محظوظ جدا لأنني في نفس الغرفة مع معلم أحببته واحترمته. من فضلك اجلس على السرير وضع يدك على جبيني، حسنا؟. كنت أحلم بهذا منذ فترة طويلة".

وحينما وضع غو يمينه على جبين جو، ارتجف جسمه كأن تيارا كهربائيا مر فيه. كان من الواضح أن هذا الشخص هو جو حقا!. في ذلك اليوم طارد هو وجو ورقة حمراء حتى بلغا ذروة السفح، وكانا يتكلمان طيلة الطريق. وظهرت مدرستهما من أعلى السفح على شكل ندوب مسودة على الأشجار. وفي ذلك اليوم كشف غو لجو عن مرضه الخطير والذي لا يحب ذكر اسمه. 

حينما طرق أحدهم عدة مرات على الباب أراد غو أن ينهض ويفتح، ولكن منعه جو.

قال غو: "من عساه يكون؟".

"تجاهله. إنهم أولئك الأطباء. هم يدقون عدة مرات ليتأكدوا أن المكان هنا فارغ ثم ينصرفون".

وتأكد غو أنه سمع صوت خطوات عدة أشخاص تهبط على الدرج. لذلك وجه سؤاله إلى جو: "ألا يصعب عليك الاستلقاء هنا وسط كل هذا الغبار؟".

"المكان رائع هنا يا سيد غو. هل تتكرم وتضع يدك على جبيني ثانية؟ آه، شكرا جزيلا. المكان هنا هادئ تماما وثلاثة ديكة تعدو فوقنا".

شحذ غو ذهنه ليسترجع ماذا كانا يتكلمان حينها وتذكر ذلك في النهاية. وأفصح جو أيضا عن مرضه المسكوت عنه. وأخبره عن وجود ثقب في صدره منذ ولادته، وعن قلبه البارز من خلال ذلك الثقب. كان بإمكانه رؤية قلبه وهو يخفق. من الطبيعي أنه غطى الثقب بالشاش ثم ثبته بمكانه. وأفضى لغو أنه لا يشعر بأن هذا العيب الخلقي عجز معوق، وأضاف ببراءة "انظر، ألا أتصرف على خير ما يرام؟". ولاحقا قفز في النهر المتجمد ولم يظهر. فهل جاء إلى المستشفى وهو عازم على ذلك؟ وهل السبب الحقيقي أن حياته تقترب من نهايتها؟.

"حينما كنت أعيش بجوار غابة الإسفندان أين كنت أنت؟".

"أنا؟ أنا كنت في الغابة".

اقترح جو على غو أن يستلقي، أيضا، وفعل غو ذلك. وعندما غطى نفسه باللحاف المغبر، نبت في قلبه خيط من البهجة. وسمع صوتا يأتي من غرفته في الطابق الخامس: كانت زمرة أطباء وممرضات يبحثون عن شيء ما هناك. آه، هل يبحثون عن لي؟. قالوا إن لي، الذي كان مربوطا على سريره، اختفى. وليس هذا فقط، ولكنه قام بخدعة. فقد قيد خنزيرا على السرير. يا له من شيطان حقيقي. ولم يسمع لي حوار الأطباء فحسب، ولكن أيضا مواءهم المألوف وهو يأتي من ممر الطابق الخامس. واعتقد غو أن المواء يصدر عن "الرجال القطط". وأن "الرجال القطط" معه ليلا ونهارا. هل يمكن أن لي "رجل قطة؟ أم أن أولئك "الرجال القطة" أطلقوا سراح لي؟. نظر غو حوله في العنبر الواسع وأدهشه الفراغ والخواء. حينما كان في الأسفل اعتقد أن الطابق الأخير مشغول جدا، وحتى من الممكن أن "رجال القطة" أولئك يختبئون هنا. في ذلك اليوم، جلس في الكرسي المتحرك، ودفعه مسعف نحو السطح في الطابق التاسع. في ذلك الوقت اعتقد أنه يحتضر. دفع الرجل الضخم الكرسي المتحرك حول محيط السطح، وطلب منه أن ينظر إلى الأسفل. نظر عدة مرات: شاهد حوله موجات موحلة. ثم سمع كل أنواع الصراخ يأتي من كل مكان في البناء، كما لو أن نهاية العالم حانت. وفيما بعد وهو يزمجر ويشتم هبط به الرجل الضخم إلى الأسفل ودفعه نحو عنبره. وحينها بقي في تلك الغرفة خمسة آخرون من المرضى. وحالما دخل، وقف الجميع باحترام ونظروا إليه بعيون ملؤها الحسد. وقال أحدهم - شاب يدعى بي مينغ - "هذا يشبه ربح ورقة اليانصيب". وكان يسبح كل يومه وسط شكايات الآخرين.

قال جو: "هل رأيت قناعي يا سيد غو؟. لا بد أنني تركته على الدرج. بدونه لا يمكنني مقابلة أحد ما عداك".

غرق غو بالتفكير الطويل، ولم يفهم لماذا يتوجب على جو أن يلبس قناعا يقابل به الناس. وكان يتوق ليسأله ماذا وجد  في فترة اختفائه، ولكنه لم يتمكن من فتح الموضوع. واعتقد أنه لا يصح توجيه السؤال لطالبه قائلا: "بعد موتك، أين ذهبت؟ وما هي الأمور غير العادية التي مررت بها؟". لم يتمكن من أن يفعل ذلك. ودلك بنعومة بطنه المليئة بالسوائل، واتجهت أفكاره إلى بدايات مرضه. وشعر كأن حملا ثقيلا انزاح عن ذهنه. وبروح عالية انتقل إلى سفوح غابة الإسفندان التي أنفق فيها أياما رائعة. في الخريف، ثمل بالأوراق الحمر واستغرق بها. ولم يسبق له أن شعر بذلك الإحساس الغامر كما حصل. في فترات روحه العالية كان يشاهد النسور. الخريف فصل طويل. قال لنفسه: "الخريف طويل جدا - مثل الحياة الأبدية". أحيانا يأتي الأصدقاء القدامى لرؤيته، ولكنهم ليسوا من يريد رؤيتهم. وحينها لم يتمكن من معرفة من كان يريد أن يرى. والآن فقط، وهو يستلقي هنا، أدرك ذلك.  طيلة الوقت أراد أن يرى هذا الطالب الذي اختفى. وهو يفكر بالأمر، صدر عن سوائل بطنه صوت مريح، وانتشر في جسمه إحساس بالامتنان. سمعهم غو وهم يطلقون سراح الخنزير الألماني الذي قيده لي بالسرير. وحالما تحرر الخنزير، هرب من العنبر. تبادل النظر الأشخاص المتشحون بأثواب بيض فضفاضة بامتعاض. وقال أحدهم برقة: "لن يتبادر هذا لذهني أبدا". فكر غو: ربما تبادر هذا إلى ذهنهم قبل زمن مضى. لا شيء يمكنه أن يهزم شخصا مثل لي بسهولة. وحتى الذي قفز من النافذة في الليلة السابقة انتهى بطريقة طبيعية كما قال لي. كان جو يشخر بارتياح في السرير المجاور. وفكر غو: كيف يصالح نفسه ولا تقلقه الضجة في المبنى. وأراد غو أن يعرف إلى أي مدى بلغ تطور مرض جو. وعزم أن يسأله حين يستيقظ. لكن غو شاهد جو يقفز في النهر المتجمد، ولم يتمكن من سؤاله كيف عاد بعد غمر قلبه العاري في الماء الجليدي. وأراد فقط أن يسأله عن وضعه الراهن. كان وجهه دائما أبيض كالجير، ولا يزال. من مظهره لا يستحيل أن تخمن سوء أوضاعه. وشعر أن شكله تبدل، غير أنه لا يزال لطيفا كالسابق. ربما لأنه يرى قلبه يعرف بالتأكيد ماذا يفعل - على  سبيل المثال، القفز في الماء المتجمد.

قال غو للهواء: "لنذهب يا جو ولنشاهد الأوراق الحمر في العام المقبل. اتفقنا؟".

جاء مواء من الغرفة: كان لي يتكلم مع أحدهم. طبعا كان لي "رجلا قطة". وعلى ما يبدو وقف في الخارج ثلاثة أشخاص. لماذا لم يدخلوا؟. اتجهت المعاطف البيض الفضفاضة من الطابق الخامس إلى الأعلى، ولكن لم يهتم لا لي ولا الأخرون بالأطباء. وسمعهم غو يقولون إن الأطباء "زبالة".

وبعد أن صعد الأطباء، لم يتقابلوا مع لي والآخرين. وسمعهم غو يخططون لشيء ما - شيء يألفه غو جيدا، شيء شارك به ولكن نسيه تماما. ماذا كان؟. شعر غو أنه غير قادر على التعبير عنه باللغة. وحينما دخلت هذه المجموعة من الأشخاص إلى العنبر المقابل، أغلقوا الباب، وخلال ذلك، علقت ساق الخنزير الألماني. صاح الخنزير. فالتفت أحدهم، وأطلق سراح الخنزير الصغير المتطفل، وسمحوا له بالدخول.

بحث غو تحت وسادته عن مصباح يدوي، ربما تركه هناك مريض سابق. وتحت تأثير فورة من الحماس انتقل فورا إلى سرير جو وبيده المصباح. ولكن شاهده يغط بنوم عميق، فرفع اللحاف وأضاء صدره بالمصباح. كان جذع جو عاريا، فرأى غو على الفور قلبه ينبض. ولسبب ما كان قلبه أبيض بلون الحليب، وينبض ببطء مقارنة ببقية البشر. نظر عبر الثقب، ولاحظ أن قلبه النابض يبدل مكانه. واحتار من ذلك.  فتح جو عينيه وقال معتذرا: "هكذا بالضبط هو حال قلبي".

"هل سمعت يا جو بالاجتماع السري في العنبر المقابل؟ هل تعلم ماذا يناقشون؟".

قبض جو على المصباح وأنار به الباب. التفت غو أيضا بنظرته نحو ذلك الاتجاه. طبيب وقف هناك. ولكنه ليس من أطباء الجولة التفقدية. فغو لم يشاهده أبدا. سد الطبيب طريق أشعة المصباح بيساره وقال: "جيد أنك هناك. نحن نحضر لحالة طوارئ في أي دقيقة". ثم انصرف، وأغلق الباب وراءه. ضحك جو برقة وعلق بقولهإن هذا المستشفى "مثير للانتباه تماما". ارتدى سترته وقناع الأوبرا. سأله غو أين عثر على هذا القناع، وقال إنه فعليا لم يفقده: ولكن نسي أنه كان معلقا بخصره طيلة الوقت.  بعد أن ارتدى ثيابه، أخبر جو أنه يريد أن يذهب من الصالة "ليشارك في الاجتماع". رافقه غو وقلبه يدق. كان يشعر أن الحقيقة ستنجلي. وبدأت يداه بالارتعاش. وحينما ظهر جو في الغرفة مرتديا قناع الأوبرا، مالت رؤوس الجميع باتجاهه. فتحت أغطية النوافذ، وعمت الإضاءة، ولاحظ غو غياب غو والأطباء. كانوا جميعا أقرب أصدقائه وأقاربه، ولكن لم يتمكن من مناداة أحد باسمه. سحب أحدهم كرسيا بعجلات إلى الخارج، واعتقد غو أنه من أجله. ولكن لم يتوقع أن جو سيسبقه إليه. جلس جو في الكرسي المتحرك وظهر مخمورا وسعيدا.  حسده غو بسبب الكرسي، لأنه معتاد عليه. دفع رجلان كبيران جو، وتوقع غو أنهما عازمان على مبارحة الغرفة، ولذلك أسرع  نحوهم. لكنهم لم يغادروا. واكتفوا بدفع الكرسي في أرجاء العنبر الفارغ. قبض جو على شيء معلق في الهواء. وبدا أنه مستغرق، والناس من حوله يحيونه ويشجعونه. ثم نظر غو من النافذة. رأى المشهد الرائع للأوراق الحمر المتأرجحة في الريح. جلس بدهشة على الأرض. كيف يمكن للأوراق أن تكون محمرة في الشتاء؟ في ضوء الشمس كانت الأوراق كألسنة اللهب.

والآن - كان غو في نهاية الطابور - والجميع يتبع الكرسي الذي يدور في الغرفة. كانت أصوات الخطوات مثل زحف في استعراض علني. أصغى غو بانتباه ولكن ضاعت خطوات الجميع في موجات التفكير. تابع غو المشي دون أن ينظر من النافذة مجددا، لأن ظلا احتل هذه الدائرة. وغاص الجميع في هذا الظل الكثيف والداكن. وأخيرا قطف جو شيئا من الهواء. وأزال قناعه وشم الشيء.

بدا أنه يبكي ويقول: "يا سيد غو. يا سيد غو. وجدته".

سأله غو: "ولكن ما هو يا بني؟".

"هو الشيء الذي قفزت في النهر المتجمد من أجله".

وفجأة أصبحت خطوات الجميع غير منضبطة  في الظل القاتم الأسود. ولم يتمكن غو من أخذ نظرة جيدة من هذه الوجوه، ولا أمكنه رؤية المشهد خارج النافذة. ولكن كان بمقدوره أن يسمع جو يناديه وأن يسمع دوران الكرسي المتحرك وهي تتخطاه. اختفى الرجلان الضخمان، وبدأت الكرسي تتحرك أوتوماتيكيا. استولت عليه هبة ريح داكنة في الغرفة، وفصلته عن الدائرة. لا زال غو وهو في الممر يسمع جو يصيح: "يا سيد غو. وجدته".

عندما هبط جو السلالم، رن كل المبنى بجميع أشكال المواء. كان المواء متوحشا في كل مكان - في العنابر، المكاتب، وفي الحمامات. كان غو يعلم أنها ليست القطط ولكن "الرجال القطط" المختبئين في هذا المبنى. وربما استفزهم وصول جو. فقد مكث هنا لفترة طويلة، ولكنهم لم يتوحشوا بهذا الشكل من قبل. لا بد أن جو هو الشخصية الفارقة. ولو لم يأت ربما قلق "الرجال القطط" قليلا وحسب، ولما ظهرت الأوراق الحمر خارج النافذة في الشتاء. أسرع نحو الأسفل إلى الطابق الخامس، حيث أصابته رائحة اللايسول بالنعاس. وفكر بالرجل الذي طار إلى الأسفل من نافذة العنبر بالأمس، ربما كانت الكلمات التي صاح بها متماثلة مع الكلمات التي صاح بها جو - "سيد غو. سيد غو. لقد وجدته....".

 ***

...........................

* ترجمها عن الصينية كارين غيرنات وجين زيبينغ

كان شيوا Can Xua: كاتبة صينية طليعية تعيش في بكين. اسمها الحقيقي دينغ شيهوا. من أهم أعمالها النهر الأم، الجبهة، الحركة العمودية، وغيرها...

 

في نصوص اليوم