أقلام ثقافية
عبد السلام فاروق: محمود القاضي.. شاعر يتدفق كالماء

هذا شاعر من نوع خاص، لا يبحث عن الأضواء، بل تبحث الأضواء عنه. إنه الشاعر المصري الشاب محمود نبيل القاضي، ابن قنا، تلك المدينة التي أنجبت عمالقة الشعر مثل: أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي وعبد الرحيم منصور، يأتي إلينا بشعره كالماء العذب، ينساب في وجدان القارئ دون ضجيج، ويترك أثره العميق دون ادعاء. إنه شاعر الحب والوطن، شاعر البساطة والعمق، شاعر القصيدة التي تتسلل إلى القلب كما يتسلل الفجر إلى الليل.
البنية الشعرية: بين البساطة والعمق
ما يميز شعر محمود القاضي هو تلك المفارقة الجميلة بين بساطة اللغة وعمق الدلالة. في ديوانه "السر...الأخير"، نجد قصائد مثل "أسماؤك العشر" التي تبدأ ببساطة ظاهرية:
"أُعطيكِ عشرَ أسماءٍ أنا ..
هذا اسمُكِ الأولُ: "السوسَنة"
لكن هذه البساطة تخفي وراءها عالماً من الدلالات والرموز. الشاعر هنا لا يقدم مجرد أسماء، بل يقدم رؤية كاملة للحبيبة، من خلال رموز طبيعية (السوسنة، الفراشة، الغصن) وفنية (القيثارة) وإنسانية (المستقر، المنتها). إنها لعبة شعرية ذكية، تذكرنا بأسلوب محمود درويش في تحويل العادي إلى استثنائي.
في قصيدة "الحب بالحواس الخمس"، يقدم القاضي رؤية شاملة للحب، من خلال الحواس الخمس، لكنه يفعل ذلك بطريقة غير تقليدية. فهو لا يكتفي بوصف الإحساس، بل يحوله إلى تجربة وجودية:
"ما أشهَى مائدةَ الوَجْدِ السابِحِ فى تيَار الدَم
ما أرْوَعَ أن يُرْوَى ظَـمَأُ القلبِ بقُبلَةِ فَمْ"
هنا يتحول الحب من مجرد عاطفة إلى طقس وجودي، يشبه ما نجده في شعر أمل دنقل الذي كان يحول القضايا الشخصية إلى قضايا وجودية .
اللغة الشعرية: نسيج من الصور والموسيقى
لغة محمود القاضي لغة خاصة، تجمع بين دقة التصوير وعذوبة الإيقاع. في قصيدة "أسماؤك العشر"، نلاحظ كيف ينسج الشاعر علاقة عضوية بين الصورة والموسيقى:
"واسمُكِ الثالثُ: "قيثارَتى"
عَشِقْتُكِ كالــدَنِّ والدَندنة"
هنا تتآلف الصورة (القيثارة) مع الموسيقى (الدندنة) في نسيج واحد، مما يخلق تجربة جمالية متكاملة. هذا الأسلوب يذكرنا بتقنيات عبد الرحمن الأبنودي في دمج العامية بالفصحى بطريقة شعرية رفيعة .
في قصيدة "الحب بالحواس الخمس"، يبرع الشاعر في تحويل الحواس إلى لغة شعرية:
"لَــمْسٌ ..
إذْ يَتَخافَتُ خَدٌّ لِشفاءِ أنامِلَ مَلَكيَّة
ويُلامِسُ كَفِّى كَفَّيْها ..
نَتنَاجَى لًغَةً دوليّة"
هنا يتحول اللمس إلى لغة، واللغة إلى إحساس، في دائرة جمالية لا تنتهي. هذه التقنية تذكرنا بأسلوب محمود درويش في قصيدة "لماذا تركت الحصان وحيداً"، حيث يتحول الجسد إلى لغة واللغة إلى جسد .
الرؤية الشعرية: بين الذاتي والجماعي
ما يميز شعر محمود القاضي هو قدرته على الجمع بين الذاتي والجماعي، بين الحب كتجربة شخصية والحب كقضية إنسانية. في ديوانه "السر...الأخير"، نجد أن الحب ليس مجرد علاقة بين شخصين، بل هو رؤية للعالم:
"وآخرُ أسمائكِ " الـمُـنتَهَى"
كَــعِشْقٍ سَرْمَدِىٍّ بيننا"
هذه الرؤية تتجاوز العلاقة الشخصية إلى علاقة الإنسان بالوجود، وهي سمة نجدها في شعراء كبار مثل أمل دنقل الذي كان يحول القضايا السياسية إلى قضايا وجودية .
في قصيدة "الحب بالحواس الخمس"، يقدم الشاعر رؤية شاملة للحب:
"لا يوجَدُ فى تلك الدنيا ..
مَن قاومَ سِحرَ الخَفَقان"
هنا يتحول الحب من تجربة شخصية إلى قانون كوني، لا يقاوم كما لا تقاوم قوانين الطبيعة. هذه الرؤية الفلسفية تذكرنا بشعراء مثل أدونيس في تحويل الشعر إلى رؤية فلسفية للعالم.
في ضرورة الشعر
في زمن يحاولون فيه قتل الشعر، يأتي محمود القاضي ليذكرنا بأن الشعر ليس ترفاً بل ضرورة وجودية. شعره ليس مجرد كلمات جميلة، بل هو مقاومة للزيف والسطوح. إنه يقدم لنا نموذجاً للشاعر المثقف الذي لا ينفصل عن عصره، ولكنه لا يستسلم لضغوطه أيضاً.
كما قال العقاد: "الشعر الحق هو الذي يقول ما لا يستطيع السياسي قوله". وهذا بالضبط ما يفعله القاضي، فهو يكتب بشعرية عالية دون أن يفقد صلته بالواقع، يغوص في الذات دون أن يغيب عن الجماعة.
إن قراءة شعر محمود القاضي ليست متعة جمالية فحسب، بل هي إعادة اكتشاف لإمكانات اللغة العربية في التعبير عن تعقيدات الوجود المعاصر. إنه شاعر يستحق أن يقرأه كل من لا يزال يؤمن بأن الشعر يمكن أن يغير العالم، ولو ببطء أنسياب الماء الذي ينحت الصخر.
شاعر يستحق الاكتشاف
محمود نبيل القاضي ليس مجرد شاعر، بل هو ظاهرة شعرية تستحق الدراسة والتأمل. إنه شاعر يجمع بين تقاليد الشعر العربي الأصيل وروح الحداثة، بين البساطة والعمق، بين الذاتي والجماعي. في زمن صارت فيه الأضواء تُباع وتُشترى، يأتي محمود القاضي ليذكرنا بأن الشعر الحقيقي لا يحتاج إلى ضجيج، بل يحتاج إلى عمق ورؤية.
كما قال علي بن أبي طالب: "لا تطلب سرعة العمل وأطلب تجويده"، هكذا هو محمود القاضي، لا يسرع نحو الشهرة، بل يأخذ وقته في صقل قصيدته، حتى تخرج لنا كالماء العذب، يتسلل إلى الوجدان دون ضجيج، ويترك أثره دون ادعاء.
في النهاية، يمكننا القول إن محمود القاضي يمثل مدرسة شعرية جديدة، تجمع بين أفضل ما في التراث العربي وأفضل ما في الحداثة الشعرية. إنه شاعر يستحق أن يُقرأ، ويُدرس، ويُحتفى به، ليس لأنه يطلب ذلك، بل لأن شعره يستحق ذلك.
***
د. عبد السلام فاروق