أقلام ثقافية
علي الطائي: أنيقُ الحروف

لم يكن «كاظمُ الجادرِ» أستاذًا في اللغةِ فحسب، بل كان تجسيدًا لهيبةِ البيانِ حينَ يَجري على قدمَينِ. في عامِ 1981، حينَ كانت أيّامُ المتوسطةِ تسيرُ ببطءِ الأيامِ التي لم تَكتشفْ بعدُ طعمَ الحياةِ ولا مراراتَها، دخلَ علينا ذلكَ الرجلُ بوجهٍ كأنَّه استيقظَ للتوِّ من دواوينِ العصرِ العبّاسيِّ، يمشي بخُطى موزونةٍ كأنَّ تحتَ قدمَيهِ بيتًا من بحرِ الطويلِ، ويكسو قامتَهُ قميصٌ ناصعٌ لا تعرفُ التجاعيدُ إليهِ سبيلًا.
في تلكَ السنواتِ، كنتُ صبيًّا يلمّ شتاتَ الحروفِ من أطرافِ دفاترَ مهترئةٍ، وأعجزُ عن التفريقِ بينَ "لن" و"لا"، وبينَ الجارِّ والمجرورِ، ولا أفرّقُ بينَ التعجّبِ والسؤالِ، لكنِّي كنتُ أملكُ شيئًا خفيًّا لم أكنْ أعرفُ اسمَهُ حينَها: التوقَ إلى اللغةِ، التوقَ الذي لم يُوقَظْ إلا حينَ نطقَ كاظمُ الجادرُ أولَ كلمةٍ في الصفِّ.
لم يكن يُعلِّمُ، بل يُجري اللغةَ في عروقِنا كما يُجري الرُّقاةُ الماءَ على الجرحِ. كان صوتُهُ إذا قالَ: "إعرِبْ يا ولدي"، يُحوِّلُ الدرسَ من خشبِ الطباشيرِ إلى رخامِ الفصاحةِ. ذاتَ مرّةٍ، استدارَ ليشرحَ بيتًا من المعلّقاتِ، وما زلتُ أذكرُ كيفَ التفتَ إليَّ وقالَ: "إنهم كانوا إذا قالوا بيتًا أحيا ميتًا، وأنتَ؟ ما زلتَ تنظرُ إلى اللغةِ كأنَّها صخرةٌ، بينما هي حديقةٌ سريةٌ."
منذُ تلكَ اللحظةِ، بدأتُ أقرأُ، لا لأفهمَ الكتبَ، بل لأصلَ إليهِ. صرتُ أترصّدُ خطواتِه، أنتبهُ إلى طريقةِ نطقِه، إلى مشيتِه، إلى لمعانِ حذائِه الذي دفعني مرّةً لأن أقولَ لصديقي ونحنُ نضحكُ ببراءةٍ: "هل يُعقَلُ أنّه يَصْبغُ حذاءَهُ بالنيڤيا؟!" كنايةً عن تلكَ اللمعةِ التي لا تبهتُ، وكأنّ حذاءَهُ يلمعُ كما تلمعُ حروفُه.
سنواتٌ مرّتْ، وأخذني الزمنُ في دواليبِه. تخرّجتُ، وعملتُ، وتزوّجتُ، ومضيتُ في الحياةِ كما يمضي سهمٌ في عتمةٍ. لكنّ شيئًا ما في داخلي ظلّ معقودًا في حنجرةِ ذلكَ الأستاذِ. وكلّما قرأتُ بيتًا من الشعرِ، أو كتبتُ مقالةً تزيّنتْ بلغةٍ عتيقةٍ، تذكّرتُهُ، وتذكّرتُ ذلكَ الصفَّ الصغيرَ، وتلكَ اليدَ التي رفعتني من جهلِ اللغةِ إلى محرابِها.
بحثتُ عنهُ طويلًا. سألتُ في المدارسِ، ونقّبتُ في المجلاتِ القديمةِ، وقلّبتُ أرشيفَ نقابةِ المعلّمينَ، دونَ جدوى. كأنّه تلاشى كما تتلاشى الكلمةُ من طرفِ اللسانِ حينَ تودُّ أن تتذكّرَها، فلا تأتي.
وفي عصرِ أحدِ الأيامِ، كان مجلسي الثقافيُّ يعجُّ بالشعراءِ والقرّاءِ وأربابِ الكلمةِ. تحدّثَ أحدُهم عن رجلٍ يدرّسُ العربيةَ في أطرافِ المدينةِ، لا يزالُ يُصرُّ على تدريسِ النحوِ كأنّه يؤدّي صلاةً، ويقولُ عن اللغةِ: "إنّها الحبلُ الوحيدُ الذي لم ينقطعْ بينَنا وبينَ السماءِ."
استوقفتُهُ، وسألتُهُ: ما اسمُهُ؟ فقالَ: "كاظمُ الجادرُ".
... كدتُ أبكي.
لم أُصدّقْ. كأنّ أحدَهم أعادَ لي قطعةً من طفولتِي كنتُ أَحسبُها ضاعتْ. رتّبتُ اللقاءَ في مجلسي، وجهّزتُ المكانَ لا كما يُجهَّزُ لضيفٍ، بل كما تُهيَّأُ المسارحُ للأنبياءِ.
دخلَ كما عهدتُهُ، بذاتِ الأناقةِ، بذاتِ الحذاءِ الذي لا يزالُ يلمعُ، وكأنّ أربعينَ عامًا لم تمرَّ عليهِ. وقفنا جميعًا، لا احترامًا لشيخوختِه، بل تقديسًا لهيبةٍ كانت يومًا ما سببًا في نهضتِنا.
حينَ جلستُ إلى جوارِه، لم أعرفْ من أينَ أبدأْ. لكنّي بدأتُ من قلبي. قلتُ لهُ: "كلُّ ما أنا عليهِ الآنَ، هو ظلُّكَ يا أستاذي. وكلُّ حروفي ليستْ إلا محاولةً لأن أكتبَكَ، لا أن أكتبَ عنكَ."
ثمَّ أنشدتُهُ قصيدةً كنتُ قد نظمتُها على مدى أشهر، قصيدةً في مدحِه لا تكفيها دواوينُ، حملتْ عنوانَ: "أنيقُ الكلامِ"، عددُ أبياتِها اثنانِ وأربعونَ، بعددِ السنينَ التي مرّتْ منذُ وقفتُ أمامَهُ تلميذًا ضائعًا لا يعرفُ أنَّ الحرفَ حياةٌ.
أنشدتُها بيتًا بيتًا،
تَأَنَّقْ فِي حَيَاتِكَ مَا تَشَاءُ
لِيُغْضـي مِنْ أَنَاقَتِكَ الفَضَاءُ
*
تَأَنَّقْ فِي كَلَامِكَ ذَاكَ فَخرٌ
لِأَنَّ الْقَوْلَ يَمْحَقُهُ الخَفاءُ
*
وَمَا هَذَا المَديحُ فُضُولَ قَوْلٍ
وَلَيْسَ بِمِدحَتي شَكٌّ، مِرَاءُ
*
يدورُ العُمرُ دورَتَهُ فَيَمضـي
بَصِيصُ الفَجرِ يَتبَعُهُ الَمسَاءُ
*
ذَكَرْتُكَ بَعْدَ أربَعَةٍ عُقُودٍ
وَهَذَا الذِّكرُ جمَّلَهُ اللِّقَاءُ
*
كَأَنِّي عَادَ بِي طَيْفٌ وَحُلْمٌ
فَعَادَ بِخَاطِرِي ذَاكَ الصَّفاءُ
وحينَ بلغتُ نهايتَها، دمعتْ عيناهُ، وقالَ: "لم أكنْ أعلمُ أنّ الكلمةَ حينَ تُزرَعُ في قلبِ صبيٍّ، قد تُزهِرُ بعدَ أربعينَ عامًا بهذا الشكلِ..."
قلتُ: "وأنا لم أكنْ أعلمُ أنَّ الحذاءَ الذي يلمعُ في عيونِ الصغارِ، قد يُصبغُ بمجدٍ أبديٍّ من نيفيا المعنى."
وضحكَ. ثمَّ سادَ الصمتُ.
صمتٌ يشبهُ خشوعَ الحرفِ حينَ يخافُ أن يُنطَقَ.
ذلكَ هو كاظمُ الجادرُ.
ذلكَ هو أستاذي الذي كتبني قبلَ أن أكتبَ شيئًا.
***
د. علي الطائي