أقلام ثقافية

عبد الهادي عبد المطلب: اعتذارٌ لحنظلة

لو التفت إلينا حنظلة لرمانا بالنّار والحجارة..

إلى حنظلة..

حنظلة، أيّها الصّادُّ الغاضبُ عنّا..

أيّها الصّامتُ السّاخطُ الحامل أوْجاع العُرْب الدّامية..

أيها الواقف العاقد يديه حلف ظهره منذ نصف قرن ويزيد..

لعلّ رأسك تعُجُّ بالصُّور، التي تحمل مآسينا والخنوع، كما أبدعتها بغضبٍ وقهرٍ أنامل المقتول غدراً «ناجي»..

أيّها الشّاهد الذي يُذكّرنا عجْزنا وتقاعسنا وتخاذلنا، ورُبّما سيشهدُ اندثارنا.

لا تخطئُه العين، طفلٌ في العاشرة من عمره، حافي القدمين، مرقّع الثّياب، عاقدٌ يديه خلف ظهره، لا أحد يعرف تفاصيل وجهه الطفولي، يحمل كلّ الجنسيات كما يُقدّمه مبدعه ناجي العلي، «أنا مش فلسطيني، مش كويتي، مش لبناني، مش مصري.. محسوبك إنسان عربي وبس» . واقفٌ موَلّي وجهه شطر الأفق العربي الغامض الملوّن بالسّواد، احتجاجا على خنوع العربي ورُخص كرامته.

حنظلة، يحمل مُرَّ الحنظل في حلقه، والألم الدّامي في قلبه، وحده في وقفته، غير منعزل، صامد في رفضه. حين سُئل ناجي متى نرى وجه حنظلة؟ قال: «عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يستردّ الانسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته»، فهل سنرى وجهه وقد استشهد مبدعه؟ ليظل السؤال معلّقا إلى الأبد.

لماذا أخفى حنظلة عنّا وجهه؟ لعله أربأ بنفسه إن التفتَ إلينا أن يرمينا بالنّار والحجارة، أو يسب الزّمن الذي وضعه بيننا، بين أناس لا يسعون إلى الكرامة والحرية الإنسانية، ولا يدركون أو تغافلوا عن مصير يدفعهم إلى الحضيض والاندثار رغم ما يملكون من قوة مالٍ ما لا تحصيه الأرقام والحسابات والسّجلّات.

حنظلة، رغم أنه يدير لنا ظهره، إلاّ أنه يعرف ما نحن فيه من خيبات وانتكاسات وإقصاء وخنوع وصمت، ليته تكلّم أو التفت، ليته رمانا بالحَجَر لنستفيق وننتبه. في وضعه ذاك يؤلمنا، صمته القاتل، يحرجنا ويُعرّينا ويفضحنا، لو استدار نحونا وأرانا وجهه، وقال ما يؤلمه فينا، ونحن أعلم به، لكنّنا نسكت عنه ونتغافل، وننتظر من يبادر، فلعلّه يبادر، لعلّه الشرارة حين يلتفت، لعلّه، وهو الطفل ذو العشر سنوات، يعطينا المثل فنقوم من سباتٍ طال أمده.

كأني به، لو التفت إليها لقرأنا في وجهه الغامض أسئلة تكوي الجباه والقلوب، هل يفهم العربي معنى الكرامة؟ وهل يدرك معنى الغضب؟ وهل يعي ما الحرية؟ وهل نسي العربي أن يبحث عن معنى الكرامة، أم انطمس منّا العقل وعميت علينا القواميس والمعاجم؟ لو التفت إلينا الطفل الغاضب لسأل سؤالا بألف سؤال، ما حالُ غزّة الجريحة؟ ما حال الحال والمآل؟ من منّا سيتكلّف بالجواب؟

عذراً حنظلة، لم نجد من ينبري لك بالجواب، ولا كيف سيكون الجواب، وحال العُرب يُغنيك عن السؤال وعن الجواب.

أنت في ركنك مكشوفٌ، ونحن هنا، بكل العُري العربي المفضوح، نمضغ سؤال المسرحي الفرنسي، جان جونيه حين زار مخيميْ صبرا وشاتيلا، «لماذا العرب عراة إلى هذا الحد؟» أيُّ حدّ هذا الذي يقصد هذا المسرحي الفرنسي؟ هل بعد هذا الحدّ الذي وصلناه حدّ؟

اُنظر إلينا أيها الطفل الضّاجّ بالألم والغضب، كيف وقد وعيْت ما نحن فيه، قل شيئاً، صمتك هذا عذاب، أيها الطفل المترع بالمآسي والخيبات، هل سنظلّ نبحث عنك رغم قُرْبك منّا؟ وهل قدرُنا الانتظار، انتظار من يبادر، من يسأل، هل سننتظرك يا حنظلة لتبادر؟

عذراً حنظلة، عذراً لغزّة أيها الشاهد بعيون بريئة على الخراب واليأس والضياع الذي ضرب ويضرب غزّة، هل سيبقى وجهك مُختفيا ما بقي هذا الواقع المؤلم؟ إلى متى ستبقى مُشيحا بوجهك عنّا؟ اصرخ فينا عسى أن تمتدّ منك إلينا قناطر العبور إلى الحلم العربي، إلى الأرض التي باركها الله والأنبياء، إلى الإنسان العامر والدّافق بالحب والخير.

حنظلة، يُخزّن في ذاكرته الشّتات وهول الفواجع، وتزايد النكبات والتراجعات والانكسارات، كما يُخزّن من الحُزن ما يهدُّ الجبال، شاهدٌ، وهو في كامل وعيه، على المسوخ التي ينظر إليها، يراقبنا عن بعد، يسمع همس من يسيرون فوق أرض غزّة يُرتّقون ما انقطع منها بخيوط من دمهم الزّكي، لا تنازل، لا مساومة، حنظلة يواصل حلمه، يجمع الشتات الفلسطيني، يصله بالعزيمة والاصرار والصبر وكثير من العناد، لأنّه الحد الفاصل بين العتمة والنّور، بين الغضب والثورة، بين الخوف والإيمان والحياة والموت.

لو التفتَ إلينا حنظلة لقال كلام موجعا، هو الآن يدير لنا ظهره، وقد آلمنا ذلك، فكيف إن بادر والتفت، ونظر إلينا، نحن المتسولون سلام الضُّعفاء، نحن الّذين تشاركنا اقتسام «كعكة فلسطين»، نحن الذين وقفنا نتفرّج بغباء على الأحذية الهمجية تجوب أرض الأنبياء، فأنت أكثر منّا ذكاء وجرأة، واجهتَ أكثر من هزّة، تتمنّى الأمهات الأحرار أن يلدن مثلك يحملون همّ العُرب، ثقلا تنوء به الجبال، ويعيا بحمله «سيزيف» الأسطورة. أنت في هدوءك الغاضب، ووقفتك الثّابتة، في هيئتك وأنت تعقد يديك خلف ظهرك كهرم يحمل هموم الزّمان القديم، غير آبهٍ بالزّمن وتحولاته، همّك أن ترى فلسطين حرة، وغزّة توزّع على العاشقين والمؤمنين العزّة.

رجوته أن يلتفت إلينا، لكنّه ولعلّه بنظراته الشّزر يقول «أعرف كثيرا ممّا تعرفون أيها المنغمسون في الأحلام العابرة»، ظل واقفا وقفته في انتظار أن نبادر.

حنظلة، أيها الحامل وصايا الأمهات اللواتي، رغم القهر غرسن أزهار الإصرار، لينبت خبزاً للأطفال الجائعين، واللائي أرضعن الصغار حليب الكرامة والعزة، أيها الواقف على تخوم المواجهة، متى نفهم الوصايا وتخرج من صمتك الأبدي.

***

عبد الهادي عبد المطلب

المغرب/الدار البيضاء يونيو/حزيران 2025

في المثقف اليوم