أقلام ثقافية
جمال العتابي: مدينة الحرية عمارة إنسانية "حلاقة مهدي"

الحاضر السلبي الاغترابي للمكان، ولّد استرجاعاً لماضٍ لم يعد موجوداً، استعادة الامكنة عودة إلى الذاكرة التي تحفظ الصورة الأولى بكل تفاصيلها، غير أن تلك الصورة غابت كلياً، أو تشوهت،ربما تضعف الذاكرة، لكنها وحدها لا تكفي في استعادة جماليات المكان، هكذا كان شعوري وأنا أزور احد الأصدقاء في مدينة الحرية، لم تكن المدينة التي سكنتني يوماً، وسكنتها، بل تجمع سكاني غريب الملامح، متعباً مثقلاً، كأن المدينة لا تعترف بتاريخها ولا بأبنائها، أدرك أن الذاكرة أكثر صدقاً من الواقع، وأن الأمكنة حين تفقد صورتها الاولى، تفقد معها شيئاً من ارواحنا. كانت الزيارة صدمة لا ينمحي اثرها وانا اقف أمام هذا المكان.. (حلاقة مهدي) في ركن يطل على شوارع ثلاثة، من اليمين القادم من دبّاش، وآخر في الوسط متّجه إلى "القلم طوزه"، أما الثالث فيتجه إلى اليسار نحو تقاطع "باتا" ودور الشؤون. كان المحل مجلسنا الصغير في أوقات الضحى، نافذتنا على العالم، نأتيه مزهوين، نضحك ونغني ونتجادل في السياسة، معظمنا تخرج تواً من الجامعة، البعض ما يزال في المراحل الأخيرة من الدراسة، أعوام الستينات شهدت أحداثاً كبيرة على مستويات عديدة: المحلية والعربية والعالمية، نحلم بالثورة، ونضع خططاً للمستقبل، كما لو أن العمر لن ينقضي.
مقصّ مهدي كان يلمع كأنه أداة سحر، يقص أطراف الشعر على إيقاع اغنية لفريد الأطرش: "تأمر عالراس وعل عين"، لم يخطر ببالنا أن الصلع يتربص بنا، أو أن الأيام ستحلقنا على نحو أعمق من أية شفرة لحلاق، كان منهل العارضي أول الضحايا داهمه الصلع مبكراً، وأول المغيبين الذين اختطفهم النظام أوائل ثمانينات القرن الماضي. كما داهم الصلع رستم الكردي ولقي كذلك نفس المصير.
حلاقة مهدي تشعّ مثل مربع ضوء وسط غبار الشوارع، المرايا فيه تعكس وجوهنا الفتية بعيون لامعة، على الكراسي الجلدية الضيقة كنا نتحاور في أسباب فشل الثورة في بوليفيا، ونكسة حزيران، تتصاعد نبرات أصواتنا حين يتحول النقاش إلى (لجنة أم قيادة؟)، مَن اليمين، ومَن اليسار، مَن هو الصّح، ومَن الخطأ؟ يضيق بنا المحل حين تلتقي المجموعة بأغلب افرادها من العاطلين، والباحثين عن عمل، ومنتظري التعيين. مدمنون على الحضور الصباحي اليومي: حميد الخاقاني، بعد أن يفرغ من بيع (العرقجين) في أسواق الكرخ، رياض عيسى، موسى فنجان الساعدي، مجيد خليل، رشاد مهدي، منهل العارضي، أحمد الكناني، موفق الشديدي، كاتب السطور، عبد الأمير الحبيب، ساجد انجيدي ، حسين ابو التمن، نزار الخشيمي، رستم الكردي، صباح كردي، سعيد خربالي، سعيد زويني، لقرب منازلهم من محل الحلاقة.
نقاشات تمتد مثل ظل طويل لا ينكسر، فكرة تلد أخرى، كل اقتباس ينفتح على حوار حار، تعلو الأصوات أحياناً، ثم تخفت، كأنها تحفظ سراً مشتركاُ، نتجادل مشدوهين، ونتساءل: لماذا التحق عباس مع مجموعة أمين الخيون للكفاح المسلح في الأهوار، بينما كان خالد أحمد زكي القادم من لندن يقود مجموعة أخرى لأسقاط النظام، بعد هجوم على مركز شرطة (عكيكة) في أقصى أطراف الهور، كانت الشرارة الأولى لاندلاع (الثورة) مقتل شرطي، لحظتها كان (يدخن سكائر لف).
مهدي من أمام المرآة، صوت مقصّه يقطع السكون، كنبض منتظم، يبتسم بين حين وآخر، ليس بمقدوره أن يمنعنا، أو يطردنا بعد أن أصبح المحل صيداً سهلاً لعيون أفراد الأمن، يراقبون ويسجلون للأيام القادمة!
يحتدم النقاش حول الأغاني، لمن الأفضلية: أغنية (لا خبر) أم أغنية (يانجمة)، يتدخل سامي كمال يندب حظه، كان يستعد بلهفة ليغني لحناً لكوكب حمزة أعدّه لأغنية (أفيش بروج الحنية)، إلا أن كوكب تراجع عن وعوده لسامي، وخذله، فضّل صوت سعدون جابر عليه، فأصيب بخيبة كبيرة ظلت آثارها ملازمة له لسنوات طويلة، كنا من اشد اللاعنين لفعلة كوكب. معجبين بصوت سامي (الحلاق) الأجمل والأقوى، نضع في الحسبان أنه خيارنا الثاني في الحلاقة، ومحله على بُعد خطوات من مهدي.
لم تكن حلاقة مهدي بحاجة إلى لافتة، لم يعلّق فوق بابه لوحة بالألوان، أو بالمصابيح المضيئة كما في صالونات الحلاقة الأخرى، كان يعرفه الجميع، ويعرفون الطريق إليه كما يعرف المرء طريقه إلى بيته، واجهته الزجاجية المتواضعة تكشف الداخل: كراسي جلدية قديمة، مرآة عريضة تكسو الجدار تحتفظ ببصمات أعيننا، وشيئاً من أرواحنا طاولة صغيرة تعلوها مجلات قديمة وأمشاط ومقصّات فقدت بريقها، كولونيا للتعقيم تصيب الجلد بلهيب حارق.
كانت الحلاقة ذريعة، واللقاء هو الغاية. نحلم بزمن تسود فيه العدالة، بسماء لا تظللها الغيوم الثقيلة، تلك الحقبة كانت تتقد بالصراع والأفكار تسري في عروقنا مثل تيار ساخن لا يهدأ.
كنا نكتب أحلامنا على صفحات لا يقرؤها سوانا، يشاركنا الكتابة: حاتم الصكر، منعم الأعسم، أحمد خلف، حسين الهنداوي، نصر محمد راغب، باقر مسير، مالك الأسود، حسن أبو شيبة، فيتحول المحل إلى مختبر للأفكار الكبيرة والجديدة، يبدأ الحوار في الرواية والشعر، ويتواصل الحديث عن القراءات الأخيرة: الانسان ذو البعد الواحد، الوجود والعدم، كافكا، كولن ولسن، بودلير، روجيه غارودي، نتنقل بين أغاني مهيار، وقصائد مرئية، كتّاب وشعراء يفجرون اللغة ويعيدون تشكيلها، ألبير كامو الذي يجعل العبث سؤالاً حائراً في وجوهنا، ثم نعود إلى صوت مظفر النواب ومحمود درويش وأنسي الحاج فنستعيد وطناً بحجم القصائد.
في المساء، حين يهبط الظل على الحي، نغلق الكتب ونحملها معنا، نمشي بخطى متحمسة نحو مقهى أبو سليم كبيت يعرفنا، واجهة المقهى المغبرّة تعكس ضوء النيون الباهت، أبو سليم يستقبلنا بهزّة رأس وابتسامة غامضة، ثم يشير إلى طاولتنا المعتادة التي تحمل خدوشاً قديمة تركتها حجارة الدومينو، كأنها توقيعات زبائن المقهى عبر السنين، مع طاولة أخرى يجلس صباح الشمري، وعمّه نزار المنشد في فرقة الموشحات التي شكلها حديثاً الموسيقار روحي الخمّاش، مع أصدقاء من جيلهم: اذكر سلام، وفاضل الحسني. كريم السراي (أبو فارس). ناظم، وصديقه فلح البطّاوي. و(ريس) الأعور. من بعيد كنا نلمح زهير الجزائري في زيارات خاطفة لبيت خاله في الدبّاش.
كنا نشجع فريق النهضة الكاظمي بقيادة الكابتن صاحب (ابو الهايشة)، لان ابن المدينة صاحب خزعل يلعب مهاجماً فيه.
في المقهى عالم آخر لا يشبه حلاقة مهدي، الأصوات تتعالى، الضحكات أكثر هتكاً، في زاوية المقهى راديو فيليبس كهربائي (أبو اللمبات) يسمعنا أغنية (الهدل) للمغني ياس خضر، فتتمايل رؤوس بعض الزبائن، بينما آخرون غارقون في حساب نقاط لعبة (الأزنيف). في أعلى الزاوية تلفزيون بالأسود والأبيض، تابعنا من شاشته مباريات كأس العالم في كرة القدم لدورتي لندن 1966، والمكسيك عام 1970. كان الوقت يمضي بين رشفة شاي وأخرى، في لحظات السكون القصيرة، كنا نتبادل نظرات تقول كل شيء: أننا رغم صخب العالم خارج هذه الجدران، وجدنا هنا ملاذاً.. مكاناً يأوينا بأحلامنا الكبيرة، وعبثنا البريء.
لكن الريح تغيرّت، واختلط الضياء بالظلام والدماء بالعظام، بعضنا مضى إلى الكفاح المسلح ولم يرجع، البعض غابوا في الجبال أو انطفأوا في المنافي، بيننا، مهجّرون ومعتقلون ومغيبون، بعضنا التهمته الخيبة، غادر حميد الخاقاني، وتبعه الأعسم، ثم رياض عيسى الذي اختار (رياض رمزي) اسماً أدبياً جديداً له، مات نصر في حادث سيارة. وياحسرتاه! لغياب منهل ورستم.
اليوم ونحن ننظر إلى صورنا القديمة بشعر (الخنافس)، نرى تلك الوجوه ممتلئة بالثقة، بالضحك، بضوء لم نعد نحمله، صرنا شيوخاً بملامح متهدّلة، وشعر أبيض، أو صلع تام، لكن في أعماق المرايا القديمة ما زال أولئك الفتيان يقهقهون، ينتظرون دورهم تحت مقص الحلاق مهدي، يظنون أن الثورة قائمة سيقودها "حجام البريس" من هور "الغموگة"
***
د. جمال العتابي