أقلام ثقافية

نسرين إبراهيم: صوتها قيثارة سومرية….

كان لجنوب العراق خصوصيته في البوح العاطفي والطقوس الصوتية، فكانت النعاوي – النواح والتهويدات – تحتل حيزًا مهمًا من الثقافة الشفاهية النسائية.

تمارس المرأة الجنوبية النعي أو النوح بوصفه بكاءً شعريًا على الفقد؛ كانت تؤلف أبياتًا من الشعر الشعبي، غالبًا بالعامية الجنوبية، ثم تُلحّنها بصوتها، لتصبح وسيلة لبوح الحزن الداخلي وكشف وجعها الذي خلفه الفراق.

ولم يكن هذا اللون من "النواح الشعري" مقتصرًا على مجالس العزاء الخاصة بالنساء، بل كانت المرأة تعيد إنتاج نفس الأبيات – أو ما يشبهها – في مواقف أخرى، خصوصًا في تهويدات الطفل أثناء هدهدته في الكاروك (المهد).

هكذا، جعلت الأم الجنوبية من الشعر وسيلة مزدوجة: حدادًا على الغائب أو الميت، وتهويدًا للطفل، حيث يسمع الصوت الحزين فيصبح بمثابة "فاصل غنائي" يرافقه إلى النوم.

وهذا يفسر لماذا يمتاز الغناء الجنوبي بالشجن حتى في أغراضه الأخرى، فهو خرج من صلب الوجع الجمعي، وتجذر ودمج في طقوس النساء.

وبين الأم السومرية والأم الجنوبية، كانت المعتقدات متباينة ثقافيًا، لكن صوت الأم ظلّ قيثارة ممتدة عبر العصور؛ فقيثارة سومر، التي عزفت للأرض والسماء في الطقوس الأولى، تجسّدت لاحقًا في "دللول الجنوب"، الذي ما زال يهدهد الطفل ويمسح عن قلبه وحشة العالم، ويبعث الطمأنينة.

إنها القيثارة نفسها، لكن أوتارها تغيّرت: في سومر، أوتارها من ذهبٍ وأحجار كريمة، تعزف للآلهة حماية للطفل، وفي الجنوب، أوتارها من صوتٍ مبحوح وحزن يومي، تعزف الحياة للأرض وللإنسان.

بين الأم السومرية والأم الجنوبية خيطٌ من الشجن، يجعل التهويدة ليست مجرد غناء، بل ذاكرة جمعية وحارسًا روحيًا يرافق الأجيال عبر الأزمنة.

***

د. نسرين ابراهيم الشمري

في المثقف اليوم