أقلام ثقافية

غسان علي عثمان: خَريفُ ظفار.. متى وقَعَ الظِّلُّ وُلِدَت الواحات

الخريف هنا ليس بالدلالة ذاتها التي درج المزاج العربي على فهمها ليشير إلى انقضاء السنون واقتراب الأجل، وذلك في القول المتكرر عن "خريف العمر"، إنه هنا خريف يعيد للمرء شبابه ويجدد فيه حب الحياة، فخريف ظفار هو موعد خفي بين الأرض وسماءها، هو لحظة يسقط فيها الظل على سفوح الجبال فيتخلق من رحم الغيم بساتين خضراء لتستيقظ المدينة على أنفاس البحر وندى الروح. ففي خريف ظفار يبدو الهواء وكأنه يكتب قصيدة في مديح التنوع، ويُعيد ترتيب مشاعر العابرين حتى يظنوا أن الظل نفسه هو الذي أنبت هذه الواحات الممتدة في القلب قبل أن تمتد في الأرض. ولذا وفي كل عام يطل هذا الموسم ليوقظ في الوجدان العربي فرادةً عُمانية آسرة الجمال، والحقيقة أن زوّار هذه البقعة العزيزة من السلطنة لا يغادرونها بعد انتهاء الموسم مشبعين فقط بجمال المكان وبهائه، أو حاملين معهم مناخها الاستثنائي؛ إنهم أيضًا يحملون في دواخلهم ذكرى أوضح ملامح للعُماني؛ العُماني المشحون بقيم الكرم والسماحة والصدق والنقاء الروحي. وليست هذه مجاملة تُستدر من مجانية الوصف إنها الحقيقة التي يجتمع عليها من يزورون سلطنة عُمان في موسم خريف ظفار؛ إذ يقتحم عليك العُماني حواسك وهو متلحفٌ بصمتٍ نبيل، وتكفي ابتسامة صافية منه لتمنحك إحساسًا بالأمان كأنها تمسك بيدك برفق شديد لتهدي إليك باقات من جمال لا يُنسى. ولعل ما يثير التساؤل في نفس كل من زار ظفار في خريفها المنعش هو: كيف لمكان مهما بلغ من العنفوان أن يمد أرواحنا بكل هذه الدفقات من المحبة وراحة النفس، وكأن العرب ومن يقصد صلالة على موعد سنوي لغسل الروح بودٍّ عُماني غير مصنوع.

في تمام الساعة العاشرة مساءً حطّت رحلتي وكان أول ما شدّني وأنا أغادر مطار صلالة الدولي ليس فقط جوها المنعش. فما استوقفني أنني وأنا أنتظر وصول حقائبي شعرت كأنني انزلقت إلى صفحة من رواية ماركيزية حيث المدينة تستقبلك بحضور ثابت في الزمن؛ كأنك عاشق عاد فجأة إلى طفولته بعد غياب طويل، وقد استقبلني الهواء مشبعًا بذكريات متأصّلة. وحقاً كانت تلك حالتي ولا أدري لماذا تذكرت فجأة قريتي في شمال السودان وأنا أزورها لأول مرة، ومع ذلك أعرف الطرق الخفية بين جنبات البيوت المتراصة، وكأن الحنين نفسه يمسك بيدي. وحينها لم أحتج إلى دليل سوى حفيف النخيل يهمس لي الطريق نحو بيت جدي هناك على سفح من الرمال المحترقة حيث وُلد الجد الأكبر واختار تلك البقعة من أرض السودان ليعقد معنا عهدًا وميثاقًا جيلًا بعد جيل. ترى أيكون للأمر علاقة بتشابه الجغرافيا؟ قد يكون. أيكون السبب في هذه الحميمية التي التصقت بوجهي وهو يستقبل هواء صلالة؟ قد يكون.. أم أن السبب هو هجرة الروح في جزيرة العرب من أقصى شرقها لتستقر على مياه النيل الذي لم يتعب رغم جريانه لآلاف السنين؟ أظنّها ممكنة.

كان أول هاتف رنّ عليّ مشعًّا بالنور وخلال الدقائق المعدودة التي استغرقتها المكالمة كانت كلمة السر فيها: "نورت".. عجيب! لماذا اختار محدثي هذه العبارة التي قد تبدو في نظر البعض مجرّد مجاملة عادية؟ لكنها جاءت لتعني لي  الكثير، فالكلمة المشتقة من "النور" جاءت استجابة لنور غمرني أو بالأحرى غمر روحي المتعبة من الترحال. ونسيت أن أخبركم أنني كائن لا يؤرقه شيء مثل طرح سؤال بريء لعابر يلتقيه فيتعرف عليه ثم تتطور المقابلة ليسأله: "أين تستقر؟". فمفردة "الاستقرار" من "قرّ" أي ثبت، أي يفيد حالة من الثبات في مكان بعد حركة أو اضطراب، أو الوصول إلى حالة من الاطمئنان والسكون، كما تخبرنا معاجم اللغة. وهذا ما لم أعشه طيلة حياتي.. لكن دعونا نعود إلى النور الذي حدثتكم عنه. فالحقيقة كنت أتمنى لو أن رحلتي جاءت في ظهيرة لأدخل المدينة فاتحًا لا متسللًا تحت الليل؛ فقد علّمني السفر أن لزيارة المدن آدابًا، وصلالة بالذات تحتاج إلى تهجد أكثر يقين حتى أبصرها في ضوء الشمس، فلا تخدعني ذاتي بحقائقها وهي في سكون الليل. ومع ذلك فإن النور الذي سطع من المكالمة الأولى كان النور ذاته الذي قال عنه سلطان العاشقين مولانا جلال الدين الرومي: "النور الذي في العين ليس إلا أثرًا من نور القلب، وأما النور الذي في القلب فهو من نور الله". جميل ما قاله…

خرجت أحمل حقائبي واستقللت السيارة لأدخل إلى حضن المدينة والتي كانت حينها في لحظات سكينتها المعتادة. وعلمت لاحقًا أن موسم خريف ظفار هو الوقت الذي تكتظ فيه المدينة بأرواح العاشقين لها. وكان أول ما شدني أنها بدت لي كمدينة تحمل عبء هويتها الخاصة؛ نصيبها الأصيل من التنوع العُماني والذي هو سر قوة هذه البلاد، فسلطنة عمان تملك خصوصية لم تُكتشف بعد بالقدر الكافي لدى العرب. وقد يكون للأمر صلة بشعب لم يعد بحاجة إلى الحديث عن نفسه، وهو ما يصدّقه مثل سوداني عريق: "العارف عزو مستريح".

وصلتُ سكني وكان أول ما فعلته أن أبحث عن الكتاب الذي حملته معي وللمصادفة كان عنوانه: "موت وحياة المدن الأمريكية العظيمة" لجين جاكوبس؛ وهو عمل مهم في مجال التخطيط العمراني وعلم الاجتماع الحضري، ويعد أحد أهم المراجع لفهم سوسيولوجيا المدن حتى الآن رغم صدوره في ستينيات القرن الماضي. ومن أهم خلاصاته كيف أن التنوع شرط للأمان والحيوية الاقتصادية.

عدت أقرأ فيه كيف أن للمدن الحقيقية قدرة على منح الفرد حضوره الخاص لأنها تقوم على عقد اجتماعي بليغ التكوين يجعل الزائر الغريب يندمج فيها بلا عناء؛ فهي مدن صاغها أفراد متنوعون. وبعد هدأة قصيرة فتحت النافذة لأطل على الشارع في "صلالة الجديدة" وللمفارقة تعبير "جديدة" مجازيًا حقًا؛ فالحي الذي سكنت فيه لم يكن غريبًا عن جسد المدينة التي بدأت أكتشفها. وبعد أن أشرعت النافذة وجدت الشارع يلوّح لي بالترحاب كما لو يبعث برسالة تقول: "أنت آمن هنا، ولا في أي مكان آخر". ولحظتها تذكرت ما قالته جاكوبس كيف أن المدينة التي صنعتها إرادات قوية تصبح مهيأة لاستقبال الغرباء وتحويل وجودهم إلى عنصر أمان يُضاف إلى حقيقتها الآمنة.

وفي ساعات الليل تلك تذكرت قصيدة صلاح عبد الصبور "مرثية رجل عظيم" والسبب أنني شعرت وكأن الشارع يدير معي حوارًا وجدانياً تشهد عليه نافذتي، إذ وجدته شارعاً لا يترك للغريب فرصة البحث عن ذاته فيه لأنه يزيل الحدود بينه وبين الجدران التي تحتضنه. فالنوافذ وجوه مفتوحة والعيون مشرعة تراقب لكنها تبتسم للعابرين وتشجعهم على رواية الحكايات للمارة، وكأنهم جمهور مسرح مفتوح على فضاء لا متناه. أما الأصوات فهي خليط من أنفاس الغرباء وأهل المدينة، خليط يمتزج فيه الجميع ليعيد تخليق الحياة مع كل زائر. وقد كانت هذه أولى الرسائل التي بعثتها صلالة لرجل طالما آمن أن المكان ليس إلا جدران الذات المغلقة.

أطلّ الصباح وخرجت لا أبحث عن شيء سوى التمعّن في ملامح المدينة. وعندما جلست أحتسي قهوتي في مقهى قادني إليه صديق عزيز، وهو صديق يجسد مقولة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي يشير فيها كيف أن أصل الاجتماع البشري هو التضامن، وأنه ليس لمجتمع أن يعيش أفراده في أمان إذا قامت بينهم حدود اللغة والمعتقد والقبيل، ويختصرها قوله المأثور: "المرء كثيرٌ بأخيه، قليلٌ بنفسه".

في المقهى، وبسبب إدماني النظر المتأمل في المكان والناس – لعلها عِلّة من يقوم عمله على التحليل – كانت الأصوات عالية لكنها دافئة. رجل ينادي بأعلى صوته مرحّبًا بقادم لم يعبر الشارع بعد وكأنها رسالة صلاليّة في الصميم تلخّصها العبارة التي يستقبلك بها أهلها: "يا حي وسهلا". والملفت في لقاءات الصلاليّة أنهم يحيّونك بلغتهم وكأن الأمر عربون شراكة للغريب.

في المقهى ذاته، لكن مساءً كان لقائي بالأحبة الأصدقاء الذين يغمرونك ببِشرٍ أنيق وكأنهم مبعوثون لإسعاد روحك المتيبّسة. جلسنا وتناولنا قهوتنا – قهوتي تختلف؛ فهي أكثر إفريقية، سوداء وسكّرها غير عربي – وكان الأنس في هذه الجلسة كاشفًا عن روح الدعابة التي يتمتّع بها أهل المدينة. وهي دعابة تذكّرك بفستاف وهو الشخصية البارزة في مسرحية "هنري الرابع" لوليم شكسبير حين كان يسخر من مفاهيم القوة، وقرر أن يختار الحياة المليئة بالضحك وأحاديث الليل على الموت في المعركة. وكم كان جلسائي يشيدون حكاياتهم على رأس فستاف، ويسخرون منه شخصيًا.

إن خريف ظفار فرصة عظيمة لإعادة اكتشاف سلطنة عُمان، هذه البلاد التي تهدي إلى العرب أخلص ما فيهم: الكرم، والإيثار، والاعتزاز بالهوية. وتعلّمك زيارة ظفار أن سر تفرد هذه البلاد يكمن في تنوعها الثقافي، وفي قدرتها على تقوية أواصرها الاجتماعية في أرض تحتضن كل جميل، وتتركه ليعبّر عن نفسه بلا ادعاء. وللعرب أن يشكروا عُمان وقد ظلت تذكرهم كيف يمكن للتنوع أن يتحول إلى مصدر قوة.

إنني مدين بالشكر لمن جعل زيارتي هذه ممكنة، وغمرني بفضله فله مني عظيم الامتنان. فقد منحني فرصة أن أكتشف حدائق سرية لم أطأها من قبل؛ وعرفني على مدينة لا تُرى إلا بعيون الحب والعرفان..

***

غسان علي عثمان

 

في المثقف اليوم