قضايا
حاتم حميد محسن: مقارنة بين كهف افلاطون ووسائل التواصل الاجتماعي
ربما حذّر افلاطون قبل 2400 سنة من وسائل التواصل الاجتماعي الحالية؟ رمزية الكهف هي جدال سقراطي كتبه الفيلسوف اليوناني افلاطون - تلميذ سقراط، ومؤلف كتاب الجمهورية سنة 375ق.م، احتوى على حوار بين سقراط وجلوكون (شقيق افلاطون). ان رمزية الكهف هي قصة مجازية تصف عددا من السجناء في كهف كانوا مقيدين بالسلاسل، يواجهون حائطا. خلف السجناء نار مشتعلة، يرون فقط ظلال الأشياء والناس الذين يمرون خلفهم تسقط على الحائط. هذه الظلال هي الواقع الوحيد الذي يعرفونه، الى ان يتمكن احد السجناء من الهروب الى الخارج (العالم الواقعي). يجادل سقراط ان السجين المتحرر سيعود الى الكهف ويحاول تحرير رفاقه السجناء، لأنه يعرف الان ما موجود خارج الكهف وان واقعهم مشوّه.
في نهاية النقاش، يتفق سقراط مع كلاجون على ان السجناء الآخرين من المحتمل ان يقتلوا كل من يحاول تحريرهم، لأنهم لا يريدون مغادرة الراحة والآمان الذي يشعرون به في عالمهم المألوف.
التواصل الاجتماعي social media
بشكل او بآخر، يمكن رؤية التواصل الاجتماعي كنسخة حديثة للكهف. في كل يوم يغمرنا سيل من المعلومات والآراء والصور التي جرى تنظيمها بعناية من خلال الخوارزميات وتُعرض لنا على الشاشة. مثلما في سجناء الكهف، يمكن ان نصبح محاصرين في منظور محدد وخطير نسيء فهم الظلال المعروضة لنا ونحسبها كأشياء واقعية. هذه الظلال تمثل اخبارا كاذبة، نظريات مؤامرة، وبربوغندا تنتشر بوسائل التواصل الاجتماعي. في الحقيقة، الطريقة التي نتصور ونفهم بها الواقع أحدثت تحولا راديكاليا. وهكذا، بينما سهّل لنا الانترنيت الوصول الى كمية غير مسبوقة من المعلومات، فان منصات التواصل الاجتماعي أصبحت هي الوسيط في مشاركة ونشر تلك المعلومات. التواصل الاجتماعي أصبح المصدر الرئيسي للمعرفة للعديد من الناس. مع ذلك، يبقى السؤال : هل سنعرف في يوم ما ماهو الشيء الحقيقي في عصر التواصل الاجتماعي؟
على النطاق الأوسع، بعض المفكرين في مجال الانطولوجي (دراسة ما موجود) يقترحون ان ما نتصوره كواقع هو غير ثابت او موضوعي، وانما متأسس اجتماعيا. هذا يعني ان ما نعتبره واقعيا هو عرضة لتغيير مرتكز على المعتقدات الثقافية والسياق التاريخي. فمثلا، الحصان الخرافي احادي القرن لا يُعتبر واقعيا في مجتمعنا الحالي لكنه جرى الايمان به كشيء واقعي في الثقافات القديمة. لذلك، فان فكرة ما هو واقعي تعتمد على اطارنا الانطولوجي الحالي، ولا يمكن تطبيقها عالميا. وبرؤية مشابهة، الفيلسوف الهندي أدي شانكارا Adi Shankara (700-750م) جادل بان العالم الذي نتعامل معه هو "مايا" – او وهم خُلق بواسطة أذهاننا. طبقا لشانكارا، حواسنا وتفكيرنا يخلق مظهرا لعالم منفصل عن أنفسنا، لكن في الحقيقة، كل شيء هو براهما، او الواقع النهائي، ونحن جزء من ذلك الواقع النهائي. في جوهر هذا التحقيق تكمن مفارقة التصور والمعرفة: كيف نستطيع ان نعرف ما هو واقعي عندما تكون تصوراتنا ذاتية في الأصل وعرضة للخطأ؟ معظم الفلاسفة يعتقدون ان الواقع يوجد بشكل مستقل عن تصوراتنا، واننا نستطيع معرفته من خلال العقل والتحقيق التجريبي. آخرون يزعمون ان الواقع هو ليس اكثر من تجاربنا الذاتية، بينما يؤكد اخرون اننا لن نتمكن ابدا من معرفة ما هو الحقيقي. نعتقد اننا نحتاج للاعتراف بالاعتمادية المتبادلة بين التصور والمعرفة. التصور ليس مجرد تفكير سلبي حول الواقع وانما هو مشاركة نشطة في العالم الذي يتشكل بتجاربنا ومعتقداتنا. ونفس الشيء، المعرفة ليست تجسيد موضوعي او بلا منظور للواقع وانما نتاج لعملياتنا الاجتماعية والادراكية . لذلك، لكي نفهم ما هو حقيقي، يجب علينا الاعتراف بالعلاقات المعقدة والديناميكية بين التصور والمعرفة. نحن يجب علينا أيضا تربية مهارات التفكير النقدي والانخراط في تحقيق صارم لصقل فهمنا للعالم. في النهاية، ان متابعة الحقيقة تتطلب رغبة لإحتضان اللايقين والغموض. نحن قد لا نعرف ابدا ما هو حقيقي بتأكيد مطلق وانما عبر الانخراط في العالم نقديا وبشكل مدروس، نستطيع الوصول لفهم متعمق ودقيق لأنفسنا ومكاننا في العالم.
رغم كل ذلك، يبقى مأزق المعرفة في اننا لا نعرف على وجه التأكيد ان كان هناك واقع خارج تصوراتنا الشخصية له. مع ذلك، كل من رمزية الكهف وما نفترضه الان حول التواصل الاجتماعي، يجعلنا وكأننا ننظر الى عالم داخل عالمنا بدلا من النظر الى الخارج.
التواصل الاجتماعي يصبح عالما ثان، وخطير. الناس يمكنهم صنع ملف شخصي على الانترنت والذي يمكن اعتباره على الأغلب هوية ثانية. في كلتا الحالتين، نحن نتحدث عن عالمين، الأول زائف ومصنّع لكن يقع ضمنه واقع الناس، والثاني حقيقي ويحتوي على الناس الذين يستطيعون أيضا تمييز العالم الأول كعالم غير أصيل. عبر قراءة رمزية افلاطون، نستطيع ان نرى العذاب المطلق للسجناء في الكهف، لكننا نعتقد اننا سلفا دخلنا نسخة التواصل الاجتماعي لتلك الرمزية. في المقارنة، الناس في الكهف يسيئون فهم الظلال على الحائط كواقع. ونفس الشيء، في التواصل الاجتماعي، الناس في الغالب يعرضون أنفسهم بطريقة منظمة ومفلترة للغاية، انهم يعرضون وهماً غير أصيل للواقع. بهذه الطريقة، يمكن للتواصل الاجتماعي ان يخلق معنى مشوّها للواقع، يدفع الافراد ليصبحوا منفصلين عن الواقع الحقيقي. لكن التواصل الاجتماعي لا يقيّد فقط ما نرى وما ينظّم نظرتنا لأنفسنا، هو أيضا يشكل تهديدا للديمقراطية والتنمية المستدامة والحرية والأمن.
ان رمزية الكهف تستكشف فكرة تأكيد الانحياز. السجناء في الكهف يتعرضون فقط لمنظور واحد، ولا يعرفون أي شيء وراء الظلال التي على الحائط. ونفس الشيء، التواصل الاجتماعي يخلق غرف صدى فيها يرى الناس فقط معلومات تؤكد عقائدهم وافكارهم، ويقود الى عدم التعرض لوجهات نظر متنوعة وترسيخ تحيزاتهم القائمة. رمزية الكهف أيضا تسلط الضوء على مفهوم التفكير الجماعي، حيث الناس يتّبعون نفس المعتقدات والأفكار كالأخرين في جماعتهم بدون التحقق من دقتها. هذه الظاهرة باستمرار تُرى في المجتمع الحديث، حيث الناس في الغالب يتبعون آراء زملائهم او جماعة معينة دون فحصها نقديا.
كذلك، بالنسبة الى مقتل السجين الهارب من جانب السجناء الآخرين، الذي تنبأ به سقراط، يشير الى الصعود الحديث لثقافة الإلغاء، حيث نستخدم معتقداتنا الأخلاقية بحماسة ضيقة الأفق ضد أعدائنا الايديولوجيين او كل منْ لا يتفق مع نظرتنا للواقع. ان الإدمان على التواصل الاجتماعي اصبح مشكلة خطيرة، تتمثل في وجود افراد يصبحون معتمدين جدا على الإعجابات والمشاركات والانخراط لدرجة انهم غير قادرين على التخلي عن أجهزتهم. افلاطون أيضا يقترح ان السجناء غير قادرين على تحرير أنفسهم من اسرهم، كونهم مكبلين في أصفاد، ومدمنين على الأوهام.
في رمزية الكهف، السجناء تحت سيطرة قوى خارجية تستغل ما يرون ويسمعون، من خلال التحكم بما يسقط من ظلال وما يرافقها من أصوات. بنفس الطريقة، التواصل الاجتماعي يُستغل عادة من جانب قوى خارجية مثل الخوارزميات وشركات الإعلان والجماعات السياسية التي تؤثر على ما يتعرض له الافراد وكيفية تصورهم للعالم من حولهم. وكما يوضح ايلي باريسر Eli Pariser مؤلف كتاب فقاعة التصفية The filter Bubble(2011)،" في عالم تتحكم فيه خوارزميات معتمة وتقرر ما نرى، نحتاج لنكون حذرين جدا حول ما يتم تقديمه لنا".
رمزية الكهف تستكشف الفرق بين الواقع المتخيل والواقع الحقيقي، وكيف يمكن ان يتشوه فهمنا للواقع بواسطة تجاربنا وتصوراتنا. تماما مثل الظلال على جدار الكهف، المعلومات والاخبار التي نتلقاها عبر مختلف قنوات الاعلام يمكن ان تكون غير تامة ومشوهة، تقودنا الى الاعتقاد بنسخة معينة مشوهة للواقع. صانعو تطبيقات التواصل الاجتماعي هم بالأساس بنوا كهفا لنا، ونحن خضعنا لسلاسلهم. نحن عادة نثق بما نرى في التواصل الاجتماعي او منصات الاخبار بدون التحقق مما يكمن خلفها. لهذا تشير رمزية الكهف الى أهمية استخدام اتجاه نقدي للمعلومات التي نستلمها لكي نمتلك فهما اكثر دقة للواقع.
في الختام، رمزية كهف افلاطون توفر تشبيها مقنعا، وتحذيرا من مخاطر التواصل الاجتماعي. انها تسلط الضوء على الكيفية التي تخلق بها وسائل التواصل الاجتماعي إحساسا مشوها بالواقع، تعزز التحيزات القائمة وتؤثر فينا من خلال القوى الخارجية، مما يقود الى ادمان الافراد وانفصالهم عن الواقع. لذا، بينما يمكن ان تكون وسائل التواصل الاجتماعي أداة مؤثرة وفعالة في الاتصالات والتواصل، من المهم الاطلاع على محدودياتها واحتمالية تشويهها لتصوراتنا.
عبر النظر لكامل الصورة، ومن خلال الاستفادة من دروس رمزية الكهف في وجود شكل مغاير للوجود، يمكننا التعامل مع التعقيدات وحتى مخاطر التواصل الاجتماعي، والعمل نحو فهم اكثر اطلاعا واستنارة للعالم.
***
حاتم حميد محسن






