قضايا

يونس الديدي: الناس لا يستفزونك، بل يكشفون جروحك!

الاستفزاز لا يأتي من الخارج بل يُستثار من الداخل

يخيّل إلينا في لحظات الانفعال أن الناس هم من يستفزّوننا، وأن كلماتهم أو تصرفاتهم هي أصل الغضب الذي يشتعل فينا. غير أن التحليل النفسي الدقيق يكشف أن الاستفزاز ليس فعلًا خارجيًا، بل تفاعل داخلي بين ما نسمعه وما نحمله من جراح غير معالجة. الموقف الخارجي لا يصنع انفعالنا، بل يوقظ ما كان نائمًا في أعماقنا.

الاستفزاز إذن ليس فعلاً خارجيًا، بل مرآة داخلية تعكس ما نخفيه عن أنفسنا. عندما نغضب من كلمة أو موقف، فإننا في الغالب نُعيد تفعيل ذاكرة قديمة: نقدٌ سمعناه في الطفولة، أو إحساسٌ بالرفض لم نتجاوزه. وهكذا يصبح الحاضر ممرًّا للماضي، وتتحرك فينا طبقات دفينة من الانفعال كانت تنتظر فقط من يلامسها لتُعلن حضورها من جديد

حين يلمس أحدهم نقطة ضعف فينا، فهو في الواقع لا يجرحنا من الخارج، بل يُعيدنا إلى جرحٍ قديم لم يُشفَ بعد. تعليق عابر قد يذكّرنا بصوت قاسٍ من الطفولة، أو بنظرة رفض لم ننسها. وهكذا يتحوّل الحاضر إلى مرآةٍ تعكس الماضي، فنغضب من الحدث بينما الجرح الحقيقي في زمنٍ آخر. فالاستفزاز ليس نتيجة الموقف، بل استدعاءٌ للذاكرة الشعورية التي لم تكتمل دورتها.

لكل إنسان خريطة نفسية فريدة تشكلت من تجاربه الأولى، ومن الطريقة التي تعامل بها مع الألم. هذه الخريطة هي التي تحدد كيف نقرأ الواقع ونفهم الآخرين. فالتعليق البسيط الذي يمرّ مرور الكرام على أحدهم، قد يجرح آخر بشدة، لأن رمزيته تمسّ عقدة شخصية لم تُحلّ بعد. حين نُدرك هذا، نبدأ نفهم أن ردود أفعالنا ليست موضوعية دائمًا، بل مشروطة بتاريخنا الداخلي

فهم الخريطة النفسية ومسافة الوعي

لكل إنسان بوصلة نفسية خفية، هي مجموع التجارب والصدمات الصغيرة التي شكّلت طريقة تفاعله مع العالم. هذه الخريطة تعمل بصمت، وتحدد كيف نقرأ الأحداث ونفسّرها. حين نتجاهلها، نصبح أسرى لتكرار الانفعالات القديمة. وعندما نعيها، نبدأ نستعيد حريتنا الداخلية.

إنّ الوعي بهذه الخريطة يخلق ما يسميه علماء النفس المسافة النفسية: قدرة على مراقبة الانفعال بدل التماهي معه. فبدل أن تقول: “أنا غاضب”، تدرك أن هناك “غضبًا يمرّ في داخلي”. هذه اللغة البسيطة تغيّر المعادلة بأكملها؛ لأنك لم تعد تُعرّف نفسك بانفعالك، بل ترى الانفعال كحدثٍ عابرٍ في مجال الوعي.

هنا يتحول الاستفزاز من فعلٍ جارح إلى معلومة وعي؛ يخبرك أن في داخلك منطقة تحتاج إلى النظر والاحتواء، لا إلى القمع أو التبرير. فكل انفعال هو رسالة من عمقك، لا عدوان من الخارج.

العيش في الآن… طريق التحرر من الاستفزاز

التحرر من الاستفزاز لا يتحقق بالتحكّم القسري في المشاعر، بل بالعودة إلى اللحظة الحاضرة؛ إلى الآن الذي لا يحمل ذاكرة ولا خوفًا. فالوعي بالحاضر يقطع سلسلة التفاعل التلقائي بين الموقف والانفعال، ويمنحك فسحة تأمل ترى فيها ما يحدث دون اندماج.

في الحضور الواعي، لا يعود الغضب عدوًّا، بل إشارة إلى موضع الألم. والمشاعر المؤلمة لا تُقاوَم، بل تُفهم. هذا الفهم هو جوهر النضج الشعوري: أن تدرك من فيك هو الذي استُفزّ، وأن تمنح القيادة لذاتك الراصدة لا لذاتك الجريحة.

الاستفزاز لا يحدث لأن الآخرين قساة، بل لأن في داخلنا صوتًا لم يُسمع بعد، وجزءًا ينتظر الاعتراف به. حين ندرك ذلك، يتحول الموقف المزعج من تجربة سلبية إلى فرصة علاجية. كل إحساس بالضيق يحمل في جوهره بابًا نحو معرفة الذات، وكل لحظة استفزاز هي نداء خفي من الجرح القديم ليُرى ويُحتضن أخيرًا

حين تبلغ هذا المستوى من البصيرة، تدرك أن لا أحد يملك القدرة على استفزازك حقًّا؛ لأنك لم تعد تتفاعل من الجرح، بل من الوعي. يصبح الموقف الخارجي مجرّد فرصة للفهم لا للانفعال، وتتحوّل المشاعر المؤلمة من خصمٍ إلى معلم.

إن النضج النفسي لا يعني انعدام الانفعال، بل القدرة على تحويله إلى معرفة. وحين يحدث ذلك، يتبدل معنى الحياة ذاتها: فكل موقف مستفز يصبح درسًا في الشفاء، وكل انفعال مؤلم يصبح مرآة للذات العميقة التي تتوق لأن تُرى بصفاء. في هذا الأفق، لا يعود الآخر عدوًّا، بل شريكًا في عملية الوعي الكبرى التي لا تنتهي.

***

يونس الديدي - كاتب مغربي مختص في الشؤون الاجتماعية والسياسية

في المثقف اليوم