أقلام ثقافية
صالح الطائي: رحلة إنصاف

من البحث الأكاديمي إلى الحوار الحضاري مع الإباضية
منذ زيارتي الأولى لسلطنة عُمان، أسرتني بساطة أهلها وشعرت أنني أمام مجتمع يتنفس الطمأنينة، ويجسد معنى التسامح في تفاصيل الحياة اليومية لا بين مكوناته فحسب وإنما حتى مع غيرهم.
لقد أدهشني أن أرى مذهبا إسلاميا يعيش في سلام مع ذاته ومع الآخرين، بعيدا عن ضجيج الصراعات البينية التي أنهكت العالم الإسلامي، وتسببت في فرقته وتباعده عن بعضه.
ومن هذه الدهشة الأولى، تولّدت في داخلي رغبة عميقة في أن أقدّم عملاً علميا منصفا، يلامس حقيقتهم كما عايشتها لا كما شوّهتها بعض صفحات التاريخ الصراعي.
وحينما عدت إلى العراق شرعتُ في تأليف كتاب بعنوان: "الإباضية: مذهب ظلمه التاريخ وأنصفه البحث"، الذي تجاوزت صفحاته ستمائة صفحة، وكنت مدفوعا برغبة في كشف زيف كثير من القراءات التي وُجّهت ضد هذا المذهب عبر العصور.
غير أنني، وإذ أعترف بحدود معرفتي بكثير من تفاصيل عقيدتهم ومناهجهم الفكرية، خشيت أن أقع في تقصير يحول دون إنصافهم، أو يسبب لهم أذى غير مقصود. لذلك بادرت بإرسال المخطوطة بعد ان اكملتها إلى إخوتي وأصدقائي في سلطنة عُمان: الأستاذ الدكتور محمود بن مبارك السليمي، والأستاذ الشيخ طالب الضامري، ذلك لأني كنت قد لمست فيهما، وفي المجتمع العماني عامة، روح السلام والانفتاح، ما جعلني أكثر يقينا بضرورة أن يخرج هذا العمل موضوعيا نافعا.
ولضمان دقة التناول، قاموا باستنساخ مسودة الكتاب وتوزيعها على نخبة من الأكاديميين والتخصصيين في وزارة الأوقاف العمانية ورجال الدين؛ الذين قرأوها بعناية فائقة، وأبدوا ملاحظاتهم عليها. ثم بدأنا النقاش حول تلك الملاحظات عبر التراسل الإلكتروني، لكنهم لم يكتفوا بذلك، بل شكّلوا وفدا تخصصيا وجاؤوا إلى العراق لنتباحث وجاها، في فرصة نادرة لتبادل الآراء مباشرة.
على مدى خمسة أيام أقاموها في العراق، أقمنا لهم نشاطات بغدادية متعددة في مقر رابطة المجالس البغدادية، وجناح الرابطة في معرض الكتاب، وفي نشاطات معرض الكتاب الدولي ببغداد، فضلا عن نشاط آخر في جامعة الكوت الأهلية في محافظة واسط بعد وصولهم إليها. وقد ولَّدت لديهم تلك التجربة شعورا بعمق التواصل الروحي والفكري بين بلدينا.
ثم كان اللقاء الأهم في داري بالكوت، حيث امتد النقاش العلمي على مدى ثلاث ساعات كاملة. وكان الحوار هادئا وشفافا، توصلنا خلاله إلى تفاهمات جوهرية أثمرت عن الاتفاق على تعديل بعض فقرات الكتاب بما ينسجم مع الحقائق الموثوقة والمدعومة بالمصادر الرصينة، ويعزز الموضوعية.
لقد شدّني في هذه التجربة أنني لم أتعامل مع مذهب ديني فحسب، بل تعاملت مع أخلاقية حضارية متجذرة في النفوس بعد أن قدّم الإباضية أنموذجا راقيا في إدارة الاختلاف: بالعلم وبالحوار وبالبساطة وباللقاء المباشر الحميم الذي يجمع ولا يفرق. وكانت صراحتهم وشفافيتهم مثار إعجاب عميق زادني يقينا أنى أسير في الطريق الصحيح.
ولعل هذا الدرس يتجاوز حدود الكتاب نفسه، ليصبح دعوة إلى ثقافة التلاقي بدلا من ثقافة التنافر. فالمذاهب والأديان، مهما تباينت رؤاها، إن لم تُحسن إدارة الحوار، تحولت إلى جدران عازلة بدل أن تكون جسورا للمعرفة والتقارب. ومن جميل المصادفات أن أحد نشاطاتنا التي أشركناهم بها ببغداد على مسرح معرض الكتاب الدولي، والذي توليت إدارته بنفسي، تناول موضوع التلاقي والتبادل والتلاقح الثقافي.
أعود اليوم من هذه التجربة أكثر يقينا أن البحث الأكاديمي حين يقترن بالحوار الإنساني الصادق، يتحول من مجرد أوراق إلى جسور ضياء تفتح أفقا جديدا في وعينا، وتعيد الاعتبار لصفحات التاريخ التي طالها التشويه.
ولقد ازداد يقيني من خلال هذه التجربة أن قوة المذاهب لا تُقاس بمدى اختلافها عن الآخرين، أو عن غيرها من المذاهب، وإنما بقدرتها على تحويل الاختلاف وحتى الخلاف الراسخ إلى فرصة للحوار والتبادل المعرفي.
ومن هنا وجدت أن من واجبي إعادة صياغة بعض فقرات الكتاب بما يعكس روح الإنصاف والموضوعية، ليكون أقرب إلى وجدان القارئ المسلم، إباضيا كان أم من المذاهب الأخرى.
فضلا عن ذلك رسخَّت لدي هذه التجربة قناعة حقيقية أن الإنصاف لا يولد من القلم وحده، بل من لقاء العقول والقلوب معا.
***
الدكتور صالح الطائي