أقلام ثقافية
ابتهال عبد الوهاب: دوستويفسكي ومأساة الوعي الإنساني
ميلاد دوستويفسكي ليس مجرد ميلاد كاتب، بل ميلاد وعي جديد بالإنسان.
في مثل هذا اليوم لم تولد فيودوريا واحدة في سان بطرسبورغ، بل ولد عالم كامل من العتمة والنور، من الجنون والعقل، من الإيمان والشك، من الخطيئة والتوبة. دوستويفسكي لم يكن يسكن مدينة، بل كانت الروح الإنسانية هي موطنه الوحيد.
دوستويفسكي لم يكن يكتب الرواية كما يكتب الآخرون، بل كان يحفر في لحم الوعي الإنساني، يعري النفس من أقنعتها، ويتركها تواجه حقيقتها العارية.
كلما كتب، كانت الكلمات تتصبب منه كما يتصبب الدم من جرح مفتوح، لذلك تشعر أن كل جملة فيه نزفت لا كتبت، وأن كل شخصية خرجت من رحم الألم لا من خيال المؤلف.
لم يكن يكتب عن البشر، بل كان يكتب الإنسان نفسه، في لحظة ضعفه القصوى، حين تتجرد النفس من أقنعتها وتواجه الله والقدر والضمير.
في رواياته لا تروى القصص بل تقام محاكم، محاكم للنية، للضمير، وللروح التي تتأرجح بين الخير والشر.
في الجريمة والعقاب يدان الإنسان قبل أن يدان الفعل.
في الأخوة كارامازوف يسائل الإيمان نفسه: هل الله فينا أم نحن من اخترعناه لننجو من العبث؟
وفي الأبله يحاول البراءة أن تعيش وسط غابة من الذئاب، لتنهزم لا لأنها ضعيفة، بل لأن النقاء لا يُحتمل في عالم فاسد.
دوستويفسكي لم يعطنا روايات نقرأها، بل مرايا نصاب بالذعر حين ننظر إليها.
فهو لا يمنح قارئه متعة القراءة، بل يلقيه في تجربة الوعي، في مواجهة ذاته التي كان يهرب منها.
كل قارئ له يخرج من نصه مبللا بندوب داخلية، وكأنه عاش محاكمة تخصه هو لا بطله.
كان يعرف أن الإنسان مخلوق هش، يعيش بين خطيئتين: تلك التي يرتكبها، وتلك التي يخشاها.
مر قرنان، وما زالت كلماته تسير على الأرض كأنها لم تكتب بعد.
كأن كل زمن يحتاج دوستويفسكيه الخاص ليذكره أن الوعي لعنة، وأن الخلاص ليس في الطهر، بل في الصدق مع الذات.
مر قرنان وما زال صوته يتردد، لا في الكتب فحسب، بل في ضمائر كل من جرب أن يسأل: لماذا نعيش؟ ولماذا نتألم؟
دوستويفسكي لا يموت، لأنه كتب عن الإنسان، والإنسان لا يزال يتأرجح بين خلاص موعود وسقوط لا ينتهي
ميلاد سعيد أيها العبقري الخالد، يا من جعلت من الحبر سكينا، ومن الأدب مرآة تعري العالم من زيفه، وما زالت كلماته تمشي بيننا ببطء وثبات، كأنها ولدت اليوم.
ذلك لأن دوستويفسكي كتب عن الإنسان، والإنسان لم يتغير؛ ما زال يبحث عن معنى الخلاص وسط صراعاته الداخلية، وما زال يخاف أن ينظر في مرآته الحقيقية.
إن ميلاد دوستويفسكي هو ميلاد الأدب كوعي وجودي، لا كفنٍ للتسلية. فهو الذي جعل من الرواية فلسفة، ومن الألم طريقا إلى الفهم، ومن الوجع وسيلة لاكتشاف الله في داخل الإنسان. وعلمنا أن أعظم رحلة هي تلك التي نقوم بها نحو أعماق ذواتنا.. يالله كيف له أن يمزج كل هذا في إطار محبوك ويسقطه داخل دفتي رواية.
اتعلمون سان بطرسبورغ… المدينة التي أحلم بزيارتها، لا لأتأمل مبانيها فقط، بل لأتتبع فيها خطوات دوستويفسكي وزملائه، أولئك الذين جعلوا من شوارعها الباردة دفاتر للفكر، ومن أزقتها الضيقة مسارحَ لصراع الروح والعقل.
***
ابتهال عبد الوهاب






