شهادات ومذكرات
سامح مرقس: سلامة موسى فارس التنوير الذي نسيناه
(كان سلامة موسى ضميرًا حيًّا في زمن الخضوع، وصوتًا عقلانيًّا في زمن الأساطير، ومشروعًا نهضويًّا في زمن التبعية)... غالي شكري.. سلامة موسى وأزمة الضمير العربي
برز سلامة موسى في النصف الأول من القرن الماضي مفكرًا استثنائيًا تجاوز عصره، مقدما للشعب المصري مشروعًا قائمًا على العلم والحرية والعدالة الاجتماعية. واليوم، نحن بأمسّ الحاجة إلى إحياء أفكار هذا المثقف الموسوعي، وازالة أي عوائق تراثية تعيق التقدم الثقافي والحضاري.
يتناول المقال باختصار حياة سلامة موسى، ومشروعه الثقافي، ومعاركه الفكرية.
وُلد سلامه موسي في 4 فبراير 1887 في قرية قرب الزقازيق، لعائلة مسيحية قبطية. تُوفي والده وهو في الثانية من عمره. التحق بالمدرسة الابتدائية في الزقازيق، ثم انتقل إلى القاهرة، حيث درس المرحلة الثانوية في المدرسة التوفيقية، ثم المدرسة الخديوية. حصل على شهادة البكالوريا عام 1903.
سافر إلى باريس عام 1906، ثم الي انجلترا، حيث أتقن اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وتعرّف على كبار المفكرين والفلاسفة. انضم إلى الجمعية الفابية والجمعية العقلانية في إنجلترا، والتقى بجورج برنارد شو. عاد إلى مصر عام 1910 ليبدأ نشاطه الثقافي ويشارك معارفه مع أبناء وطنه.
نشر أكثر من أربعين كتابًا، وكتب مئات المقالات، وترأس تحرير مجلتي "الهلال" و"المجلة الجديدة". تتلمذ على يديه نخبة من أهم الكُتّاب والمفكرين المصريين. كان يحلم بنهضة فكرية مصرية، ويدعو إلى التقدم الصناعي. أصبح مستشارًا لمكتبة جمعية الشبان المسيحية عام 1933، وكان يعقد لقاءً أسبوعياً للشباب من مختلف شرائح المجتمع، حيث كانوا في جو هادئ يناقشون مشاكلهم. كانت هذه الندوة الأسبوعية من أبرز المنابر الفكرية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، وأسهمت في بلورة أفكاره التي ظهرت آثارها في كتبه مثل "تربية سلامة موسى" و"المرأة ليست لعبة في يد الرجل“.
انضم سلامة موسى إلى حزب الوفد بعد تولي سعد زغلول قيادته، إيمانًا منه بأن الاستقلال السياسي لا بد أن يقترن باستقلال ثقافي واقتصادي. وسُجن عام 1946 لانتقاده النظام الملكي. خاض خلال حياته معارك فكرية بسبب مواقفه من اللغة العربية، وأفكاره التقدمية، وكتاباته حول الهوية المصرية والاشتراكية.
توفي في 4 أغسطس 1958 بالقاهرة عن عمر ناهز 71 عامًا، تاركًا إرثًا فكريًا ضخمًا. وقد مضى على رحيله 67 عاماً، ومع الأسف نسيه الوجدان المصري.
تشكّل مشروع سلامة موسى الثقافي من خلال احتكاكه المباشر بالفكر الأوروبي؛ تأثر بفولتير في الدفاع عن حرية الفكر، وبداروين في تفسير تطور الحياة، وببرنارد شو في الاشتراكية الفابية والمسرح التربوي، وكارل ماركس في الاقتصاد والسياسة.
كان تأثير شبلي شميل الطبيب والمفكر اللبناني، على سلامة موسى عميقًا، إذ اعتبره موسى من أوائل من مهدوا الطريق أمام الفكر العلمي والعقلاني في العالم العربي، ومن أبرز دعاة الاشتراكية ونظرية التطور. ترك شميل بصمة واضحة في مشروع سلامة موسى التنويري.
ركز مشروعه الثقافي علي التفكير العلمي كوسيلة للتقدم، وحريه الفكر والديمقراطيه، وان التطور هو سنة الحياة، وان الصناعه والاشتراكيه هما الهدف. كما دعا الي تطوير التعليم، وتحرير المرأة، وان يكون الأدب للشعب وليس للنخبه. ومن اهم اقواله: ”إن أسوأ ما أخشاه ان ننتصر على المستغلين ثم نعجز عن انهزم فكر القرون الوسطى في حياتنا“، و “حرّروا العقل، فالعقل هو البداية.”
كانت النهضه عند سلامه موسى تعني التطور والتقدم والاعتماد علي العلوم الحديثه، وتطور المجتمع و الثقافه. وكان متحمسًا أيضًا لأمجاد مصر القديمة، واعتبرها حافزًا للتقدم والرقي في مصر، وليس دعوة للعودة إلى الماضي.
تعرض سلامة موسى لهجوم واسع من التيارات الفكرية المختلفة لدعوته إلى تبسيط اللغة العربية لصعوبة تعلم قواعدها، وعجزها عن التعبير عن المعرفة العلمية الحديثه، وانفصالها عن الواقع المصري. ودعا إلى اللغة العامية لأنها أكثر تعبيرًا عن الهوية المصريه. وقد تعاطف مع موقفه من اللغة العربية بعض المفكرين الكبار مثل لطفي السيد ولويس عوض.
روّج سلامه موسي للاشتراكية الفابية، ودعا إلى العدالة الاجتماعية، فاتُّهم بالسعي إلى طمس الثوابت الاجتماعية. كما كتب عن تحرير المرأة، منتقدًا ختان الإناث، وزواج الأطفال، وقيود الحجاب. وقد اعتُبر هذا انتهاكًا للأعراف، وأثار انتقادات من المحافظين. ولم تكن هذه المعارك شخصية، بل كانت تعبيراً عن الصراع بين التحديث الجذري الذي يمثله موسى والمحافظة النقدية التي يمثلها خصومه.
وكان من المقربين لسلامه موسي لوىس عوض وكانت علاقة تأثير فكري عميق.وصفه لويس عوض بأنه “الرائد الذي أيقظ العقول ” واعتبره من أوائل من فتحوا له ابواب الفكر الحديث. انبهر عوض بتواضع موسي رغم موسوعية علمه، وقال عنه إنه كان غزير المعرفة دون تكلف، وعندما يبدأ بالكلام، تتدفق معرفته الموضوعية، ويتجلى ذكاؤه الحاد. من خلال موسى، تعرّف لويس عوض على الاشتراكية الفابية، ونظرية التطور، وبرنارد شو، وأبرز المفكرين والفلاسفة والكتاب الأوروبيين. كما شجعه على قراءة الأدب الروسي والاهتمام بالحضارة المصرية القديمة، وأهداه كتاب "فجر الضمير" لعالم المصريات الأمريكي جيمس برستد. ادخل موسى في حياه لويس عوض التنظيم وكان مرشده الفكري وأشرف على كثير من قراءاته باللغة الإنجليزية. واعجب لويس عوض بصراحه مواقف موسي الفكريه، بينما الكثير من المثقفين يداورون ويناورون فيما يكتبون خوفا من المؤسسة الاجتماعية.
وكان لسلامة موسى أيضاً تأثير عميق في التكوين الأدبي والفلسفي لنجيب محفوظ، لدرجة أن محفوظ وصفه بـ"الأب الروحي" واعتبره من أهم الشخصيات التي شكلت وجدانه في شبابه. بدأت علاقتهما في ثلاثينيات القرن العشرين، وقرأ بعض كتب سلامة موسى مثل
”هؤلاء علّموني“ و“مقدمة السوبرمان“، وتأثر بأفكاره حول العلم، الحرية، والإنسان الجديد. انضم محفوظ إلى ندوة سلامة موسى الأسبوعية في جمعية الشبان
***
بقلم استاذ دكتور سامح مرقس






