شهادات ومذكرات

علاء اللامي: الجواهري شاعر العراق والعربية الأكبر أيا كانت جذوره القومية (2)

نواصل في هذا الجزء من المقالة مناقشة ما أثير حول قومية الشاعر العراقي الراحل محمد مهدي الجواهري عبر منهجيتنا المزدوجة والتي تعتمد التحليل النقدي المنهجي والتوثيق التأريخي. وسأبدأ بهذا التصحيح فقد ذكرت في الجزء الأول من المقالة أن الكاتب جعفر الخليلي "خلد مأساة المُهَجَّرين العراقيين الفرس والكرد الفيلية من العراق في عهد النظام السابق. وحكى هو شخصياً عن مأساته العائلية وتهجيره من بلده العراق وكيف افترس ذئب والدته العجوز في البرية وهم منفيون على الحدود بين العراق وإيران في رواية بعنوان "قرى الجن". والصحيح أن ذلك الحدث ورد ذكره في رواية "سلاما يا غريب" لابن أخيه عبد الغني الخليلي والصادرة سنة 2002، وليس في رواية "قرى الجن" لعمه جعفر الخليلي.

وثيقة نجفية مهمة: وبالعودة إلى جذور عائلة الجواهري نسجل أن الأكيد، والموثق تماما هو أن جذور هذه العائلة القديمة تعود إلى مدينة أصفهان وسط إيران. ولكن الوثيقة التي بين أيدينا لا تتكلم عن أصولها القومية إنْ كانت فارسية أو عربية مع أن الوجود العربي في تلك والعهود وخاصة في العهد العباسي كان كثيفا جدا ويشكل الغالبية السكانية في بعض المناطق كإقليم خراسان وفي الجنوب. لنقرأ ما كُتب في سيرة مبتكر لقب "الجواهري" الشيخ محمد حسن بن باقر المعروف بصاحب الجواهر، على صفحة وكالة أنباء الحوزة العلمية في النجف الأشرف (واحة – بلا رقم أو تأريخ نشر)، ونقرأ: "لم ترد معلومات عن سنة ولادته بالتحديد، لكن الشواهد والقرائن تشير إلى أنّه ولد 1202 هـ (تقريبا 1787م) في النجف، وهناك أقوال أخرى في هذا المجال...". وعن نسبه نقرأ : "هو الشيخ محمد حسن بن باقر بن عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحيم الشريف الأصفهاني، كان أجداده يعيشون في أصفهان، وقد غادر جده الثالث الشيخ عبد الرحيم الشريف مدينة أصفهان، وتوّجه إلى النجف وأقام فيها. وأبوه محمد باقر النجفي، وأمه من أحفاد الشيخ أبو الحسن الفتوني العاملي، وينحدر نسبها إلى السادة العذاريين المعروفين بآل حجاب وهي أسرة علمية، فالشيخ محمد حسن كان نقطة التقاء الأسر العلمية من جهة الآباء والأمهات".

إذن علاقة العائلة الجواهرية بجبل عامل في لبنان هي علاقة مصاهرة فمن هناك جاءت أم الشيخ حسن الجواهري العلوية العذارية. ولكننا ينبغي أن نتساءل عن لقب اللافت "الشريف" الوارد في سلسلة نسب الشيخ فما المقصود به؛ هل هي إشارة محتملة إلى نسب هاشمي كما دأب الشرفاء في الجزيرة العربية والمغرب العربي وشرقي مصر على استعمال كلمة الشريف لتكون خاصة بهم؟ لا نرجح ذلك لأنها لو كانت تعني النسب الهاشمي لفاخَرَ به أفراد العائلة الجواهرية ولما تخلوا عنه.

وقد أفادني الأستاذ الشاعر محمد الأمين الكرخي بهذا الخصوص بالمقتبس التالي الذي يؤكد ترجيحي السالف: "آل شريف من الأسر العلمية الشيعية القديمة في أصفهان والنجف. تنحدر هذه الطائفة من ذرية آغا عبد الرحيم شريف الكبير، من كبار علماء الإمامية في أوائل القرن الثاني عشر الهجري، الذي هاجر من أصفهان إلى النجف الأشرف واتخذها مسكنًا دائماً له. وتعتبر أسرة آل الجواهري فرعاً من هذه السلسلة. يصف الشيخ جعفر محبوبة هذه الأسرة قائلاً: "من الأسر العلمية المشهورة القديمة التي ينتهي نسبها وأجداد الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر إليها، ولهم مصاهرة شريفة مع السادات الخاتون آباديين، ولقب الشريف اشتهر على هذه السلسلة بسبب هذا الزواج/ گروه نويسندگان، (1391) دائرة المعارف تشيع، تهران: حکمت، چاپ اول".

هل الجواهري إيراني وليس فارسيا؟ إن ما قيل عن وجود عائلة الجواهري في إيران لخمسة قرون قادمة من جبل عامل في لبنان، يمكن أن يؤخذ بجدية في ضوء ما يقدم من وثائق وأدلة تؤكده. أما في حال عدم وجود وثائق وأدلة كهذه، فيمكن أن نتعامل مع ما قيل كفرضية قد تصح وقد لا تصح. فإذا صحت يمكن لنا، من منطلق مبادئ المواطنة الحديثة، أن نعتبر القدوم من جبل عامل في لبنان وما يترتب عليه من عروبة الأصل، ومن ثم الإقامة لخمسة قرون في إيران، وبحساب الأجيال (حيث الجيل يساوي 33 عاما) تكون العائلة قد عاشت في إيران لخمسة عشر جيلا، وبهذا تكون قد اكتسبت المواطنة والهوية الإيرانية وليس القومية الفارسية. وبهذا المعنى يكون الجواهري من أصول إيرانية شأنه شأن الملايين من العرب الإيرانيين في إقليم عربستان "خوزستان" اليوم.

حين سُئل الشاعر محمد مهدي الجواهري نفسه ذات مرة سؤلاً مباشراً إنْ كان إيرانيا قال: "أنا لو كنت من أمة فارس لافتخرت بذلك". وهو هنا ينفي كونه من أمة فارس ولكنه يفتخر بالانتماء إليها لو صح عنده. وهذا كلامه هو، ولا ينبغي لنا نقدياً أن نسلم به حرفياً، فلماذا توقف المتحدث عند النفي ولم يفتخر بأصله العربي مباشرة لوكان عربيا؟ أعني لماذا لم يجب مثلا بالقول: لا، أنا لستُ فارسياً رغم إنني افتخر بأمة فارس ولكنني عربي؟ فالسؤال المكرر بصيغة أخرى هنا هو؛ لماذا لم يصرح الجواهري بنسبه العربي أبدا في أي مناسبة كانت؟ لماذا لم نجد أية إشارة إلى عروبة نسبه أو سلسلة آبائه كما هي الحال مع شعراء وأعلام عراقيين آخرين قدماء ومحدثين لعل من أبرزهم الشاعر العراقي الفراتي صفي الدين الحلي المولود في القرن الثالث عشر (1277) بحاضرة الحلة عاصمة الإمارة الأسدية المزيدية فنسبه معلن ومعروف فهو صفي الدين عبد العزيز بن سرايا بن علي بن أبي القاسم السنبسي الطائي؟

خلاصات: وعليه، أعتقد أن مسألة عراقية الشاعر الجواهري ليست موضع تشكيك أو قدح، فهي صفة أكيدة وأصيلة له وفيه، أما الأصل القومي له أو لغيره سواء كان فارسيا أو عربيا أو غير ذلك، فهو مسألة شخصية بحتة، شأنها شأن المذهب والدين، ولا ينبغي أن تهم أحدا سوى حاملها والمؤرخين والنقاد الذين يتصدون لكتابة سيرته أو أبحاث عنه. وصاحب الشأن هو مَن يمكنه ويحق له أن يؤكدها أو ينفيها كمعلومة، ومن حقنا نحن أن نبحثها نقدياً في محاولة لمقاربة الحقيقة بغض النظر عما يقوله هو وفي ضوء المنهج البحثي العلمي وما يتوفر من وثائق صحيحة.

بمعنى إننا حين نتناول الأصل القومي لشخصية مشهورة وعامة من وجهة نظر نقدية وتأريخية فينبغي أن نتناولها بما يتوفر حولها من أدلة وإثباتات ملموسة مساندة أو نافية ومناقشتها بحياد وموضوعية بغض النظر عما يقوله الشخص المعنى بالبحث سواء كان شاعرا أو لم يكن. والحال إنَّ الشاعر الجواهري لم يقل عنه نفسه إنه من أصول عربية، ولم تكن قضية الأصل القومي آنذاك في النصف الأول من القرن الماضي في العراق قضية ملحة وذات أهمية كبيرة، بل قال إنه شاعر عراقي يفخر بكونه شاعر العرب الأكبر. وقد قرأت الكثير مما كتبه الجواهري أو ما كتب عنه فلم يرد في ما قرأت أنه قال إنه عربي الأصل، وأرجو ممن لديه ما يفيد العكس أن يقدمه لنا مشكوراً مع التوثيق الأكاديمي الدقيق إن أمكن ذلك، وسأنشر ملحقاً بكل ما وصلني وسيصلني من تعقيبات وإضافات بعضها من أحد أفراد عائلة الشاعر وأصدقاء آخرين قريبا.

وكخلاصة، وعذرا للتكرار أقول: الجواهري شاعر عراقي عظيم أولا، وهو من أصول إيرانية بدليل عيش أجداده في إيران لخمسة قرون، وهذا معترف به من قبل أسرته وموثق. أما بالنسبة لأصله القومي إن كان فارسياً أو غير فارسي فليس لدينا - في الوقت الحاضر على الأقل - وسيلة علمية مضبوطة للتأكد منها في غياب أي دليل وثائقي رصين ومعترف به، فحتى التحليل الجيني الوراثي لا يمكن أن يثبت فارسيته في منطقة شهدت اختلاطا قومياً هائلاً وحضوراً قبلياً عربياً كثيفاً في القرون الخوالي التي تلت انهيار الإمبراطورية الفارسية الساسانية وقيام الإمبراطورية العربية الإسلامية. أما الفرق بين الإيرانية والفارسية فهو أن الإيرانية نسبة إلى بلد يدعى إيران تعامل كجنسية وهي نسبة ممكنة وثابتة وتشمل الفارسي وغير الفارسي. وجذور الجواهري عندي إيرانية لا شك في ذلك، وهو ليس عربياً على الأرجح وليس بالقطع بانتظار أن يظهر دليل جديد يؤكد فارسيته أو لا يؤكدها مستقبلا.

الشطب على عروبة العراق والدفاع عن عروبة الجواهري: وأخيرا، فإنَّ من المستهجن حقا، أن ينبري بعض إعلاميي أحزاب الفساد والقنوات التلفزيونية التجارية في العراق، ممن يكررون المعلومات والمقولات القديمة والتي تهرأت من كثرة استعمالها، للدفاع عن عروبة الجواهري أو غيره من "أعلام طائفتهم الأكبر" مع ان بعضهم من السلفيين المتعصبين يكفر الجواهري أو يفسقه في ضوء ما عرف عن حياته اليومية المتحررة، ولكنهم يخرسون تماماً ويبتلعون ألسنتهم طوعاً حين يشطب ساستهم الطائفيون على عروبة العراق، العراق العريق؛ موطن الجزيريين "الساميين" الأوائل منذ الأكاديين وحتى العرب العباسيين الذين أشادوا أعظم إمبراطورية عربية إسلامية عاصمتها بغداد في منتصف القرن الثامن الميلادي وظلت قائمة حتى عام 1258م، ليُعلوا من شأن هوياتهم الفرعية الطائفية أو العشائرية حين شطبوا عليها في دستور سنَّته مجموعة من الساسة الهواة والجهلة بالفقه الدستوري ورجال الدين الكسالى، فاعتبروا العراق بلدا متعدد القوميات، رغم أن نسبة العرب فيه تفوق 85 بالمائة، في حين لا تصل نسبة الفرس في إيران إلى 50 بالمائة ومع ذلك فهوية إيران فارسية يدافع عنها الجميع، ولا تصل نسبة الأتراك في تركيا إلى 65 بالمائة ومع ذلك فهوية تركيا تركية طورانية غير قابلة للتنوع والمشاركة!

إن الكتبة ذوي النزوع الفئوي والطائفي الذين يشنعون على المدافعين عن هوية العراق الحضارية العربية ويتهمونهم بأنهم بعثيون و"قومجية"، يريدون أن يقزِّموا تاريخ العراق الألفي العظيم ويجعلوه تأريخاً لطائفتهم الأكبر فقط، وأعلام العراق البارزين أعلاماً لطائفتهم الأكبر حصراً، ويقدحون في المقابل بالرموز العراقية التي تنتسب للطوائف الأخرى بعيدا عن أية منهجية علمية نقدية رصينة وموثقة طالما ظلوا يتمتعون بالمال السحت الذي انتهبوه من أفواه فقراء العراق من جميع الطوائف والقوميات باسم المحاصصة الطائفية والعرقية والوجاهة الفقاعية تحت ظلال الهيمنة الأميركية! وهؤلاء كما قلنا هو الوجه الآخر للطائفيين من الجهة المقابلة الذين مثلهم ساطع الحصري فشككوا بعراقية الجواهري وحاربوه طويلا!

فليرقد الجواهري العراقي الخالد، شاعر العرب الأكبر، بسلام، فأصله وفصله قد ترسخ في جمالية شعره وفي حب العراقيين والعرب له وهذا يكفيه فخرا.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم