أقلام ثقافية

نسرين إبراهيم: امرأة تفوح منها رائحة بارود ومسك

في وادي الرافدين، حيث وُلدت أولى الحروف على ألواح الطين السومرية، لم تكن المرأة مجرد ظلٍ في التاريخ، بل كانت حارسة الحكمة، الأمينة على سر البقاء، وذاكرة الأرضوإذا كان الماضي قد نقش حضورها في الطين، فإن الحاضر يعيد رسم هذه الأسطورة في صورة المرأة العراقية المعاصرة، التي لم تحمل الحكمة في لوح، بل في صلابة ظهرها وفيض عطائها، هي ليست مجرد امرأة، بل هي الوتد الذي يشد خيمة العراق في وجه الرياح العاتية، ويمنعها من الانهيار.  

بداية الحكاية

(من ضلع أعوج إلى وتد ثاب)

حكاية صمودها تبدأ من الجوع، لكنها لم ترضَ أن يكون الجوع هزيمة، هي الأم التي شدّت بطنها الخاوي، لكنها أصرّت أن تُرضع أبناءها الكرامة قبل الحليب. غرست فيهم بذور الشجاعة، وأورثتهم أنفةً لا تنكسر أمام الموت، لأن الحياة بلا كرامة ليست حياة، كانت مدرسة قائمة بذاتها، تخرّج منها رجال لا يحنون رؤوسهم إلا لله وللوطن.  

وحين غاب الزوج شهيدًا، لم تنهَر ولم تستسلم، تحولت من ضلع أعوج إلى وتد ثابت يشدّ الخيمة المهددة بالانهيار، وقفت مكانه، وأمسكت بأركان البيت بيديها. وعندما جاء دور الأبناء، قدّمتهم للوطن، لا كخسارة، بل كتتويج لما زرعته فيهم. دماؤهم سقت الأرض التي نمشي عليها اليوم، فكانت هي أم الشهيد، التي تفوح منها رائحة البارود والعطر في آن واحد.  

بعد أن قدّمت الغالي والنفيس، رفضت أن تُركن إلى زاوية النسيان، عادت لتكمل الرسالة، لتربي الأحفاد، وتضيء لهم الطريقتجدها في السوق تحت الشمس، أو عند فرن الطين، أو في غرفة صغيرة تخيط لتوفر لقمة العيشهي الأرملة، هي المفجوعة، لكنها أيضًا الجدّة التي جبرت خواطر أحفادها، وأعطتهم الدفء الذي حُرموا منه.  هذه المرأة التي عبرت الحقب الثلاثة، متكئة على عصا صبرها، هي الأسطورة العراقية الحيّة التي لم نُنصفها بعد.... الوتد الذي شدّ البيت وشدّ الوطنتستحق أن يُرفع لها تمثال من الاعتراف والإنصاف، لا من الحجر.....

فلننظر بعمق إلى هذا الوتد، لنفهم أن صمود العراق واستمرار خيمته في وجه العواصف، ما هو إلا انعكاس لصلابة قلبها وسرّ حكمتها .... (حارسة الحكمة...اكملت معنى التضحية حين جعلته اكبر من الانتماء الضيق ....)

إنها بحق حارسة الحكمة... لم تسأل يومًا عن اتجاه المعركة، ولم تُجزّئ الوطن إلى أبناء الجنوب وابناء الغرب، ولم تُفرّق بين مذهب وآخر، ترى العراق بيتًا واحدًا، وخيمة واحدة، وأبناءً يذودون عنه جميعًا.

يُقال عنها إنها ناقصة عقل، وهي التي حملت العقل كله في قلبها، كيف تُنقص وهي التي أكملت المعنى حين جعلت التضحية أكبر من الانتماء الضيق؟

إن الاعتداد بها ليس مجرد واجب أخلاقي، بل هو اعتراف بعمق الحكمة التي جسّدتها

فهي التي علّمتنا أن الكرامة لا تُجزّأ، وأن التضحية لا تُقاس بالانتماء، بل بالوفاء للأرض

هي التي جعلت من دموعها نهرًا من الكبرياء، ومن صبرها جدارًا يحمي البيت، ومن حكايتها درسًا للأجيال القادمة.

الاعتداد بها هو أن نرفعها إلى مقامها الحقيقي: مقام الوتد الذي شدّ الخيمة، مقام حارسة الحكمة التي لم تكتب على ألواح الطين فقط، بل كتبت على وجوه أبنائها وعلى ذاكرة الوطن كله.

***

د. نسرين إبراهيم الشمري

 

في المثقف اليوم