أقلام ثقافية
خلود بن عبد الله: الفيلم الحقيقي يُعرض في غزة... والبطل يُقتل في النهاية
في عالمٍ تحكمه مبادئ الليبرالية، حيث التنافس في السوق الاقتصادية الحرة بلغ أشدّه، يسعى الجميع إلى الربح وزيادة الإنتاج والمردودية. فتحوّلت الوجهة المركزية للعالم إلى من يملك أكثر، ويفكّر بأنماطٍ لا تزيد إلا من اتساع رقعة المجاعة الاقتصادية.
في مقابل ذلك، تغيب الإنسانية وتضمحلّ قيمها النبيلة. وأكبر مثال على ذلك ما يحدث في غزة من تجويع ممنهج، هدفه القضاء على الشعب الفلسطيني ومحو هويته القومية.
لماذا، أيها العالم، ألا تشعر بالخزي؟ ألا تشعر أن هناك بقعة من أرضك قد تلونت بالدماء بدلًا من زُرقة الأنهار واخضرار الأعشاب؟
ألا تشعر بالذنب، وأنت ترى آلاف الأطفال يُدفنون كل يوم دون غذاء؟ لقد أصبحت أمعاؤهم كأغصان الأشجار، متشابكةً من شدة الجوع والحرمان.
ماذا يحدث لك، أيها العالم؟ ألا تحرّك ساكنًا؟ ألا تفيض بحارك غضبًا؟ ألا تهبّ رياحك زوبعةً مدمّرة، حزنًا على ضحايا الجوع والحرب؟
ألن تستيقظ بعد، أيها العالم الواسع؟ ألن تهتزّ الطبيعة رافضةً بشاعة ما يحدث؟ أم أنك لا تستشعر آهات هذه البقعة البريئة التي دمّرها الاحتلال، وشوّه كل معلمٍ جميل فيها؟
نحن اليوم نكتب هذه الكلمات ونبكي حسرةً وألمًا على أطفالٍ جاؤوا إلى هذا العالم، فلم يجدوا فيه أبسط حقوقهم المعيشية. لم تعد للحياة ولا للطعام أي نكهة، والغزّيون يحترقون بقذائف الجوع. أليس هناك أعظم وأقسى من حربٍ نفسية كهذه؟ أن تموت ببطء، دون طعام، في أرضك، أرض الزيتون والليمون، أرض الخبز وزيت الزيتون، أرض الخير التي حُرمت من خيرها!
وأمام هذا المشهد، تُصوَّر هذه الصرخات الموجعة، ويستكمل الناس حياتهم وكأنهم يشاهدون فيلمًا مأساويًا. لا يستطيعون المساعدة، يكتفون بحجز التذاكر للمشاهدة، والبكاء إن لامس الألم قلوبهم، لا أكثر.
لكن الواقع أبعد ما يكون عن التمثيل، لأنه حقيقي، نابض، مؤلم، ينبض من صميم اللحظة.
هل جرّبت يومًا أن تشاهد فيلمًا من بدايته حتى نهايته، حيث تكون النهاية ذات طابعٍ مأساوي؟
تشعر حينها بنقمةٍ في داخلك، رغم أن ما شاهدته مجرّد تمثيل، فتجد نفسك تقول: لماذا اختار المخرج هذا السيناريو؟ لماذا لم ينتصر صاحب الحق؟
يخاطبك صوت براءة الطفولة في داخلك، بصوته الساذج : "أليس من المفترض أن يكون البطل، صاحب الحق، هو من يفوز في النهاية ويتغلّب على الشر؟"
لكن، لا يا صديقي... لا تُحمّل المخرج وحده النقمة، ولا تلُم الخيال، فالحياة نفسها في غزة باتت تسير وفق سيناريو أكثر قسوة.
في هذا العالم، هناك طبقة من البشر لا يأخذون من الإنسان سوى مظهره البيولوجي. أما في صميم قلوبهم - إن وُجدت لهم قلوب - فهي كالحجارة، أو أشد قسوة.
همهم الوحيد هو زيادة الأرباح، وتكديس الثروات، ورفع المردودية. يظهرون أمام الكاميرات والصحف بخطابات إنسانية تُستدرّ بها الدموع، ثم يُلقون بها في مجاري القمامة فور انتهاء التصوير.
وحين توزّع جوائز الإنسانية، تُمنح لهم، أولئك المتسبّبين في الهلاك، لا للضحايا.
وفي نهاية هذا الفيلم المأساوي، يموت البطل، ذاك الذي قاوم بشرف، وقارع القوى الطاغية وحده، دون خريطة، دون دليل، ودون نهاية تُنصفه .
لماذا أيها المخرج، ألا يعجبك البطل صاحب الحق، فتختار بدلاً منه الرجل الشرير، صاحب البدلة السوداء والقبعة المظلمة، ذاك الذي دعس بقدميه لعبة الرضيع الصغيرة فحوّلها إلى أشلاءٍ مبعثرة؟
أليس هو نفسه من أحرق بيوتهم وأشعل النار فيها وهم نيام، في غفلةٍ من الليل؟
أليس هو من سكب الدواء في الأرض حتى تشتدّ أوجاعهم؟
أليس هو من سرق القمح والخبز والماء والملح لتجويعهم، فتسبّب في ارتقائهم شهداء، وجعل عروقهم تيبس من شدّة الجوع، وهزلت عظامهم حتى صارت تُشبه دمى الخشب؟
لماذا، أيها المخرج؟
هل الذنب ذنبك لاختيارك نهايةً غير عادلة، أم هو ذنب العالم الذي لا يبوح بصوته، ولا يستشعر آهات الجوع والألم؟
أليس هذا العالم هو نفسه الذي تزيد خيراته الطبيعية يومًا بعد يوم؟ تُحقّق فيه الأرباح، وتُبنى المصانع، وتُنتج أجود أنواع الطعام واللباس وكل ما يحتاجه الإنسان، ثم يظل صامتًا في النهاية؟
من يتحمّل الذنب؟
هل هو الصمت العربي الذي لا يُبالي، بحجم الكارثة التي تقع في الشرق الأوسط؟
ما هذا التاريخ، أيها العرب؟
ألا يُحرجكم في مدوّنتكم التاريخية العريقة أن تتعرّض أرض فلسطين لهذا الحرمان المشروع من الغذاء، وأنتم من كنتم أهل الجود والكرم، والقدوة في القتال والحرب؟
ما كُتب عنكم في دفاتر الشعر تشهد عليه الوقائع والأحداث،
أليس محرجًا أن يواصل العدوان سياساته المستفزة على أرض الأجداد، ومنبع الديانات، بينما هناك منكم من يعرض أشهى الأطباق على صفحات "الإنستغرام" و"فيديوهات التيك توك"؟
أليس محرجًا أن يُكتب بخطوطٍ حمراء عريضة في مدوّنتكم التاريخية دماءٌ سالت من الأرض الشقيقة التي بجانبكم؟
أم أن الذنب يقع على المنظمات التي تُعنى بحقوق الإنسان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي وضعت حدودًا للقهر هي في الأصل منتهية الصلاحية، عاجزة، غير قادرة على وضع حدٍّ لأي شيء؟
أم أن الذنب يقع على عاتقنا نحن، الذين نكتب بكل أسى وحسرة وعاجزون في الآن نفسه ؟
إلى من ستُلقى شباك الذنب؟
هل على المخرج الذي اختار الفيلم؟
أم على الرجل صاحب القبعة المظلمة؟
أم على الموقف العربي؟
أم على ضمائرنا الصامتة؟
أم على المنظمات؟
أم على هذا العالم الذي نعيش فوق سطحه ويتجاهل؟
في النهاية وبعد كل هذه الأصوات الداخلية المتراكمة، تخرج من قاعة السينما تشعر بألم دفين، لأن الفيلم الحقيقي يُعرض في أرض غزة، حيث يرقد ملايين الشهداء تحت سجن الاستبداد .
***
خلود بن عبد الله - تونس







