أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

في العديد من مسرحيات ويليام شكسبير، يلعب المحتالون دورا مهما في حبكة القصة ويساهمون في الموضوع العام للمسرحية. غالبًا ما تكون هذه الشخصيات ماكرة ومخادعة وغير شريفة، وتستخدم مهاراتها للتلاعب بالآخرين لتحقيق مكاسبها الخاصة. سواء كانوا أشرارا أو محتالين أو مرحين، يضيف المحتالون العمق والتعقيد إلى دراما شكسبير.

يعد أياغو من أشهر المحتالين في الدراما الشكسبيرية. أياغو هو مناور ماهر يستخدم مكره وخداعه لتحويل عطيل ضد زوجته ديدمونة. يلعب على انعدام الأمان والغيرة لدى عطيل، مما يؤدي في النهاية إلى السقوط المأساوي للبطل. إن خداع أياغو وخيانته تجعله شخصية معقدة ومقنعة، مما يبرز قوة التلاعب في أيدي المحتال.

في مسرحية "واحدة بواحدة"، يلعب لوسيو دور المحتال الذي يقدم تسلية كوميدية في مسرحية مظلمة وجادة. لوسيو ذكي وساخر وغير محترم، يستخدم لسانه السريع للسخرية وانتقاد الآخرين. ورغم أن لوسيو قد لا يكون لديه نفس النية الخبيثة مثل المحتالين الآخرين في مسرحيات شكسبير، فإن دوره كمثير للمشاكل ومصدر للفكاهة يضيف عمقا إلى النغمة العامة للمسرحية.

إن المحتال الآخر الذي لا يُنسى في دراما شكسبير هو السير توبي بيلش من "الليلة الثانية عشرة". السير توبي شخصية سكرانة وصاخبة تستمتع بالشقاوة والفوضى. يشجع صديقه السير أندرو أجوشيك على ملاحقة أوليفيا، مما يؤدي إلى سوء فهم وصراعات كوميدية. إن موقف السير توبي الخالي من الهموم وتجاهله للمعايير الاجتماعية يجعله محتالا محبوبا يضيف الطاقة والفكاهة إلى المسرحية.

في "هاملت"، تجسد شخصية كلوديوس النموذج الأصلي للشرير المحسوب. كلوديوس هو شخصية مخادعة ومتلاعبة يقتل أخاه الملك هاملت من أجل الاستيلاء على العرش. طوال المسرحية، يستمر كلوديوس في التخطيط والمؤامرة ضد هاملت، مما يؤدي في النهاية إلى سقوطه. إن ازدواجية كلوديوس ومكره تجعله خصما هائلا ومحتالا مقنعا في عالم الدراما الشكسبيرية.

كما يستكشف شكسبير مفهوم الخلاص من خلال شخصية إدموند في "الملك لير". يبدأ إدموند كمحتال متواطئ وطموح يخطط للإطاحة بأخيه الشرعي إدغار والمطالبة بميراث والده. ومع تقدم المسرحية، يمر إدموند بتغيير في قلبه ويسعى إلى الخلاص من خلال أعمال البطولة غير الأنانية. يُظهر هذا التصوير المعقد لشخصية محتالة فهم شكسبير الدقيق للطبيعة البشرية وإمكانية النمو والخلاص.

في "تاجر البندقية"، يلعب شايلوك دور المحتال الذي يتحدى الأعراف والتوقعات المجتمعية. شايلوك هو مقرض أموال يهودي يواجه التمييز والاضطهاد بسبب دينه. ونتيجة لذلك، يصبح مريرا وانتقاميا، ويسعى إلى الانتقام من أولئك الذين ظلموه. تجعل دوافع شايلوك وصراعاته المعقدة منه محتالا مقنعا يتحدى التصنيف السهل.

في "ريتشارد الثالث"، يجسد الشخصية الرئيسية النموذج الأصلي للشرير الماكيافيلي. ريتشارد هو نبيل قاس وطموح لن يتوانى عن فعل أي شيء للاستيلاء على عرش إنجلترا. يتلاعب ويخدع ويقتل في طريقه إلى السلطة، ويترك وراءه دربا من الدمار. تجعل دهاء ريتشارد وخداعه منه خصما هائلا ومحتالا لا يُنسى في مجموعة شكسبير.

بشكل عام، يلعب المحتالون دورا حاسما في دراما شكسبير، حيث يضيفون التعقيد والعمق والمكائد إلى القصص التي يرويها. سواء كانوا أشرارا أو محتالين أو كوميديين، يتحدى المحتالون المعايير المجتمعية ويستكشفون موضوعات القوة والتلاعب ويقدمون نظرة ثاقبة للجوانب الأكثر قتامة في الطبيعة البشرية. من خلال هذه الشخصيات، يسلط شكسبير الضوء على تعقيدات التجربة الإنسانية ويبرز القوة الدائمة لروايته القصصية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

في فيلمه في الجزء الرابع 2008، لم يكن "رامبو" بطلا امريكيا بريئا، فهو يؤكد لنا ضرورة ان تتدخل امريكا بعسكرها لحل مشاكل العالم بالعنف والقوة، وفي هذه المرة نجده يلجأ للمنشطات كي يفتل عضلاته، ولحيل ما، كي يبقي على هيبته وسطوته.

لا للسقوط ! نعم، للبقاء على رأس العالم ولو بالهورمونات المنشطة!

خلال الحرب الباردة، راحت سلسلة افلام "جيمس بوند"، تروج للقدرات الفذة للمخابرات الغربية في مواجهة المخابرات السوفياتية، وما كان يعرف ايامها بالمعسكرالاشتراكي، وتواصلت هذه النغمة، حتى في بعض الافلام االلاحقة، من نفس السلسلة، التي انتجت بعد انهيارالاتحاد السوفياتي وان بشكل اخر. أن سلسلة افلام "رامبو" الامريكية للممثل والمخرج الامريكي سلفستر ستالوني (مواليد 1946)، والذي بنى احداث فيلمه الاول في عام 1982 على اساس قصة "الدم الاول" للكاتب ديفيد موريل (مواليد 1943)، واصلت الترويج لاسطورة المنقذ الامريكي، المفتول العضلات، الذي لا يهزم، ويمكنه بواسطة العنف فقط تغيير العالم وانقاذ الضحايا وارشادهم الى بناء حياة أفضل. هكذا رأينا الجندي الامريكي السابق في فيتنام "جون جيمس رامبو"، البارع في استخدام مختلف الاسلحة، وفنون القتال، في فيلم "الدم الاول" ـ الجزء الثاني 1985، وثم تابعناه في فيلم "رامبو" الجزء الثالث 1988، جاهزا دائما، ومستعدا للتدخل في الوقت المناسب لانقاذ الضحايا في اي مكان من العالم. سواء كان ذلك في فيتنام التي سبق له وأسر فيها وعاش تجارب مضنية، أو افغانستان التي كافح فيها الشيوعية. عاد لنا جون رامبو في الجزء الرابع 2008، حيث عرض الفيلم في مختلف دول العالم، وذهب بنا هذه المرة الى بورما ليواجهة قوة عسكرية تتلذذ في قتل الناس. ومع عودة جون رامبو في هذا الفيلم، الذي أنتج بعد عشرين عاما من الجزء الثالث، يعود سلفستر ستالوني، للشاشة بأنتاج قيمته خمسين مليون دولار. فنرى جون رامبو يعيش حياة هادئة، لكن يزج به في عملية انقاذ ناشطين في منظمات خيرية، بعد ان تعرضوا للاعتقال والتعذيب، من قبل القوات العسكرية في بورما، فيقرر التصدي لوحده للقوات العسكرية والامنية، لينقذ الضحايا، محققا البطولات والانتصارات المذهلة.

سجلت سلسلة افلام "رامبو"، ناجحا تجاريا بارزا، وحققت ايرادات مذهلة، وغزت دور العرض في كل مكان، وجعلت من ستالوني نجما من الطراز الاول وضيفا مكرما، على كل حدث ومناسبة. ورافق ذلك امتلاء الاسواق بالعاب وملابس مبنية على اساس احداث هذه الافلام، وكل ذلك عمل جنبا الى جنب لترسيخ افكار الافلام، في ذهن المتلقين، خصوصا من منهم في مقتبل العمر. ظهرت سلسلة افلام "رامبو" في عصر مرتبك، يشهد تفاعل الازمة الفكرية والسياسية للانظمة الشمولية، ومن ثم انهيار دولها، وساهمت هذه الافلام في الصراع الفكري الذي كان دائرا بقوة، من خلال ترويجها لاهمية التدخل الامريكي لحل ازمات العالم. فليس غريبا انه في تلك الفترة، بنيت وتعززت قوات التدخل السريع الامريكية، وانتشرت البوارج العسكرية الامريكية في كل مكان من العالم، ومنها مياه الخليج العربي. وهكذا لم يكن تصرف الرئيس الامريكي رونالد ريغان (1911 – 2004)، في ايام رئاسته، عفويا حين مال على احد رجاله خلال لقاء اعلامي، ودون اطفاء الجهاز اللاقط ليقول بصوت سمعه الجميع: (يجب ان نسرع لمشاهدة فيلم "رامبو"). عد الامر، يومها، دعاية كبيرة للفيلم وافكاره، رغم الحديث عن احراج البيت الابيض، بسبب ذلك. لكن، لا شئ، في البيت الابيض، يأتي عفو الخاطر. وهوليوود طوال تاريخها، كانت الحضن الاكبر لصناعة (الحلم الأمريكي) والترويج لافضلية الرأسمالية على غيرها من أنظمة اقتصادية وأجتماعية. فهوليوود اداة بالغة الاهمية لاعادة كتابة التاريخ سينمائيا، وفقا للرؤية الرسمية الامريكية. فمثلا عن الحرب العالمية ضد الفاشية الهتلرية، نجد في الافلام ان امريكا كسبتها بجدارة، وجيشها هو من أنقذ العالم من فاشية هتلر. ولا مكان هنا، لتضحيات ونضالات الشعوب الاخرى التي قدمت الملايين من الضحايا! وهكذا اذ تواصل هوليوود انتاج افلام "رامبو" متباكية على حقوق الانسان والديمقراطية، فأنها تريد ترسيخ تلك الافكار التي تصور امريكا منقذة للعالم. ففي رامبو الجزء الرابع 2008، حاذر جون رامبو ان يذهب الى العراق لتدور احداث قصته هناك، رغم التهاب الساحة كما نعرف. وحسب تصريح سلفستر ستالوني نفسه، في أحد لقاءاته الصحفية، فقد ذكر انه لم يجرؤ على انتاج فيلم تدور احداثه في العراق حيث يوجد الجنود الامريكيون هناك بالفعل. كان على جون رامبو اذن، ان يجد له جغرافية اخرى، للقيام ببطولاته الخارقة وللترويج لافكاره، بعيدا عن الواقع المر الذي يعيشه الجنود الامريكيون في العراق، نتيجة التخبط في السياسة الامريكية، التي يبدو انها في الانتخابات التالية ستأتي برئيس امريكي ديمقراطي، لترقيع الامر( حصل ذلك في الانتخابات العامة الامريكية التي جرت في 4 /11/ 2008 وفاز المرشح الديمقراطي ، باراك اوباما ـ مواليد 1961 ـ مقابل المرشح الجمهوري جون ماكين ـ مواليد 1936ـ، ونصب أوباما رئيساً في 20/ 1/ 2009.)، لكن هوليوود ظلت أمينة لافكارها في تلميع صورة الحلم الامريكي . فالممثل سلفستر ستالوني، وفي الوقت الذي يعرض فيلمه الجديد على شاشات السينما، أعلن وفي الرابع والعشرين من كانون الثاني / يناير 2008، ومن على شاشة قناة "فوكس نيوز" تأييده للمرشح الجمهوري جون ماكين في سباقه للرئاسة. وهو هنا ـ كمناصر للجمهوريين ـ كمن يصدر بيانا جديدا في استمرار الحاجة لتدخل رامبو لايجاد حلول لمشاكل العالم. لكن يتطلب القول ان الممثل ستالوني العجوز، البالغ من العمر 61 عاما، ايام تصوير الفيلم، فاته انه وفي عدة لقاءات صحفية، اضطر للاعتراف بانه في فيلمه الاخير احتاج الى ممثلين بدائل، لتنفيذ بعض المشاهد العنيفة، لحد انه كان يخشى، احيانا، على حياة البدائل من قسوة التنفيذ. وستالوني نفسه ـ وهذه قصة كتب كثيرا عنها في الصحافة ـ اضطر لاستخدام هورمون منشط من نوع "التيستوستيرون"، لفتل عضلاته خلال تصوير الفيلم. واجرت مجلة "التايم" الامريكية لقاءا مطولا معه، دافع خلاله، عن نوع المنشط الذي استخدمه. وفي الوقت الذي اعتبر العديد من النقاد، ان فيلم رامبو الجديد بجزءه الرابع ، لم يقدم جديدا ، سوى المزيد من مشاهد العنف، التي تكاد تكون الابشع في سلسلة افلامه، فأن جون رامبو في عودته الجديدة ، ودون ان يدري يقول لنا ان السياسة الامريكية ، في ترويجها لاستخدام القوة كحل لمشاكل العالم وترويج الديمقراطية، صارت سياسة عجوزا، بحاجة الى بدائل، وهورمونات منشطة لتحسين مستوى ادائها. كأني هنا بامريكا عليها ان تعود الى فلم "روكي" الاول 1976 للممثل ستالوني نفسه، حيث كان كل هم الملاكم روكي بالبوا، يتركز ليس على كسب النزال، بل على الصمود جولات اكثر قبل الهزيمة !

***

يوسف أبو الفوز

تشتهر مسرحيات شكسبير بشخصياتها المعقدة وحبكاتها المعقدة، ولكن هناك جانب من أعماله غالبا ما يتم تجاهله وهو تصوير الجمال. في جميع مسرحياته، يستكشف شكسبير الجوانب المختلفة للجمال وكيف يمكن أن يرفع الأفراد ويفسدهم في نفس الوقت. من الجمال الجسدي إلى الجمال الداخلي، يتعمق شكسبير في الطرق المختلفة التي يمكن للجمال من خلالها تشكيل شخصياته والتأثير عليها.

في العديد من مسرحيات شكسبير، غالبا ما يكون الجمال الجسدي سمة ذات قيمة عالية. يتم وصف شخصيات مثل جولييت في "روميو وجولييت" وكليوباترا في "أنطوني وكليوباترا" بأنها جميلة بشكل رائع، وغالبا ما تؤثر مظهرها على تصرفات من حولها. جمالها آسر لدرجة أنه أصبح محورا مركزيا للحبكة، مما يؤدي إلى عواقب مأساوية حيث يصبح جمالهم نعمة ونقمة في نفس الوقت.

ومع ذلك، يستكشف شكسبير أيضا فكرة أن الجمال ليس مجرد مظهر سطحي. في مسرحيات مثل "حلم ليلة منتصف الصيف" و"الليلة الثانية عشرة"، تظهر شخصيات مثل هيلينا وفيولا أن الجمال الداخلي يمكن أن يكون بنفس قوة المظهر الخارجي. إن ذكائهما وروح الدعابة ولطفهما يجعلهما جميلتين حقًا، حتى عندما لا يتوافقان مع معايير الجمال التقليدية في المجتمع. يتحدى شكسبير الجمهور للنظر إلى ما وراء السطح ورؤية الجمال الداخلي.

على النقيض من ذلك، يتعمق شكسبير أيضا في الجانب المظلم من الجمال، ويستكشف كيف يمكن استخدامه كأداة للتلاعب والخداع. تستخدم شخصيات مثل أياغو في "عطيل" وليدي ماكبث في "ماكبث" جمالها وسحرها للتلاعب بالآخرين من حولهم، مما يؤدي في النهاية إلى سقوطها. يسلط شكسبير الضوء على مخاطر التركيز المفرط على الجمال الخارجي، لأنه يمكن استخدامه لإخفاء طبيعة مظلمة ومخادعة.

يقدم شكسبير الجمال كمفهوم سائل ومتغير باستمرار. في مسرحيات مثل "العاصفة" و"كما تشاء"، تتحدى شخصيات مثل ميراندا وروزاليند المفاهيم التقليدية للجمال من خلال تجسيد جمال أكثر طبيعية وتواضعًا. تميزهم بساطتهم وأصالتهم عن الشخصيات الأكثر بريقا وبذخا، مما يدل على أن الجمال يمكن العثور عليه في العادي والبسيط.

و يستكشف شكسبير فكرة أن الجمال ذاتي ويتأثر بالتحيز الشخصي. تتحدى شخصيات مثل بياتريس في "جعجعة بلا طحين" وبورشيا في "تاجر البندقية" المعايير التقليدية للجمال من خلال تجسيد روح قوية ومستقلة. يكمن جمالهم في ثقتهم وذكائهم، مما يجعلهم جذابين حقًا لمن حولهم. يشجع شكسبير الجمهور على التشكيك في تصوراتهم الخاصة للجمال والتفكير في الأشكال المختلفة العديدة التي يمكن أن يتخذها.

يتعمق شكسبير أيضا في فكرة أن الجمال يمكن أن يكون مصدرًا للقوة والتأثير. تستخدم شخصيات مثل كليوباترا وليدي ماكبث جمالها للتلاعب والسيطرة على من حولها، مما يبرز الطرق التي يمكن بها استغلال الجمال لتحقيق مكاسب شخصية. يحذر شكسبير من مخاطر السماح للجمال بأن يصبح أداة للتلاعب، لأنه يمكن أن يؤدي إلى نتائج مدمرة ومأساوية.

كما يستكشف شكسبير أيضا كيف يمكن أن يكون الجمال عابرا ومؤقتا. يتم تصوير شخصيات مثل جولييت وأوفيليا في "هاملت" بشكل مأساوي كضحايا لجمالهم، حيث يتم تدميرهن في النهاية بسبب التوقعات الموضوعة عليهن. يسلط شكسبير الضوء على عدم ثبات الجمال ومخاطر التعلق الشديد بالمظاهر الخارجية، حيث يمكن فقدها بسهولة وترك الأفراد عرضة للاستغلال.

ويتحدى شكسبير المعايير والتوقعات المجتمعية المحيطة بالجمال. تتحدى شخصيات مثل ديدمونة في "عطيل" وهيرميا في "حلم ليلة منتصف الصيف" الأعراف المجتمعية من خلال تأكيد وكالتها واستقلالها، ورفض تحديدها بمظهرها وحده. يسلط شكسبير الضوء على الطرق التي يمكن أن يكون بها الجمال أداة قوية للتعبير عن الذات وتمكين الذات، مما يتحدى الجمهور لإعادة التفكير في وجهات نظرهم الخاصة حول الجمال والهوية.

إن تصوير شكسبير للجمال في مسرحياته متعدد الأوجه ومعقد، حيث يشمل المظهر الجسدي والصفات الداخلية. ومن خلال مجموعة متنوعة من الشخصيات، يفحص شكسبير الطرق التي يمكن بها للجمال أن يرفع الأفراد ويفسدهم، ويشكل أفعالهم وعلاقاتهم. وسواء كان الأمر يتعلق بالجمال الجسدي أو الجمال الداخلي أو التلاعب بالجمال، فإن شكسبير يتحدى الجمهور لإعادة النظر في تصوراتهم الخاصة للجمال وتأثيره على العالم من حولهم. فالجمال في مسرحيات شكسبير ليس مجرد سمة سطحية ولكنه مفهوم غني ودقيق يتحدث عن تعقيد الطبيعة البشرية وقوة المظاهر.

***

محمد عبد الكريم يوسف

في قلب مدينة الموصل، حيث تتعانق الحضارة مع عبق التاريخ، ينبض مهرجان أبي تمام للشعر العربي الفصيح بالحياة، معلنًا عن تجدد اللقاء بين محبي الشعر وأهله. يحمل هذا المهرجان اسم الشاعر العربي الكبير أبي تمام، ويعد منارةً ثقافيةً بارزةً في العراق، جامعًا الشعراء من مختلف أرجاء الوطن العربي تحت سماء واحدة.

لقد كانت الفكرة الرائدة وراء هذا المهرجان من إبداع الراحل الأستاذ الدكتور عبدالمنعم رشاد، عميد كلية الآداب في جامعة الموصل. أطلق الدكتور رشاد شرارة المهرجان الأولى في السبعينيات، حيث كانت البداية مع دورة عام 1971 التي شهدت تجمعًا لألمع الشعراء والنقاد العرب، مما أطلق ولادة منبر جديد للشعر العربي، يجسد الهوية والتراث والأصالة. وقد شارك في الدورة الأولى أسماء لامعة، من بينهم الشاعر اليمني عبدالله البردوني والشاعر السوري نزار قباني، الذي افتتح الفعاليات بقصيدته الشهيرة "اعتذار إلى أبي تمام"، حيث قال:

"أبا تمام .. أين تكون .. أين حديثك العطر؟

وأين يد مغامرة تسافر في مجاهيل، وتبتكر ..

أبا تمام ..

أرملة قصائدنا .. وأرملة كتابتنا ..

وأرملة هي الألفاظ والصور..

فلا ماء يسيل على دفاترنا..

ولا ريح تهب على مراكبنا

ولا شمس ولا قمر"

مرَّت دورات المهرجان بتطورات متعددة، ففي كل دورة كانت تُضاف بصمة جديدة إلى سجله الحافل. من الدورة الثانية عام 1993، التي تميزت بتنوع القصائد والأساليب، إلى الدورة الثالثة عام 1998 التي اتسمت بالتغني بالأرض والوطن، وصولًا إلى الدورة الرابعة عام 2012، التي أظهرت التجديد في اللغة والمعاني واحتفت بالشعر الحديث.

أما الدورة الأخيرة، التي تزينت باسم الشاعر الموصلي الراحل معد الجبوري، والتي اختُتمت في يونيو/حزيران 2024، فقد كانت استثنائية بكل المقاييس. تميزت بمشاركة واسعة من الشعراء العرب وفعاليات غنية تنوعت بين أمسيات شعرية ولوحات غنائية ومعارض فنية، وانتقلت بين أبرز معالم الموصل مثل مسرح مول آشور في منطقة الغابات، الذي ضاهى مسارح المهرجانات الكبرى بإخراج محترف للفعاليات بقيادة المخرج الموصلي حسان كلاوي وطاقمه، مرورًا ببيت التراث الموصلي وبيت التتنجي الأثريين، وصولًا إلى مقر اتحاد الأدباء والكتّاب فرع نينوى.

حقق المهرجان في دورته الأخيرة نجاحًا باهرًا، مؤكدًا على مكانة الموصل كعاصمة للثقافة والأدب، بمشاركة أكثر من 120 شاعرة وشاعر من العراق والوطن العربي، الذين أضاءوا سماء القصيدة العربية بإبداعاتهم. ويعود هذا النجاح إلى الجهود المتميزة التي بذلتها إدارة إتحاد الأدباء والكُتّاب في نينوى، بقيادة الشاعر الشاب سعد محمد وفريقه، الذين سعوا إلى إظهار الحدث والمدينة بأبهى صورة، وبإشراف المركز العام للاتحاد الذي كان له دور بارز في إنجاح المهرجان على المستويين العراقي والعربي.

إن هذا النجاح لم يكن ليتحقق لولا الدعم الكبير من المؤسسات الثقافية والحكومية، حيث تلقى المهرجان رعاية من وزارة الثقافة العراقية ومنظمات دولية معنية بالثقافة والفنون، مما أثرى الحدث ووسع نطاقه.

يُعد مهرجان أبي تمام للشعر العربي الفصيح جسرًا يربط بين الماضي العريق والحاضر المتجدد، مؤكدًا أن الشعر هو لغة الروح التي لا تعرف الزوال. الموصل، التي تنهض من بين الرماد والدمار، تستحق أن تكون عاصمة للثقافة العراقية كل عام، فهي ولّادة للمبدعين الذين يرعون الثقافة والفن.

وفي هذا السياق، ندعو المختصين في هيأة الاستشاريين لمجلس الوزراء العراقي الموقر ووزارة الثقافة للالتفاتة الجادة إلى المدينة، والأخذ بيد الطاقم الشاب الذي يسعى إلى نفض الغبار عن ماسة الثقافة والأدب، ليعود بريقها المعهود من جديد. فإن نينوى، قلب العراق النابض بالجمال، تستحق الاهتمام والدعم، لتستمر في تألقها وإشعاعها الثقافي ، فقد أعطت الكثير وحان الوقت أن تنعم بإستحقاقها .

***

إيهاب عنان - كاتب عراقي

تمتلئ مسرحيات شكسبير بحكايات الملوك الذين صعدوا إلى السلطة، ثم سقطوا من النعمة بشكل مذهل. إن موضوع صعود الملوك وسقوطهم هو موضوع شائع في جميع أعماله، حيث يسلط الضوء على عواقب الطموح غير المقيد والخيانة وصراعات السلطة. في هذا المقال، سوف نستكشف كيف يصور شكسبير ببراعة صعود الملوك وسقوطهم في مسرحياته، باستخدام أمثلة من بعض أشهر أعماله.

أحد أكثر الأمثلة شهرة لصعود الملوك وسقوطهم في مسرحيات شكسبير هي مأساة ماكبث. في بداية المسرحية، ماكبث هو محارب مخلص وشجاع يُمدح لشجاعته في المعركة. ومع ذلك، فإن طموحه وتأثير زوجته المتلاعبة يدفعانه إلى ارتكاب جريمة قتل الملك والاستيلاء على العرش. ونتيجة لذلك، أصبح ماكبث مستهلكًا بالجنون والشعور بالذنب، مما أدى إلى سقوطه وموته الحتمي. تسلط هذه القصة المأساوية الضوء على الطبيعة المدمرة للطموح غير المقيد وعواقب خيانة القيم الأخلاقية.

في مسرحية شهيرة أخرى، ريتشارد الثالث، يصور شكسبير صعود وسقوط ملك لن يتردد في فعل أي شيء من أجل الوصول إلى السلطة. ريتشارد الثالث هو ملك ماكر وقاس يقضي على أي شخص يقف في طريقه، بما في ذلك أفراد عائلته. وعلى الرغم من تكتيكاته الميكافيلية، فإن حكم ريتشارد لم يدم طويلا حيث هُزم في النهاية في معركة وقتل. تعمل هذه القصة كتذكير تحذيري بمخاطر الطغيان وعواقب الحكم من خلال الخوف والترهيب.

تستكشف مسرحيات شكسبير التاريخية أيضا صعود وسقوط الملوك، مثل هنري الرابع. في هذه المسرحية، يجب على الملك هنري الرابع أن يتعامل مع التمرد والاضطرابات المدنية بينما يكافح للحفاظ على قبضته على العرش. يعيش ابنه الأمير هال في البداية حياة من الفجور والتهور، لكنه في النهاية يرتقي إلى مستوى المناسبة ويثبت أنه خليفة جدير للتاج. من خلال قصة هنري الرابع، يوضح شكسبير تحديات القيادة وأهمية الواجب والشرف في الحفاظ على السلطة.

إن مسرحية الملك لير المأساوية هي مثال آخر على صعود وسقوط الملك في أعمال شكسبير. إن غطرسة الملك لير وعدم قدرته على رؤية ما هو أبعد من غروره أدت إلى سلسلة من القرارات الكارثية التي أدت إلى خسارة مملكته وعقله وحياة أحبائه. تعمل المسرحية كتعليق قوي على عواقب الكبرياء وأهمية التواضع والوعي الذاتي في القيادة.

إن مسرحيات شكسبير عن صعود وسقوط الملوك ليست مجرد سرديات تاريخية بل هي استكشافات خالدة للطبيعة البشرية وتعقيدات القوة والطموح. من خلال شخصياته المقنعة وحبكاته المعقدة، يتعمق شكسبير في أعماق النفس البشرية، ويلقي الضوء على الدوافع والرغبات المظلمة التي تدفع الأفراد إلى السعي إلى السلطة بأي ثمن. إن صعود وسقوط الملوك في مسرحياته بمثابة قصة تحذيرية لكل أولئك الذين يطمحون إلى القيادة، ويذكرنا بهشاشة القوة وأهمية الحكمة والنزاهة في ممارستها.

إن تصوير شكسبير لصعود الملوك وسقوطهم في مسرحياته هو انعكاس للصراع الأبدي على السلطة وعواقب الطموح والخيانة. فمن الحكاية المأساوية لماكبث إلى المؤامرات الماكرة لريتشارد الثالث وتحديات القيادة التي واجهها هنري الرابع، تقدم مسرحيات شكسبير استكشافا دقيقا وعميقا لتعقيدات الملكية. ومن خلال أعماله الخالدة، يذكرنا شكسبير بأن القوة عابرة وأن العظمة الحقيقية تكمن في القدرة على الحفاظ على سلامة المرء وبوصلته الأخلاقية في مواجهة الشدائد.

***

محمد عبد الكريم يوسف

يأتي كتاب المحامي سعدي عبدالله الملالي تحت عنوان (الألعاب الشعبية في القيارة..وشيء من تراثها) الطبعة الأولى ٢٠٢٤، الصادر عن مطبعة ومكتبة تبارك _الموصل، في (١٤٦ صحفة) من القطع الكبير. ليكون إضافة نوعية، ومصدراً جديداً، في الألعاب الشعبية، والموروث الشعبي للقيارة، وريف الديرة .

 وليس بغريب على المؤلف أن يتناول مثل هذا الموضوع المهم، حيث تعود اهتماماته بالموروث الشعبي إلى تسعينات القرن الماضي،بما هو مجايل للمرحوم الباحث التراثي الملا سلطان الوسمي صاحب كتاب (القيارة بين الماضي والحاضر)، ويشاركه الإهتمام بالتراث، وهو في نفس الوقت، ابن مجالس السمر في الدواوين،حيث كان مجلس والده المختار يوم ذاك، عامرا بالربع، والإهتمام بتداول مرويات التراث والنسب، قائما بين رواد المجالس .

وتجدر الإشارة إلى أن الكتاب، يتميز، بتغطيته الشاملة لكل تفاصيل الألعاب التراثية الشعبية، حسب حروف أسمائها الأبجدية من خلال الصفحات ألتي تضمنها الكتاب.

وتأتي قيمة الكتاب التراثية،من كونه جاء، بسرديته الموضوعية، نتاج تأليف كاتب، عاش تفاصيل مفردات الالعاب، وتلقى المرويات التراثية بصددها، من حديث الناس،والرواة في مجالس ودواوين الديرة، باحثا ومنقبا، لفترة طويلة، ليكون الكتاب بتلك المعطيات، مستودع خبرة متراكمة، في موروث الديرة،في مجال الالعاب الشعبية، وشيء من تراثها، بما يضفي على الكتاب، قيمة تراثية موسوعية إضافية.

وهكذا يعتبر الكتاب، بهذه الاسلوبية الميدانية الشمولية، مصدرا لاطلاع الأجيال، ومرجعا مهما للباحثين، والدارسين، والمهتمين بالموروث الشعبي في ريف الديرة،لأنه جاء وليد خبرة ميدانية متراكمة طويلة، واهتمام رصين للمؤلف، بعين تراثية متمكنة،ومتمرسة .

ولعل طرح الكتاب، وفي هذا الوقت بالذات، سيكون مفيداً جداً، لتعميم الفائدة منه مصدراً للجميع، حيث حان الوقت للمبادرة بتوثيق الموروث الشعبي في ريف الديرة، وتسطيره على الورق، وطبعه في كتب للتداول، حفاظاً عليه من النسيان، والضياع بمرور الزمن.. وتداعيات العصرنة الصاخبة بجوانبها السلبية .. وليكون مرجعا للأجيال القادمة، والباحثين والمهتمين بالتراث مستقبلا ..

***

نايف عبوش

الحركة الثقافية مائجة دائماً بما أعرف أن مصر شديدة الغني به.. أقلام المبدعين..

ليست تلك الحركة في العاصمة القاهرة وتخومها، بل في كل ركن وشارع ومدينة لشعب تغذي وشرب الإبداع حضارةً ونيلاً وأمواج بحرَين وامتداد صحراوَين. فالإبداع في دمنا إرث وروح ومذاق نعيشه ونحياه ليل نهار..

 من قلب الصعيد وعروسها المنيا قلم من أقلام المبدعين الكبار هو "علاء الدين أبو العزايم". ديوانه المسمي: "أوراق الجنوبي الأخيرة" كإصدار إقليمي من إصدارات هيئة قصور الثقافة.. ديواناً تتسلل كلماته إلى بحر الإبداع المصري وتغوص في منتصفه محدثةً موجات أو أصداء ترصدها آذان القراء وقلوبهم. والراصد لحركة الإبداع التي تتقاطر يوماً بعد يوم من دواوين وروايات يرسخ في ضميره يقينٌ بأن مصر لا تعدم المبدعين كما لا يعدم النيل مجراه الخالد..

 تصدّر الديوان عرفانٌ وإهداء. والحق أن الديوان كله وكأنه إهداء كبير لمجموعة ممن عرفهم الشاعر. وكأن حافزه الأول الإنسان، حتى عندما ارتقي لمرحلة الوطن نظر من فوق تلك القمة إلى السفح يرصد الشعب في ضآلة حجمه يتأسف لهذه الضآلة ويمقتها، ويتمني أن تلتقي القمة بسفحها لقاء الارتقاء.

 القصائد والأبيات تتواتر لتحمل في طياتها تداعيات معاني متعددة الرؤي والنكهات.. وأول معانيها "البوح والاعتراف"، وهو ليس اعترافاً مباشراً سهل الانسياب، بل غامض غموض الشعراء، وعسير الاصطياد، لن تحصل عليه إلا بفك رموز شفرته الموزعة في سائر الكلمات والمختفية بين الأبيات وخلف عناوين القصائد..

 وأول الاعترافات وأشدها إلحاحاً على قلم الشاعر، اعتراف الوحدة..  يقول في قصيدته: (قراءة ليست أخيرة في أوراق شاعر): " لا شيء خلفك.. أنت وحدك.. والأنامل تستجير.." ويمضي في قصيدته ينظر من "ثقب باب" إلى الوطن، ومن نافذة التاريخ إلى جوهر القصيدة، وقلبه يرنو من ضلوع صدره إلى حلم مستحيل!

 إننا نكتشف من خلال أبياته وكلماته أن الجدران التي رسمها قلمه حول معاني كلماته سابحة في فضاء حلم هائل متسع اتساع الخيال. ورغم أن الكلمات والألفاظ تئن وتتوجع: (أواه يا وجع الصديق- لذت في زمن النخاسة بالعبيد الخائنين- أعتاد في غسق الصباح خريف بحرك يا بلادي- تعانق الوطن الجريح) إلا أنها تصدر عن قلب حالم راغب في الحياة: " يعزف أغنية الصباح، ويعدو نحو الياسمين، ويصلي من أجل المعلم والوطن".

 واعتراف ثانٍ بأن كآبة القلب مصدرها يأتي من "لوعة الفقدان". فيكتب الشاعر قصيدة عنوانها: "دمعٌ عليّ" يرثي فيها ابنته ويصدرها بإهداء لها: " إلى ابنتي نهال التي كفنتني قبل أن تموت". والقصيدة تنزف بكلمات يقطر منها الألم وينبض فيها الحرف نبض اللوعة والحزن. ومثل تلك القصائد تجعلنا نتساءل عن سر الشعر، وعن تكوين الشعراء..

 الشاعر نوع مختلف من الأدباء، عاطفته متأججة ملتهبة، وقد تكون مطفأة لكنها انطفاءة الثورة والأسي. كلمات الشعراء حتى لو تغشاها الأنين والحزن والكآبة فهي تنبض بمشاعر ملتهبة، لكنها منكفئة انكفاءة الكتوم على سر لا يصرح به، ولكنه يتأوه به شعراً، ويخفيه في طيات لفظ غامض يحمل مفتاحاً من مفاتيح شفرته النفسية وحالته العاطفية. تلك الحالة التي تنكشف شيئاً فشيئاً من خلال مجموع قصائده..

 قصائد الديوان تتحدث دوماً عن صديق أو صديقة، لا يمكنك أن تتبين إن كانوا أصدقاء قدامَي أو حاليين. لكن الصداقة في حياة الشاعر هي أمر ضروري يعيش به ويتأثر تأثراً عميقاً لفقده أو الاقتراب منه. إننا طوال الوقت في حاجة إلى يد تربت على أكتافنا تشجيعاً أو مواساةً. قد نبوح بهذه الحاجة أو نكتمها، في ظل عصر مادي لاهث ذابت فيه القيم والمبادئ والعواطف وتحولت المثاليات إلى حلم بعيد المنال.

 أغلب القصائد تتميز بعناوين جانبية مثل: (رحيل، دهشة، بداية، سؤال، هامش) وهو نوع من الانتقال الذهني والعاطفي يتحول فيه الشاعر من حالة فكرية أو عاطفية إلى حالة جانبية متصلة بموضوع القصيدة ولو اتصالاً واهياً. القصيدة الحديثة بطبيعتها تحمل هذه السمة: أنها تتشكل من مجموع البقع اللونية في القصيدة، فهي ليست كالقصائد الكلاسيكية القديمة ذات البرواز المذهب المترب والحدود اللونية الحادة الواضحة، بل هي "انطباع" عام يتشكل بيتاً بيتاً كأنها ضربات ريشة ثائرة في اتجاهات مختلفة، تتكون من تأثيراتها المتباينة صورة اللوحة التشكيلية التي هي القصيدة.

 (أوراق الجنوبي الأخيرة) ديوان متميز لواحد من أبرز شعراء محافظة المنيا هو (علاء الدين أبو العزايم). وأرجو ألا تكون أوراقه الأخيرة، وأن يواصل عطاءه، وأن يكون ولده يوسف الذي أهدي له الكتاب، هو خير تعويض له عن ابنته التي رثاها في قصيدته الحزينة.

***

د. عبد السلام فاروق

 

يعد الهروب موضوعا متكررا في العديد من مسرحيات شكسبير، مما يضيف عنصرا من الإثارة والدراما وعدم القدرة على التنبؤ إلى حبكة القصة. في بعض الحالات، يتم استخدام الهروب كوسيلة للشخصيات للهروب من الظروف غير المرغوبة، بينما يتم تصويره في حالات أخرى على أنه فعل اندفاعي من العاطفة أو التمرد. بغض النظر عن الأسباب وراء الهروب، ينسج شكسبير هذا الموضوع ببراعة في مسرحياته لخلق التوتر ودفع الحبكة إلى الأمام.

إن إحدى أشهر حالات الهروب في أعمال شكسبير في "روميو وجولييت". يتحدى العاشقان الشابان، روميو وجولييت، عائلتيهما المتناحرتين ويتزوجان سرا، ويخططان للهروب للهروب من القيود التي يفرضها عليهما المجتمع. يؤدي قرارهما بالهروب إلى سلسلة من الأحداث التي تؤدي في النهاية إلى المأساة، مما يسلط الضوء على عواقب تحدي المعايير الاجتماعية والسلطة الأبوية.

في "حلم ليلة منتصف الصيف"، يعد الهروب أيضا موضوعا رئيسيا، وإن كان مع لمسة كوميدية. تخطط هيرميا وليزاندر للهروب من مطالب والد هيرميا بزواجها من ديميتريوس. ومع ذلك، فإن هروبهما معقد بسبب السحر والجنيات المؤذية، مما يؤدي إلى الارتباك وسوء الفهم، وفي النهاية الحل. يستخدم شكسبير موضوع الهروب لاستكشاف تعقيدات الحب والولاء والتوقعات المجتمعية في هذه المسرحية.

في "كما تشاء"، تأخذ شخصية روزاليند زمام الأمور بين يديها وتتنكر في هيئة رجل من أجل الهروب مع حبيبها أورلاندو. يسمح هذا العمل من التحدي للتقاليد والأدوار الجنسانية لروزاليند بتأكيد وكالتها والسيطرة على مصيرها. من خلال موضوع الهروب، يتحدى شكسبير المفاهيم التقليدية للمغازلة والزواج، ويشجع الجمهور على التشكيك في المعايير والتوقعات المجتمعية.

في "سيمبلين"، يعمل هروب إيموجين وبوستموس كمحفز للأحداث التي تتكشف طوال المسرحية. يؤدي زواج إيموجين من بوستوموس ضد رغبة والدها إلى الخيانة والخداع والمصالحة في النهاية. يستخدم شكسبير موضوع الهروب لاستكشاف موضوعات الولاء والإخلاص والتسامح، مسلطًا الضوء على عواقب الأفعال المتهورة وقوة الحب في التغلب على العقبات.

وهناك مثال آخر للهروب في أعمال شكسبير في "ترويض النمرة". حيث تهرب بيانكا ولوسينتيو سرا، متحديين رغبات والد بيانكا والنظام الاجتماعي. يرمز هروبهما إلى التمرد ضد السلطة والسعي وراء الحب الحقيقي، على الرغم من العقبات والتحديات التي يواجهانها. ومن خلال هذا الموضوع، يؤكد شكسبير على أهمية اتباع القلب وتحدي الأعراف المجتمعية في السعي وراء السعادة والوفاء.

في "الليلة الثانية عشرة"، تتنكر الشخصية فيولا في هيئة رجل وتقع في حب الدوق أورسينو، مما يعقد علاقتهما ويؤدي إلى سلسلة من سوء الفهم والمغامرات. إن خداع فيولا وهروبها يسلطان الضوء على سيولة الأدوار الجنسانية وتعقيدات الحب والرغبة. يستخدم شكسبير موضوع الهروب لاستكشاف قضايا الهوية واكتشاف الذات والقوة التحويلية للحب.

في "جعجعة بلا طحين"، يشكل هروب هيرو وكلاوديو محور الحبكة، حيث يقوض الخداع والخيانة زواجهما السري. ويكشف هروبهما عن هشاشة الثقة والقوة المدمرة للشائعات والأكاذيب. ومن خلال هذا الموضوع، يستكشف شكسبير عواقب الأحكام المتسرعة، وأهمية التواصل، وطبيعة الحب والتسامح.

في "تاجر البندقية"، يعمل هروب جيسيكا ولورينزو كحبكة فرعية تسلط الضوء على موضوع الفداء والتسامح. ترفض جيسيكا والدها، شايلوك، وتهرب مع لورينزو، المسيحي، وتخون تراثها اليهودي. إن هروبهم يتحدى التوقعات المجتمعية والأعراف الثقافية، مما يجبر الشخصيات على مواجهة تحيزاتها وتحيزاتها. ومن خلال هذا الموضوع، يتناول شكسبير قضايا الهوية والقبول وإمكانية التكفير.

إن هروب الفتيات من أهاليهن موضوع متكرر في أعمال شكسبير يضيف العمق والتعقيد إلى الشخصيات وخطوط القصة. ومن خلال تصوير الهروب، يستكشف شكسبير قضايا الحب والولاء والتمرد والتوقعات المجتمعية، ويدعو الجمهور إلى التفكير في طبيعة العلاقات وقوة الوكالة الفردية. يعمل الهروب كمحفز للتغيير والنمو والتحول في دراما شكسبير، مما يتحدى الشخصيات.

***

محمد عبد الكريم يوسف

أعمال فنية متعددة الأحجام والتقنيات

ما الذي يفضي بالكائن الى هذا الدرب من البحث والذهاب تجاه ثنايا الابداع قولا بالقلق والسؤال المقيم في الدواخل غير هذا النظر العميق تجاه العناصر والأشياء حيث دلال الفكرة وتلوينات دلالاتها .. وتلك البهجة العارمة في الشواسع أين تكمن أحلام الذات هذه المسافرة في الزمان والمكان تتقصد بث حيز من الاعتمال الدفين وفق مقتضيات الفن ونبل معانيه واستحقاقاته الجمالية والوجدانية...

من هنا وفي هذا المجال الطافح بالبحث عن الجديد ونزوعا نحو الابتكار حيث تتعانق الفنون وأحوالها لتبوح بالجامع فيها وبينها من وشائج الجمال والمعاني والبوح البديع نمضي مع الرسم والتلوين في اجتراح مخصوص لما هو ابداعي ودلالي في حيز من عيون الشعر العربي القديم ضمن سياق جمالي يقول بالمشترك الفني والشعري والتشكيلي نحو منطلقات مبثوثة في مساحات القماشة وبتقنيات مختلفة من الرسم والحفر والكولاج والحروفية والفيديو ..و غيرها فقط للالتقاء في ما هو دال بشعرأبي نواس  وفي قصيدة المغتسلة المفعمة بالصور والعمق البلاغي والحركة فكأن الفن في شموليته يستدعي التشكيل للقول بما في ذات الفنانة التشكيلية المعنية هنا من تنويع جمالي مواءمة وملاءمة للمعنى والذهاب به الى تنويعات مختلفة تقول بالنهاية بالروح المبحرة في شؤون الشعر وشجونه نحو التشكيل .

الفنانة المعنية هنا وبهذه العوالم من المغامرة الفنية التشكيلية هي الفنانة التشكيلية هيفاء المديوني  التي قدمت في سياق تجربتها الفنية ومنذ سنوات من مشاركاتها الفنية الفردية والجماعية بتونس وخارجها  حيزا من اقتراحاتها الفنية التشكيلية التي عبرت عن وجدانها الجمالي في تخير يشي بالذات واعتمالاتها وهي تحاور ذاتها والآخرين والعالم حيث اللوحة فضاء قول بالقيمة رمن التداعيات والضجيج...انها لعبة الفن في مواجهة السقوط المريب حيث الفنان يمضي مع الحالة ضد الآلة نحتا للقيمة وتقصدا للجمال. أعمال المعرض الجديد متعددة وتقدمها الفنانة التشكيلية هيفاء المديوني لجمهور الفن والابداع التشكيلي البصري ضمن عنوان لافت هو " زخات الشعر " وذلك برواق الفنون علي القرماسي للفترة من الخميس 30 ماي الجاري الى غاية يوم 13 جوان 2024..

في معرضها الشخصي هذا والذي يضم حوالي 26 عملا فنيا من أحجام مختلفة وكذلك التقنيات وفق عنوان دال هو " زخات الشعر " نجد عناوين متعددة منها " فتاة الريح " و"شعر بالحروفية " " ضوء الرجل " وامرأة النار " وانعكاس " و" امرأة الأرض " و" الطريق الى الذات " و" في الفضاء " والمرأة الزرقاء " وغيرها  ..

تتوغل في لوحات هذا المعرض ومختلف أعماله الفنية متأملا فتلمس تلك المسحة من شاعرية التعاطي تجاه الفكرة المحيل اليها عنوان هذا المعرض في استلهام الفنانة هيفاء الذي يجمع بين شعر أبي نواس والشعر المنسدل المتعدد الوظائف من القصيدة الى اللوحات..استلهام جمالي تمضي فيه المديوني مبرزة بلاغة الشعر والتلوين في تعبيرية تخيرتها وفق مرحلة جديدة من التعاطي الفني التشكيلي بعد تجربتها مع المعارض السابقة

عبر تقنيتها في التعاطي الجمالي في " زخات الشعر " ..

فنانة تمضي في سياق من البحث وفق ثيمات تنهل فيها من تفاصيل بها ألق الجمال شعرا وصورة وتخييلا تلون ما بدا من ابداعيتها بكثير من ذاتها الحالمة والتواقة نحو الاختلاف والرهافة ..و التأويل ..رهافة الشعر والرسم والتلوين و..تأويل مضاف لما اكتنزه تراثنا الشعري العربي القديب من جمال وابداع عبر عن بعضه الشاعر أبي نواس ..شعر منسدل يحوي كونه الجميل وشعر في هيجانه الرجيم وشعر في تجريدية حالمة وشعر ...و شعر متعدد الأحوال حيث الأنثى التي تبثه شيئا من دلالها وهيئاتها وهي تبرز طوعا وكرها كيفما عن للفنانة التشكيلية هيفاء المديوني أن تتمثلها في اللوحات والأعمال الفنية منها المابينغ والأكوارال والنحت والأكريليك وهي بالنهاية لعبة الفنانة في هذه العوالم الحالمة من الشعر والتشكيل وفق جماليات الانسدال والحركة والحضور البينو الدال في فضاءات اللوحة وبالفيديو ..انها أيضا تجربة جديدة تخوضها الفنانة هيفاء التي تقول عنها  :

"...أنّ شغفي الشخصي بالشعر العربي القديم، عموما، وقصيدة المغتسلة لأبي نواس، خصوصا، كانت المنطلق الأساسي وراء اختيار موضوع المعرض، فهي مُشبعة بالصور الشعرية الحكائيّة. لهذا أردت الخوض في مغامرة بحث في مضمار الفن التشكيلي منطلقة من فكرة وإمكانية تأثير الفنون وتأثّرها في ما بينها مراهنة على تأسيس عالم تشكيلي اسعي من خلاله الى الارتقاء لعالم أبي نواس بشكل خاص يقوم على فعل تطبيقي من خلال هذين البيتين بالخصوص :

(فَلَمَّا أَنْ قَضَـتْ وِطْرًا وَهَمَّـتْ

عَلى عَجَـلٍ لِتَـأْخُذَ بالـرِّدَاءِ

رَأَتْ شَخْص الرَّقِيْب على التَّدَاني

فَأَسْبَلَتِ الظَّـلاَمَ على الضِّيـاءِ

فَغَـابَ الصّبْحُ مِنْها تَحْتَ لَيْـلٍ

وَظَلَّ الـمَاءُ يَقْطُـرُ فَوْقَ مَـاءِ )..

و ما شدّني هو تلك الاستعارة التي تقوم على التقابل بين الظلام والضياء، الليل والصبح. فالظلام كناية على سواد شعرها، والضياء كناية على إشعاع لون بشرتها. كما أنّ وصف عملية التخفّي التي قامت بها المرأة عندما فوجئت بالرقيب ليعطينا الشاعر إيحاء بالحركة الكونية كما أشار توفيق بكار: " قد أبى الشاعر أن يقفل المشهد وجمال المرأة موشحا بكثافة الليل وسواده حجب الجسد في نشوة العناق مع الماء" .  ..وعلى أساس هذه الصورة الشعرية سعيت في معرضي زخات الشعر إلى ضبط رؤية تشكيلية خاصة، تستلهم مقوماتها من النص دون تجسيدٍ للصورة الحكائية ليكون المعرض منطلقا من عناصر ذكرت في النص الشعري : التجلي والتخفي من خلال "غاب الصبح منها تحت ليل" وسيكون الشكل والخلفية المساعد في تفعيل هذا المفهوم، التباين المعتم والمضيء من خلال "أسدلت الظلام على الضياء"، الخط والكتلة وما يترجم الشَّعر تشكيليا. فالغاية هي بناء هذا البحث على عدة خصائص ورموز تشكيلية، وبالتالي تكامل الفكر مع المادة..." .

أعمال متعددة هي خلاصة التجربة الجديدة للفنانة التشكيلية هيفاء المديوني التي تقدمها لجمهور الفن والابداع التشكيلي البصري ضمن عنوان لافت هو " زخات شعر " وذلك برواق الفنون علي القرماسي للفترة من الخميس 30 ماي الجاري الى غاية يوم 13 جوان 2024..

***

شمس الدين العوني

في بادرة هي الأولى من نوعها، وبتوجيه من رئيس وزراء العراق محمد شياع السوداني، قدم وزير الثقافة أحمد فكاك البدراني لوحة فنية بعنوان “السلام” هدية إلى المنظمة العالمية للملكية الفكرية في جنيف، بهدف التعبير عن رغبة العراق بتجديد رسائل السلام التي وجدت كرقم ولوحات في تاريخه العريق، وبغية إرسال رسالة إلى العالم بالتزام العراق منذ فجر التاريخ وحتى اليوم بإرساء مبادئ التعايش السلمي بين الحضارات المختلفة،

اللوحة مأخوذة عن لوحة أثرية معروفة باسم "الحرب والسلام" وجدت في مدينة أور ويقدر عمرها بحوالي خمسة آلاف عام، أنجزها الفنان العراقي السويسري فائق العبودي، وتم تقديم اللوحة أثناء اجتماع الوفد العراقي برئاسة الدكتور علاء أبوالحسن العلاق في المنظمة العالمية للملكية الفكرية بجنيف، وقد تسلّمها المدير العام للمنظمة السنغافوري دارين تانغ معبرًا عن سعادته الكبيرة،بالعمل الاثري العريق

يذكر أن اللوحة مأخوذة عن لوحة أثرية معروفة باسم “الحرب والسلام” وجدت في مدينة أور ويقدر عمرها بحوالي خمسة آلاف عام، وهي مصنوعة بشكل يدوي من العاج واللازورد، تم بناؤها على شكل صندوق خشبي مجوف، وعلى جوانبها مشاهد تمثل الحياة في السلم، والحرب في بلاد سومر في العراق القديم، وهي موجودة في المتحف البريطاني بلندن،وقد أنجزها الفنان فائق العبودي بتكليف من وزير الثقافة الأستاذ الدكتور أحمد فكاك البدراني، وذلك بالتركيز على الجزء الذي يعبر عن السلام من العمل الأصلي الأثري، وقد استخدم الفنان العبودي تقنية تعدد الطبقات اللونية، بين سطوح بارزة وغائرة، ليصنع لوحة مجسمة تجمع بين النحت والرسم، وتبدو كرقم أثري من العراق، والعبودي يعيش في سويسرا منذ العام 1999 وأسس فيها مركز فضاء الشرق الثقافي، ومجلة ألوان ثقافية التي تهتم بالثقافة والإبداع والفنون، يعدّ أحد سفراء الفن العراقي في الخارج وأعماله شاهدة على مدى اهتمامه بالآثار، وغالبًا ما تبدو لوحاته كما لو كانت أثرية، بسبب استخدامه لتقنية التعتيق من جهة، والحروف المسمارية، والرموز القديمة من جهة أخرى، وقد أقام حوالي ثلاثين معرضًا شخصيًا، ولديه جدارية باسم “السلام” في إحدى ساحات مدينة فيرييه التابعة لمدينة جنيف

المنظمة العالمية للملكية الفكرية هي واحدة من 15 وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة. عملاً باتفاقية 1967 المنشئة للمنظمة العالمية للملكية الفكرية، تم إنشاء المنظمة العالمية للملكية الفكرية لتعزيز وحماية الملكية الفكرية في جميع أنحاء العالم من خلال التعاون مع البلدان والمنظمات الدولية، بدأت المنظمة عملياتها في 26 نيسان\أبريل 1970، المدير العام االحالي للمنظمة هو السنغافوري دارين تانغ،  وهو الرئيس السابق لمكتب سنغافورة للملكية الفكرية، وقد بدأ فترة ولايته في 1 تشرين الأول\أكتوبر 2020

***

نهاد الحديثي

هل هناك حدود فاصلة ونهائية بين الجنون والعقل..؟

على امتداد تاريخ الثقافات المختلفة وخاصتاً في المجتمعات الريفية والبدائية، نُظر إلى الجنون على أنه يمثل أرواح شريرة لبست أجساد البشر من (الجن والعفاريت) وتيدأ سرديات من الخرافات والجهل وينشط، المشعوذون والدجالون، والسحره ومنذ متتصف القرن المنقضي حدث تقدم في مجال الطب واصبح هناك أطباء متخصصون لقسم مهتم، بهذا المرض، نُظر إليه على أنه حالة مرضية مثل اي مرض تحدثت مع استاذة للأمراض النفسية أثناء تطوعي بالذهاب مع حاله مرضية من قريتنا الي مستشفي/دميرة بالدقهلية للآمراض النفسية والعقلية .وحضرت جلسة أسئله تطرحها الطبيبة علي المريض، وقالت ان المريض في كامل قواه العقلية، وكان معي صديق اخر متطوع، فحدثت مشادة كلامية مع الطبيبة وصديقي، كانت الطبيبة ترفض ان يتم حجزة داخل المستشفي وقالت: يحتاج الي رعاية اسرية او شخص يتطوع للقيام بخدمتة من الطعام والملبس ونظافه المكان الذي ينام فيه ورفضت حجزة في اي مصحة نفسية و يلزم أن تعالج الحاله بالأدوية والعقاقير الطبية وكفي سمن سنوات داخل المصحة، أما الفلسفة لها رأي أخر (ديكارت) فقد أنكر عن الجنون أي معرفة ممكنة، لأن العاقل هو الذي يفكر .غير أن الفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) استطاع وهو يدرس خطاب الجنون أن يقلب هذه التصورات؛ نزع عنه هالات الأسطرة والأدلجة، ورفض أن يعتبر العقل أفضل من الجنون، أو أن العاقل أفضل من المجنون بشكل مسبق، وكان السؤال الذي سيطر على ( فوكو ) هو: هل هناك حدود فاصلة ونهائية بين الجنون والعقل؟ أم أن الجنون من جنس العقل، والعقل من جنس الجنون ..؟

فيما هو يحلل خطاب الجنون اكتشف أن للجنون تاريخاً، وأن مؤسسة الطب النفسي متواطئة بشكل أو بآخر مع مؤسسات القمع الأخرى في المجتمع ضد المصابين بأمراض نفسيه، والمسألة منذ البداية ليست طبية، بقدر ماهي فكرية ثقافية وحتى اقتصادية، فالجنون ظاهرة نسبية اجتماعية متغيرة، وليست ظاهرة طبيعية أزلية، بل ظاهرة تاريخية ثقافية، تخص الظروف والمشاكل الاجتماعية. أراد الفيلسوف الفرنسي فوكو بدراسة خطاب الجنون أن يعطي لهؤلاء المجانين المهمشين الحق في الكلام وفي الوجود، وأن يخرجهم من عزلتهم التي سجنوا فيها، وهذا الكلام يتفق مع رأي الطبيبة معي بخصوص المريض،،  وقد كرس أغلب كتبه لهؤلاء ولغيرهم من المضطهدين والمقهورين لكي يعطيهم الحق في الكلام، وبالفعل الحق في الكلام عندما كان يعترض صديقي المرافق معي داخل غرفه الكشف وكان يطلب من المريض بالتوقف عن الكلام فطلبت الطبيبة من صديقي، الخروج من حجرة الكشف وهددتة بطلب الشرطة،، لآن المريض كان يحكي عن الحقيقة والمأساه التي يعيشها وعاشها من قبل،، وصديقي كان يريد ان يصمت حتي يتم حجزة داخل المستشفي، 

يقول "فوكو" عن الاضطهاد؛ ربما الاضطهاد بشبه الحب إلى حد ما، إنه كالحب لا يحتاج لأن يكون متبادلاً حتى يكون حقيقياً،، الاضطهاد لا يحتاج إلى مضطهدين لكي يكون اضطهاداً، إذ يكفي أن تشعر بالاضطهاد لكي تكون مضطهداً. تجربة الاضطهاد لا تحتاج في حقيقة الأمر للآخرين، صحيح أن للآخر وجهاً مكشراً عابساً، وأن الآخرين قريبون جداً من المضطهد لا تكاد تفصلهم عنه أي مسافة، ومع ذلك فالشيء الأساسي في عملية الاضطهاد ليس هذا .أن تكون مضطهداً فهذا يعني أن تكون لك علاقة خاصة باللغة، يعني ألا تستطيع استخدام ضمير الشخص الأول، أن تكون مضطهداً يعني ألا تستطيع أن تقول (أنا) إلا وتحس بأن هذه (الأنا) مشقوقة في منتصفها، ومكسورة في صميمها من قبل الآخرين، كل الآخرين . أن تكون مضطهداً فهذا يعني أن تتكلم في عالم صامت رهيب الصمت، حيث لا يجيب عن كلامك أحد، حيث لا يرد عليك أحد قط، وكأنا الفيسلوف الفرنسي يكشف عورات المجتمع الريفي من اضطهاد المريض النفسي، حيث يتجمع حولة الاطفال والكبار، وكأنهم يزفوا عجل في مواسم الاعياد،  لكن ما إن تصمت عن الكلام، وتمد آذان صاغية حتى تسمع كلامك الخاص بالذات وقد ارتد على نفسه، وصادره عليك الآخرون، وحوروه حتى أصبح لك عدواً، وهذا ما كنت اشاهدة في بعض البلدان الآوروبية عندما كان يصعد مريض نفسي في المواصلات ويتحدث كانت الناس تصمت ولا يعطوا له اي إنتباه مهما حدث منه..؟ في هذا الزمن اشكال الجنون كثيرة ومتعددة نمارسها في مناسبات مثل العزاء والأفراح  ليتنا كنا مجانين فنحن العقلاء سخيفون كئيبون مملون مثيرون للشفقة.

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

تستكشف رواية هنري فيلدنج "توم جونز" موضوع العدالة بطرق مختلفة طوال السرد. تتبع الرواية الشخصية الرئيسية، توم جونز، وهو يتنقل عبر مختلف التجارب والمحن في سعيه لتحقيق العدالة والفداء. يستخدم فيلدينغ شخصية توم جونز لفحص مفهوم العدالة في المجتمع وكيف تمليه في كثير من الأحيان الوضع الاجتماعي للشخص وثروته وعلاقاته.

أحد المواضيع الرئيسية في "توم جونز" هي فكرة العدالة الاجتماعية، حيث يتم الحكم على الأفراد على أساس أفعالهم وشخصياتهم بدلا من وضعهم أو ثروتهم. طوال الرواية، يواجه توم جونز العديد من التحديات والمظالم بسبب مكانته الاجتماعية المتدنية ونقص الموارد. على الرغم من هذه العقبات، يظل توم ثابتًا في معتقداته وقيمه، ويسعى لتحقيق العدالة لنفسه وللآخرين الذين تعرضوا للظلم.

جانب آخر من جوانب العدالة في "توم جونز" هو فكرة العدالة الأخلاقية، حيث تتم مكافأة الشخصيات أو معاقبتها بناء على أفعالهم وقراراتهم. يقدم فيلدنج عالما حيث تُكافأ الفضائل الأخلاقية وتُعاقب الرذائل، مما يسلط الضوء على أهمية السلوك الأخلاقي والمسؤولية الشخصية. يتم تصوير توم جونز على أنه شخصية تعاني من عيوبها الأخلاقية ولكنها في النهاية تتعلم من أخطائها وتسعى جاهدة لفعل ما هو صحيح.

تستكشف الرواية فكرة العدالة القانونية، حيث تتم محاسبة الشخصيات على أفعالهم من خلال النظام القانوني. طوال السرد، يتم تقديم الشخصيات للمحاكمة بتهم جرائم وجنح مختلفة، مما يسلط الضوء على عيوب وتعقيدات النظام القانوني في إنجلترا في القرن الثامن عشر. يستخدم فيلدينغ هذه الإجراءات القانونية لتسليط الضوء على أوجه عدم المساواة والظلم التي كثيرا ما يعاني منها النظام القانوني، مؤكدا على أهمية العدالة والحياد في السعي لتحقيق العدالة.

تبحث رواية "توم جونز" في مفهوم العدالة الإلهية، حيث يتم الحكم على الشخصيات في نهاية المطاف من قبل قوة أعلى على أفعالهم ونواياهم. يقدم فيلدينغ عالما تلعب فيه العدالة الإلهية دورا هاما في تشكيل مصائر الشخصيات وتحديد مصائرهم النهائية. من خلال شخصية توم جونز، يوضح فيلدينغ قوة الفداء والتسامح، موضحا كيف يمكن للأفراد العثور على العزاء والسلام من خلال أعمال الندم والتوبة.

جانب آخر مهم من العدالة في "توم جونز" هو فكرة العدالة الشخصية، حيث تسعى الشخصيات إلى تصحيح أخطائهم وتعويض أفعالهم الماضية. طوال الرواية، تتصارع الشخصيات مع معضلاتهم الأخلاقية وتسعى جاهدة لإيجاد شعور بالعدالة والإغلاق في حياتهم. يقدم فيلدينغ عالما يكون فيه الأفراد مسؤولين في نهاية المطاف عن أفعالهم وقراراتهم، مع تسليط الضوء على أهمية التفكير الذاتي والوعي الذاتي في السعي لتحقيق العدالة.

يستكشف فيلدينغ مفهوم العدالة الاجتماعية في "توم جونز"، حيث يتم الحكم على الشخصيات ومعاملتها على أساس وضعها الاجتماعي وعلاقاتها. طوال الرواية، غالبًا ما تواجه الشخصيات معاملة غير عادلة وتمييزًا بسبب افتقارهم إلى الثروة أو المكانة الاجتماعية، مما يسلط الضوء على عدم المساواة والظلم الموجود في المجتمع. يستخدم فيلدينغ هذه المظالم الاجتماعية للتأكيد على الحاجة إلى المساواة والعدالة في معاملة جميع الأفراد، بغض النظر عن خلفيتهم أو ظروفهم.

يدرس فيلدينغ فكرة العدالة الشعرية في "توم جونز"، حيث تتلقى الشخصيات مكافآتها العادلة بناء على أفعالها وقراراتها. طوال السرد، تعاني الشخصيات من الانتصارات والنكسات نتيجة لاختياراتهم وسلوكياتهم، مما يسلط الضوء على فكرة أن الأفراد سيحصدون في النهاية ما زرعوه. يستخدم فيلدينغ هذه الأمثلة من العدالة الشعرية للتأكيد على أهمية السلوك الأخلاقي والمسؤولية الشخصية في تشكيل مصير الفرد.

و تتعمق الرواية في فكرة العدالة التصالحية، حيث تسعى الشخصيات إلى التصالح مع من ظلمتهم والتعويض عن أفعالهم الماضية. في جميع أنحاء السرد، تنخرط الشخصيات في أعمال التسامح والمصالحة، مما يدل على قوة الرحمة والتعاطف في السعي لتحقيق العدالة. يستخدم فيلدينغ هذه الأمثلة من العدالة التصالحية لتسليط الضوء على الآثار التحويلية للغفران والفداء، موضحًا كيف يمكن للأفراد العثور على الشفاء والإغلاق من خلال أعمال اللطف والرحمة.

إن رواية "توم جونز" للكاتب هنري فيلدنج تستكشف موضوع العدالة بطريقة دقيقة ومعقدة، حيث تدرس الأشكال المختلفة للعدالة الموجودة في المجتمع وكيفية تداخلها وتداخلها مع بعضها البعض. من خلال شخصية توم جونز والشخصيات الأخرى في الرواية، يتعمق فيلدنغ في أفكار العدالة الاجتماعية والأخلاقية والقانونية والإلهية والشخصية، مسلطًا الضوء على أهمية الإنصاف والمساواة والفداء في السعي لتحقيق العدالة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

تلعب العلاقة بين الآباء والبنات دورا مهما في مسرحية شكسبير "تاجر البندقية". خلال المسرحية، نرى الديناميكيات بين الآباء والبنات وكيف تؤثر على الشخصيات والحبكة. العلاقات معقدة ودقيقة، مما يزيد من العمق العام للقصة.

إن إحدى العلاقات الرئيسية بين الأب وابنته في المسرحية هي بين شيلوك وابنته جيسيكا. شيلوك هو مراب يهودي يحمل كراهية عميقة للمسيحيين، بينما تقع جيسيكا في حب لورنزو المسيحي وتهرب منه. يتسبب هذا في شقاق بين شيلوك وجيسيكا لأنه غاضب منها لخيانتها له وتحولها إلى المسيحية. تعرض علاقتهم موضوعات الخيانة والصراع العائلي السائدة طوال المسرحية.

وبالمثل، فإن العلاقة بين بورشيا ووالدها المتوفى هي جانب حاسم في المسرحية. يضع والد بورشيا، في وصيته، اختبارا معقدا للخاطبين المحتملين لطلب يدها للزواج، مما يدل على رغبته في السيطرة على ابنته حتى بعد وفاته. تمهد علاقة بورشيا بوالدها الطريق للتحديات التي تواجهها في تأكيد استقلالها واستقلاليتها.

من ناحية أخرى، فإن العلاقة بين بورشيا وصديق والدها ومعلمه، دوق بلمونت، هي علاقة أكثر إيجابية وداعمة. يصبح الدوق شخصية الأب لبورشيا بعد وفاة والدها، حيث يرشدها ويدعمها خلال التجارب التي تواجهها. تسلط هذه العلاقة الضوء على موضوع الإرشاد والتوجيه، موضحة كيف يمكن لشخصية الأب أن يكون لها تأثير إيجابي على حياة الابنة.

هناك علاقة أخرى بين الأب وابنته تم استكشافها في المسرحية هي بين لونسيلوت جوبو ووالده الأعمى. يعاني لونسلوت من ولائه لوالده ورغبته في تحسين حياته، مما يعكس الصراع الداخلي الذي يواجهه العديد من الأطفال عندما يحاولون الموازنة بين احتياجاتهم الخاصة ومسؤولياتهم تجاه والديهم. تضيف هذه العلاقة طبقة من التعقيد إلى المسرحية، وتظهر كيف يمكن أن تكون الديناميكيات بين الآباء والبنات متعددة الأوجه ودقيقة.

في المسرحية، يتعمق شكسبير في تعقيدات العلاقات بين الأب وابنته، ويسلط الضوء على الصراعات والصراعات التي يمكن أن تنشأ بين الآباء والأطفال. سواء كان الأمر يتعلق بالخيانة والاستياء بين شايلوك وجيسيكا، أو سيطرة والدها المتوفى وتلاعبه ببورشيا، أو الصراع الداخلي الذي يواجهه لونسلوت جوبو، فإن العلاقات في المسرحية غنية ومتنوعة، مما يضيف عمقًا وبعدًا للشخصيات والأحداث. القصة ككل.

وفي الختام، فإن العلاقات بين الأب والابنة في "تاجر البندقية" هي موضوع مركزي يضيف طبقات من التعقيد والعمق إلى المسرحية. إن الصراعات والخيانات والصراعات التي تنشأ بين الآباء والبنات تدفع السرد إلى الأمام وتسلط الضوء على تعقيدات ديناميكيات الأسرة. من خلال هذه العلاقات، يستكشف شكسبير موضوعات الولاء والخيانة والاستقلال والتوجيه، مما يوفر نسيجا غنيا من المشاعر الإنسانية والخبرة التي يتردد صداها لدى الجماهير حتى يومنا هذا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

يأتي التحذير الأخير لوزير المالية الألماني من حرب تجارية مع الصين على خلفية الجدل الدائر حول فرض رسوم جمركية عقابية على عدد من المنتجات الصينية، ليؤكد حجم الغزو الصيني الهائل للأسواق العالمية وفي مقدمتها الأوروبية والأميركية. فهؤلاء الذين يسمونهم الجنس الأصفر، أصحاب التنين الأحمر، والوطواط الأشهر، يشكلون ما يقرب من ربع البشرية، سواء في الصين بتعدادها السكاني الذي يبلغ المليار وخمسمائة مليون نسمة تقريباً، أو أقلياتهم الموزعة في تايوان وهونك كونغ وسنغافورة وماليزيا وتايلند والفلبين واندونيسيا واستراليا والهند وأمريكا وفي بلدان أخرى آسيوية وأفريقية وأوروبية، تجنسوا بجنسياتها مع احتفاظهم بطباعهم وتقاليدهم، فهم يعدون أنفسهم "في مهمة خارج الصين" وفق تعبير هيكل، وينطبق ذلك على الأقلية الصينية في الولايات المتحدة التي تقدر بأربعة ملايين نسمة. وهؤلاء كلهم يمثلون فيالق الصين المتقدمة على جبهة الحرب التجارية التي تحدث عنها الوزير الألماني خلال اجتماع وزراء مالية مجموعة السبع الذي عقد في شمال إيطاليا الأسبوع الماضي، وهي مجموعة الدول الصناعية المتقدمة التي تضم كلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا واليابان.3985 الصين

هؤلاء الصينيون يثيرون دهشة العالم بمثابرتهم ونشاطهم وجديتهم، وصناعاتهم التي غزت الأسواق شرقاً وغرباً، حتى صار من النادر أن تدخل سوقاً ولا تجد فيه سلعة صينية بسعر مناسب ومواصفات رفاهية، انهم يصنعون كل ما يخطر على بال المستهلكين، أو مالا يخطر على بالهم. المهم عند الصيني أن ينجح ويكسب المال الذي هو مصدر السعادة في حياته. وعادة ما تباع في المحال الصينية تحفاً ملونة ومذهبة من البورسلين تمثل قطة باسمة جميلة تحرك يدها وكأنها تجلب لك شيئاً ما، وهي أيقونة يؤمن الصيني بها، ويتفاءل بأنها ستجلب له الحظ السعيد، والمال الوفير، لو وضعها في مدخل بيته. وقد شاهدتُ الكثير منها خلال اقامتي في كوالالمبور، وأبتعتُ واحدة منها لعلها تشملني برعايتها. ومن طريف ما أتذكره أن سائق التاكسي الماليزي المسلم الذي استأجرته من منطقة سكني، حاول أن يتبادل معي بعض الكلمات بلغةٍ عربية ركيكة، وبلغةٍ إنكليزية متعثرة لكلينا، حتى وصلتُ إلى مبتغاي، الشارع الصيني وسط المدينة، وقبل أن أدفع له الأجرة وأترجل، نبهني بلطف إلى تجنب الأكل في هذا السوق لكونه محرم على المسلم.3986 الصين

وقد يبدو هذا التحذير أمراً عادياً من سائق أجرة محلي لسائح أجنبي يرتبط معه بصلة الدين، في بلد يتقاسم الهوية الوطنية فيه أتباع الديانات الثلاثة الإسلام والبوذية والهندوسية، لكنه يعكس في جوهره اختلافاً عميقاً في الهوية الثقافية، يبدأ من شكل الملابس، واللغة والدين والعادات، ولا ينتهي عند نوعية الطعام الذي وجدتُ بعضه في مطاعم الشارع الصيني، ومنها مطاعم الضفادع المرسومة على واجهاتها للجذب والإغراء، وكذلك عند عربات المشويات التي تعرض ضفادع مسلوخة الجلد، مستطيلة الجسد، ناصعة البياض، تبدو وقد مَدَّ الباعة أذرعها وأرجلها، كأنهن راقصات باليه بحيرة البجع للموسيقار الروسي تشايكوفسكي!. غير أن الماليزيين بمختلف اصولهم العرقية الملايوية والصينية والهندية، واختلاف دياناتهم اعتمدوا منهج التسامح مع الآخر، وتقبل عقيدته وعباداته وثقافته وعاداته في الملبس والتصرف والطعام، وبالنسبة للسائق المسلم الذي أوصلني إلى الشارع الصيني، فأن أكل الصينيين للضفادع صار أمراً طبيعياً جداً لا يستوجب الاشمئزاز، ولا الاستنكار، فمن غير المعقول أن تتمزق الهوية الوطنية بسبب ضفدع صيني تربى في مزارع ماليزيا الخصبة.

قطة الحظ السعيد الباسمة تلوح لي بيديها وأنا أكتب هذا العمود، إنها تلوح لي منذ سبع سنوات، وهي تنتظر، مثلما أنتظر!. ووزير المالية الألماني السيد كريستيان ليندنر يحذر!.

***

د. طه جزاع

 

هي وقفة وقفها الروائي العالمي الجزائري  واسيني لعرج أرد من خلالها إنصاف رفيق دربه في الإبداع الروائي محمد عرعار  عندما وجه رسالة إلى وزيرة الثقافة والفنون  الدكتورة  صورية مولوجي  بغية إعادة  طبع أعماله وتنظيم ملتقى وطني لتسليط الضوء على فكره وأعماله الإبداعية التي كانت موضع نقاش من طرف  النقاد حيث عَدَّهُ البعض رائد الرواية العربية في الجزائر، في رسالة له وجهها إلى الدكتورة صورية مولوجي قال واسيني لعرج: إن الغالبية لا تعرف من هو محمد عرعار مؤسس للرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية وهذا جدّ مؤسف، كاشفا عن تنظيم له لقاءً خاصا يكون في وزن حجمه الإبداعي الراقي وسيكون محمد عرعار ضيفا على "برنامج القلم" قريبا.

هي الرسالة التي وجهها الروائي العالمي واسيني لعرج إلى وزيرة الثقافة الدكتورة صورية مولوجي نظرا لاهتمامها الكبير بمجال الثقافة و الإبداع وتكريم المبدعين، ويأتي اهتمام الروائي واسيني لعرج بأعمال الروائي محمد عرعار  الروائية حسبما جاء  تغريدة له نشرها في صفحته عبر موقع التواصل الإجتماعي الفيسبوك أن محمد عرعار يعتبر من  كبار مؤسسي الرواية الجزائرية التأسيسية الحديثة بعد عبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار، واصفا إياه بأنه "الذاكرة التي تسير على قدمين"، دون أن يلتفت إليها أحدٌ، حيثُ طاله التهميش والنسيان من قبل النخبة والمسؤولين، وتساءل واسيني لعرج قائلا: كيف للصمت أن يأكله وللعزلة أن تمحوه؟ هو سؤال تقشعر له النفس ونحن نقف على واحد من وجوه الرواية الجزائرية الذين أبدعوا وخدموا الرواية الجزائرية ومنحوها حقها الذي تستحقه، وعاد الروائي واسيني لعرج إلى أيام زمان، واللقاءات التي كانت تجمعه مع  الروائي محمد عرعار، وكان محمد عرعار كما يبدو قد تغيرت ملامح وجهه، فلمّا التقى بواسيني لعرج كما يسرد هذا الأخير، سأله إن كان قد عرفه أم لم يتذكره، حيث سأله بتواضع  ووجهه يحمرّ من شدة  الخجل بعد أن قدم له التحية،  هل عرفتني؟  يقول واسيني لعر ج: تفرست وجهه الذي لم تغيب اللحية الفوضوية ملامحه،  صرخت: "ما لا تذروه الرياح "  ثمّ ابتسم .

 والروائي محمد عرعار اسمه الحقيقي محمد العالي عرعار  روائي جزائري من مواليد  الثالث مايو ستة وأربعون وتسعمائة وألف بمدينة خنشلة، بدأ مشواره التعليمي بالكتاب قبل أن يلتحق بمدرسة التربية والتعليم الحرة بمسقط راسه، لينتقل الى معهد عبد الحميد ابن باديس  بقسنطينة،  بعدها سافر إلى العاصمة ومنها التحق بمعهد الحقوق بجامعة الجزائر، كما تلقى تكوينا خاصة بقطاع الشباب والرياضة التي كان بداية حياته المهنية  كمفتش، وظل بقطاع الرياضة إلى أن أحيل على التقاعد سنة 2008، رغم بعده عن المجال الأدبي إلا أن محمد عرعار كان قلبه ينبض أدبا وفكرا، حيث كما قيل عنه يراقص القلم ويقبل الأوراق، حيث تعلق بالكتابة والإبداع، فكان يكتب الرواية والقصة القصيرة، فكان كالطير يغرد، وكانت بداية السبعينيات الفترة التي بدأت أعمل محمد عرعار تظهر في الساحة وتظهر لعشاق الرواية والأدب بأنواعه، من أعماله :  ما لا تذروه الرياح وهي الرواية التي ذكرها الروائي واسيني لعرج في تغريدته، وإصدارات أخرى بعنوان :  الطموح، البحث عن الوجه الآخر، زمن القلب، غضب في المدينة، تحت ظلال الدالية، سباق المجد، الآمال الزائفة،  وغيرها من الأعمال التي تستق أن تكون موضوع نقاش من قبل المختصين في الأدب  في ملتقى وطني لتسليط الضوء عليها، لتمكون مرجعا أدبيا للباحثين والطلبة الجامعيين.

يقول النقاد أن أعمال الروائي محمد عرعار تعدّ إرثا تاريخيا، فالكاتب  محمد عرعار في كتاباته ينتقل أو يرتحل من زمن الثورة التحريرية نحو زمن بعيد  مستحضرا زمن الثائرة  "الكاهنة" ملكة البربر من منظور استعادة تاريخ الجزائر القديم منذ العهد القديم  وقبل الفتح الإسلامي، وترجمة الأحداث والوقائع في عملٍ إبداعي راقٍ جدا،  ما دفع الروائي واسيني لعرج إلى التحرك لإنصاف هذا الرجل ومن باب "الغيرية" على الإبداع في الجزائر ووجوب ترقيته والتعريف بأعلام الرواية الجزائرية ورفعها إلى "العالمية "  دعا الروائي واسيني لعرج إلى وجوب استعادة   مكانة محمد عرعار الأدبية التي يستحقها  موجها رسالة إلى وزيرة الثقافة والفنون الدكتورة صورية مولوجي  بأن تعيد طبع أعماله  وأن تمنحه المكانة والتقدير اللذين يستحقهما، مستطردا بالقول : ما زلت تحت صدمة هول النسيان؟ رائد ومؤسس للرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية، يمر وحيدا بين جموع احتفالية نادي الكتاب ولا أحد يلتفت نحوه، بل الغالبية الساحقة لا تعرفه؟.

إن رسالة واسيني لعرج ليست الرسالة الأولى التي يوجهها إلى المسؤولين على قطاع الثقافة فقد كانت له مبادرات عديدة يدعو فيها  النخبة والمهتمين بعالم الرواية إلى تدوين السير الذاتية للأدباء الجزائريين على غرار الأديب والروائي بن هدوقة  وابو العيد دودو  رضا حوحو  الذي اشتهر بأدب الرحلة واصف إياه بالـ: "الجانتلمان"  gentleman ، وكان قد وجه نداءً إلى المختصين في كتابة السيرة الذاتية ( البيبليوغرفيين)  لأن كتاباتهم تتميز كما سبق وأن قال في لقاءات احتضنتها عاصمة النوميديين سيرتا تتميز بكونها اختزال عبقري يدخل اللغة وتدخل القارئ كفاعلية، وهو نوع  قال عنه واسيني لعرج من الصعب اكتسابه، لاسيما وهذه الأقلام مسّت كل شيء، (المقالة والقصة والرواية، وأدب الرحلة..الخ) فكان لهم إلا أن ينتصروا للفن والأدب والإبداع وللحقيقة الثورية.

***

علجية عيش

البطولة هي مفهوم تم استكشافه في الأدب لعدة قرون، وأحد الأمثلة الأكثر ديمومة لهذا الموضوع موجود في رواية هنري فيلدنج "توم جونز". بطل الرواية، توم جونز، هو شاب أظهر أعمالا بطولية لا حصر لها طوال القصة، حيث أظهر شجاعته ونكران الذات وتصميمه في مواجهة الشدائد. رحلته هي رحلة نمو، حيث يتعلم كيفية التنقل بين تعقيدات المجتمع والعلاقات مع الحفاظ على وفائه لبوصلته الأخلاقية.

أحد أبرز الأمثلة على بطولة توم هو استعداده للدفاع عن الحق، حتى عندما يعرضه للخطر. وعندما يواجه بليفيل الذي يحاول تقويض علاقته مع صوفيا، يرفض توم التراجع، مدافعًا عن حبه لها وإيمانه بمستقبلهما معا. هذا العمل الشجاع لا يعزز التزام توم تجاه صوفيا فحسب، بل يُظهر أيضا إحساسه الثابت بالعدالة والنزاهة.

تتجسد بطولة توم أيضا في إخلاصه لأصدقائه وعائلته. على الرغم من مواجهة العديد من التحديات والنكسات طوال الرواية، لم يتردد توم أبدا في مساعدة من يهتم بهم. سواء أكان الأمر يتعلق بإنقاذ صديق من الخطر، أو مساعدة شخص غريب محتاج، أو دعم أحبائه عاطفيًا، فإن توم يضع باستمرار رفاهية الآخرين فوق مصلحته، مما يدل على نكران الذات الذي يعد أمرا بطوليا حقا.

جانب آخر من بطولة توم هو تصميمه على التغلب على العقبات وتحقيق أهدافه. على الرغم من ولادته في طبقة اجتماعية أدنى ومواجهة التمييز والتحيز من حوله، يرفض توم أن تحدده ظروفه. وبدلا من ذلك، فهو يعمل بلا كلل على تحسين نفسه فكريًا ومعنويًا، ويسعى جاهدا ليصبح شخصا أفضل ويكسب احترام الآخرين من خلال أفعاله.

تتجلى بطولة توم أيضا في قدرته على المسامحة وإظهار التعاطف تجاه من ظلموه. طوال الرواية، يواجه توم العديد من الشخصيات التي تخونه أو تخدعه أو تسيئ معاملته، لكنه لا يحمل ضغينة أو يسعى للانتقام. وبدلاً من ذلك، اختار أن يوسع المسامحة والتفاهم، معترفًا بتعقيد الطبيعة البشرية والقدرة على النمو والفداء حتى لدى أكثر الأفراد عيوبا.

إن بطولة توم تتأكد من خلال استعداده لتحمل المخاطر وتقديم التضحيات من أجل الصالح العام. سواء كان الأمر يتعلق بالوقوف في وجه الظلم، أو الدفاع عن شرف صديق، أو السعي وراء سعادته الخاصة، فإن توم على استعداد لمواجهة الخطر والمصاعب من أجل الحفاظ على مبادئه وتحقيق أهدافه. إن استعداده لتعريض نفسه للأذى من أجل الآخرين يسلط الضوء على شجاعته والتزامه بإحداث تأثير إيجابي على العالم من حوله.

بالإضافة إلى ذلك، تظهر بطولة توم من خلال قدرته على إلهام من حوله والتأثير عليهم. طوال الرواية، فإن شخصية توم الجذابة وتصميمه الذي لا يتزعزع أكسبه ولاء وإعجاب أقرانه، الذين ألهمتهم شجاعته ومرونته. تعتبر أفعاله نموذجًا للآخرين ليتبعوه، وتشجعهم على السعي لتحقيق التميز، والدفاع عن ما هو صواب، وعدم الاستسلام أبدا في مواجهة الشدائد.

تتميز بطولة توم بتواضعه وتواضعه، فهو لا يسعى أبدا إلى التقدير أو الثناء على أفعاله. على الرغم من أعماله الشجاعة ونكران الذات التي لا تعد ولا تحصى، يظل توم بسيطا ومتواضعا، ويفضل أن تترك أفعاله تتحدث عن نفسها. إن افتقاره إلى الأنا والغرور لا يؤدي إلا إلى تعزيز بطولته، لأنه يوضح التزامه الحقيقي بفعل الخير من أجل تحقيق مكاسب شخصية أو مجد.

توم جونز بطل بالمعنى الحقيقي للكلمة، يجسد فضائل الشجاعة ونكران الذات والنزاهة الأخلاقية. من خلال أفعاله واختياراته، يعرض توم القوة الدائمة للبطولة لإلهام العالم من حوله والارتقاء به وتحويله. رحلته هي شهادة على مرونة الروح الإنسانية وقدرة الأفراد على تجاوز ظروفهم وإحداث تأثير إيجابي على المجتمع. تعتبر بطولة توم بمثابة مثال خالد على إمكانات الخير والعظمة التي تكمن داخل كل واحد منا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

.......................

الرواية:

Henry Fielding, Tom Jones

أكثر مادة يقبل عليها الطلبة في جامعة هارفارد

السعادة هي غاية الإنسان في هذه الحياة فهو يبحث عنها بطرق شتى وكثيرا ما يخطئ الطريق في رحلة البحث فيحقق بعض الملذات والشهوات ويكتشف فيما بعد أنه مازال يدور في دوامة من الضياع والتيه والقلق فهل تعرف صديقي كيف تسعد نفسك وخاصة والعيد بعد يوم هو فرصتك للفرح وإدخال السرور على نفسك ومحيطك وإليك بعض النصائح والمهارات التي تدرس في جامعة هارفارد ...

يدرس هذه المادة حول علم النفس الإيجابي "بن شاهار" وتجذب قاعته أكثر من 1400 طالب في الفصل الدراسي الواحد، كما أن 20% من خريجي هارفارد سبق وأن درسوا هذه المادة الاختيارية، ووفقا لما قاله بن شاهار فإن المادة التي يدرسها تركز على السعادة واحترام الذات والدافعية وتمنح الطلبة النجاح ومواجهة الحياة بمتعة أكبر، ولقد أُطلِق على المعلم بن شاهار البالغ من العمر 35 سنة بأنه "معلم السعادة" ويركز في دروسه على 14 نصيحة لتحسين جودة حياتنا الشخصية والمساهمة في صنع حياة إيجابية وإليكم هذه النصائح:

- النصيحة 1: اشكر الله على كل ما تملك: اكتب 10 أشياء تملكها في حياتك تمنحك السعادة، ركزعلى الأشياء الجيدة

- النصيحة 2: ممارسة النشاط البدني: يقول الخبراء بأن التمارين تساعد على تحسين المزاج، 30 دقيقة من التمارين الرياضية هي أفضل دواء لعلاج الحزن والإجهاد

- النصيحة 3: الافطار: بعض الناس تفوت وجبة الإفطار لضيق الوقت أولتجنب السمنة، بينما الدراسات تشير إلى أن الإفطار يمنحك الطاقة ويساعدك على التفكير وأداء أنشطتك اليومية بنجاح.

- النصيحة 4: الحزم: اسأل ما تريد، وعبر عن رأيك، فأن تكون حازما مع نفسك يساعدك على تعزيز تقدير ذاتك، إن تخليت عن ذاتك وتحليت بالصمت فستصاب بالحزن واليأس

- النصيحة 5: أنفق المال على التجارب:

وجدت الدراسات بأن 75% من الناس تشعر بالسعادة عندما تستثمر المال في السفر والدورات والدراسة، بينما أشار البقية بأنهم أسعد عندما يتسوقون (ونحن كمسلمين للنفقه صدقة على الفقراء والمساكين).

- النصيحة 6: واجه تحدياتك: الدراسات تشير إلى أنه كلما قمت بتأجيل المهام يتولد في داخلك القلق والتوتر، اكتب قائمة مهام أسبوعية قصيرة وأنجزها.

- النصيحة 7: علق كل الذكريات الجميلة والعبارات وصور من تحب: املأ الثلاجة، جهاز الكمبيوتر، مكتبك، غرفتك، وحياتك بالذكريات الجميلة

- النصيحة 8: قدم التحية دائما وكن لطيفا مع الآخرين: الكثير من مراجعي الحكومة عندما تبتسم لهم يتغير مزاجهم

- النصيحة 9: البس حذاء مريحا: يقول الدكتور كيث وابنر رئيس الجمعية الأمريكية لجراحة العظام: "عندما تشعر بأن الحذاء مؤذ فإنك تصبح مزاجيا"

- النصيحة 10: اعتني باعتدال حركتك: امشي بهيئة منتظمة واجعل الأكتاف قليلا للخلف وانظر للأمام حتى يساعدك على البقاء في مزاج جيد

- النصيحة 11: استمع للموسيقى: ثبت أن الاستماع للموسيقى يدفعك لتغني، وهو ما يجلعك أسعد. (ونحن كمسلمين لنستمع للقرآن الكريم فبه تطمئن القلوب وترتاح النفوس).

- النصيحة 12: ما تأكله له تأثير على مزاجك: لا تفوت وجبات الطعام، تناول وجبات خفيفة كل 3 إلى 4 ساعات لتحافظ على استقرار الجلوكوز في جسمك، لا تكثر من الطحين الأبيض والسكر، تناول أي وجبة صحية ونوع في الأطعمة

- النصيحة 13: اعتن بنفسك وتحل بالجاذبية: 70% من البشر يقولون بأنهم يشعرون بالسعادة عند اعتقادهم بأن مظهرهم جيد.

النصيحة 14: ثق بالله: مع الله لا شيء مستحيل، السعادة مثل جهاز التحكم عن بعد عندما نفقده نشعر بالجنون ونبحث عنه دون أن ندرك بأننا جالسون عليه.

هذه النصائح الذي قدمها أحد خبراء علم النفس الإيجابي كفيلة أن تسعدك وتخرجك من دائرة الملل والسأم والقلق فأسعد نفسك بنفسك ولا تنتظر من أحد أن يسعدك ...

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية

شدري معمر علي

 

في رواية كورماك مكارثي "كل الخيول الجميلة"، يلعب القدر دورا مهما في تشكيل حياة الشخصيات ودفع الحبكة إلى الأمام. تتبع القصة رحلة الشاب جون جرادي كول وهو ينطلق في مغامرة على ظهور الخيل عبر الحدود إلى المكسيك، وهو القرار الذي يقوده في النهاية إلى سلسلة من الأحداث التي تغير حياته. طوال الرواية، يستكشف مكارثي فكرة القدر وكيف يؤثر على حياة الأفراد، غالبا بطرق غير متوقعة.

من الواضح منذ بداية الرواية أن القدر سيلعب دورا رئيسيا في حياة جون جرادي. قراره بمغادرة منزله في تكساس والشروع في رحلة إلى المكسيك كان مدفوعا بشعور من القلق والرغبة في الهروب من ماضيه المضطرب. ومع ذلك، كما يكتشف قريبا، فإن القدر لديه خطط أخرى له. لقاء جون جرادي مع أليخاندرا، ابنة أحد مالكي الأراضي الأثرياء، يطلق سلسلة من الأحداث التي ستغير مسار حياته إلى الأبد.

بينما يسافر جون جرادي ورفاقه إلى المكسيك، يواجهون سلسلة من العقبات التي تختبر قوتهم ومرونتهم. يصبح من الواضح أن القدر ليس لطيفا دائما، وأن القرارات التي نتخذها يمكن أن يكون لها عواقب بعيدة المدى. إن تصميم جون جرادي الذي لا يتزعزع وشعوره بالشرف يقوده في النهاية إلى مواجهة مصيره وجهاً لوجه، حتى عندما يصبح من الواضح بشكل متزايد أن مستقبله ليس تحت سيطرته بالكامل.

طوال الرواية، يستخدم مكارثي صورا ورمزية حية لنقل قوة القدر في حياة جون جرادي. يعد الجمال الصارخ للمناظر الطبيعية المكسيكية بمثابة خلفية للدراما التي تتكشف، مما يسلط الضوء على فكرة أن القدر هو قوة حاضرة دائما ولا يمكن تجاهلها. يُعد شكل الخيول المتكرر أيضا بمثابة رمز قوي للقدر، حيث يصبح ارتباط جون جرادي بهذه المخلوقات المهيبة قوة دافعة في رحلته.

عندما تصل الرواية إلى ذروتها، يضطر جون جرادي إلى اتخاذ سلسلة من الاختيارات الصعبة التي ستحدد مصيره في النهاية. إن سعيه لتحقيق العدالة والفداء يضعه وجها لوجه مع الحقائق القاسية للعالم الذي يعيش فيه، مما يجبره على مواجهة فنائه والقيود المفروضة على سلطته. في النهاية، يثبت القدر أنه قوة لا هوادة فيها ولا ترحم، وتشكل حياة الشخصيات بطرق لم يكن من الممكن أن يتخيلوها أبدا.

في الفصول الأخيرة من الرواية، يستكشف مكارثي فكرة القدر كقوة تتجاوز الإدراك البشري، قوة غامضة وغير معروفة توجه حياتنا بطرق لا يمكننا فهمها بالكامل. على الرغم من بذل قصارى جهده، إلا أن جون جرادي غير قادر في النهاية على التحكم في مصيره، مما يؤدي إلى نتيجة مدمرة تؤكد عدم جدوى مقاومة الإنسان للقدر.

بشكل عام، تعد رواية "كل الخيول الجميلة" استكشافا قويا لدور القدر في تشكيل حياة الأفراد وتوجيه مسار التاريخ. يعمل نثر مكارثي المؤلم وصوره الحية على التأكيد على فكرة أن القدر هو قوة حاضرة دائما ولا مفر منها، ترشدنا نحو مصائرنا النهائية سواء اخترنا قبولها أم لا. مع اقتراب رحلة جون جرادي من نهايتها، يصبح من الواضح أن القدر هو قوة جبارة لا ترحم ويجب علينا مواجهتها بشجاعة ومرونة، من أجل فهم مكاننا في العالم حقا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

النقد المبني على الشخصية للمجموعة القصصية -أوان الرحيل- للدكتور علي القاسمي

الموت حقيقة حتمية ومآل لا بد منه كما جاء في الآية 30 من سورة الزمر "إنك ميت وإنهم ميتون"

إن استحضار الموت يعتبر محطة مهمة للوقوف والتأمل في ماهية الموت وكيف أن نجعل الموت حدثا للتفكر، للاستخلاص العبر، للقيام بالأعمال الصالحة التي تعود بالنفع على الأفراد والمجتمعات.

كما جعل الله الموت في علم الغيب عنده فلا أحد يعرف متى وكيف وبأي أرض سيموت؟

وقد كرم الله النفس في الإسلام وعظمها "وقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم عما كثير ممن خلقنا تفضيلا"

فما دام الإنسان على قيد الحياة لا بد أن يترك عملا صالحا كيفما كان موقعه، أو منصبه أوعرقه أو ثقافته أو ديانته ، خدمة للإنسانية جمعاء ، أن يقدم العون والمساعدة للمحتاجين والضعفاء، أن يغرس شجرا،  يبني مساجدا أو مدارس أو مستشفيات، أن يساهم كل من موقعه ولو بعمل تطوعي بسيط.

ولقد تعددت الأسباب والموت واحد "كل نفس ذائقة الموت" ، فذكر الموت أو وصول خبر الموت  يبعث على الخوف ، على الرهبة والكل يحب الحياة ويتشبث بها - حب البقاء - ولا يستحضر الإنسان الموت إلا عند وقوعها بين الأهل والأحباب والأصدقاء رغم  أنها أقرب إلينا من حبل الوريد وهذا المشهد يجعلنا في وجل وفي هذه اللحظات نتذكر أننا في هذه الدنيا عابري سبيل ومستخلفون في الأرض للعبادة والقيام بالأعمال النبيلة ولعمارة الأرض لكن الإنسان ينشغل بالحياة، بالمستقبل ويعمل جاهدا بكل الوسائل المتاحة لتحقيق ذاته ، أهدافه ،غاياته أحلامه  وتحسين وضعه الاجتماعي، وفي خضم كل هذا وذاك ،ينسى الموت تماما ،فعندما نحضر إلى مأتم عزاء نحس برهبة المكان، بألم الفراق، بذكر مناقب الفقيد (ة) وصفاته، أخلاقه، مناقبه ومعزته وكيف أن المنية قد أخذته في غفلة منا.

حتى الموت له قدسيته فيقال أين الجثة وفي تشييع الجنازة يحمل النعش إلى متواه الأخير فأيا كان الميت غنيا أو فقيرا مثقفا أو أميا وزيرا أو عالما الكل سواسي أمام الموت ولا يبقى إلا العمل الصالح والأثر الطيب فلنترك أثرا طيبا.

واليوم للأسف نلاحظ بألم وحصرة شديدتين كيف أن الروح استرخصت وكيف يقتل الأبرياء بدم بارد وكيف تصبح الإنسانية بدون معنى ولا طعم وكيف تستباح الأرواح بطريقة همجية وضيعة.

***

بقلم الأستاذة نهلة مهاج

المعرض الدولي للكتاب والنشر بالرباط

الثلاثاء 14/05/2024

ما الّلسانُ إلّا راقصةٌ طَروبٌ لَعوب، تتراقصُ في «حانة» فَمٍ مَلوثٍ بلعابٍ غيرِ مَرغوب، وتطهيرُهُ من بغيٍّ ومن بغاءٍ لن يتأتَّى من تملُّقٍ مسكوب، بل من نبضِ قلبٍ بالخيراتِ خَضوب، ومن صِدقِ خَلجاتٍ بسجيَّةِ طرفٍ محبوب. ولئن تَطهَّرَ منهما فذلكَ لسانٌ موهوبٌ أبيٌّ مَهيوب، وإن تَعهَّرَ في حاناتِها وأُنْسِ صخبَ الدَّروب، فذاك لسانٌ مضروب معيوبٌ، وباثنتينِ مثقوبٌ، فثقبٌ يرنو ليَلتقمَ ما في الجُيوب، ثمَّ ليَصُّبَ ما التقمَ في ثقبٍ يَحنو على بغاء طَروب.

ولا ريبَ أنَّ هذي نَظَراتٌ يُحرِّرُها كاتبٌ محدثٌ ورُبَما غيرُ مرغوب، وفي فضاء الأدب ما ظننتُهُ إلّا غيرِ مندوب ولا مطلوب. ثمَّ ما مِن شكٍّ أن صدقَ العَبَراتِ بذرفٍ مكتوب، هي للبيانِ جبينٌ وما سواها إمّا مَرافقٌ أو كُعوب، وأنَّ صفاءَ النظرات من تَنَطُّعٍ كذوب، سوف تهواها النُّفوسُ بترحيبٍ طيبٍ غيرِ مكذوب. وأقولُ بعدما نفيتُ الريبَ المَعصوبَ وشكَّاَ ردفهُ مَصحوب؛

قدِ رأيتُنيَ البارحةَ أتصفحُ ندوةً لقومِي في (الإتحادِ العام للأدباءِ والكتَّابِ في العراق) تَحَلَّقَت بتعابيرَ؛ "تناصٍ إمتصاصي وإنزياحٍ إنزياحي"! فامتَعضتُ بوجهٍ غَضوب، رُغمَ أنّي في سوحِ الأدبِ -أكرِّرُها- جهولٌ ومُحدثٌ وغيرُ مطلوب، وقد دعتِ الندوة الى (عدم اعتماد انزياح الانزياح وتغليبه على الانزياح نفسه)، فأسررتُ القول؛ أفي شمالِ الأرضِ حُبِكَت هذي العبارةِ أم تراها نُسِجَت في الجنوب، ورأيتُني أتَيَقَّنُ ساعتئذٍ أنَّ مِرآةَ كلِّ أمّةٍ بَيانُها، فإنْ كَانَ بَيانُهَا فحلاً تَراهَا تَحْظَى بِصَهلةِ بَيانٍ بَينَ القِمَم وبغرفٍ غيرِ نَضوب، وَإنْ كانَ تِبيانُها ضحلاً، تَراهَا تَرضَى بِوَحلةٍ بَينَ الأمَم وبحرفٍ غيرِ عَذوب.

ثمَّ انهُ لا حاجةَ للقارئ لقلمِ أديبٍ مُتَزَلِّفِ مُتكلِّفِ الأسلوب، نراهُ يدورُ إمَّا في فلكٍ مُتهتِّكِ الصَّرفِ مُتَبَتَّكِ الأسلوب، وإمّا في مسلكٍ أعجميٍّ هو فيهِ جاثمٌ مكبوب، كي يُبيِّنَ لقارئِهِ "أنَّ الإبستمولوجيا سبرت سبيلَ سيكولوجيةِ الأنثروبولوجيا" وما مسَّها من لغوب". وتراهُ ما فتأ يُخَنخِنُ بان لسانَ الضاد عاجزٌ عن مجاراة أسلوبِ فكرهِ الفذِّ المتين المَهيوب، وأنَّ لسانَ قرآنِ ربِّ الشُّروقِ والغُروب، قد ولَّى مُدبراُ ولم يُعقِّب لمّا رأى صَرفَهُ الحَصين الرَّصين. وما كانَ فكرُهُ برَصين ولا ذكرُهُ برزين، وإن هو إلا فكرٌ بئيسٌ وذِكرٍ تعيسٍ بحرفٍ مسكين، وهو في رَنين الفرنجة حبيسٌ مَهين، ولا شفاءَ لذا كاتبٍ مسكينٍ إلا بتقميطٍ لأربعينَ يوماً بشَجرٍ من يَقطين، في أقاصي سَواحلِ نيوزلندا ولا بأسَ قرى الأرجنتين، كي يشفى من رَمدِ شكسبيرَ وأمدِ سبينوزا الحنين، ومن كمدِ نيتشهَ وزبدِ فرويدَ اللعين، فيُغادرَ التنطُّعَ والتزلفَ لفكرِ غربيٍ غريب غير مكين، ثمَّ يبادرَنا حثيثاً لذكرٍ بذرفٍ وصرفٍ عربيٍّ راقٍ مبينٍ أمين. وإنَّما ذاكَ الأديب لمسكين، وما مثلهُ إلا كمثل أنثى فرس نهر إفريقيٍّ في حديقة حيوان برلين، تراها تَتَشَمَّمُ بينَ الحشائش عن فحلٍ المانيٍّ ملطَّخٍ بالطين، ليعرسَ عليها فتُرزقَ بصغارٍ حلوين، لا يشبهوا صغارَ العَربِ العفنين، ولا أطفالَ غينيا بيساو ولا حتى صغارَ سيئولَ أو بكين.

لعلّي قد تجاوزتُ ههنا حدودَ أدبِ الأدب بذا طنين، وبانَ فطَفا على صَدري من لؤمٍ همجيٍّ غاطسٍ تحت الوَتين، ومن سُرورٍ عاطسٍ بغُرورٍ صبيانيٍّ طامسٍ دفين، بأنيَ أنا صناجة العرب المكين المبين، وما أنا على رصيفِ الأدبِ الا حادثة مُحدَثةً بل لبونٌ هجين، غير أنّي لن أترنَّى لأكونَ فرسَ نهرٍ مُزخرفٍ بالطين، ولن أغرمَ بآلاء نيتشة ولا بآياتِ سبينوزا الحنين، بل سأتهنَّى بعُيون المَها بين رصافةٍ وجسرِ على ضفاف الرافدين، وأتمنَّى رحلةً لدروبِ القيروانَ أو للشامِ لشمِّ عبق الياسمين، وأتبَنَّى ما همسَ به عنترةَ لعُبيلةَ من شَجنٍ دفين..

أَتاني طَيفُ عَبلَةَ في المَنامِ * فَقَبَّلَني ثَلاثاً في اللَثامِ

وَوَدَّعَني فَأَودَعَني لَهيباً * أُسَتِّرُهُ وَيَشعُلُ في عِظامي

لانثربولوجيةَ عُبَيلَة كُلَّ * يَومٍ سَلامٌ في سلامٍ في سَلامِ

***

علي الجنابي

لودفيج فان بيتهوفن، الملحن وعازف البيانو الشهير، معروف بموهبته الموسيقية المذهلة ومؤلفاته المبتكرة. ومع ذلك، ما قد لا يعرفه الكثير من الناس هو أن بيتهوفن أيضا عاش الحب والحسرة طوال حياته. كانت علاقات بيتهوفن الرومانسية معقدة ومضطربة في كثير من الأحيان، إلا أنها ألهمت بعضا من أشهر أعماله.

إحدى أشهر مساعي بيتهوفن الرومانسية كانت مع الكونتيسة جولييتا جويتشياردي، وهي امرأة نبيلة شابة استحوذت على قلبه. أهدى بيتهوفن مقطوعته الشهيرة "سوناتا ضوء القمر" لجولييتا، معبرا عن حبه العميق وإخلاصه لها من خلال موسيقاه. ولسوء الحظ، واجهت علاقتهما العديد من العقبات، بما في ذلك الوضع الاجتماعي وعدم رضا الأسرة، مما أدى في النهاية إلى انفصالهما.

وعلى الرغم من تحديات حياته العاطفية، استمر بيتهوفن في كتابة الموسيقى التي تعبر عن مشاعره المعقدة واضطراباته الداخلية. تُظهر إحدى مقطوعاته الأكثر عاطفية، رسالة "الحبيبة الخالدة"، حب بيتهوفن العميق لامرأة مجهولة أشار إليها بـ "حبيبته الأبدية". لقد حيرت هذه الرسالة المؤرخين لسنوات، حيث تكهن الكثيرون بهوية حب بيتهوفن السري.

غالبا ما طغت علاقاته المضطربة وحبه غير المتبادل على حياة بيتهوفن الشخصية. أضاف صممه أيضا طبقة أخرى من التعقيد إلى مساعيه الرومانسية، حيث أصبح التواصل صعبًا بشكل متزايد. على الرغم من هذه التحديات، استمر شغف بيتهوفن بالموسيقى وحب الحياة في إلهام مؤلفاته وعروضه.

اتخذت حياة بيتهوفن العاطفية منحىً مأساويا عندما وقع في حب امرأة متزوجة تدعى أنتوني برينتانو. كانت علاقتهما مليئة بالسرية والعاطفة المحرمة، وبلغت ذروتها في مقطوعة "Diabelli Variations" لبيتهوفن، وهي مجموعة من مقطوعات البيانو التي عكست اضطرابه الداخلي وحبه غير المتبادل. انتهت علاقتهما بحسرة وعزلة بالنسبة لبيتهوفن، مما ساهم في شعوره المتزايد بالوحدة واليأس.

طوال حياته، شكلت علاقات بيتهوفن مع النساء موسيقاه وأثرت على عمليته الإبداعية. ألهمته حياته العاطفية المضطربة لكتابة سمفونيات وسوناتات قوية تعبر عن مشاعره المعقدة وشياطينه الداخلية. لا تزال موسيقى بيتهوفن شهادة على عمق حبه وألم حزنه.

على الرغم من التحديات والعقبات التي واجهها في مساعيه الرومانسية، إلا أن حب بيتهوفن للموسيقى وتفانيه في مهنته لم يتزعزع أبدا. تظل مؤلفاته شهادة على القوة الدائمة للحب والروح الإنسانية، حيث تجسد جوهر حياة الحب العاطفية والمضطربة لبيتهوفن. كان بيتهوفن في الحب رجلا تحركه عواطفه، ويوجه حسرة قلبه وشوقه إلى موسيقاه، مما يخلق إرثا دائما يستمر في إلهام الجماهير وتحريكها في جميع أنحاء العالم.

وفي الختام، لعبت علاقات بيتهوفن الرومانسية دورا مهما في تشكيل موسيقاه والتأثير على عمليته الإبداعية. كانت حياته العاطفية مليئة بالتعقيد والعاطفة، مما دفعه إلى إنشاء بعض من أقوى المقطوعات الموسيقية وأكثرها إثارة في تاريخ الموسيقى. كان بيتهوفن العاشق رجلا حوّل عواطفه وتجاربه إلى فنه، تاركا وراءه إرثا موسيقيا لا يزال يتردد صداه لدى الجماهير حتى اليوم.

***

محمد عبد الكريم يوسف

صبيحة اليوم التالي ولما يزل بعد تحت تأثير فكرتين، أمّا النهوض تماما ومغادرة فراش نومه، أو العودة ثانية ليغفو من جديد ولو لربع ساعة أخرى حتى ينشط، الاّ أنه وعلى ما يبدو قد فشل في ذلك ولم يعد أمامه من خيار سوى حسم تردده، مقررا التوجه نحو مكتبته المتواضعة المقابلة لسرير نومه، ليستل منها أحد الكتب التي كان قد شرع في قراءتها ليلة البارحة وحتى ساعة متأخرة، وذلك نزولا عند طلب ونصيحة أحد أصدقائه المولعين بعالم الفلسفة، رغم عدم رغبته في ذلك وإنقطاعه عن هذا العالم ولم تعد له صلة به ومنذ فترة ليست بالقليلة وياليته لم يفعل. إذن فإختياره لهذا الكتاب، لا يشبه قراءاته التي إستقر عليها. فالرجل في هذه الآونة بل ومنذ سنوات بعيدة، وبشهادة الكثيرين، يُعَدٌ أحد المتابعين المهمين والدؤبين، لحركة الأدب العالمي ومن قبلها المحلي وبكل ألوانه، وبشكل خاص المتعلق منه بفن الرواية وما يحيط بها، راصداً آخر أخبارها  وما بَلغتهُ من تطور.

 يبدو أنَّ قراءته للكتاب إياه وإصراره على الإنتهاء منه وبأي ثمن بما في ذلك دخوله في تَحَدٍّ مع الذات، والذي مداره عالم الفلسفة وأهم مدارسها وأبرز سدنتها ومعلميها بل وحتى صرعاتها، وما صاحبها من مفاهيم وأجواء غريبة، من بينها تلك التي لم ترق له، حيث خرَجَ منها بحصيلة مفادها، بأنها مضيعة للوقت وللجهد، وربما ستؤدي كذلك الى دفع أثمان أشد خطورة.

 اللافت للإنتباه بل والأنكى من ذلك أن بدت تداعيات قراءته للكتاب جلية عليه. فبعد برهة من الوقت ومع عديد المحاولات، نجح أخيرا في إستعادة أهم ما دار من أحاديث ليلة حلم البارحة، كذلك أدَّت الى تحفيز  ذاكرته، لتعود به الى تلك الأيام التي كان فيها فتيا ومع بدايات إنتماءه السياسي والفكري، وما كان يتلقاه من إملاءات وإلتزامات من قبل عليّة الحزب الذي وجد نفسه منخرطاً بين صفوفه ومن حيث لا يدري، وقد تكون لدوافع لا تخرج عن مرحلة الصبينة، يوم كان السير مع  الجميع شَرٌ لابد منه.

 ولأن مجريات حلمه قد حملت الكثير من الطرافة والدعابة، فستجده بين لحظة وأخرى وقد غصَّ في نوبات ضحك متواصلة بينه وبين نفسه، ولو كان أحدهم في تلك الأثناء قريبا منه أو راصدا له، لكان قد أتهمه بما شاء له من التهم وأقذعها. وما كان لها أي لتلك الضحكات أن تتوقف لولا دخول والدته المفاجئ عليه في غرفته بعد طرقها للباب ولعدة مرات، كان آخرها أن وجدت نفسها مضطرة على زيادة الطرق وبقوة، بعد أن إنتابتها نوبة من الحسابات الخاطئة والمقلقة، داعية إياه الى تناول وجبة الصباح، بمعية أخوته. أمّا ما الذي إستذكره صاحبنا وحاول إستعادته قبل أن تُطرق باب غرفته وخشية نسيانه كما حدث معه سابقا ولعديد المرات، فإليكم إياه.....

 وقف صاحب الحلم بكامل قامته، بثبات وثقة، موجها كلامه على ما يبدو لمن كان برفقته في الحلم: قُلتُ لك ألف مرة أترك الأمر لي، فأنا أهلاً لحل مثل هكذا إشكال، وليس في ذلك من منةً أو ما يسبب لي حرجا، فما بيني وبين مَنْ تعنيه عقدٌ مقدّس، كان قد وُقِّعَ برغبتينا، وبموجبه سيبيح لي قول ما أشاء بصراحة وبلا قيود ومن دون مواربة أو مجاملة، ولكن (هنا بدأ صاحبنا يركّز أكثر في الكلام، حرصاً منه على ما يصدر، مصوّبا ناظريه نحو عيني مَنْ يقف أمامه) شرطي الوحيد أن لا يطّلع على ما سأقوله لك أحد، وذلك حفاظا على السرِّ إن كنت بكامل رجولتك، وإذا كنت جديرا به حقاً وأخو خيته (هنا إستخدم مصطلحا عاميا وشعبياً، كثيرا ما يجري تداوله لإثبات مدى الأهلية والرجولة) وأهلاً لتحمل المسؤولية.

 ثم راح مسترسلا: ولا أخفيك قولا، فما بيني وبين طيب الذكر وأعني هنا الفيلسوف العظيم جورج بولتيزر ألفة وصحبة قديمة وحوار مستمر. أمّا ما قاله لك البعض، بأن علاقتنا قد شابها في الفترة الأخيرة بعض جفاء، فهذا عائد الى دخول ما يمكن أن نسميه بالطرف الثالث وما أدراك ما الطرق الثالث.

 عند هذه النقطة اي حين ورود كلمة الطرف الثالث، سيستدرك صاحب الحلم وليتوقف طويلاً عند هذا التعبير. ففي هذه الآونة وعلى حدِّ قوله، كثيرا ما يجري تداول هذا المصطلح بين العديد من الأوساط، وأخطرها ما جرى تحميله من أحداث وجرائم كان قد إرتكبها، وذلك بإتباع أشد الأساليب خسة ونذالة وبوضح النهار، بحق أبناء شعبنا من الوطنيين، التواقين لإحداث التغيير وبالطرق الشرعية والرسمية، والتي كان النظام السياسي الذي ينتمي إليه أبناء هذا الطرف وهو جزء منه بل ويتحكم به قد أقرَّها وتكفَّلَ بها وعززها بجملة من الإجراءات.

 من ثم سيقوم صاحبنا بإستعراض ما مارسه هذا الطرف من الآعيب ودسائس وأساليب ماكرة، (لا تستغربوا هذا القول، فالطرف الثالث، يتواجد أحيانا بين ظهرانينا وفي مختلف الأوساط، وينشط كلما إستدعى الأمر) هادفاً الى إفساد تلك اللحمة الطيبة التي يتقاسمها أبناء البلد الواحد. والأخطر من ذلك هو إندساسه ومحاولة فك عرى الصداقة التي تجمعني بجورج بولتيزر، والتي على أثرها أخذت علاقتي بسيد الفلسفة شكلا متقطعا. غير اننا ورغم كل ما جرى فقد نجحنا وتمكنا أخيراً وبوعينا من تجاوز هذه العقدة والى حد كبير، وذلك بعد أن خضنا حوارا طويلا ومعمقا، سادته روح المكاشفة والصراحة والوضوح، ولنعود بعدها الى ممارسة طقوسنا التي إعتدنا عليها بين فترة وأخرى، كتبادل المعلومات والرؤى وتصويب الأعوج منها وعلى أسس من التفاهم والثقة المتبادلة.

 وبعدما قدَّمه من إيضاحات حول الجهة التي يعنيها والتي وجد نفسه مضطرا الخوض فيها والتحذير منها، فها هو يعود الى أصل الموضوع  الذي إبتدأه وليستمر على النحو التالي: أمّا إن شئت الحديث أكثر والتوسع في عالم الفلسفة والتي لا أنصحك التورط والدخول فيها ما دمت طري العود، فهو كما تعرف أو لا تعرف، رحب واسع، شاسع، متشعب، حاوياً جامعاً لكل أشكال والوان الثقافة والآداب والفنون والأديولوجيات ومدارسها. (هنا بدا كثير الشبه بصديقنا الأستاذ الراحل ناظم متي، في ترديد وتكرار المترادفات من الكلمات).

 ثم راح مواصلا، مستعرضا ملكاته في هذا الجزء من المعرفة: وهو أيضا أي عالم الفلسفة، يُعدٌ البوتقة التي تنصهر فيها كل العلوم الإنسانية الأخرى، ويُعّدٌ القاسم المشترك الأعظم وذلك بإعتراف كبار القوم وكل مَن له صلة به. وبسبب تنوعه وإمتداداته وإستيعابه لمختلف المجالات، فمن الصعوبة بمكان على المرء والمتتبع له بوجه خاص، أن يضع له حدوداً أو سقفاً للتوقف عنده، لا سيما ونحن نعيش على وجه كوكب مترامي اﻷطراف وغير متناهٍ. هذا إن إقتصر اﻷمر على جُرمنا الفضائي الذي نعيش فيه، فكيف سيكون أفق عالم الفلسفة فيما لو تمَّ إكتشاف كواكب أخرى خارج مجرتنا.

 في هذه الأثناء وبينما صاحبنا لا زال متحمساً في حديثه، حريصا في تركيزه على آخر الكلمات، محركها بلغة إعرابية صحيحة، سيحسده كل مَنْ يطلع عليها أو يصغي لها. الاّ أنَّ الطرف المتلقي حاول خلالها غض الطرف وللحظات وبطريقة بدت إستفزازية لمن يطلقها وربما جاءت بعفو خاطر أو لأمر طارئ غير مسؤول عنه، أو لأنه لم يكن على درجة من الإستيعاب ليتقبل هكذا لغة وبهذا الثراء والغنى، غير أنَّ صاحبنا أقدمَ على نهره بسبب تصرفه هذا والذي عدَّه تجاوزا على قدراته اللغوية، وليوجه له كلاما أقرب الى الملامة والتوبيخ منه الى العتاب.

 وفي مشهد آخر من الحلم، ستجد صاحبنا وفي تصرف غير متوقع منه، متناولا أحدهم، مستغيبا إياه. أمّا ما سبب ذلك، فمردَّه وعلى أغلب الظن، يعود الى خلافات قديمة، كانت قد نشبت بينهما على اثر حوار ساخن دار بينهما، وظلَّت آثاره عالقة في ذهنه. ولأنه على أهمية إستثنائية بالنسبة له فقد إمتدت تداعياته لتخترق حتى عالمه الداخلي ولتتجلى على هذا النحو: قلت لك ألف مرة بأنَّ فلان (هنا وكما يبدو لم يأتِ على ذكر إسمه، وربما تعمَّدَ ذلك، بهدف التقليل من شأنه) ورغم جرأته التي يتميز بها عن الكثيرين من أقرانه، وكذلك إستعداده الدائم وفي الكثير من الأحيان والمناسبات على المواجهة وخوض كل أشكال المنازلات الفكرية، الاّ انه وجد نفسه هذه المرة واهناً، إذ لم يستطع التشعب في حواراته على ما عهدناه منه، كذلك لم يكن قادراً على مجاراة خصمه والتنقل معه من موضوع الى آخر. انه الخواء الروحي بعينه، الا تتفق معي، وإن لم يكن كذلك فماذا تسميه!!.

 وإستمرارا لإستعادة حلمه، فسيتذكر صاحبنا شخصية أخرى، لم يكن قد إلتقاه ومنذ ما يزيد على العشر من السنين، أمّا كيف راوده في حلمه فهذا ما لم أجد له تفسيرا، المهم فقد كانت صورته على النحو التالي: على خطى بعض من أولئك الذين سبقوه وربما تقليدا لهم، فهو والليل وفي أيام العطل الرسمية بشكل خاص على صحبة ومسامرة دائمة ولم يكن من السهولة عليه فك آصرتها، فمثلما الندامى وعشاق أغاني أم كلثوم وخاصة محبو أغنية سهران لوحدي، من الذين لا يروق لهم المدام الاّ بعد إنبلاج خيط السَّحَرْ، فصاحبنا وَجُلَّ أفكاره لا تتفتق وتأتي الاّ بالتزامن مع ساعات الليل المتأخرة، أو إن شئت القول مع بزوغ ساعات الفجر اﻷولى. بل حتى تجده أحياناً يشاغل نفسه في تزجية الوقت وتمضيته، بهدف تأجيل البدأ بسهرته وطقوسها لبعض الوقت، منتظراً بلهفة وشوق إشتداد حلكة الظلام. ما حيلتنا فالرجل هذه طباعه، إتفقنا معه أو إختلفنا.

 ومن أبرز اللقطات التي إستقرت في ذهنه والتي سيستعيدها عن ليلة الحلم، هي العودة من جديد الى سيرة عدد من الشخصيات التي لعبت دورا مهماً ومصيرياً في رسم معالم الإنسانية وفي تحقيقها لقفزات نوعية في مسيرتها وعلى مختلف الصعد، إن كان على المستوى الفني أو السياسي أو الفكري بل وحتى العسكري. في لحظات كهذه وبينما هو منهمك في تذكُّر بعض الأسماء التي يجلّها، أراد التوقف عند إحدى الشخصيات التي يكنٌ ويحفظ لها قدر عالٍ من الإحترام، الا وهو رئيس وزراء العراق الأسبق والمعتق نوري باشا السعيد على الأرجح، غير أنَّ صوت أحد الجيران ونزاعاته المستمرة مع زوجته وفي مختلف الأوقات، قد أفسد عليه ما إنتواه، وصعب عليه تذكره وبإسمه الصريح وليكتفي بما كان ينادى به آنذاك من تسمية وهي أبو صباح، رغم ما يمتلكه عن شخصيته من معلومات تفصيلية ثرية، إذا ما استثنينا منها بعض من جوانبه السلبية.

 كذلك ما لديه من سجل غني عن سيرة الرجل كتحمَّله مسؤولية رئاسة الوزراء ولأكثر من عشر دورات، وبما يمتاز به من نزعة مدينية متحضرة، إن كان على مستوى التفكير أو السلوك أو الهوى، وهذا ما سيُسجَّل له ويوضع في خانات حسناته، وهو ما تفتقر اليه أكثر الزعامات ممن قُدِّرَ لها قيادة  البلاد من بعده وعلى مختلف الحُقَب السياسية. ويتذكر أيضا تخرَّجَه من الكلية الحربية في إسطنبول برتبة ضابط. غير أنه وبمجرد إقترابه من الإسم ومحاولة تذكره الاّ انه وللأسف سيفلت من ذاكرته من جديد، لذا قرر طوي هذه الصفحة، والإنتقال الى شخصية أخرى.  

 هنا سيتوقف مطولا عند إسم آخر، حيث يعدٌّه أكثر لماعاً من تلك التي سبق أن جاء على ذكرها. إذ فرض حضوره عليه بل وعلى غيره كما يجزم. إنه الفيلسوف الكبير جورج بولتيزر، فما بينهما كما سيترشح من الحلم صحبة قديمة، تعود بجذورها الى بدايات تعرفه على عالم الفلسفة، ويجمع بينهما أكثر من عهدٌ ووعد. تعززت وتقوَّت فصولها بالمعرفة وفي خوض صراعات فكرية حامية الوطيس مع الآخرين ومن موقع المعسكر والجبهة الواحدة، كذلك في قدرتهما على قراءة المستقبل وما تخبأه  الأيام، ليأتونك بالتوقعات ومن حيث لا تدري. ثم سيمضي مسترسلا في إستعادة حلمه: صحيح إنَّ ما يفصل بعضنا عن بعض فارق كبير من السنين، قد تمتد عقوداً بل هي حقاً كذلك، الاّ ان ذلك لا ينفي أو يحجب عنا تبادل الأفكار والخواطر بل وحتى البوح بالكثير من الأسرار فيما بيننا.

 وقبل أن يواصل سرد حلمه مع نفسه وما ظل عالقا في ذهنه، فقد راح مرتشفا نصف قدح الشاي المتبقي ومنذ ليلة البارحة والموضوع أمامه على الطاولة وبجانب الكتاب الذي شرع بقراءته وقضى على ما يزيد عن نصفه. أمّا ما قاله فهو الآتي: ولكي نكون منصفين وواقعيين، فما يصلنا من معلومات وما نكتسبه من معارف، ربما تكون قد وصلت غيرنا ومن قبل وصولها الينا، وبالتالي ستظهر العديد من الحقائق التي لم نكن على اطلاع عليها، وفي ضوء ذلك، ستخرج علينا الكثير من التحليلات والإستنتاجات. كذلك ومن غير المستبعد أن تكون أكثر تطوراً أو سابقة لزماننا، وقد نجد أنفسنا مجبرين على التفاعل معها واللحاق بها، وقد يصعب علينا إدراكها أو حلَّ ألغازها.

 (ملاحظة مهمة عن الفقرة أعلاه، فقد راح صاحبنا متناولا قلما ودفترا ليشرع وبعدما أعجبته تلك الكلمات التي خرجت منه قبل لحظات، ليقوم بتدوينها وعلى وجه السرعة ، خشية إنفلاتها من ذاكرته).

 ولابد هنا من التأكيد على أن ما جاء ذكره في العبارة السابقة والموضوعة بين قوسين تحديداً، تمثل جوهر الموضوع الذي لا يريد ولا يرغب بل لا يجرأ صاحبنا الإفصاح عنه. فعدد قليل جدا ربما لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة، كما يقول، سيستقبل ويستوعب أمراً كهذا. وإذا ما أبحتُ به وكشفت عنه وصار في متناول اليد، فلعلي سأتحول الى موضوع للإتهام والتندر من قِبَل( شعيط ومعيط)، وقد أُرْجَمُ بالغيب وبما يروق لهم، وهذا ما أعتقده بل أكاد أجزم به. فالساحة وللأسف باتت تعجٌ بعقول أقل ما يمكن وصفها بالنتنة، فما حيلتك والغباء الذي بات بالنسبة لهؤلاء يُعَدٌ وجهة نظر، نعم وجهة نظر، إن لم يحسبونها موهبة يتفاخرون بها، بل يظن حاملها بأنه واقع تحت تأثير الحسد والمراقبة، لذا راح معلقا وعلى أحد جدران بيته وفي غرفة الإستقبال تحديداً، تلك التميمة والتي تسميها العامة بأم سبع عيون، درءاً وطردا للمتربصين بـقدراته، كما يتوهم.

 عتبي عليك طويلا يا صاحبي، فما كان قد ضّرَّكَ ( موجهاً كلامه الى بولتيزر والى روحه الطاهرة كما إعتاد أن يطلق عليها) لو تَركتَ وصية بجملة واحدة وليس أكثر، صريحة التعبير مباشرة ولا تقبل اللبس أو التأويل وواضحة الدلالة، لكنت قد قطعت الشك باليقين، ولأكون خليفتك على الأرض من بعدك في عالم المعرفة، ولتضع حداً وتتوقف من بعدها كل تلك التفسيرات والإجتهادات التي ذهبت بآرائها وتحليلاتها الى مذاهب شتى، فمنهم مَن قال أنا الأولى بها من بعد رحيله، وآخر قال بل أنا، وثالثهم يَصرُّ على انه سليل تلك العائلة التي أنجبتك، لذا وأمام هذا الرهط من القطيع، فلي كامل الحق في ولاية عرشك الفلسفي، وأزعم أني الأحرص منهم جميعاً في الدفاع عن تلك المبادئ والأفكار التي كُنتَ قد حملتها بشرف، وجئت مبشرا بها ونذيرا.

 وإستكمالا في محاورة الذات ولكن على نحو مختلف هذه المرة: كي نكون منصفين فلا بد من الإشارة هنا الى أنَّ جورج بولتيزر طيب السيرة والذكر، وحرصاً منه في الحفاظ على جذوة أفكاره، وبهدف تطويعها وتطويرها  وبما ينسجم وتغيرات العصر من بعده، فقد فكَّر ملياً وبمناسبات عديدة في أن يُولّي أمر خلافته الى أية جهة أو شخص، شريطة إمتلاكهما اﻷهلية الكاملة، ليقوما من بعده بحمل تلك الرسالة التي كان قد ابتدأها. آملا أن يجري نشرها وإيصالها لأوسع قاعدة من الناس وعلى محتلف الساحات. الاّ أنّه ربما يكون قد أخطأ أو تردد ولم يستقر على رأي بعينه، وقد يكون مردَّ ذلك ما مرَّ به في حينها من ظروف طارئة صعبة وعصيبة، مَنْ يدري! لذا لم يحدد بشكل واضح وصريح عن طبيعة الشخص أو الجهة التي ستتشرف بهكذا مهمة وتكون أهلاً لتحمل وزرها من بعده.

 ثم راح أبو داود مضيفاً في سرِّه أيضاً رغم جلوسه في عتمة الغرفة وحيداً بعدما أحكم غلق ستائرها عن مصادر الضوء: لا أظن أن الطوفان سيحدث لو ألمَحتَ على اﻷقل يا صاحبي (يقصد هنا بولتيزر)، أو كنت قد أعطيت بعض المؤشرات التي تؤدي باﻵخر ﻷن يتوفر على قناعة قاطعة، يمكنها أن تساعدني في الدفاع عن موقفي وتحملي بالتالي شرف المسؤولية، أنا فلان إبن فلان، الملقب بالعارف، ﻷكون خليفة من بعدك وليس من أحد سواي، وكفى المختلفين شر التنافس والتنابز، ولأغلقت الموضوع برمته وجنَّبتنا القيل والقال، ولكنت قد أسكتَّ كل تلك الأصوات النشاز المدعية بالمعرفة، أمثال ذينك الصبيين، النابتي الزغب والعقل ومَنْ لفَّ لفهما. ولكن لا بأس فقد آليت على نفسي تحمل وزر هذه المسؤولية، متشرفا القيام بها، وها أنا ذا، ناذرا عقلي وقلبي لها( واللي ما يعجبه خلي يطخ راسه بالحايط)، وسأحاول بذل ما أستطيع، من أجل المضي في حمل رسالتك حتى إيقاد كل الشموع وفتح كل ما أمكن من العقول المغلقة المتحجرة، بل سأزيد الطرق على رؤوسها وبكل ما اوتيت من قوة، علَّها تستجيب للغة العصر.

 (في لحظات كهذه، أنا الراصد لما صدر عن هذا الرجل أي من صاحب الحلم فيما يتعلق بجورج بولتيزر ومواضيع أخرى، لا أستبعد أن يكون قد خرج بها تحت تأثير الأرق الذي أصابه ليلتها وأدى الى حرمانه من النوم وما ترتب على ذلك من تعب وإرهاق وضعف تركيز. ولقراءته كذلك لذلك الكتاب اللعين والذي يحمل عنوانا فلسفيا، المعقد جداً في أفكاره ومحتوياته ولغته. أو بسبب تلك الصراعات الفكرية التي كان يخوضها مع الآخرين، أو لتلك العوامل مجتمعة، لذا فلنغفر له زلاّته إن كانت كذلك، فالرجل ورغم القيل والقال، سيبقى طيبا وصادقا في نواياه. وقبل الختام، الا تعتقدون ورغم كل الملاحظات التي سيقت بشأن ما ذُكِرَ، بأنه قد أصاب في بعضها ووضع الأصبع على الجرح!!!.

***

حاتم جعفر - السويد ــ مالمو

 

منذ ليلة أمس، وأبيات إيليا أبي ماضي تلح علي، وتلح معها ذكريات فوق مقاعد الدراسة في المرحلة الإعدادية

ترى ما الذي ساقها إلي؟ّ

إنها صوت الرياح التي تنحب، وتنوح خلف نافذتي طوال الليل، وحتى اللحظة نهارا، ومعها تهب المشاعر والشعور الذي لا يمكن تنحيته جانبا دون أن يسلبك رقادك، ويثير فيك قشعريرة تجاه الخالق الذي بيده مقالد هذا الكون.

" السحب تركض في الفضاء الرحب

ركض الخائفين

و الشمس تبدو خلفها صفراء عاصبة الجبين

و البحر ساج صامت فيه خشوع الزاهدين

لكنّما عيناك باهتتان في الأفق البعيد

سلمى ... بماذا تفكّرين؟

سلمى ... بماذا تحلمين؟"

أتراني سلمى التي عرفت التأمل في الوجه المتواري وراء قهقهات الحياة، وضحكاتها العابثة بمصائرنا؟!

"أرأيت أحلام الطفوله تختفي خلف التّخوم

أم أبصرت عيناك أشباح الكهوله في الغيوم

أم خفت أن يأتي الدّجى الجاني

و لا تأتي النجوم"

وأستذكر وقفتي، وغوصي المطول في ذاك العمر الفتي جدا في الكتاب المدرسي الذي حمل قصيدة أبي ماضي الخالدة، وأنا التي ابتليت بهمّ الانصياع مبكرا إلى ما خفي في الكون، ودقّ، ومنه الكِبر والعجز، والرحيل، والفقد، والظلم، والعدالة المسلوبة، غير أني لم أستطع أن أكون سلمى، والشاعر يردد، وهو يحاول سحبها من أفق أظلم، واكتحل بغياب روحها في تلك اللحظات:

"أنا لا أرى ما تلمحين من المشاهد إنّما

أظلالها في ناظريك

تنمّ ، يا سلمى، عليك"

ورأيتني "سلماه" إذ يقول:

"إني أراك كسائح في القفر ضلّ عن الطّريق

يرجو صديقاً في الفـلاة،

وأين في القفر الصديق

يهوى البروق وضوءها

ويخاف تخدعه البروق

بل أنت أعظم حيرة من فارس تحت القتام

لا يستطيع الانتصار

ولا يطيق الانكسار"

وأراني "سلماه"  ثانية وهو يرطب قلبها، ويطمئنها ليردها عن الخوف، والشعور المرير الذي اجتاحها إذ يقول:

" هذي الهواجس لم تكن مرسومه في مقلتيك

فلقد رأيتك في الضّحى

ورأيته في وجنتيك

لكن وجدتك في المساء وضعت رأسك في يديك

وجلست في عينيك ألغاز،

وفي النّفس اكتئاب

مثل اكتئاب العاشقين

سلمى ... بماذا تفكّرين؟"

وكيف بي أرد إلا بالهواجس التي تبدل الحال حين يصرف المساء شمس النهار، ويلوكها في كبده ضاربا بمثلي الحال، فتنوء به وتكسر مجذافا استقوى به في النهار؟!

أما اكتئاب العاشقين يا صديقي الشاعر، فتلك حكاية الحكايات.. ففيها ألق الرومنسية، وصخبها، واستثارتها التي تخلق شجنا منه نرتوي ونتصبر على مرارة العشق، ولكن... ألست معي أنه لم يعد من عشق، ولم يعد من يستحق عناء العشق، والتشرد في أحضانه تلذذا؟!

يا لك من شاعر، وقد بلبلت بمفتاح رؤيتك أسرار حزني، وأنت تفصح عن تفكيري!

" سلمى ... بماذا تفكّرين؟"

بالأرض كيف هوت عروش النّور عن هضباتها؟

أم بالمروج الخضر ساد الصّمت في جنباتها؟

أم بالعصافير التي تعدو إلى وكناتها

أم بالمسا؟

إنّ المسا يخفي المدائن كالقرى

و الكوخ كالقصر المكين

و الشّوك مثل الياسمين"

ويا لها من دعوة وأنت بها تأخذ راحتي بترفق إلى الجمال في الكون الذي يهب الطمأنينة والسلام، رغم نوح الرياح وعصف صوتها الأجش المخيف:

"مات النهار ابن الصباح فلا تقولي كيف مات

إنّ التأمّل في الحياة يزيد أوجاع الحياة

فدعي الكآبة والأسى

واسترجعي مرح الفتاة

قد كان وجهك في الضّحى مثل الضّحى متهلّلا

فيه البشاشة و البهاء

ليكن كذلك في المساء"

ويا لك من عاشق ساحر حين حفظت تفاصيلي، بعد أن أكننت أسراري في وهج نبضك!

إذا لقد فقهت سر توردي ونور الضياء يغمرني، ولكن أتراك دريت أني أقتات على ضجيج النهار، ألوذ به وأسري، فأغفل عن وحشة تقبع في أعماقي تحيلني إلى ليل أود لو أن قمره ونجومه لا تأفل.. ولكن ما بيدي من حيلة يا صديقي سوى أن أحشر نفسي في نقسي، لأفلت بقيودي......

لقد صار الظلام حبيبا بفضلك أيها الشاعر..

سأجمع الآمال كلها باقة ورود أهديها لذاك العويل، فلعله يستكين ويهدأ، فأطمئن، وترتوي وسادتي بأماني سلاما، وسأحارب الخوف بعبير الهدايا، وإن لم أصب، فسألقي اللوم على الشعر وأصحابه..

غير أني أود أن أهمس لك بسر صغير وديع شفاف...

لقد تحولت دعوتك  في ذلك الزمان الذي صار حلما إلى أغنية، وطيف ذكرى، وهناك في ذلك الوطن البعيد الذي غادرني ولم أغادره تركت دفترا صغيرا مخمليا مزخرف الغلاف يخصني، أرجو أنه لا يزال على قيد الحياة، كنا نطلق عليه " دفتر الذكريات" أو

"أوتوغراف" ربما... ولم تخل حقيبة مدرسية لصبية منه وقعّت فيه  بعضا من نداءات قصيدتك:

" ولتملأ الأحلام نفسك في الكهولة والصبا

مثل الكواكب في السما

وكالأزاهير في الربى..."

لكننا جميعنا لم نتجرأ أن نرخي لدعوتك العنان، فنترك للحب يعمل أمره في قلوبنا عالما في ذاته..

"ليكن بأمر الحب قلبك عالما في ذاته

أزهاره لا تذبل

ونجومه لا تأفل"

فالحب كان محرما، محرما في زمننا نتزنّر به بعيدا عن عيون الرقباء، فرسانه أبناء الجيران، أو عابرون بحينا، أو رسم بطل شهير في فيلم بالأبيض والأسود، أو تخيل.... ولعل التخيل كان أقوى السلاطين على قلوب العذارى.

***

أمان السيد

18-5-2024

لم أعد أكتب للجمهور كما نوهت، بل، أمارسها الآن كالرياضة من أجل الصيانة البدنية!.. الدين يا جماعة الخير والتاريخ كلاهما من نوع واحد، أقصد، من صنف الكارثة الإنسانية! هذا ليس إجتهاد مني، بل، الواقع المخبول الذي نعيشه هو الذي صنفهما هكذا! فمن يرغب بمقاضاة أحدهم، عليكم مقاضاة الواقع الذي تعيشونه! اتفقنا؟.. حسناً، لنقل ما نريده..

في يوم لم أحبه، بعثت لي سيدة ملف قالت عنه ديوانها الشعري الأول..

طيب، ما دخلي أنا في كل هذا؟ أجابت بإسترخاء متمكنه منه:

- أرغب بأن تعيد كتابته بأسلوبك!!

مستغرباً من طرحها الشنيع، مجيباً بغباء مفتعل:

- كيف يعني؟.. ثم انتهى الموضوع من طرفي بالرفض طبعاً..

بينما كنت في يوم مغبر في القاهرة عندما طلب مني دكتور يقول عنه نفسه كاتباً روائياً؛ حسناً، رحبت به، فباغثني بطلبه وهو يرمي في حضني ملف قال عنه روايته الجديدة الثمينة:

- أريدك أن تقرأها وتعطيني رأيك فيها..

ما أن فتحت الملف حتى أغلقته! ليس تكبراً، بل تجبرا، نعم، كان الملف يحتوي على سوالف عجائز، لا تستغربوا، هذا ما وجدته في الملف، سوالف كتلك التي كانت العجائز تحكيها للصغار قبل نومهم!!.. وانتهى الموضوع برفض الإبداء بالرأي كيلا يعرف حقيقته المخجلة!

دخلنا مكتبه في مساء من يوم حار أجهل سبب أرتفاع حرارته في شتاء أفريقي لا يستهان ببرودته! حسناً، لأقل ما أنوي التنويه عنه، لم يكن مزحة إطلاقاً، بل كان موقفاً جدياً منه.. دخلنا مكتبه، كان محسوباً على المثقفين العرب، يكتب، وينشر، ويجري المقابلات الإذاعية والصحفية المحلية والدولية، وما أن فتح باب مكتبه حتى تفاجأت من وجود جهاز التلفاز يشتغل على صوت الدين وبصوت جهوري فاستغربت ذلك، سألته ببراءة نادرة:

- هل نسيت جهاز التلفاز يعمل قبل إغلاقك المكتب؟ هذا هدر للطاقة ومكلف في ذات الوقت.. قاطعني متأرجحاً بوقفته كشخص سكران:

- هناك من عمل لي عملاً.. فأردت طرد الشياطين والجن وإبطال العمل السيء المعمول لي لذلك أبقي جهاز التلفاز على هذه القناة صباح مساء وهي تبث صوت الدين!. أكيد عرفتم ما نقصده بصوت الدين؟..

في يوم كان ضبابياً، عند نهاية الخريف، لم تكن الرؤيا فيه واضحة، مثل بخار متصاعد من على قدر ماء يغلي؛ خاطبني أحدهم من دولة بائسة، لا يعرف تاريخها غير القتل والمرض والتراجع، ما علينا، هذا ليس موضوعنا. قال لي بالحرف متباهياً بغرور لا يملكه أجبن ديك:

- سأبعث لك قصة قصيرة كتبتها وأنوي المشاركة فيها بمهرجان للقصة القصيرة..

سألته مستغرباً من حديثه، شعرت بأني لست طرفاً في أمنياته! فأجبته بجدية لعينة يرفضها الناس لصدقها:

- نعم أسمعك!

سمعته يضحك كالشيطان وهو يغرد مبتهجاً بإنجازاته العظيمة، مجيباً:

- هكذا أنت دائماً تبحث عن المتاعب في ردودك! ثم واصل مستهتراً:

- أريدك أن تعيد صياغة القصة كي أفوز بإحدى جوائزها الثمينة! بعدها قتل جملته بقوله: هذا طموحي الذي أتمسك به وأود تحقيقه!..

عجيب أمور بعض الناس، هو يريد تحقيق أحلامه ولا يقدر، طيب، ما ذنب الآخرين بلعناته تلك؟!

أجبته بالرفض القاطع طبعاً، لكنه أستمات، أعاد المحاولة تلو الأخرى، وهو يتوسل حد البكاء.. وقتها لنت، قلت لنفسي، لن أخسر غير الجهد، لأفعل له ذلك وليرحمني الله.. أعدت صياغة قصته الشنيعة بأسلوبي المنكوش، وفاز فعلاً بالجائزة الثالثة لمهرجان القصة القصيرة!.. ثم نسيني ولم يعد يعرفني كالذين كتبت لهم مقدمات لكتبهم، تلك التي لم أتقاض عليها أجراً..

في يوم ولى فيه الصيف الذي لا نعرفه، كتب لي أحدهم طالباً كالعادة، أن أنظر لشيء يقول عنه قصة قصيرة! لبيت طلبه بإحترام خالص، بحثت عن قصته التي يقول عنها قصيرة ولم أجدها! أعني، كلما تمعنت بالنص أبتعد عن مفهوم القصة القصيرة. طيب، ما الذي أفعله تجاه شخص توجه لي شخصياً بالرجاء لمتابعة أو معالجة شيء يقول عنه قصة قصيرة، وما هي بقصة. لا تمت لبرنامج القصة القصيرة بشيء إطلاقاً، كانت مجرد خاطرة طويلة، لعينة لا تريد أن تنتهي، وهو يردد أنها أجمل إبداع ظهر لي في مجال القصة وأحب أن أعرف رأيك فيها؟!..

الحقيقة، لم أرد عليه كيلا أجرح قلمه.. لذت بالصمت، وجدتها أحلى صلاة أمارسها تجاه هكذا أعمال شيطانية، لا تنبعث إلا من جهال..

مما تقدم لدي ما أذكره، هذا لا يعني بأنهم كلهم هكذا، على العكس؛ هناك من هم أهل للثقة، حتى وإن كانت إمكانيتهم على قدر حالهم، يعترفون بذلك، لا يقلل هذا من قوة شخصيتهم، أجده نافعاً جداً، احترمه وأتعامل معه، وللمثال، أذكر إعلامي عراقي، أرسل لي ملف فيه قصة حياته الإبداعية، قال، هذا وما مكنني الله عليه، صغه بإسلوبك، وأضف له ما تجده مناسباً، حرره من القيود والأخطاء، أجعله كتاباً أفتخر به ومن خلالك.. احترمت صراحته، قدرتها حق تقدير، جلست، قرأت ما كتبه، فأعدت صياغته بأسلوبي، أضفت وحذفت ما وجدته لزاماً حتى خرج الكتاب بأحلى جوهر، فنقدني الرجل 500 يورو نقداً وعدا لقاء ما قدمته بجدية صارمة وصلت حد الإيمان، كإيمان الإنسان بالحجر من قبل، ذلك الذي كان يعبد ويسجد له كونه آله لا يضر ولا ينفع، لا يسمع ولا يتكلم، مسالم كان الحجر وطيب!..

***

بقلم: هيثم نافل والي

 

لا أحد يستطيع كتابةَ كينونتهِ إذا ما رامَ الكتابةَ الموصوفةَ بالخلقِ لأن هذه الكتابة بالذّات موكولة لربّ الخلق. وعليه، فكل محاولاتنا في التحبيرو التعبيرعن ذواتِنا إن هي إلا أشكالٌ من التقريبِ للجسد من ظلالِه، أو أضربٌ من الترتيبِ للظلّ في دوائرِ الجسد. وأقصدُ بالظلّ كلّ الهيولى الممكنة ولا أقصد انعكاس الكتلة بفعل مرجعية الضوء.

و كينونتي التي يمكنني أن أصوغَ فيها بعض الاجتهاد هي مساحتي الممكنة. ولكنّها مساحةٌ محدودةٌ بحواسّي. ومن ثمّةَ فعليَّ إن أردتُ أنْ أوسّع دائرتي من قبضة المحيط إلى شساعة الأفق، عليّ أن أغيّر من أدواتي القارئة لكينونتي. ومعناه، أن المباضعَ الّتي استمدّها من حواسّي الخمسة نفقَ أثرُها واستنفدتْ أغراضَها وصارتْ قاصرة عن المعرفة. وهكذا سأتكرّرُ في غيرِي لأنني لم أغيّر وجهةَ نظري من قارئٍ لكينونتي داخل الشّبهِ إلى قارئٍ لها داخل الخصوصيّة والاختلاف والتمرّد على مجموعة من الصور النمطية التي حكمتْ مخيالي وأطّرتْهُ بحكم هذه الأدواتِ الّتي صاغَها التاريخ وقدّمَها لِي أصلاً لا محيد عنه ولا مناص، كلّما رغبتُ في الكشف عن كينونتي.

يكفِيني فقط أن أخرجَ من كينونَتي وأن أضعها مؤقّتاً أمامي، مثل آخرَ يستحقّ الدرسَ بمعزِلٍ عن أهوائي فيها ولها. فهي سلطانٌ قاهِرٌ للموضوعية، ونافٍ للحياد، وحاجزٌ سميكٌ من التمثّلاتِ يحول دونَ ملامسَة بعض الأمر في حقيقته أو أقرب إلى حقيقته إن شئنا القول في أمانة علمية.

ها أنا الآن صانعٌ لبعضِ المسافة بيني وبيني. وها أنا أنظرُ إليَّ ببعض الحياد، متجرّداً من سلطانِ النرجسِ القابعِ فيَّ أبيتُ أم شئت. وأنا الآنَ أقاوِمُ هذا القهر الأنوي عسايَ أظفرُ ببعضِ المعنى خارجَ تاريخِ نرجسيتي الموغلة في كينونتي المسكينة.

 قالتْ لِي رأسي: لن تستطيعَ فكاكاً من أناكَ يا أنا...

قلتُ: لِمَ؟

قالتْ: السببُ أنّ أول ضريبةٍ لهذه المكاشفة هي أن تكونَ ماءً.

قلتُ: لم أستوْعِبْ...

قالتْ: أخْلِصِ العراء.

كانتْ هذه العبارة مثل الضربة القاضية الّتي أسقطتْ، وفي نفسِ الآنِ أيقظتْ.

فهمتُ إذن أن كتابةَ الكينونة معناها كتابةُ العراء. ومن لم يَسْطِعْ أن يتعرّى فلا هو بالكائن ولا هو بالكاتب.

***

نورالدين حنيف أبوشامة - ناقد من المغرب

الخروج عن العلاقة المعهودة بالخزف والطين الى حالة من الابداعية المحيلة الى شعرية ناعمة بينة وظاهرة في الأشكال.. تجربة ومعارض في تونس وخارجها وأعمال بكثير من الاحساس والبعد الانساني حيث التقاء أفكار ورؤية واضحة في مدى اللعبة الفنية وجمالياتها...

الفن.. هذا السفر العميق في الزمان والمكان وفق نظر بعين القلب لا بعين الوجه تماما كالحلم.. انها فكرة الذهاب بكثيرمن شجن الذات وشغف الكينونة تأصيلا للكيان.. و ماذا لوكان هذا التخير الفني مجالا شاسعا للتشكيل واللعب مع المادة وبها في تعدد لأحوال هذا التعاطي مثل الأطفال ببراءة نادرة..

هكذا هي الفكرة الجمالية لفنانتنا التي تخيرة من سنوات في شواسع الفنون البصرية التشكيلية الذهاب في الدروب الصعبة نحتا للقيمة... القيمة الجمالية والرمزية حيث الأشكال في تعدد هيئاتها بحسب التصور والقدرة التخييلية فالفن هنا وعندها هذا التجريب الواعي والحارق بأسئلته وحيرة تفاصيله وشجن عناصره في كون من التعدد والتسارع والتغير.. و اذن كيف للفنان أن يمنح الفكرة أطوارها الجديدة والمختلفة والمعبرة في عمق عن الاعتمالات وما يحف بها حيث المادة المتطلبة لجدلية التعاطي فيما يشبه الحوار.. بل هو عين الحوار المقام بين الذات الفنانة والمادة عنوان وعنصر وموضوع المنجز الفني.. و هكذا...3912 ليندا عبد اللطيف

و هذا ما أخذنا الى تجربة الفنانة التي نعني وهي في سياق هذه الاشتغالات والاعتمالات الفنية وضمن تجربة التعاطي الفني الدلالي والرمزي و... الشاعري مع السيراميك.. تدعك المادة تحاورها وتحاولها استنباطا واستقراء ومحاورة في حميمية نادرة.. تدعك شيئا من روحها طينا وتعيد القول مرات بسؤالها المقيم فيها حول الشكل ومبتكراته خروجا عن العلاقة المعهودة بالخزف والطين والصلصال الى حالة من الابداعية المحيلة الى شعرية ناعمة بينة وظاهرة في الأشكال في مساحات وفضاءات وأطر متعددة كأن يتعدد ذلك بين الاطار المغلق لتكوين وحدة جمالية متعددة العناصر او في اطار تماما كاللوحات حيث يتراءى للمتقبل جمال العمل مثل اللوحة في الجدار ولكن في خروج عن الصورة المسطحة ليبرز العمل بحركته وخروجه عن ما هو مألوف في الاطار على غرار القماشة...

ابداعية متعددة في الأشكال وجمالياتها الدالة بتعدد القراءات والتأويل.. انه لعبة الجنون الناعم في تعاطي الفنانة مع المادة قولا بالبحث والذهاب الى الجمال المبثوث في الأرجاء استعارة وحوارا فكأنما الأعمال ترغب في البث... تبث أصواتها وبريق ألقها وجمالها بما هي ترجمان أحوال الفنانة الخزافة المواصلة لنهجها الفني الذي تقصدته من عقود..

والفنانة هنا هي ليندا عبد اللطيف التي أخذت جمهور الفن التشكيلي الى عوالم أخرى من تجربتها حيث السيراميك مجال شاسع لفكرتها اليانعة منذ سنوات والتي تقودها في أطوار مختلفة الى ما ترنو اليه كفنانة حالمة في حوارها مع المادة شكلا وجمالا وموسيقة وكلمات مبثوث مثل قصائد عالية تخرج من طين المعنى.. من صلصال الكلمات..

ليندا عبد اللطيف عبرت عن هذا جيدا وبوعي الفن في نشاطها وتجربتها ومعارضها ومنها هذا المعرض النوعي برواق كاليستي بسكرة الذي انتظم في الفترة من 13 أفريل الى 04 من شهر ماي الجاري ليضم عددا مهما نت أعمالها المميزة جماليا ودلاليا لتعبيريتها الباذخة عن عمق تجربة فنانة جادة مع ذاتها والمادة والمنجز.. هذا المعرض نال اعجاب المتقبل حيث شهد زيارات للفنانين التشكيليين والنقاد والأكاديميين وأحباء الفنون ورواد الفضاء الجميل ونعني رواق كاليستي.

أعمال فنية بها تفاعلات مع المادة بين التطويع والتفاعل والمقاومة والتقبل وما يحيل الى نص من الرغبة والحركة والفعل حيث الأنامل تترك فعلها البريء والمتقصد في الطين ومجمل المواد في نزوع نحو التأليف الجمالي وهكذا كانت المنجزات الفنية متعددة الهيئات والاشكال في تناغم لحظة العمل المضنية مع الذات وأحوالها وتفاعلاتها في تقابل عضوي حي ومن ثمة يكون العمل مكتسبا لسرديته الجمالية ودلالات تفاصيله.. انها أعمال بمثابة نصوص..3913 ليندا عبد اللطيف

تجربة ومعارض وأعمال بكثير من الاحساس والبعد الانساني حيث التقاء أفكار ورؤية واضحة في مدى اللعبة الفنية التي كان من مظاهرها الرائقة هذا المعرض برواق كاليستي ونشير بالمناسبة الى تنوع مشاركات ليندا عبد اللطيف في فعاليات وأنشطة فنية تشكيلية وثقافية بتونس وخارجها حيث المعارض الفردية والجماعية ومنها نشير الى عملها الرائق والجميل في قصر خير الدين ضمن الصالون السنوي لاتحاد الفنانين التشكيليين أفريل 2024 والذي تميز بجمالياته الفائقة وصار بمثابة التنصيبة الخزفية والمعبرة عن قوتها ودلالاتها وعنفوان بوحها الاستيطيقي...

الفنانة لينده عبد اللّطيف حاصلة على الدكتوراه في علوم وتقنيات الفنون في الفنون عن " مشكلات هيمنة السواد في بعض الممارسات التشكيلية الغربية الحديثة والمعاصرة: النهج التشكيلي والجمالي " وقد  كانت مشاركاتها عديدة في المعارض والصالونات الوطنيّة والدوليّة، وهي تدرّس بمعهد الفنون الجميلة بتونس اضافة الى ادارتها لعديد الورشات مع الفنانين والشبان وهي أيضا عضو بلجنة تحكيم دوليّة بالأكاديميّة العالميّة للفنّ.

معرض وأعمال وتجربة تعد بالكثير ضمن مسارات الفن متعددة الأسئلة والدروب والأحلام ومجال شاسع لتشغيل الخيال في التعاطي مع المادة والشكل واللون بما يشي بالتناسق والاختلاف..  والفن هو هذا التمشي وغيره في ذهن الفنانة.. و مسار عملها المضني في جمال وبهاء...  ومتعة.. أليس الفن بالنهاية هو هذا البوح الجميل المبثوث في المنجز من قبل ذات من حلم وعطاء...  وابتكار...

***

شمس الدين العوني

تغنى بقصائده بعض من أبرز المطربين مثل طلال مداح ومحمد عبده وعبادي الجوهر وعبد المجيد عبد الله وخالد عبد الرحمن وعبد الله الرويشد وكاظم الساهر وصابر الرباعي وراشد الماجد، لقب بـ«مهندس الكلمة»، وأيقونة الشعر السعودي، والفنان والفيلسوف الذي لا يكل ولا يمل من إبهار جمهوره المتعطش له دائماً، ليبقى البدر مضيئاً منذ نحو نصف قرن، وكان من أبرز الشعراء في الجزيرة العربية، وساعد على انتشار قصائده تقديمها في أغنيات لحنها أبرز ملحني الخليج من أمثال طلال مداح وعبد الرب إدريس وسامي إحسان، هو أحد أبرز روّاد الحداثة الشعرية في الجزيرة العربية وله مجهودات كبيرة في وضع نصوص أدبية تجمع بين الغزل والفخر والرثاء والواقع الاجتماعي والسياسي للسعودية خصوصاً والعالم العربي عموماً

وصل شعر عبدالمحسن إلى الغناء العراقي في وقت متأخر نسبيا عن تجربته وعبر الفنان سعدون جابر الذي اختار له الموسيقار السعودي عبدالرب إدريس لحنا معبرا عن طبيعة الغناء الذي يمثله في ثمانينات القرن الماضي “أنا معك” فكانت المفاجأة العراقية مثيرة للاهتمام في لحن ونص سعوديين، واختار الفنان كاظم الساهر خمسة نصوص للشاعر الراحل، في أغنية “أنا معك” لسعدون جابر صنع عبدالمحسن من قصة الحضور والغياب في حضرة الحبيب حكاية “أنا معك/ هذا المهم/لا صرت اشوفك واسمعك” حتى يصل إلى لحظة الفراق، وعندما أراد الشاعر الراحل اكتشاف نصه من جديد في صوت عراقي كان لا بد من أن يكون كاظم الساهر حاضرا، ففي خمس أغان: “ناي”، “صور”، “الجريدة”، “ممكن توصلني” و”تحبني”، اختار الساهر قصائد بمثابة حكايات، وغير مفهوم إلى الآن لماذا وقع اختياره على الملحن السعودي الراحل محمد شفيق، دون أن يقوم هو بتلحينها؟ مع ذلك بقيت تلك الأغاني جزءا مهما من تجربة الفنان كاظم الساهر، من دون أن تأخذ المكانة التي أخذتها بقية ألحانه في الوجدان العربي، ولا يمكن أن نعزو ذلك إلى الأسباب الفنية وحدها

ولد الأمير بدر بن عبد المحسن في الثاني من أبريل (نيسان) 1949، وتوفي في الرابع من مايس الحالي، عن عمر ناهز 75 عاماً، منح وشاح الملك عبد العزيز عام 2019. وفي مارس (آذار) 2021 أعلنت هيئة الأدب والنشر والترجمة عزمها على جمع وطباعة الأعمال الأدبية الكاملة للأمير بدر تقديرا لإسهاماته في الحراك الإبداعي السعودي خلال خمسة عقود من الزمن. كما كُرّم في مارس آذار 2023 في ختام مهرجان القرين الثقافي في دولة الكويت في دورته الثامنة والعشرين باختياره شخصية المهرجان، وتولى سنة 1973 رئاسة الجمعية السعودية للثقافة والفنون، وعُين رئيسا لتنظيم الشعر بالسعودية، وتم تكليفه لعدة سنوات بكتابة الأوبريتات الافتتاحية لعدة مهرجانات محلية أبرزها مهرجان الجنادرية. وضمت خمسة دواوين هي: هام السحب، وشهد الحروف، ورسالة من بدوي، وما ينقش العصفور في تمرة العذق، ولوحة.. ربما قصيدة، صدرت أعماله الشعرية الكاملة تزامنا مع معرض الرياض الدولي للكتاب عام 2022، وهي «هام السحب، شهد الحروف، ما ينقش العصفور في تمرة العذق، لوحة ربما قصيدة، رسالة من بدوي»، بإشراف مؤسسة بدر بن عبد المحسن الحضارية، وبمبادرة من وزارة الثقافة، ممثلة في هيئة الأدب والنشر والترجمة، وتنفيذ شركة «المحترف السعودي»، التي تسهم بإشراف الهيئة، على ترجمة هذه الأعمال الشعرية إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، من خلال لجان متخصصة، لنقل تجربة الأمير بدر بن عبد المحسن الشعرية إلى العالمية.

***

نهاد الحديثي

قالَت لي نُميلَتي ذاتَ فجرٍ وهيَ سائِلةٌ باستِعلامٍ واستِخبار؛

- دَعني يا سيدي أستَفهِمُ منكَ أمراً لا يَحتملُهُ قلبيَ الضَّعيف وهوَ فيه مِحتار؛

«ما بالُكَ تُفضِّلُنا على بني جنسِكَ المُكَرَّمِ المُفَضَّلِ المُختار، فتمكُثُ فينا جُلَّ دقائقَ الفَجر وحتّى حينٍ من ساعاتٍ في نهار، ثمَّ أراكَ تعودُ كرَّاً معنا كلَّ يومٍ إن عادَ الفجرُ واستَدار»،

- أجل نُميل، لاشَكَّ أنّي أفَضِلُكُم على بَعضِ بني جنسي ممن هو خوَّانٍ خوَّار، ومنهُم مؤمنٌ ظاهراً لكنَّهُ في سِرِّهِ ظَلومٌ كفَّار. وما مكمنُ سَعْدي إلا في عَوْدي لكم كلَّ آنٍ ويُستَثار، وأرانيَ أعودُ لرُحابِ مجلسِكم إن حاقَ بذِكرِي بلاءٌ واختبار، وتَاقَ فِكري لارتقاءٍ واسْتِبْشار، أو إن عاقَ وجدي هَمٌّ مضَار أو غَمٌّ أغار، وسَاقَ الهَمُّ مَأْزِقَهُ فاضْطَرَمَ تَنُّورُ الغَمِّ وفَار. ولكأنّي بِبَعضِ بني جنسي يا نُميلَ يتنطّطُ وهوَ مِنَ الاعتبارِ عار، ويتَلبَّطُ وهوَ في الاوضارِ صَار، وكأنَّهُ فأرٌ تَدورُ عيناهُ مَن لسعةِ ماءٍ بَقبَقَ القِدْرُ بهِ وفار. بل وكأنّي ببعضٍ منهم قد خُلِقَ من مَارجٍ من نَار.

لا جمالَ يا أيُّها النَّملُ إلّا في أُنسٍ معكم، معَ مَنِ لهُ القلبُ يختارُ وبهِ سَعيد، وإنَّما خيرُ ما يتمناهُ المرءُ من أيامِ عُمُرٍ قصيرٍ أو مديدْ؛ صلةَ رَحِمٍ مِن صَفاءٍ ووَفاءٍ ويُريد؛ خلَّةَ فَهمٍ من بهاءٍ ومن هناءٍ تَزيدُ ويريدُ؛ كَلمَ صِدقِ في صبحٍ من صدوقٍ وعنهُ لا يحيدْ، فما كانَ ابنُ آدمَ إلّا كياناً من قلبٍ خافِقٍ رشيدٍ، ولساناً دافقٍ ودودٍ سديد، وما كانَ ينبغي لابنِ آدمَ أن يكونَ ذا فؤادٍ آبقٍ وكيانٍ لدودٍ عنيدْ.  وَأنا ما أُبَرِّئُ نَفْسِي وإنَّ خافقي لهُوَ بَيْنَ بَيْنَ يتَرنَّحُ ولساني عن فؤادي لا يَميد، فترَينَهُ يَخْفِقُ تارةً برأيٍ حميد، وتارةً يُخفقُ عن شيءٍ رشيد.

أنا يا بني نَملٍ لا أطيقُ مَجلساً أَطَّ بأوحالِه، فَنَطَّ باختيالِه، فَحَطَّ في سَفالَة! وأنتمُ يا بني نّملٍ، قدِ اتخذَكم فؤادي وطناً في حلٍّ وفي ترحاله، ولن يبغيَ عَنْ همسِكُم حِوَلًا ولا بدلاً بدَا له، وإذ أنتُمُ قناديلَ فَجريَ المؤنسِ بجَمالهِ، وإذ تغشاني في شروقٍ أنيسٍ نَفيسٍ بكَمالِه.

- وأنتَ يا سيدي شمسُ فَجرِنا وجماله، يا نبيلَ البيانِ بسحرهِ ومثاله، و..

- أنتمُ يا بني نملُ لا تُقهقِهونَ كما هُمُ يُقهقِهونَ عليَّ بازْدَرَاءٍ ورُبَما بنَذالَة، وأنتم لا تَظنُّونَ بي مِثلما هُمُ يظنُّونَ أنَّيَ بَليدُهُمُ، وأنّي من زمانٍ غابرٍ غَبيٍّ في مثالِهِ، ومن مَكانٍ بَغيٍّ غامِرٍ في خَبالة.

أوَلَمْ تَرَوا يا نملُ، أنَّ النَّملَ مِنكُمُ لا يتَبَجَّحُ ضُحىً فيَزأرُ ذَوْدَاً عن أرضٍ وعِرضٍ وعن جُذورِ من أصَالَة، بينما يتَنَحنَحُ عَشيِّاً ويَجأرُ عَوْدَاً الى خَوضٍ في مَصَالَة، ثمَّ الى خُمورٍ يَتَرَنَّحُ بها حتّى الثَّمَالَة. وَعندَما يرَى الحشدُ منكُمُ المَلِكةَ مُقبِلةُ فلن يُجَلجِلَ بالرُّوحِ يحَميها ويَفَديها بدماءٍ من رِجالِه، وَحينَما يَرَاها مُدبِرةً فلن يُوَلوِلَ بالبوحِ عليها ويرميها باللَّوحِ ورُبَما بِنِعالِه. ولئنِ انقَلَبَت بعضٌ منكم إلى الملكةِ متفاوضاً وثائِراً من أجلِ إنصافٍ وعَدالَة، فلن يَنجَذبَ لها خائِراً من أجلِ مَنصبٍ بَدَا لَهُ، أو دينارٍ بِدَالَه.

- حُقَّ لكَ يا سيِّدي أن تُجالسَنا في صَمتٍ أو في خَبتٍ من مقالة، مادامَ وصفُكَ فيمن لا يَشعرُ من بني جنسِكَ بما فيهِ من نذالة، ولا يعلمُ أنَّ أَنْفَهُ لا يُقيمُ وَزَنَاً عَدَا فَرْجَهُ وما دونُهُ يَكنسُه بالإزَالَة، وإنَّ أَنَفَهُ لا يُديمُ حَزَنَاً خَلا خَرْجَه ولن يبغيَ عنهُ استِقالَة.

- وَلَوْ أَنَّ أولاءِ «فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا»، ولكنَّ فعلَ الوَعظِ فيهُمُ يَبدو بعيدَ المَنالِ بل استِحالة، بعدما خابَ في النُّفوسِ جِدُّها وفَصلُها وتقطَّعت في الجدِّ أوصاله، وذابَ منها ودُّها ووصلُها وتنَطَّعت في الودِّ حثالة. حثالةٌ اضحتِ تُغَيِّرُ رِفْقَ التَّعارفِ الى ثغاءٍ وصديدٍ باستحالة، وتُصَيِّرُ دِفقَ التَّآلفِ الى إغواءٍ بتغريد لإستمالة. وإذاً، فدَعوا فجرَ أيَّامي يا بني نملٍ مَعكم  يَنقضي بدلاله...

ويا لجمالِ فجرِ النَّملِ ويا لكماله!

كانت تلك (صفحة من مخطوطة كتاب لي " حِوَاري مع صَديقتيَ النَّملةِ" تبحث عن ناشر).

***

علي الجنابي

 

التراث المصري المعاصر يبدو كمغارة على بابا الحافلة بالجواهر والأحجار الكريمة.. والذين ينبشون الماضي ويزيحون التراب عن كنوزه المردومة سيكتشفون منجما لا ينضب..

أحد الذين اكتشفوا شيئاً من تلك الكنوز هو الكاتب (أبو الحسن الجمال) الذي أتحف المكتبة المصرية بإعادة اكتشاف أحد رموز الصحافة المصرية وهو الصحفي (طاهر الطناحي)!

الحكاية بدأت بالصدفة.. مقال كتبه الأستاذ أبو الحسن عن طاهر الطناحي بمناسبة مرور خمسين عاماً على رحيله، فقرأه الشاعر الساخر ياسر قطامش وتحدث مع المؤلف وأخبره أن الصحفي الراحل له ابن على قيد الحياة يُدعَي ثابت الطناحي، فتواصل معه وإذا به يكتشف أرشيفاً غزيراً تركه الطناحي ولم يظهر للنور!

هكذا قرر أبو الحسن الجمال جمع هذا التراث من كافة مصادره، من مكتبة ابنه ومن دار الهلال التي قضي بها الطناحي أربعين عاماً من عمره، ثم من التراث المنشور للطناحي في دار الكتب. يقول الجمّال عن الطناحي وتراثه الغزير: (حاور الطناحي أعلام العصر من السياسيين وكبار الكتاب ومعظم رموز مصر والعالم العربي، وقد توفر لطاهر الطناحي المنابر والمنافذ للنشر/ فقد كان ينشر في كبري الصحف والمجلات منها مجلات دار الهلال مثل الهلال والمصور وكل شيء والعالم، والدنيا، والمصور، والاثنين والدنيا، ثم في مجلات أخري مثل الرسالة لأحمد حسن الزيات، والثقافة لأحمد أمين، وجريدة دمياط، وجريدة البلاغ، ومجلة العربي الكويتية ومجلات الأديب والآداب التي تصدر في بيروت، ومنبر الإسلام في مصر وغيرها).

معنى ذلك أن التراث المقروء والمسموع والمرئي من صور ولقاءات ومقالات ومؤلفات أدبية لهذا الصحفي الكبير هو تراث غزير ضخم يستحق إعادة عرضه واكتشافه وتقديمه لجمهور القراء.

هكذا جاءت فكرة جمع بعض هذا التراث الصحفي الثري الدسم في كتاب نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب تحت عنوان: (من تراث طاهر الطناحي). جاء الكتاب في أكثر من أربعمائة صفحة من القطع المتوسط، وتم تقسيمه لأربعة محاور: المحور الأول منه شمل حوارات الطناحي مع أعلام العصر في السياسة والأدب والفن وهي حوارات متعددة ضمت الكثير من الأسرار والمعلومات غير المألوفة. أما المحور الثاني فقد تناول طرفاً من تراجم الطناحي عن أعلام العصر والتي جمعها في كتبه: "ساعات من حياتي"، و" ألحان الغروب"، و"الساعات الأخيرة" و"أطياف من حياة مي"، و"حافظ وشوقي" و"حديقة الأدباء"و"خليل مطران".

ثم المحور الثالث من الكتاب والذي سرد فصولاً أدبية وتاريخية ودراسات نقدية وفكرية للطناحي باعتباره شاهداً على عصره كأديب وصحفي ومحاور وأحد الذين وضعوا نصب أعينهم مهمة تسليط الضوء على معاصريه من الأدباء والسياسيين والفنانين كمحاور وكاتب للسيرة الغيرية وصاحب رأي في هذه الحقبة الثرية الحافلة بالأحداث والمواقف والشخصيات..وقد عاش الطناحي فى النصف الأول من القرن العشرين، بين عامي 1902 وعام 1967.

أما المحور الرابع من الكتاب الدسم فقد اهتم باستعراض الإنتاج الأدبي للطناحي في مجال القصة القصيرة، وهو المجال الذي اقتحمه كثير من صحفيي الجيل الأول والثاني؛ من واقع احتكاكهم بالحياة ووقائعها اليومية، ومن معايشتهم للأجواء الأدبية شديدة الحيوية آنذاك، والتي تحولت في بعض منحنياتها لمعارك أدبية بين مدارس الأدب المختلفة.

الحق أن الذي يراجع صفحات هذا الكتاب وما حواه من إنتاج صحفي واحد من بين عشرات الصحفيين الرائعين القدامي والحاليين لابد أن يتعجب ويندهش ويتساءل: أين كان كل هذا؟ وهل هناك قعر لهذا البئر السحيق الذي توارت فيه مثل هذه الكنوز الصحفية والأدبية؟! ولماذا لا نجد أمثال الكاتب أبو الحسن الجمال الغيور على هذا التراث لإعادة اكتشافه؟

ثم هناك أمر لابد من الإشارة إليه والتأكيد على مغزاه.. أن هيئة الكتاب بات لها اتجاه واضح رائع لمد الخيوط نحو الجذور لوصلها بالحاضر. وأن ثمة رغبة صادقة لإحداث حالة من التغيير النوعي في المحتوي من خلال اكتشاف كنوز التراث في مختلف مجالات الفكر والأدب والثقافة.

وفى ظل ارتفاع أسعار الطباعة والنشر الورقي، وبالرغم من هبوط الخط البياني للقراءة الورقية لا في مصر وحدها بل في كل الدنيا، إلا أن الهيئة ظلت حريصة على إتحاف المكتبة المصرية والعربية بمائدة متنوعة من المؤلفات رخيصة الثمن عالية الجودة ثمينة المحتوي، تلك المؤلفات التي تبرز حجم القوة الناعمة في مصر وضخامة ما تمتلكه من تراث فكري هائل لا ينضب.

البعض قد يصنف كتاب (من تراث طاهر الطناحي) كأحد الكتب المتخصصة في مجال الصحافة، وأن قراء الكتاب هم الأدباء والصحفيون، إلا أنني أؤكد أن مختلف الفئات المثقفة سوف يندهشون من قراءتهم لهذا الكتاب، وسوف يعدونه إضافة مهمة لمكتبتهم الخاصة.

***

د. عبد السلام فاروق

للحديث عن الريف والديرة والموروث الشعبي، مع شاعر البادية محمود حمادي الهندي، نكهة خاصة، وذلك لموهبته، وتمكنه، وبلاغته، وتراكم تجربته. وتجدر الاشارة الى ان المتلقي يتلمس في ثنايا سرده معه،كيف توطنت بعمق، ذكريات الماضي في وجدانه الريفي الزاخر بكل صفحات تلك الذكريات الحالمة . ويتملكه عندئذ،  شعور عارم برهافة حسه الشاعري في الوصف، حيث تتجلى بلاغة توظيفه المفردة الشعبية، باقتدار واضح، في نظمه القصيد، حتى يخال له انه يعيش الحدث، ساعتئذ، بمعيته، بين احضان جداتنا أيام زمان، حيث يقول في قصيدة له:

أشكَد مشتاكلج يادار أهلنه

تعاليل وفرح ورياح حنّه

*

بيادر والحصاد وبيها جدّاح

نسينه رسومها وهن مانسنّه

*

جريبة من الكَلب كَرب الشرايين

ولو حتى الليالي باعدنّه

*

جانون وبرد وبليلج أنخاف

وياجدّاتنا إشكَد خورفنّه

*

أثاريها سوالف للينامون

وكل ظنّه السعالو ياكلنّه...

ويلاحظ المتابع لنظمه، انه نتاج بيئة ريفية النكهة، والتقاليد، يسود أعرافها الفخر، والإعتزاز بمكارم القوم، والتغني بالربع، والربوع، والمكان. ومن ثم فإن نظمه، يأتي في صميم ممارسته شعر الوقوف على الإطلال، في الشعر العربي الأصيل، وما ينطوي عليه من تقليد ظاهرة ابراز المعاني، والدلالات التعبيرية الرفيعة، لعلاقة الإنسان العربي،بالموروث من التقاليد، والمكان.

وبذلك فإن شاعر البادية محمود حمادي الهندي، بجدلية التعبير عن علاقة وجدانيات الحس المرهف بالمكان، في نظمه الابداعي، انما يحاكي، اسلوبية شعرية، وثقافة عربية متجذرة بالأصالة، عصية على المسخ،والتشويه، والضياع،بضحيج تداعيات عصرنة صاخبة، بكل ابعاد جوانبها السلبية.

انه بهذا الإبداع المتميز في النظم، والتمكن المقتدر في تصوير مفردات الموروث،يمثل طاقة إبداعية متوهجة من طاقات الديرة الواعدة،ولعل نعته بشاعر البادية، إنما يأتي تجسيدا حيا، لاقتداره المفرط، في إختيار المفردة الشعبية،ونجاحه في دسها ببلاغة مدهشة، في ثنايا نظمه،دون تكلف.

***

نايف عبوش

بعد منتصف الليل،خلال جولة في داير الناحية بالقرية  توقعت ان الوقت مناسب للمشي بسبب ظروفي الصحية، من تعليمات الطبيب بعد إجراء جراحة  بالمشي ساعه، وبسبب قصر النظر، كان في اعتقادي هذا وقت مناسب

رغم ان الساعه تقارب  الثالثة صباحاً الشوارع تدب بالحياه (موتسكلات وتكاتك اطفال في الشوارع مكبرات صوت تخرج من كل مكان)، فوضي وكأنك في وضح النهار   وجوه العزلة في المساء لا يعرفها هذا الجيل نحن جيل عشنا هذا الزمن ونحن صغار الشوارع فارغه من المارة قبل صلاة العشاء،  .

خلال جولة في الصباح،  الساعة الثامنة والنصف، كانت الشوارع فارغة،أين الناس ...؟

تذكرت صديق للآول مرة يسافر الي اوروبا وكان ضيف عندي في شمال  المانيا،،فقال لي،- أين الناس ..؟

لم أجد غير التمثال في الميدان الذي انتظرتك فيه..!!

كان ردي انها العزله الجماعية  هنا الناس تستيقظ في المانيا الساعه الرابعه صباحاً

وتذهب للعمل،

أما في المساء فتكاد الشوارع فارغة ياصديقي،   خرجنا يوماً للنزهة في المساء والشوارع صامتة فسألني نفس  السؤال :

" أين الناس؟" هنا حياة منظمة وفي المنازل حياة مختلفة.،. هنا شارع وميدان للسهر ليلة الأحد فكان شغوفاً

للخروج، في الميدان وأثناء التقاط بعد الصور التذكارية، وقفت سائحة والتقطت عدة صور للتمثال، لكنها لم تلتفت إلي:

يبدو أنني غير مرئي" أرى ولا أُرى"

على قول محمود درويش:

" كم انت حر ومنسي في المقهى "وكذلك في بلاد الافرنج

لا أحد يحملق في حضورك أو غيابك،

فلا أحد يهين

مزاجك الصافي،

ولا أحد يفكر باغتيالك

كم أنت منسي وحر في خيالك في بلاد الجن والملائكة.".

يوميات مثقف في الأرياف

**

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث

 

من حسن حظ الروائي انه يستطيع قول وكتابة ما لا يستطيع غيره كتابته، خاصتاً اذا كان محمياً بقانون وعرف وأخلاق وتقاليد صافية ووثاثق.في حادث مقتل" أم فهد" العراقية في بغداد..اعاد الي الذاكرة صديقي الروائي العراقي /حمزة الحسن في مقال له .. عن شخصية" سعيد مهران المصري وسعيد مهران العراقي" ..في بلدان أقدم من التاريخ .. وفي  مجتمعات تنحدر نحو الهاوية على صوت المآذن وأجراس الكنائس ومناحات التاريخ وطقوس الشرف المزيف والرصاصة الخاطئة".

كتب نجيب محفوظ عام 1961 رواية اللص والكلاب عن سفاح الاسكندرية/ محمود أمين سليمان /عام 1960، وكتب حمزة الحسن هذا الاسبوع عن أم فهد وقارن بين مكان مصرعهما .. سعيد مهران قصة حقيقية .وام فهد واقع حقيقي..

براعة الكاتب

قلب الحكاية كلها لأن الأدب رؤية ذاتية وليس مطابقة مع الواقع، وحول الحدث الفردي الى قضية كبرى، وتم تجسيد العمل الي فيلم سينمائي، وغاب عن عالمنا العربي رؤية محفوظ الاستثنائية عن ربع قرن من تاريخ مصر الحالي بعد رحيله، "سعيد مهران في اللص والكلاب" خيره القاتل محمود أمين، عن الاختيار والحرية وحدود المسؤولية والخيانة والقسوة، وصراع الإنسان الأعزل والوحيد أمام الشر والخديعة والنذالة.

تبدأ الرواية من خروج "سعيد مهران" من السجن بعد أن تنكر له الجميع، حتى إبنته "سناء "رفضت تقبيله ولم يقف معه في المحنة غير (الراقصة نور)، وهنا تتجسد عبقرية محفوظ في قلب كسر النمطية الاخلاقية، تقول له بعد أن خانه الجميع:

" أحطك بعيني وأكحل عليك".

الراقصة "نور" حقاً الشمعه التي تضيء الطريق في ظلام سعيد مهران.

نجيب محفوظ دقيق في اختيار الاسماء وأدوارها، وتأتي الأدوار مطابقة أو متناقضة مع الأسماء: إبنته سناء: معناها الشرف والرفعة، لكنها تتنكر بلا شرف للأب الضحية.

نور: راقصة، لكنها تقوم بدور الوفاء المشرف.سعيد مهران: وهو حزين، ومهران تعني الذكي والماهر والحاذق، لكنه مزيج من السذاجة والبراءة.

رؤوف: الرحمة والحنان والرأفة، لكنه إنتهازي ونذل وخائن، والمفارقة أنه من أسماء الله الحسنى.

بتعبير الشاعر السوري: نزار قباني:

"إن أقبح ما فينا هي الأسماء".يقرر سعيد مهران الانتقام من صانعي مأساته ومنهم "رؤوف علوان"

المثقف الانتهازي الذي إستغل سعيد مهران لتحقيق المنصب والجاه والثراء،

وفي الوقت نفسه يكتب خطابات منافقة ضد الفساد والباشوات ويدفع سعيد مهران للسرقة وتبريرها له ثم السجن.

خرج سعيد مهران من السجن ووجد أن جميع صانعي مأساته هم أغنياء، "رؤوف علوان" ورطه في جريمة وصديقه "عليش" يتزوج زوجته وابنته تنكرت له كلص، ورغم محاولات الشيخ" علي الجنيدي" رجل دين وصاحب طريقة في تهدئة قلق سعيد مهران وحثه على الصبر وانتظار انتقام الله، لكن سعيد مهران يعرف ان صبر الله طويل فيقرر قتل رؤوف وعليش.

يطلق النار على "عليش" لكنه يقتل خطأ شريكه في العمل، فيستغرق رؤوف علوان الذي صار رئيس تحرير في وصف الجريمة، مما أثار غضب سعيد مهران وقرر قتله، ويتربص به ويقول له وجهاً لوجه:

"أنا سعيد مهران، خذ".

يطلق عليه الرصاص لكنه للمرة الثانية يقتل شخصاً بريئاً هو الحارس، وبعد مطاردة في المقبرة يُقبض عليه.

عاش سعيد مهران وحيداً كضحية، وعندما إختار محفوظ المقبرة مكان صراعه الأخير، ليجسد أعنف حالات القسوة عندما لم يجد مكانأ يأويه غير المقبرة.

إنتهى سعيد مهران في الرواية، وقد يقوم روائي آخر، ويقدم رؤيا جديدة لسعيد مهران والكلاب: لعصرنا الحالي من ظهور شخصيات غريبة عن مجتمعنا انشغل بهم رواد /شبكات التواصل الاجتماعي والاعلام /امثال صبري نخنوخ/والعرجاني / وابراهيم عيسي ويوسف زيدان وغيرهم واخذوا مساحه كبيرة من حالات السيجال والجدل، والكلاب علي حدود مصر الشرقية يقتحمون اليوم رفح أخر معاقل المقاومة.

إن الضحايا كثر والقتلة كثر وغالباً ما تخطئ الرصاصة. كان خطأ مهران الفادح هذه المرة قناعته أن الرصاصة التي تقتل الانتهازي واللص المثقف رؤوف قد تقتل الفساد لأنه منظومة متكاملة وبنية سياسية واجتماعية، وأنه أطلق النار على الشخص الخطأ والمكان الخطأ، ومرة ثانية يظهر نجيب محفوظ ذكاء وعمق وعبقرية الروائي في جعله يخطيء الهدف مرتين. اشار في نفس السياق الروائي العراقي / حمزة الحسن.

يحضر سعيد مهران في قضية " البلوغر أم فهد" وقتلها باحترافية وسهولة حتى أن القاتل جمع مغلفات الرصاصات القاتلة لاخفاء الرقم وسرق هاتفها.

لكن أم فهد واحدة من منظومة فساد كاملة والرصاصة التي قتلتها لن تقتل الفساد الاخلاقي والسياسي وكانت ترقص مع الذئاب والافاعي بمرح، هي جزء من نسيج عام للفساد لكنها كانت تعمل بعلانية ووضوح دون اخفاء ودون أقنعة، لكن هناك من أخطر منها في الفساد ممن يتنكرن باسماء مستعارة وصفحات.وهمية ومغلقة سرية مخفية..اعتقد .لم تدّع أم فهد انها عاشقة..

بل تصرفت كما تفكر وفعلت كما تقول والرصاصة التي قتلتها لن تقتل نسيج الفساد العام الغاطس في الاسرار والأقنعة. لماذا يراد ان تختفي الأم الشريفة والزوجة المخلصة والفتاة النظيفة والكاتبة الملتزمة، من الواجهات لكي تظهر هذه النماذج الدونية المنحطة؟سعيد مهران قُتل في مقبرة كما قتلت أم فهد في سيارة، لكن سعيد مهران العراقي أخطأ الهدف مرات من قبل وسيخطيء.هذه الحادثة رأس جبل الجليد الغاطس أعظم والصمت تواطؤ صامت ومناخ للجريمة ولا جريمة بلا مناخ ولا لغة تبرره.

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

قصتي مع الليل تحمل في فصولها  كما هائلاً من الأحداثِ وتوحي لقارئِها بأن كل شيءٍ قد صُنِعَ من الهمّ والحزَن. يستقبلُني الليلُ دون كلامٍ ولا سلام، يأخذني إلى مقعدي الذي نصبهُ بيديه، ولا محيصَ عن الجلوسِ فيه، دون رغبةٍ مني بالطبع. يبدأ الصديقُ الليليّ الثقيلُ الذي فرضهُ الليلُ عليّ، "الهمّ" محادثتي. وفي كل حديثٍ يتفوّهُ به كنتُ أوحي إلى أذُنَيّ بأن يلتزما الصمم، ويقرعا طبولَ الصمتِ، كي لا يسمَعا حديثهُ الثقيل. لكنّهُ لا يُبالي بما أحدّثُ نفسي وسمعي به. يتحدثُ دون توقّفٍ، لم يتعلم آداب المحادثة مع الآخرين. يتكلمُ والزهو يملأ حديثَه، ويطلبُ كل ما يشتهي دون خطوطٍ حمراء. يقول : كم من العمرِ أمضيتَ؟ وكم من الليالي قضيتَ؟ لم أفارقكَ يا صديقي!!

قلتُ والترقبُ يملأ فكري: يا صديقي، قضيتُ من عمري سنينَ طوال، على يديكَ تلظَّت، وعلى ضفتيكَ تمشَّتْ، وما كلَّت قوايَ، لأنكَ أودعتَ فيَّ جرعاتٍ من الصبرِ والجلَدِ ما لم يتفق لحيوانِ الركوب!!

ضحكَ صديقي من آخر كلامي وقال: هذا ما كنتُ أنتظرهُ منك، وشنفتُ أسماعي كي أسمعَ ما أودّ سماعه. الحياةُ يا صديقي العتيد راكبٌ ومركوب!! اليومَ قد ركبكَ الهمُّ، وغداً تركبني لا تقلقْ!!

قلتُ في نفسي: ومتى اتفقَ لي يوماً أنني ركبتُكَ؟!

ثم قلتُ له: هل لك رفقةٌ مع الشيطان يا صديقي؟

قال وقد بانت أماراتُ التهكم على محياهُ: نعم مع الشيطانِ يا صديقي! وهل تعلم أضرابَ الشياطين التي ترغب بزيارتك كل ليلة؟ وهل لهؤلاءِ نعتٌ مخصوص يعرفونَ به؟ هل لهم أجسادٌ وأرواحٌ يُعرفون بها؟ أم أنه الخاطرُ الذي يلازمكَ حين يُرخي الليلُ سدوله؟

تحيَّرتُ وأصابني نوعٌ من الذهولِ ولم أحرْ جواباً!!

ثم قلتُ: وهل للخاطرِ دخلٌ في هذا؟ !

قال: الخواطرُ يا صديقي تتمثلُ بصورٍ كصورِ الشياطين، وتأتي دون إذنٍ منكَ لأنكَ قد فتحتَ لها أبوابَ روحكَ ونفسك وقلبك. ولا تظننَّ أنها تزورك في أوقاتِ يقظتِك فحسب، لا لا ... إنها تأتيك حتى في أحلامك أو لحظات غفوتك ومنامك.

قلتُ: وكيف أفرقُ بينها وبينكَ؟!

قال: دعكَ مني، فأنا واحدٌ من هذه الخواطرِ التي تسميها أنت "الشياطين". أظنكَ تخلطُ بين شيئين هما "الهمّ" و "الوهم" !! أنا الأول الذي لا يزورك إلا من حيثُ تعلمُ، وتعرفُ حتى وقت زيارتي. الثاني هو الأخطرُ والأجدى أن تحذرَهُ وتهابه. الوهمُ، يا صديقي، أعتى الشياطين، وأخفى الأعداء. يحومُ حول الأفكار، ويحوطُ العقولَ الضعيفة الخائفة. يأتيك من حيثُ لا تدري، ولا ينتظر عند باب الدخول، لأنه ينفذُ عبر جدرانِ الأفكار، ويخترقُ أقوى الأسوار. يعيش على أوضارِ الجهل، ويتغذى على ضَعفِ الهِمَم، ويرمي الجميع بكل أسلحته المتاحة لديه. هذا هو الشيطانُ الأكبرُ يا صديقي!! هو الذي أسقطَ الدول، ومن قبل أسقط الأديان وخرَّب العقول. هو المَطيةُ الذهبيةُ لأهل الخرافة والجهالة، وسلاح ذوي العقد النفسية المستعصية. يأتيك باسم المقدَّس، وينفذ إليك ، إلى عقلك، بعد أن يضرب على أضعف أوتارك، ويسمعك اللحن الذي تودُّ سماعه.

قلت: ما أبلغ حديثكَ يا "همّ"!!!

قال: وأزيدك، هذا الوهمُ الذي لم تتنبَّهْ إليه، هو الذي أوهَمَكَ أنّي من يجلبُ لك التعسَ، والحظَّ النحس، وإذا دققتَ وأصفيتَ ذهنكَ يسيراً، ستدركُ أنك تؤلفُ الأساطيرَ في فِكركَ، وتنسجُ الخيالَ المروعَ في مسرحِ عقلك. دعكَ من كلّ هذا، ودعكَ مني، فليس كل من يكرههُ قلبُك يضمرُ لك الشرَّ، فلربما كان هذا من خواطر الوهم، ومنزلقات سوء الظن. قم يا صديقي، فلي حسنةٌ في إيقاظكَ من غفلةِ الظنون، وقصرِ النظر في العيون، لك أن تتثاقلَ من حضوري إليكَ كلَّ ليلة، ولك أن تدعوَ الله أن يبعدني عنكَ، ولك أن تكتبَ القصائدَ للتنكيلِ بي وتعليقِ أسبابِ تعسكَ على مسامير الظن السيء بي، لكنك لن تجدَ رفيقاً ناصحا مثلي، ولن تصحبَ زميلاً فاضحاً للوهمِ غيري. نم هانئاً على فراشك الوثيرِ، وغطِّ العيونَ بخاطرٍ يبعثُ فيك الخير من جديد، ويكشف عنكَ دياجير الوهم، الذي يطفيء  أنوار الطريق. نم يا صديقي، بين أحضانِ الكلمات الناطقة بتباشير التفاؤلِ ونثيث الأمل. دعكَ مني، فأنا وهمٌ لكنه ليس شيطاناً رجيماً، تتعوذُ منه لرب العالمين، قم وتوضّأ بأقباس الحقيقة وأنوار الواقع مهما كان شديد الوطأة. قم وصلِّ في محراب الأمل، ولا تلتفتْ إلى ورائك كي لا تفسدَ صلاتك بالخوف والقلق من دسائسِ الهم واليأس. قم وادعُ بباطنِ عقلك وبياضِ سريرتك، أن أكونَ رفيقاً دائماً لك، حتى تتخلص مني بي... تصبح على خير يا صديقي...  

***

بقلم د.علي الطائي

 7-5-2024

من العادات التي كانت قريتنا تحتفل بها، ولها مذاق خاص (عيد شم النسيم)، وللأسف لم نتعلم ونعرف سبب المناسبة. وكانت قريتنا  تتزين بأغصان واوراق شجر الصفصاف علي اعتاب بوابات المنازل التي كانت من الطوب البن (الاخضر) وكانت النساء والاطفال تضع الكحل الاسود في العيون يوم السبت قبل يوم  الاحد عيد القيامة للآخوة الأقباط وهو من التراث المسيحي

القبطي المصري (سبت النور) وكانت معظم  العائلات تربي الدجاج البلدي وقبل عيد شم النسيم تخزن بيض الفراخ لهذة المناسبة ونبدأ يومنا بسلق البيض  وبتلوينة  بمادة صبغ  تسمي "اللعله" بجميع الألوان . وكنا صغار نلعب ونفرح  بالبيض ونعاير بعضنا البعض من معه اكثر من الأخر ..وكانت بعض العائلات تذهب لقرية مجاورة لنا بها مقام العارف بالله (عبد الله بن سلام) لشراء السردين والفسيخ وقضاء اليوم هناك في ساحة ابن سلام .والبعض يذهب الي المدينة او الحقول تحت الاشجار لتناول الأسماك المملحة وقضاء اليوم وسط المزارع ،،من طرائف هذا اليوم ..اقترح صديق ان اقضي معهم شم النسيم في الحقل  "الغيط" وركبت معهم عربية الكارو ..وكان معنا اطفال ونساء  من جميع الأعمار وقاد العربية ابن اخية الذي كان لا يتجاوز/عمره عن عشر سنوات وكأنة يقود مركبة فضائية مرة يتجة شمالاً ويميناً..واعتقد نفسه القائد  بيبرس

..وعندما وصلنا الي معدية ترعة التنازيل (ارض العراض) انقلبت بنا العربية الكارو في الترعه وسقطنا جميعاً

في الترعه وخرجنا من الترعه مثل الكتاكيت "ام رقبان "و عندما تقع في ساقية ماء (مسئه الماء) .واثناء فترة دراستي الجامعية كان مقرر علينا كل عام جزء من التاريخ بجانب التخصص في علم الجغرافيا ..عن الأعياد في فترة التاريخ قبل الميلاد في مصر  وكان شم النسيم من ضمن الاعياد التي يحتفل بها المصريين ..،   تذكر بعض البرديات القديمة أن الاحتفال بيوم "شم النسيم" كان في الأصل يُعرف بمهرجان "شمو"، وهو إله البساتين عند قدماء المصريين ويعود إلى الفترة  (ق.م)2700 ، واستمروا في الاحتفال به خلال العصر البطلمي  والروماني والعصور الوسطى وفقًا للسجلات التي كتبها الفيلسوف والمؤرخ اليوناني"لوسيوس بلوتارغوس"

(45-125) أي في خلال القرن الميلادي الأول. كما جاء في دراسة الصديق الدكتور / رشاد عوض دميان ،،وقد اعتاد المصريون القدماء على أكل الأسماك المملحة والخس والبصل خلال الاحتفال بهذا المهرجان في فصل الربيع. وبعد أن انتشرت الديانة المسيحية في البلاد المصرية، أصبح هذا الاحتفال مرتبطاً بعيد الفصح (القيامة)، وبمرور الوقت تحول مهرجان "شمو" إلى ما يُعرف حالياً "شم النسيم"، ويتم تحديده يوم إثنين الفصح أي يوم الإثنين الذي يلي يوم أحد القيامة للأخوة الاقباط . وعن العلاقة الدينية في الربط بين "القيامة" و"شم النسيم"،

كل سنة، بل وكل الأيام والجميع

بكل الخير والسعادة والسرور والفرح والهناء  "

***

يوميات مثقف في الارياف

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

من طاقات الديرة الواعدة، بامكاناته الزاخرة .. وموهبة الأدبية الابداعية.. وقدرته على المعارضة والمقابسة في اللحظة دون تكاسل، او تأجيل.. خاصة وان الانثيال الوجداني عنده يتدفق، وينساب من مخيال مرهف.. له عمق تراثي.. باعتباره سليل عوارف في الموروث الشعبي في ريف الديرة.. لهم باع طويل في نظم العتابة والزهيري والكصيد..

وليس غريبا عليه إذن ..أن يحاكي زميله الشاعر المبدع أبو كوثر ..الذي كنت قد نشرت عنه همسه موجزة عن زهيري جميل له ..جاءت وليدة لحظة تفاعل حس مرهف لي.. مع  ذلك الزهيري الجميل..كانت بالصيغة التالية:

ياروحي طيري ومع سراب الكطا هاجري

ليلج إمعسعس ولا شكلو فجر هاجري ..

قاس أنت ايها الليل البهيم ..أرخيت عليه سدولك بظلمة حالكة.. فلا يكاد يرى لك فجر .. فدعه يحلم .. ولا تصادر أحلامه..

لتأتي معارضة الأديب المبدع عبد الكريم أبو احمد الإبداعية في مداخلة له على المنشور.. نظما بليغا.. وتوظيفا مقتدرا ومتمكنا للمفردة حقا يقول فيها :

ياروحي طيري ويه الكطا وارحلي

عن ديرت ن ما شفت بها راحلي

مشؤوم هذا الحال ما ارجا ورا حلي

*

يدار اعذرينا اصبحنا بيج غراب

والحر الكبيدي يطرد وراه غراب

ما لوم عيني لو بجت كل غراب

*

حكها بنوب تعمه ينايف ع الراحلي ..

إنه حقا طاقة إبداعية متوهجة..تستحق الإعجاب والإشادة والمتابعة..

***

نايف عبوش

تعتبر رواية زينب أول رواية عربية، أو من الروايات الأولى حسب بعض النقاد، وكانت رواية متكاملة الأسس من حيث الأسلوب الفني والبناء اللغوي.

وطالما اعتبرها مؤلفها محمد حسين هيكل أجمل ما كتب، ويُكن لها احتراما ولها المكانة الخاصة في مسيرته الفكرية والإبداعية..

كتبها لما كان طالبا في الحقوق بباريس اذ بدأها سنة  1910، وفرغ منها سنة 1911، ونشرت أول مرة سنة  1914، وكان قد كتبها على  مراحل في أوروبا ؛ باريس، لندن وجنيف السويسرية...

كان دائم الافتخار بها و معتزا بها معتقدا انه فتح بها فتحا جديدا في الأدب المصري.

و كان أيضا يعتبر الرواية خير ممثل عن طموح الشباب بل هي تمثل شبابه تمثيلا صحيحا!

كتبها وهو في بلاد أوروبا طالبا متغربا لأجل العلم ،مشتاقا الى الأهل والوطن، وقد كتب عن ذلك قائلا:

" زينب هي ثمرة حنين الوطن وما فيه، صورها قلم مقيم في باريس مع حنين لمصر إعجابا بباريس وبالأدب الفرنسي"

كتبها لأنه وجد في باريس شيئا مختلفا ..كتبها بعد دراسة للغة الفرنسية و  آدابها، فتأثر بالأدب الفرنسي الذي قال بأنه رأى فيه ما لم يراه في الأدب العربي أو الأدب الإنجليزي!..

لكن هيكل سرعان ما ابتعد عن الفن الروائي، وتغير اهتمامه الى التاريخ والسياسة المصرية  والعالمية عموما والحضارة العربية الإسلامية، وكتب في ذلك عدة كتب مهمة وممتعة...

***

عبد القادر رالة

 

ربما هي الكاتبة الوحيدة من سلسلة أسماء من هم في القلب التي بقيت متفرّجا أمام كثافة المعلومات وزخم تصنعه هذه الكاتبة، التي تعرفت عليها من خلال كتاب يؤرخ للرّوح الفلسطينيّة منهجا وتاريخا وإضافات.. كتاب بعنوان:

 " رسائل من القدس وإليها " جمعها بالأديب الفلسطينيّ المعروف جميل السّلحوت، بعثت لي مشكورة نسخة الكترونيّة منه؛ لأجد ذاتي تنغمس في مضمونه، وكلّي فرح أن أطالع محطّات ورؤى وتاريخا ومشاهدا وحكايات ومتابعات، واكبت جيدا هاجس كتاب يرصد مشاهدا وشواهدا، تحيلك على أن تعيش ذكريات وإحالات، تلوّن المشهد الرّائع لهؤلاء الذين تميّزت كتاباتهم بالإضافات الواعية وبتجارب خاصّة، تلازم ذواتهم ونهجهم الواعي في عالم الكتابة ..

كنت أتواصل معها من لحظة عشت مضامين ذلك الكتاب الخالد "رسائل من القدس وإليها"  جمعني التّواصل بكاتبة فلسطينية هي " صباح بشير"،  التي لم يكن تناغمي معها مجرّد رقم إنسانيّ عرفته كي أضمّها لقائمتي الرقميّة، بل كان تواصلا هادفا و مشتركا و إنسانيّا، لمست من خلاله هذا الكمّ الهائل من المحبّة التي تغدقها الكاتبة الرّوائيّة صباح بشير في كلّ ومضة كتبتها.

كانت تتابع مقالاتي وكذا ومضاتي، تتابع حتى ما أكتبه في الشّأن الجزائريّ، خاصّة ما تعلّق بالمناسبات الوطنيّة، كانت تؤشّر لي بالتّعاليق حتى في لقطات تتعلّق بتلك الومضات التي تربطك بالمكان والكينونة. إنسانة راقية رصدها المعنى والقلب، كنت أطالع جديد ما يكتبه النّقاد فيها، سيل من دراسات تضمّن تخمين كلّ كاتب، رصدت إصدارها الذي كان يؤشّر للرّوح الفلسطينيّة وللكينونة الإنسانيّة التي رافقت منهجا جادّا وواعيا ونضاليّا، ارتبط بنا حتّى نحن في الجزائر، الذين كنّا على صلة بالنّضال الوطنيّ.

"صباح بشير" كانت تصنع الجديد الثقافيّ، في كلّ مكان ارتبط سامها بحراك ثقافيّ تصنعه هذه الكبيرة ضمن نشاطاتها الثقافيّة في نادي حيفا الثقافيّ، وهناك يرتسم المشهد جميلا وأنت تعيش أطوار ندوة ثقافيّة فيها كلّ تلك الإضافات من أسماء تصنع الجديد الإبداعيّ والفنيّ، تلازم الشّعر والقصّة والومضة والخاطرة والفكر، و ما الى ذلك من الجديد المتجدّد، مما يصنعه كبار الفكر والإبداع، وأسماء دأبت الحضور للنّادي كي  تصنع الحدث الثقافيّ المميّز  .

صفحة الكاتبة صباح بشير لم تكن مضامينا لعروض الأزياء وجديد صناعات مواد التجميل، بل كانت كلّها لقاءات تجمعك بالجديد المتجدّد وبتجارب من هنا وهناك، وتسهر الكاتبة الراقية بشير على ترسيم ذلك الوعيّ الثقافيّ والقيميّ والحضاريّ؛ لتنسج خلاصة هي عين تخمين من يرافقونها في نادي حيفا الثقافيّ، الذي بقى حتى السّاعة يصنع الجديد ويلازم الشأن الثقافيّ، بروح عصريّة ومتحضّرة، باعثة على الفكر الواعي بعيدا عن الهرطقة الزّائدة، وعلى رؤى لا تليق بالأهداف التي يسطّرها عادة منهج عمل نادي حيفا الثقافيّ.

كتاب الرّسائل التي جمعها بالأديب الرّوائيّ الفلسطينيّ الكبير جميل السّلحوت، ألهمني رؤية كنت أحبّبت قراءتها ومطالعتها من خلال ما هو متعارف عليه ب " أدب الرّسائل" حينما قرأت يوما منبهرا وتعلّمت فعلا وغصت بتاريخ عام 1987، بما كنّا نطالعه أسبوعيّا  بشوق ومن باريس عبر ما كان يهندسه كبار فلسطين، الشّاعر الكبير محمود درويش من المهاجر الأوروبيّة وسميح القاسم من فلسطين، عبر كتاب "الرّسائل".. قرأنا تلك الحلقات التي تؤشّر لرؤية فلسطينيّة خالصة، حيث عشت شخصيا هوسا من احتراق إبداعيّ جميل، تلوّنه الرّسائل المختلفة للرّاحلين معا سميح القاسم، ومحمود درويش.

كذلك كانت رسائل الكاتبة صباح بشير وجميل السّلحوت، نعيش عبرها زخما معلوماتيا كبيرا، ذكّرتي بما كان يصنعه الكبار عبر تاريخ من كانوا يصنعون هاجسا أدبيّا ومعلوماتيّا تصنعه حبكة الرّسائل، وحراكها العجيب في جلب المعلومات وتسويقها للقارئ؛ كي يعيش المعلومة والهاجس وتلك الرّوح النفسيّة التي تلازم رحيقا تصنعه صور من مشاهد الحياة .

وكذلك عبر التّاريخ عايشنا هذه الفصول الجميلة، تصنعها لغة الرّسائل كتلك الرّسائل المتبادلة بين " غسان كنفاني " و" غادة السمان، " وبين " غادة السّمان " و" أنسي الحاج "، ورسائل

 " مي زيادة " إلى "جبران "، ورسائل "الرّافعي" إلى "مي زيادة".

تاريخ حافل بالرّسائل التي واكبت سيلا من تفاصيل تصنعها لغة الرّسائل تمنح الأطراف متعة معلوماتيّة راقية وتحيلنا نحن على سرد من فرح .

كذلك صنعت صباح بشير وجميل السّلحوت هذا الأثر الجميل من معايشات لهما في فلسطين وخارجها في أوروبا وأمريكا ومناطق زارها كلاهما، يمنحان القارئ روحانيّة مشهد يعايشه هؤلاء الذين يصنعون الجديد من خلال معايشاتهم المختلفة .

كتب الأديب جميل السّلحوت في إحدى رسائله الى الكاتبة الرّوائيّة صباح بشير:

" زرت عام 2015 مع وفد من وزارة الثقافة الفلسطينيّة الجزائر الشقيقة، لمست التحام الشّعب الجزائريّ مع الشّعب الفلسطينيّ، وقضيتنا العادلة، فهم فلسطينيّون مثلنا وأكثر.

وينظرون الينا بقداسة، شاهدت لافتات مثبّتة ودائمة في الشّوارع، تحمل شعارا للرّئيس الرّاحل هواري بومدين "مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، استقلال الجزائر منقوص مادامت فلسطين محتلة.

وفي رسالة أخرى من صباح بشير إلى جميل السّلحوت:

" كانت ولا تزال في وسط بيتنا زاوية مميّزة تضمّ مكتبة خاصّة لوالدي، تدهشني بكلّ ما تحتويه من الكتب الثّقافيّة والأدبيّة، وغيرها من كتب علم النّفس التي كان والدي شغوفا بها، كان يشرف بنفسه على ترتيبها فيقسّم الكتب إلى مجموعات، يضع الموسوعات والكتب القيّمة في الرّفوف العليا، وفي الرّفوف التي تليها يرتّب ما بقي من الكتب تبعا لحجمها ومحتواها، كانت أمّي تتدخّل أحيانا، فتعيد التّرتيب بلمستها الفنّيّة الجميلة، وتضيف بعض اللّوحات الصّغيرة والتّماثيل المنحوتة، ممّا يضفي على المكتبة سحرا خاصا وبعدا ثقافيّا آخر، فيتحوّل ذلك الرّكن من البيت إلى نقطة جماليّة مبهرة مميزة.

حوّلتني تلك المكتبة لقارئة شرهة، كنت أنظر إلى تلك الزّاوية من المكتبة على أنّها ملكي الخاصّ، فقد كان إخوتي يفضلون اللّعب على القراءة، لذا كنت أشعر بالتّفرد، وأنّ تلك الزّاوية تخصّني وحدي، فهي تنقلني دون حواجز إلى عوالم أخرى أقابل فيها شخصيّات مميّزة، ذات فكر تاريخيّ، إنتاج وأدب.

 كان والدي يعمل معلما في إحدى المدارس الإعداديّة، كنت أفرح بعودته، فهو دائما ما يحمل الجديد من الكتب، كان يتوجّه مباشرة إلى المكتبة، فأشرع في مراقبته وانتظار حصّتي من القصص، ويا لفرحتي فهو لم يخذلني أبدا، كان يفرغ حقيبته الصّغيرة، تلك التي كان يضع فيها دفاتر العلامات الطّلابيّة وكتب المنهاج الدّراسيّ، فيخرج منها ما ابتاعه خصّيصا لنا، يعرضه مبتسما بهيبة وحنان، باسطا محبّته الكبيرة في قلوبنا الصّغيرة".

***

سيرة ذاتية: 

الكاتبة صباح بَشير:

بكالوريوس علوم اجتماعيّة وإنسانيّة.

ماجستير دراسات ثقافيّة.

طالبة دكتوراة في موضوع علم الإجتماع التطبيقي.

صدر للكاتبة: "رسائل من القدس وإليها" وهو كتاب مشترك مع الأديب جميل السّلحوت.

* رواية بعنوان: "رحلة إلى ذات امرأة" وهي رواية تغوص في أعماق النّفس الأنثويّة، وتسلّط الضّوء على رحلتها في الحياة.

كتاب نقدي بعنوان: "شذرات نقديّة"...صادر مؤخرا عن دار الشّامل للنّشر والتّوزيع في نابلس، وبالتّعاون مع نادي حيفا الثقافيّ، يقع في (327) صفحة من القطع الكبير، وقد أهدته بشير إلى والدتها، وإلى روح والدها، تقديرا لفضلهما ودعمهما لها في مسيرتها الثقافيّة.

يضمّ الكتاب مجموعة من المقالات النّقديّة التي تناولت بعض الأعمال الأدبيّة العربيّة والمحلّيّة، وتتنوَّع بين تحليلات نقديّة لأعمال روائيّة وقصصيّة وشعريّة، ودراسات أدبيّة، قسم منها تمّت كتابتها بهدف إلقائها في نادي حيفا الثقافيّ، كمحاضرات قصيرة ومداخلات مختصرة.

 اشتمل كتاب "شذرات نقديّة" على قراءات لأعمال عدد من الأدباء المرموقين محليّا وعربيّا، من بينهم: الكويتيّ إسماعيل فهد إسماعيل، الجزائريّ واسيني الأعرج، الأردنيّ يحيى القيسي، والأردنيّة أمل المشايخ.

وهي ناشطة ثقافيّة واجتماعيّة، وعملت في مؤسّسات إنسانيّة واجتماعيّة، وشاركت الكاتبة صباح بشير في إعداد سلسة من الكتب التوثيقيّة لنادي حيفا الثّقافيّ.

عملت مديرة تنفيذية لمؤسسة المنار المقدسيّة، التي تسلّط الضوء إعلاميّا على قضايا المرأة الفلسطينيّة ..

قامت بتمثيل هذه المؤسسة محليّا ودوليّا وكان يصدر عنها مجلة بعنوان "منارة القدس" التي كانت تكتب فيها تحرّرها، كما شاركت في العديد من المؤتمرات وورشات عمل والنّدوات في البلاد وخارجها..

 عَمِلت في التّحرير وكتابة المحتوى، وتكتب في الصّحف العربيّة والمحليّة.

عَمِلت محاضرة لفترة في كلّية إعداد المعلمين "بيت بيرل".

مديرة تحرير موقع نادي حيفا الثّقافيّ.

وعن هاجس الكتابة تقول الكاتبة صباح بشير:

" لطالما سكنني هاجس الكتابة، وأشعرني بارتباطي الإنسانيّ مع الحياة، فالكتابة نور يتسلّل إلى شغاف القلب ليبدّد ظلمته، تخلق لي جناحين من شغف، أطير بهما، فأرى نفسي ومواقفي وشخصيّتي بشفافيّة ووضوح، ويا لقوّتها وجمالها فهي الشّاهد الصّامت الحيّ على الحياة، عالم خلق وعطاء، ومتعة تولد في حياة الكاتب وتكبر معه، كفعل حريّة وحبّ عظيم".

وكتبت أيضا رؤية جادّة، لها ذلك البعد القيميّ المتميّز:

" كم أنا آسفة حين تحكمنا المناطقيّة والجِهَوِيّة، وتقيّدنا حدود الجغرافيا. أؤمن أنّ الإنسانيّة هي هُوِيّتي الحقيقيّة، وأنّ حدود الجغرافيا لا تقاس بالكيلومترات، بل بمدى اتّساع آفاقنا ونبل مشاعرنا، من العيب أن تكون النّخبة من مثقّفينا مناطقيين! فالمثقّف الحقيقيّ هو الذي يؤمن بوحدة الإنسانيّة، وأنّنا جميعا ننتمي إلى عائلة واحدة، هي عائلة الإنسانيّة".

كذلك عايشتُ حرف الكاتبة صباح بشير التي وضعتها مذ عرفتها في قائمة من رصدهم القلب واحدة من عشيرتي ومن قبيلتي، واحدة هي من عائلتي، واحدة و كما ترون، هي فعلا في القلب.

***

بقلم: المهدي ضربان

 

حاضرا الاثنان، العملاقان المفكر، الروائي الكبير امين االزاوي. والروائي، الاعلامي والمسرحي أحميدة عياشي بعمق وبتوطين ماهية الهوية وانعكاسها على الاجيال كحتمية رؤيوية للنهوض بالفعل التثقيقي في "ماعون ومعين" الاعلامي الثقافي - راهنا-.

سرديات الاثنين كانت ترشح وعيها التوطيني من مزارب وعي اللحظة والراهن واستدراك ذات الراهن السقيم.. في مقاربة مع منجزات الإعلام الثقافي ما قبل التعددية الإعلامية. كمقاربة ".

وهون الثانية امام المد الكوني في مسارات المثاقفة

L'acculturation

 في السبعينات بغض الطرف وصرف النظر عن خطابها الاديولوجي هو أيضا كمعطى، تنوير الوعي لم ينطلق لديهما من حسين مروة أو انطونيو غرامشي ولا حتى سلامة موسى أو المفكر الكبير : الطيب تيزيني أو حتى لفائف ادونيس في " في لف " الثراث " لنزع قشرة الممول له حيال " التشيؤ " والراهن أو الاصرار على التعاطي مع الموروث العام الذي استنهضه ادونيس في " خبايا. ومسارات التراث كمهوم وفهوم ورؤى. بل كان في ندوة الأمس لدى المحاضرين امين الزاوي واحميدة عياشي. لفائف اطاريح وعيي الراهن بوعي الاثنين معا، الدكتور أمين الزاوي كان موزارا) نسبة إلى موزار العبقري) ومزارا في ذات الأوان في سردياته المدججة بشواهد من ذات "البونين" بون الماضي المزدهر المعرفي، الانتلجينسي ثقافيا وبين الراهن السقيم حاليا مثلما أشار ونعته السيد وزير الاتصال محمد لعقاب لدى افتتاحه لهذه الندوة. حيالهما استعرض الروائي والمفكر امين الزاوي باقتضاب معارجه عبر سجل إنجازاته في حقل الإعلام انطلاقا من برنامجه الكبير " اقواس (بالتلفزيون الجزائري من وهران ومكانته- انذاك في الحقل المعرفي الجاد. لا التلقيني "الإخباري "، هذا البرنامج الذي كان يبث من تلفزيون وهران، كما أشار الدكتور أمين الزاوي، الذي استضاف في كبار المفكرين والادباء والفلسفة والمنظرين ليعرج في هذه العجالة " على برنامجه الاذاعي " الجاد " جواهر " الذي كان يبث بالإذاعة الجزائرية كل صباح (القناة الأولى. فكان عصارة فكر وانتلجينسيا كل صبح) لايتعدى وقته 5 دقائق، ليمر على منجزات أخرى في سجل مسار تعاطيه مع حقل الإعلام الثقافي، لعله سهوا من الدكتور أمين الزاوي لم يسرد برنامجه الناجح " حبر وأوراق " الذي كان من ضمن أوثق البرامج الثقافية بالإذاعة الجزائرية. فيما اسدى (الكبر (بكسر الكاف) الاعلامي القدير، والروائي احميدة عياشي لضرورة استحضار لحظة الوعي القصوى في في التعاطي مع المراس الاعلامي الثقافي " خدمة لصالح الامة وتلميع - بالجد والجاد - صورة الجدية والاحترافية والمهنية والحمولة. المعرفية مشفوعة بخلفية فكرية تصب - ايجابا - في تكريس التعاطي - وعيا ومراسا - مع الهوية. ومكانة الوطن

Patrie

كنبراس وحضور فعلي لصورة البلد وكذا لصالح المثاقفة ووعيها اللحظوي.

حضرا الاثنين بهذا الوعي - جملة وتفصيلا في تفاصيل غور مشهد المثاقفة كمعطى دلالي، لم يحذ قيد انملة عما بدا - على العموم : سياقات وأنساقا من منطلق التشيؤ وتبيى الاعلامي الثقافي كسردية عاكسه لعمق الهوية، وصورة البلد الابية.

على العموم كانت الندوة ظافرة وإن تخللتها بعض التدخلات الجانبية من القاعة.

فيما كانت أغلبها تصب في عمق " محورها " الميديا والثقافة. اي مقاربات واي استراتيجيات وذلك من قبل نظراء لهما بالقاعة (في الطرح الواعي والمنهجي والذي كان يصب في معين محور الندوة) مثل تدخل سعادة السفير الدكتور مصطفى شريف، الاعلامي، والاعلامي " الكاتب كمال قرور على سبيل المثال وليس الحصر، وغيرهما كثر.

سأفر لهم (اي متدخلو القاعة) ورقة لاحقة

***

عائد من الندوة، وكتب: أحمد ختاوي

 

كلما سنحت لي الفرصة في الحديث مع استاذتي الكبيرة عبر أثير الهاتف ناشئة بهجت كوتاني المقيمة منذ مطلع الثمانينات مع عائلتها في عاصمة الضباب ” لندن ”. جرنا الحديث نريد أو لا نريد وغصبن علينا الى ذكريات الماضي البعيد في أروقة كلية الأداب / جامعة بغداد أساتذة وطلبة ومواقف وتداعيات وقاعات محاضرات، واجواء سياسية مشحونة. في مهاتفتي الأخيرة لها لكي أطمئن على صحة البرفيسور ضياء نافع، الذي يعاني في وضع صحي صعب في ضيعة فلاديمير الروسية، والحديث لا يخلو عن السؤال أيضاً : عن صحة زوجها الاستاذ حسن العيدي، متمنينا لهما تجاوز أزمتهم الصحية والعودة الى حياتهم الطبيعية رغم حوبة العمر اللعينة وقساوة المنفى والبعد عن أرض الوطن. في فترات ماضية ومن منطلق الوفاء والشكر وما تركوه في مسيرة حياتي من أثر حب للمعرفة والبحث في جدلية الحياة والموقف. كتبت عنهم واحداً واحداً الاستاذة الراحلة حياة شرارة، الاستاذ الراحل جليل كمال الدين، وعلى ضوء ذلك الجهد حول حياة ومسيرة الاستاذ جليل. قدم الاستاذ كمال يلدو في برنامجه ”اضواء العراق ”. حلقة كاملة، كانت حلقة متميزة وغنية بحق الاستاذ جليل كمال الدين. وكتبت حول البرفيسور ضياء نافع، وتشرفت بمقدمة كتابه ” أربعون مقالة في الأدب الروسي. ولم يغب عن بالي شخصية استاذتي الكبيرة ناشئة بهجت كوتاني !.

ولم يهدأ بالي يوماً، وتتزاحم في ذاكرتي تداعيات مؤلمة عن استاذي محمد يونس، كلما مررت على ذكريات الماضي الثري، وفي زحمة أعدادي لكتابي القادم ” مأساة الأدباء الروس في الحقبتين القيصرية والاشتراكية ” وسيحظى بمقدمة الدكتورة ناشئة كوتاني. كان الاستاذ المرحوم محمد يونس الساعدي حاضراً بقوة وبتنوع مؤلفاته حول الأدب الروسي، نيكولاي غوغول ورائعته ” النفوس الميته ”. إيفان تورغينيف ورائعته ” الأباء والبنون ”. ومن ضمن كتبه وبحوثه القيمة ” مدخل الى الأدب الروسي في القرن التاسع عشر  ”. وكتابه النقدي في حقل الأدب المقارن ” الكلاسيكيون الروس والأدب العربي ”. فضلا عن مئات المقالات النقدية والأدبية حول الأدباء الروس. تعود معرفتي بالراحل محمد يونس الى عام ١٩٨٠ في كلية الأداب / جامعة بغداد. كان أحد أساتذة القسم الروسي في مادة النقد الادبي والأدب المقارن بأسلوبه السلس وطريقته المشوقة في طرح المادة واغنائها المعرفي، مما ترك أثر واضح وحب في لهفتنا لمتابعة المادة والنقاش حولها. كان الاستاذ محمد يونس شديد الحرص في طرح مادته الادبية علينا، وحرصه على إستيعابها في تفكيرنا من خلال سماع أراؤنا ومشاركته حول محاضراته وتقييمها، وكان غالباً ما يحثنا على القراءة والمتابعة، ويرغبنا بقراءة كتاب معين حول الادب الروسي في العطل الرسمية، وعندما نعود الى قاعة المحاضرات يسألنا : من قرأ كتاب ؟. طبعا، كان أغلبنا قد قرأ كتاب ما، لكن في الغالب كنا مترددين عن الاعلان عن قراءة الكتاب، لإنه في الخطوة القادمة، يتوجب علينا أن نستقرأ محتويات الكتاب ومناقشة أفكاره وأبداء رأينا الشخصي حوله، مما كان يشكل أحراجاً لنا في البداية من منطلق الخجل والتردد والرهبة، لكن استاذ محمد يونس أستطاع بهدوءه وأسلوبه الشيق أن يساعدنا في تجاوز هذا الموقف الحرج في أستقراء محتويات الكتاب، وبمرور السنوات أصبح دافعنا في الحديث عن الكتاب أمر مشوق وفيه متعة ومعرفة. وهذه تحسب الى عبقرية الاستاذ محمد يونس وتضاف الى سجله الثر. وأنا شخصياً من ذلك الوقت الى يومنا هذا، أمتدت الى أكثر من أربعة عقود مواظب على هذا الاسلوب في القراءة، حيثما أي كتاب يقع بين يدي أسجل ملاحظاتي حوله ورأي الشخصي به أحيانا للحفظ وتارة النشر في المواقع والصحف. 

ولد الفقيد محمد يونس الساعدي بمدينة الكاظمية عام ١٩٣٧، وفيها أكمل الإبتدائية والإعدادية، وتعود جذوره الى الجنوب العراقي مدينة ” العمارة ”. سافر إلى موسكو عام ١٩٥٨، لدراسة اللغة الروسية وأدابها، وحصل على شهادة الماجستير  من جامعة موسكو عام ١٩٦٥، في رسالته الموسومة حول أدب ” إيفان تورغينيف ”. عاد للعراق للتدريس في معهد اللغات، وكان يومها عميد المعهد الدكتور باقر عبد الغني، وأصبح محاضراً في المعهد، لحين تولي لجنة تقوم بمعادلة الشهادات، وبعد شهر عادت الاستاذة ناشئة كوتاني من موسكو متخصصة بأدب الاطفال وقدمت الى نفس المعهد لوظيفة التدريس، وتم أيضاً اعطائها محاضرات لحين تعادل الشهادة، ولكن الغريب في الأمر، إن عمادة المعهد منحوهم  لقب لم يسبق له مثيل في الجامعة، وهو لقب معلم وليس كمعيدين خريجيين كأي تقليد جامعي في العالم، وبهذا يكون الاستاذين محمد وناشئة أول شخصين تم تعينهما في فرع اللغة الروسية في معهد اللغات. وفي سنوات لاحقة، وعندما فرض الحصار الدولي على العراق وتعرضه الى هدم مؤسساته وتحطيم بنيته بحجج واهية وقرارات ظالمة. ترك الاستاذ محمد العراق عام ١٩٩٧، بألم وحسرة على ما أصابه من أذى بإتجاه دولة اليمن السعيد، وعمل في جامعة ” تعز ” الى عام ٢٠٠٧، وبعدها عاد الى العراق، وعمل كأستاذ في جامعة القادسية. قدم عدة بحوث مشتركة حول الأدب الروسي مع الراحلة الاستاذة حياة شرارة، وقد أغنى المكتبة العربية ببحوثه ودراساته، واعتمدت كمصادر للتدريس في أكاديميات عدة. وافاه الأجل بعيداً عن تربة بلاده، الذي أفنى حياته من أجله في دولة ماليزيا عام ٢٠٠٩، خلال زيارته لابنه بشار المقييم في ماليزيا. وفي رحيله المؤلم، كتب عنه العديد من النقاد وطلبته وزملائه استاذ ضياء نافع مثالا.

يقول سعيد عدنان في مقالة سابقة له في الحوار المتمدن:

(.. كان محمّد يونس ممّن نشأ على أن الأدب ذو رسالة اجتماعيّة، وأنّ ممّا يرمي إليه ؛ أن يزيد من وعي الناس، ويرتقي بهم فكراً وذوقاً، وأنّ الجمال غير مفصول عن الخير ؛ فلمّا أُتيحت له دراسة الأدب الروسيّ في موسكو ؛ زاد الأمر وضوحاً لديه، وأخذ ينظر في الأدب والأدباء بمنظار منه.  وقد كان ذلك ممّا بنى كيانه بناء رصيناً، وجعل معنى الأدب والفكر عنده موصولاً بمعاني العدالة الاجتماعيّة، وسلامة الموقف منها.  ولم يتردد الدكتور محمد يونس بالاتصال بمن سبقوه من الكتاب العراقيين من أمثال غائب طعمة فرمان للوقوف على آرائهم في الأدب الروسي وقد أكّد غائب طعمة فرمان في رده على رسالة محمد يونس بأنه من أشد المتأثرين بأدب تولستوي – فهو- تولستوي- من علمّه كيف يخطط للرواية قبل أن يكتبها، وهو من اؤلئك الذين يصف ادبهم – بحسب فرمان، بالسحر الحلال).. أنتهى الاقتباس.

في مهنته الوظيفية الاكاديمية كاستاذ للادب الروسي في جامعة بغداد، تعرض الى مضايقات أمنية لإجباره على الانتماء الى صفوف حزب البعث، وحاول بكل قناعة أن يرفض الخضوع لهذا الاكراه، وهو في عز عطائه الفكري والادبي وقوة عنفوانه، وفي فترة الانفراج السياسي بعقد الميثاق الوطني بين الشيوعيين والبعثيين عام ١٩٧٣، شعر بالهدوء وفسحة الأمل مما دفعه الى النشاط في التأليف والكتابة. في عام ١٩٨١، تعرض الى وعكة صحية ألزمته البيت وغاب عن الحضور الى الحرم الجامعي، وبادرنا بتشكيل  وفد من الطلبة والطالبات رفيع المستوى على حد وصف الاستاذ طارق الكاظمي، في اليوم الثاني لزيارته في بيته الكائن في منطقة الاعظمية في العاصمة بغداد للاطمئنان على صحته ولقينا حسن الترحاب والاستقبال من عائلته، وبعد رحيله نقل جثمانه الى وطنه ليتوارى تحت ترابه، وفي غيابه ترك ذرية صالحة من الأولاد حفظوا أسمه !.

***

محمد السعدي

مالمو /٢٠٢٤

من أساسيات ترتيبات المنهج التاريخي، أنه يُقرأ التاريخ كوحدة نسقية. من تم فالتاريخ الزمني للعمر يشابه لحظة الولادة والموت، والتي من الصعب من أن تُعاد مرتين. ساعتها بدأت أحتسب النقاط في بصمة خط كفي، بغاية سلك أقصر طريق آمن يُؤدي نحو أقساط وفيرة من النعيم. هنا أذكركم، بأنِّي لا أقصد بالنعيم، النعيم الدنيوي، وإنما النعيم بِكلتَا الحالتين. نعم، لم أكن أتوقع من هذا السرد أن أُصدم بأن النعيم يبدأ من الحضيض. ولهذا لن أُعين تعريفا لمعنى الحضيض بأنه من المستويات المتدنية، ولكن أقصد به البدايات الجدية ومعاودة المثابرة، مثل نملة إسكندر المقدوني.

حين تم تشقيق الكلام بشيء من بداهة حذلقة المتكلمين، يُمكنني التساؤل الغبي عن كيفية العبور نحو النعيم، وكيف يمكنني سحق الجبال الشاهقات، وهو نوع من عمل حضيض المناجم؟ هنا بحق تجعد شعري الباقي على هامة رأسي بالشيب، وبدا أثر أحداث نسقية وحدة التاريخ، وبتت أفكر في سبب موت الناس، أكثر مما أثير نقاشات عادلة في أسباب عيشهم من الولادة نحو الموت. وفي مدى الرضا!! نعم، من سؤال لآخر، بات تفكيري في ارتباك من أمره اليومي، فقد تعلمت منذ السنين القديمة أن الأمور التي كنت أتوقعها، لن تحدث، ولن تتحقق البتة. وهذه المعادلة الفضفاضة تُوحي بأنِّي لا أمتلك حدس تنبؤات الزمن، وقراءة كف المستقبل!! فكم من غاية تمنيت حُدوثها، لكن ضدها الصادم كان معترضا على مستويات تكهناتي حظي العاثر وحتى السعيد منه.

منذ الولادة وعقلي المغامر والمتحرر ينمو بدواخل تفكيري الفقير بالقدرة على بناء التغيير عند كل محطة، لكني كنت أؤمن أن صوت الواجب يجب أن يكون أكثر مما كان عليه صوت الواقع المتدفق بين أرجلي الحافية في قطع مسافات الحضيض، والبحث عن نعيم حرير الجبل.

اليوم، أحسست أنِّي في زيادة من لغة حذلقة التلاعب بالكلام، أحسست أن السذاجة البينة عندي، تُنقدني من لسعة الانتقادات، ومن مزالق حسابات الفرق بين الطبع والتطبع. فكيف يُمكن تَمكينَ تأميني الخروج من الظلام نحو النور؟ هي ذي الولادة الأولى، والنهاية التي لن تتكرر عند أحد منَّا، فمن له بداية له نهاية.

اليوم، كنت أُراهن على الحظ ولو لمرة يتيمة ومنفردة في حياتي الباقية. فمن منطق الحمق تغيير الحصان الرابح، أو المجازفة بالسباحة ضد التيار، فرأس الحكمة يقول: لا يمكن أن تسبح في النهر مرتين. ولا أنصح أن يعاود أحد السباحة في ذات النهر مرات ومرات، فعند أول محطة قطار، توقف وترجلِ المشي آمنا.

قبل كتابة هذه السطور، كان لساني يَلُوك الكلام المليح، ولا يَبْحث أن يثير كثيرا من الحساسين والخلافات الثانوية. اعتكفت صياما عن الكلام المباح، ورقن الكتابة على لوح حاسوبي. والله، كانت النتيجة بذات كلمات الهلوسة المضنية تختمر طوعا بالبداية، وبهذه الكلمات المتنافرة التي يصعب تشذيبها، وترتيبها للفهم والدلالة بالتناسق بين طبعي وتطبعي، وفهمي وفهم غيري. جلست لمدة أسبوع أنظر من ذات الصندوق الصغير العجيب، والشك يَأكل قلبي باتساع مساحات الانتظار، وكدت مرات عديدة أن أخرج عن السطر سقوطا، فأبيت مثل الأحمق الذي يريد تغيير العالم ليتلاءم مع ما تبقى من عقله المُنهك في المتاعب. مرات عديدة، كنت أستمع لنصائح غيري، وأنظر في العيون، ثم أحتسب أن الأمر فيه خير دائم.

من صدق العلاقة بين الموت والولادة، تيقنت أن أبحث عن الايجابيات والتي يجب تعزيزها، وألاَّ أُنقلب نحو السلبيات، والتي يجب علي قطع الصلة معها تماما. هي الانتصارات التي رتبتها حين ترجلت اليوم مشيا على رصيف الحياة الأنيقة من ذات الصندوق الأعرج. هي التطلعات التي لم أقدر يوما تخمين تكهنات لنهاياتها الحتمية، ولن أفكر بعد اليوم في إنتاج خلطة مُفبركة بين السعادة والتعاسة.

***

محسن الأكرمين

في المثقف اليوم