أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

الفنان التشكيلي عمّار بلغيث ومشروعه الفني الذي عمل على انجازه بكهف بمنطقة "المدينة" بمدينة الدهماني.. ذات حالمة مهمومة بالفن والتنشيط الابداعي والجمالي.. لفنان هاجر لفترة بالخليج وأنفق على مشروعه الكثير..

ها هو الفن في تلويناته المتعددة حيث الفكرة التي تقود القلب منذ نصف قرن وبعد تجربة بتونس وخارجها.. هي لعبة الفن في الجغرافيا والزمان والمكان والوجدان قولا بما به يسعد الكائن وهو يرى بعين القلب شيئا من حلمه وهواجسه وأغنياته العالية التي كثيرا ما تمنى احتضانها على الأرض وبين الجبال.. جبال الكاف العالية ونسائمها الصيفية وفي كل الفصول وفق رغبات شتى هي فكرة حاله ورؤيته للأسياء والآخرين والعالم.. ولذاته المثقلة بالابداع والامتاع والمؤانسة..

الفنان التشكيلي عمّار بلغيث صاحب التجارب الفنية والخبرات حيث عرفه مجايلوه من الفنانين التونسيين منذ حوالي نصف قرن بشغفه الفني وحلمه اللا نهائي على غرار عمله الفني ضمن تجربة عرفت باللامنتهي.. هو يحمل مشروعا فنيا عمل على انجازه بكهف بمنطقة " المدينة " من مدينة الدهماني الكافية.. هو فنان مسكون بالهاجس الثقافي والابداعي وقد تشبث بجهته لابراز خصوصياتها الفنية والحضارية وعلى عكس غيره لم تستهوه العاصمة والعواصم والمدن الأخرى بل انه أراد أن يستثمر ثقافيا في مسقط رأسه وكان مشغولا بفكرة كهف الفنون لتنشيط الحياة الثقافية بالجهة ولتشجيع المواهب من خلال الورشات ولابراز دور الفنون في حياة الناس.. ومنذ سنوات أصبح الكهف مجالا للزوار وقد طالب الفنان بلغيث بادراج الكهف ضمن المعالم باليونسكو. وهو الآن بصدد الاعداد لتظاهرة ثقافية فنية كبرى بكهف الفنون..38 amar balgheeth

عمارة بلغيث لم يجد الطريق مفروشة بالورود وممهدة بل انه لاقى العديد من الصعوبات والعراقيل ولكنه كان مصرا ومقتنعا بفكرته ولذلك نراه الآن يحصد النجاحات وصاحبنا هذا الفنان المختلف له أكثرمن أربعة عقود في تجربته بين المشرق وتونس وله قصة عشق وهيام بالفن التشكيلي.

عمارة بلغيث انسان مرابط في كهفه ينجز الفكرة ويبحث عن غيرها وحياته في حيز كبير منها تكمن في "كهف الفنون" بالدهماني والذي بعثه منذ سنوات بعد اقامة لسنوات بالخليج العربي وكانت له تجارب أنشطة وشراكات منها الشراكة مع المركب الثقافي الصحبي المسراطي بالكاف ضمن مشروع "محمية للمبدعين" التي كانت في هذا الاطار من التعاون والتفاعل الثقافيين.

وقد شهد المركّب الثقافي عددا من الفعاليات منها معارض مخصصة للفنان عمار بلغيث ولمختلف انتاجات الاطفال في مسابقة " أطفال المحمية.. هم فنانون أيضا.. " هذا فضلا عن المعارض المهتمة بالمنتوجات التقليدية لعدد من الجمعيات الحرفية بالجهة وخصص يوم كامل لعدد من ورشات الرسم وذلك باشراف وتسيير من قبل فنان سيكافينيريا المتميز وصاحب كهف الفنون وشريك المبادرة المذكورة الفنان عمار بلغيث.

وبالنسبة لورشة الفوتوغرافيا فيسبرها الفنان صالح القلعي وذلك بالمركّب الثقافي خلال يومين كما كان هناك مجال لورشة تهتم بمعالجة الصورة باشراف السيد ماهر العمدون وقام الأستاذ الأزهر الفرحاني بتنشيط ورشة فن الممثل كما قدّم عرض الراشدية للأستاذ معز التيساوي وخصص مجال للعرض الفرجوي (كيف الكاف) وقدمت كذلك مجموعة من العروض المسرحية خلال الأيام المفتوحة للتعريف بهذا العمل الكبير الممهور ب "محمية المبدعين" ومن العروض نذكر "مريض الوهم" للأزهر الفرحاني وهي من انتاج مؤسسة المركب الثقافي الصحبي المسراتي وعرض مسرحية "أرض الفراشات" لمركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف فيما خصص يوم للعرض الموسيقى والشبابي ضمن موسيقى الراب للثلاثي لارتيستو وغستمان وريان قلعي وذلك بفضاء مسرح الجيب بالكاف..39 amar balgheeth

في هذا السياق الثقافي كان التعاون ضمن فعاليات الكاف محمية المبدعين وذلك مع المركب الثقافي الصحبي المسراطي وتضمن برنامج هذا المشروع الرائد حرصا على بعث وايجاد مجال ثقافي يساند ويرعى 20 فنانا من أبناء الجهة ضمن السياقات والمجالات الثقافية والفنية والابداعية المختلفة حيث العمل مع الشبان بالجهة (أعمارهم بين 15و30سنة) وذلك عبر ترميم واعداد المحمية الثقافية وضمن البرنامج دورة تدريبية في الرسم لتنمية وبناء المهارات الفنية لـ20 تلميذا والحصول على 40 لوحة فنية قابلة للعرض لنشر الوعي الفني والجمالي والحس النقدي ل 500 تلميذ من أرياف الجهة والجهات القريبة منها مثل جندوبة والقصرين وباجة وتم تنظيم 10 زيارات كل أسبوع وبعث محضنة ضمن المحمية الثقافية ل25 فنانا من الشبان لاقتراح مشاريع ثقافية وتم التأطير من قبل فنانين محترفين والمحصلة ترشيح 5 مشاريع فنية لفائدة فضاءات الكاف الثقافية.

هو مشروع مهم ساهم في احياء الحركة الثقافية على نطاق واسع والدفع مجددا بالسياحة الثقافية بالجهة حيث تمت دعوة 5 من الفنانين المحترفين العرب والدوليين للاطلاع على المشروع وتجربة المحمية الثقافية وتنشيطها فنيا وثقافيا عبر عدد من الفعاليات الى جانب الندوات والمجالس ضمن العناية بحوالي 3000 من رواد هذه التجربة وجمهور الكاف.

عمارة بلغيث الانسان والفنان المرابط في بكثير من حرقة الفن والابداع والامتاع يحاول الألوان ويحاورها كطفل سابح في سماء البراءة.. لا يلوي على غير القول بالتلوين وتنوع الأشكال وتعددها نحتا للخصوصية وتأصيلا للكيان.

***

شمس الدين العوني

بقلم: هالة عليان

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

1- أنت مختلفة:

عندما وصلت إلى عيد ميلادي العاشر، كنت قد عشت في ثلاث قارات. بسبب حرب الخليج، والدراسات العليا لوالدي، والضرورة المالية، انتقلت عائلتي عبر العالم إلى الغرب الأوسط. كنت عربية، محبة للكتب، ومذعورة على الدوام. كل هذا لأقول - لم أكن أرغب في شيء أكثر من التأقلم. وعلى مدى العقد التالي أو نحو ذلك، ظل هذا هو هدفي المحموم. أي شخص يريد أن يرى دليلاً على هذا الشوق يحتاج فقط إلى تصفح الكتب السنوية الخاصة بالمدرسة المتوسطة والثانوية.

لقد قمت بتسوية شعري. قصصت شعري. لقد صبغت شعري باللون الأشقر. اكتسبت وزنا. وفقدت وزنا. طلبت من الجميع أن يدعوني هولي. تظاهرت بأنني لم أقرأ "آنا كارنينا" قط. (قرأتها أربع مرات). تظاهرت بأنني شاهدت داوسون كريك وجيلمور جيرلز. (لم أشاهد أي حلقة حرفيًا)

لقد استغرق الأمر مني وقتًا طويلاً للتوقف عن التظاهر والنظر إلى الوراء وأن أدرك أن ذلك ربما كان ببساطة بسبب الإرهاق وليس بسبب شعور معين. ولكن بمجرد أن فعلت ذلك، لجأت إلى تقاطع الاختلاف والكتابة. وهذه نعمة الاختلاف ونقمته؛ في الحياة اليومية، قد يكون هذا أمرًا متعبًا، لكن في الفن، يصبح عملته الخاصة. بالنسبة للكثيرين منا، فإن الاستماع إلى أولئك الذين أسكتهم التاريخ (وحاول في كثير من الأحيان محوهم) لا يمكن أن يكون أقل من مجرد الارتياح.

لذا يا هالة الصغيرة: خذي ما يجعلك مختلفة واحكي تلك القصة. الأشخاص الذين يحتاجون إلى قراءتها سوف يتردد صداهم، وأولئك الذين لا يحتاجون إليها، حسنًا، لن يجلسوا بجانبك في الكافتيريا على أية حال.

2- المجتمع يساعد:

عندما كنت في الرابعة والعشرين من عمري، فقدت شخصاً أحببته والذي توفي وهو في سن صغيرة جداً. توفي يوم الاثنين. في الجمعة التالية، كنت أتجول في شوارع القرية، مشوشاً تماماً ولا أعلم ماذا أفعل بنفسي، عندها وجدت ميكروفون مفتوح في مقهى كورنيليا ستريت. دخلت. كتبتت قصيدة قصيرة ورديئة على منديل ورقي و، بنبض الأدرينالين الخالص، قمت بتسجيل اسمي وأدائها.

ربما كانت تلك إحدى أهم اللحظات في حياتي. عدت كل أسبوع. لقد كتبت قصائد أقل فظاعة. مع مرور الأشهر، التقيت ببعض الأشخاص الأكثر لطفًا وذكاءً وذو قلوب كبيرة من خلال تلك الميكروفونات المفتوحة. التقيت بالناشرين المستقبليين لمجموعتي الشعرية الأولى.

الأهم من ذلك كله، اكتشفت شعورًا بالانتماء. كنت قد انتقلت إلى نيويورك قبل بضع سنوات، وما زلت أشتاق إلى بيروت كما يشتاق العاشق إلى حبيبته. كنت أفتقد عائلتي، وحاناتي المفضلة، وحرم جامعتي القديمة. لكنني وقعت في حب تلك القاعة المظلمة، المضاءة بالشموع، وجدت نفسي أعود إلى تلك الغرفة المليئة بالسرد والتصفيق بإخلاص شديد كما يفعل المصلون.

3- الكتابة هي العمل:

لقد استغرق الأمر وقتًا طويلاً لفهم ذلك، لأن الكتابة هي أيضًا كائن سحري، متقلب، مثير للغضب، نادرًا ما يبدو أنه ملك لي. ونعم، ربما تكون، بالنسبة للكثيرين منا، الكيمياء الأكثر نقاء وبساطة التي يمكن أن نصادفها على الإطلاق.

ولكنها عمل أيضًا. عليك أن تعاملها باحترام. الفكرة ليست كتابا. يمكن أن تكون المسافة بين الاثنين أرضًا طويلة وحيدة لا يمكن عبورها إلا بالكتابة الفعلية.

كل شخص لديه روتينه الخاص. بالنسبة لي، 30 دقيقة في اليوم، لا أكثر ولا أقل. أحيانًا أكتب تلك الدقائق الثلاثين في مترو الأنفاق، وأحيانًا على مكتبي، وأحيانًا على هاتفي، لكنها دائمًا ما تكون 30 دقيقة. إذا فاتني يومًا، أسامح نفسي، لكني أعوضه في اليوم التالي. لقد تعلمت أن الكتابة تشبه الذهاب إلى الصالة الرياضية، مثل بناء أي عضلة. إنها تحتاج إلى انتظام وللكثير منا، إلى طقوس.

4- سوف تسمعين لا كثيرا:

مثل - كثيرًا. مثل - ستكون هناك أسابيع وشهور حيث تسمع فقط الرفض. أتلقى رسائل عبر البريد الإلكتروني بانتظام تشتكي من أن عملي ليس بالضبط ما يبحثون عنه.

في المرة الأولى التي تلقيت فيها رسالة من هذا النوع، أصيبت بصدمة كبيرة. كان غروري الشاب واثقًا للغاية من أن المجلة لن تحب عملي فحسب، بل ستكون متأثرة بفهمي الدقيق للحالة الإنسانية، وإتقاني للغة والصورة، حتمًا سيطلبون مني المزيد من الأعمال.

لقد رفضوا عملي. وقد تعرض غرورتي لبعض الكدمات التي كنت في أمس الحاجة إليها في ذلك اليوم. ثم المزيد من الكدمات، ثم المزيد، حتى بدأت أفهم: إذا كنت ستكتبين، فعليك أن تجدي سببًا للقيام بذلك، لا علاقة له بالمال أو التقدير أو الجوائز.

أدرك أنني أقول ذلك من موقع الحظ والامتياز، بعد أن تم نشر أعمالي. ولكن هذا لا يغير حقيقة أن ممارسة هذا العمل يجب أن تأتي من حب العمل نفسه، من خلق عوالم وحياة لم تكن موجودة من قبل، ومن شغف في فقدان نفسك في رغبة في سرد قصة معينة، ومن الرضا في لحظة "أها"، عندما تتصل كل الأمور في مكانها، وتصبح جميع تلك الطرق المسدودة والمسودات الخامة فجأة تستحق الجهد.

5- الشك الذاتي هو جزء من العملية:

تصالح مع الأمر يا صغيري. دع الشك الذاتي يدخل إليك، لكن لا تجهز له سريرًا.

لا يوجد طريق صحيح لفعل هذا العمل. أي شخص يخبرك بغير ذلك يحاول ترويج نسخته الخاصة من "الصواب". بعض الكتاب يفعلون ذلك فقط من أجل أنفسهم، دون أي رغبة في جمهور. آخرون يزدهرون في الاندماج بالمجتمع والقراءات العامة. بعض الكتاب يرغبون في رؤية أعمالهم في كتاب، بينما يحرص آخرون على الظهور على المسارح.

ما يشتركون فيه جميعًا هو تكريم ذلك الجزء من نفسك الذي يدفعك للإبداع، إيجاد ذلك الجائع الصغير والهادئ داخلك ومنحه صوتًا.

6- الخوف والشجاعة وجهان مختلفان لعملة واحدة:

كل جملة عن الشجاعة تبدأ بالخوف. إذا قمت بشيء لا تخاف منه، فهذا لا يعتبر شجاعة. قد يكون الأمر متهورًا أو عفويًا أو غير قانوني، لكنه ليس شجاعة.

هذا وقت مثير للاهتمام للخوف. إننا نعيش في عصر الحدود، في لحظة إما أن يتمسك الناس بتلك الحدود أو يحاولون تفكيكها. إنه وقت أصبحت فيه اللغة أكثر أهمية من أي وقت مضى، حيث يمكن استخدام الكلمات لإثارة الخوف أو مقاومته، حيث يحاول الناس تجريم كلمات مثل "مهاجر" و"متحول" و"أسود".

استعادة اللغة. السماح للكتابة بتجاوز تلك الحدود. لقد كان التعبير الإبداعي دائمًا بمثابة ملجأ يبني تحته الأشخاص الوحيدون والمصابون بحزن القلب نيرانًا صغيرة لتدفئة أنفسهم. كن فخورًا بنفسك لكونك جزءًا من هذا التقليد.

7- سوف تذكرك الكتب بمن أنت:

أعيد قراءة الكتب بلا خجل. هذا يثير جنون الناس. "هل تقرأين ذلك مرة أخرى؟" كانت تسألني أمي بدهشة عندما كنت صغيرة. "لكنّك تعرفين ما سيحدث بالفعل!" يمكن بسهولة تحديد كتبي المفضلة بفضل عادتي الغريبة والمستمرة في تمزيق زوايا الصفحات الصغيرة ومضغها أثناء القراءة. (كما تعلمون، مثل العلكة).

بالنسبة لبعض الناس، القراءة هي معادلة مباشرة وفعالة من حيث التكلفة: معرفة كتاب واحد مطروح منها الوقت يساوي القيمة الصافية. ليس بالنسبة لي. طوال فوضى طفولتي المتنقلة، حيث انتقلت عائلتي بين مدن الشرق الأوسط والمدن الأمريكية، كانت الكتب المتغير الأكثر ثباتًا في حياتي. بالنسبة لفتاة وحيدة، أصبحت الكتب رفاقًا، جغرافيا مألوفة ليتم زيارتها مرة أخرى.

لا تفهموني خطأ - يمكن أن يكون الكتاب الجديد ساحرًا. أحب ذلك الشعور باكتشاف كاتب يشعل شعورًا بالتآلف. لكن إعادة قراءة كتاب تشبه استئناف ذات سابقة: فهي تكشف عن الطرق التي تغيرت بها، لكنها تطمئنك أيضًا بثباتك الداخلي.

أثناء الحرب في بيروت في الصيف الذي سبق سنتي الأولى، أعدت قراءة درويش وسيكستون لأنني كنت واقعًا في الحب وخائفة. في أعماق عامي التاسع والعشرين الجامح والصعب، أعدت قراءة كتب هاري بوتر. أعيد قراءة الكتب القديمة، من تولستوي إلى كتب نادي جليسات الأطفال، كرفاق، لأتذكر أنه حتى لو كان بيتي ومدينتي وشوارعي غير مألوفة، فلا يزال هناك شعور بالصلابة في العالم.

عندما انتقلت إلى مانهاتن، وجدت نفسي أتجول في ممرات متجر دوان ريد، حيث كان كل رف منظم من كريمات الوجه والشامبو يثير نوبة جديدة من الدموع. لقد افتقدت انقطاع الكهرباء والفوضى في المدينة التي تركتها خلفي. في تلك الليلة، في غرفة نومي المستأجرة في مورنينجسايد هايتس، قمت بنكت وتفتيش حقائب السفر حتى عثرت على نسختي البالية من كتاب "مترجم الأمراض" وتحولت، للمرة الألف، إلى الصفحة الأولى.

(تمت)

***

.................................

الكاتبة: هالة عليان (من مواليد 27 يوليو 1986) كاتبة وشاعرة وعالمة نفس أمريكية من أصل فلسطيني متخصصة في الصدمات والإدمان والسلوك عبر الثقافات. تغطي كتاباتها جوانب الهوية وآثار التهجير، خاصة داخل الشتات الفلسطيني. وهي أستاذة في جامعة نيويورك، لها رواية (بيوت الملح)  الحائزة على جائزة دايتون للسلام الأدبي وجائزة الكتاب العربي الأمريكي، ووصلت إلى المرحلة النهائية لجائزة تشوتوكوا. وصلت روايتها الأخيرة، مدينة مشعلي الحرائق، إلى نهائيات جائزة أسبن ووردز الأدبية لعام 2022. وهي أيضًا مؤلفة أربع مجموعات شعرية حائزة على جوائز، بما في ذلك ديوان (السنة التاسعة والعشرون). نشرت أعمالها في مجلة The New Yorker، وأكاديمية الشعراء الأمريكيين، وLit Hub، وThe New York Times Book Review وأماكن أخرى. أحدث مجموعاتها الشعرية، (القمر الذي يعيدك) صدرت مؤخراً عن دار إيكو. تعيش في بروكلين مع عائلتها.

* رابط المقال على: موقع لايت هوب / Lit Hub  بتاريخ 12 يونيو 2024

https://link.lithub.com/view/602ea751180f243d6532c4cel917m.2jq/7e7bb173

 

عاد القطيع وقد اشتاقت الأمهات إلى صغارها فهي لم تصحبها معها إلى المرعي لعدم قدرتها على المشي طيلة النهار، مرياع القطيع، نعجة كبيرة الحجم يبدوا عليها كأنها جدة كل الخراف وأمهاهم. تتقدم جموع النعاج بثقة كبيرة رأسها إلى الأعلى من ورائها ثلاث نعاج أخربات، يبدو القطيع وأنت تنظر إليه وهو أمامك، على شكل مثلث حاد الزاوية متوازي الأضلاع ومتسع القاعدة... وبهذه الطريقة الهندسية يسهل على القطيع أن يتحرك بسرعة، كما يسهل عليه اختراق أي زوبعة قد تظهر أمامه بشكل مفاجئ تتصاعد في السماء وهي محملة بالرمال، فإذا به يمر بداخلها مثل الذي يسبح في البحر، وينغمس تحت موجة من أمواجه،

الغبار تتصاعد من وراء القطيع، بفعل الحوافر الصلبة التي تدك الأرض دكا، وتخلف من ورائها أنواعا مختلفة من صدى الحوافر، فعندما تعبر الرمال يكون صدى صوتها خافتا يكاد لا يسمع، وعندما تعبر مساحة واسعة من الحصى، يتحول صدى صوت الحوافر، الى محاكات لأصوات الحجارة الصغيرة وبعضها يلتطم ببعض، مثل ذلك الصوت التي تصدره حبات من الحصى ونحن نمررها من بد إلى أخرى.

كلما اقترب القطيع من القصبة التي تطل على الواحة، الا وتعالت أصوات النعاج والماعز. الكلاب كعادتها تختفي عن الأنظار عند الاقتراب من نقطة الوصول، الشمس تميل إلى الغروب... وإذا بالقطيع فجأة يفقد شكل المثلث، ويتحول إلى شكل دائري، النعجة المرياع تتوقف الان وسط الساحة، أمام الباب الرئيسي للقصبة وتلتف حولها مجموعة صغيرة فقط. يتفكك القطيع بعضه عن بعض يتحول بشكل تلقائي في أسرع وقت إلى مجموعات صغيرة متعددة، البعض من الخرفان ينتقل من مجموعة إلى أخرى ليستقر به المطاف في إحدى المجموعات، اتضح الآن أن كل مجموعة بداخلها نعجة مرياع يتجمع حولها أفراد المجموعة. هناك لغة بين أفراد القطيع توحي لك كأن افراده يودع بعضهم بعضا، كأنهم يضربون موعدا في اليوم الموالي، بعدها يتقدم صاحب كل مجموعة من اهل الواحة ليسوق مجموعة نعاجه ومعزاته أمامه، تتسلل المجموعات بين دروب وأزقة القصبة، كل منها يعرق بيت صاحبه.

لا يخلو قطيع الغنم من عدد من الماعز، وهذا لا يعني أن الماعز والغنم أي النعاج والخرفان، يمتلكون نفس الخصائص والمميزات، الماعز يبدوا عليه نوع من الذكاء، إذ يتجه بشكل سهل نحو الوجهة المناسبة، يسير وراء المرياع وفي الوقت ذاته، لا يسلم له بكل شيء، إن أحس بخطر يداهمه، يغادر القطيع ويترك الاتجاه الذي يسير فيه المرياع (أي الخروف أو النعجة التي تتقدم القطيع)، ويستعد للدفاع عن نفسه، له القدرة ليميز بين الذئب (ابن آوى) وبين الكلاب، النعاج والخرفان ليس لها القدرة على ذلك، الماعز يتسلق أعلى الأشجار ويمسك بأوراقها، يقفز من حافة جبل إلى آخر، يميز بين صوت راع وراع آخر، عندما تنادي عليه يستجيب، تشير عليه ويفهم الإشارة... لو اختار الهروب والتخلي عن القطيع لأقبل على ذلك.... كل ما في الأمر أن النعاج والخرفان تبدوا بلهاء بالمقارنة مع الماعز، وليس من العجب أن نجد الكثير من أهل الواحة يقدمون حليب وجبن الماعز عن أي حليب آخر، فمنهم من يرى أن حليب الماعز يقوى الذكاء عند الأطفال، ويمنحها قوة وقدرة عندما تكبر على تسلق الأشجار...

ومن الغريب عند أهل الصحراء منذ القدم، أن يحيطوا الماعز بكثير من الحكايات والأساطير، بينما الخراف كانت موضع تقديس، كثيرة هي من النقوش التي يفهم منها أن أهل الصحراء قديما وغيرهم، قد قدسوا "الكبش" أو الخروف، وكيف له أن يحظى بهذه المكانة؟ هل حظي بها للطفه ووداعته أم لبلادته؟ الخراف في مقدمة الأضاحي والقرابين؟ يتخيل الكثير من الناس بأن فداء ابن نبي الله إبراهيم كان بكبش، ودليلهم على ذلك ما ورد في القرآن قال تعالى: " وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)"(الصافات)، ما هو وجه العظمة في هذا المخلوق المتعدد الأسماء "الكبش" "الخروف" "الضأن"، أية عظمة هذه الخراف ترى الذئب (ابن آوى) وتقبل عليه لتعانقه، هل هناك حماقة أكثر من هذه؟ احتمال كبير أن يكون الذبح العظيم حيوان آخر، إنه ذبح عظيم، وليس كبش عظيم!! صحيح ومما لا شك فيه، أن الخروف لا يغدر بأحد، وقد نال الغدر منه كثيرا، حتى الرعاة يصاحبون الخرفان بهدف ذبحها!!

تورط أهل الصحراء في تقديس الخروف، منذ زمن ما قبل التاريخ، المجسمات والنقوش تفصح عن هذه الحقيقة، فمنطقة الصحراء الكبرى وشمال إفريقيا تميّزت بتكرار غريب لرسوم ونقوش الكباش على مختلف الصخور، وهذا يعني أن أهل الواحة قديما لهم يد في ذلك. كان الخروف موضع قداسة في الصحراء، وهي مكانة لم ينالها غيره من الحيوانات، بما فيها الجمال "سفن الصحراء" فهيأتها موضع كثير من الاستغراب والفضول، إنها موضع للتأمل والنظر.[1] فأسنمتها تحاكي شكل الجبال في الطبيعة، أرجلها دون حوافر، شكل أرجلها وهي تدفع بالصدر البطن إلى الأعلى، انحناء رقبتها، رموش أعينها التي لا تهزمها ذرات الرمال، لسانها الذي يلتهم الأشواك قدرتها على تحمل العطش... هناك أمر لا نعرفه قد جذب أهل الصحراء نحو ""الكبش" "الخروف" ليرون فيه موضع قداسة، ربما لكونه يتصف بالوداعة والطاعة، وهو سهل المنال ليكون قربانا وأضحية عن صدق طواعية منه، ففي الوقت الذي يتصف فيه الخروف بالوداعة، تتصف فيه الذئاب بالغدر، القربان والأضحية، ما هي إلا تعبير رمزي عن الطاعة والخضوع والانقياد، وليس هناك حيوان يحمل هذه الرمزية أكثر من الخروف، القربان والأضحية تعبير رمزي يرفع من قيمة الوداعة والصدق والوفاء، ويحط من قيمة الغدر.  ومن هذا الأحمق الذي يختار أن تكون أضحيته وقربانه ذئبا (ابن آوى) وهو يمسك به في الصحراء بعد أن ينصب له فخا من المؤكد أن يقع فيه، أو يتسمّر لوقت طويل بالقرب من جحره، ليصيبه بسهم من سهامه!! لقب الخروف عند أهل الواحة لقب مزدوج، يرمز إلى اللطف والوداعة والتواضع،[2] ويرمز إلى الإتباع والانقياد دون رأي ولا نظر. بينما الذئب لا يحتمل إلا رمزا واحدا وهو الغدر.

الجن عند أهل الواحة، لا يتقمص صورة الخروف، بقدر ما يتقمص صورة الجدي أي الماعز، أو أي مخلوق آخر، فإذا ظهر لك ماعز كله بلون أسود وأنت وحدك في الطبيعة، فأحذر أن تتبعه، سيوهمك أنك ستمسك به، سيقودك خطوة بعد أخرى، إلى مكان حيث لا أحد، ستجد نفسك في الخلاء لوحدك في ضياع دون أن تمسك به. تحكي الأسطورة أن شابا مفتول العضلات اسمه "حمودة" في يوم من الأيام، خرج لوحده من القصبة، وترجل داخل الواحة في اتجاه النهر الكبير، وإذا به يجلس بجوار بركة صغيرة من ماء النهر، بالقرب من المجرى الرئيسي للماء، امتدت يده لتلامس سطح الماء، فبدل أن يرى انعكاس ملامح وجهه على سطح الماء كالمعتاد، ظهر له انعكاس رأس ماعز جميل المنظر، يقف بالجانب الآخر من البركة، رفع الشاب رأسه ببطيء، نظر بعيدا الى الجانب الآخر من البركة، وإذا بعينيه تبصر جديا قصير القامة، صغير السن شعره أسود غامق ولامع، عينان برّاقتان، أذناه لست بالقصيرة ولا بالطويلة، قرونه فضية... جذاب المنظر، انجذب حمودة نحجو الجدي، إنه انجذاب غير طبيعي، حدث بشكل سريع وبدون تردد، مثل انجذاب مسمار نحو المغناطيس، بشكل تلقائي، هكذا هو حمودة أمام الجدي، كله رغبة أن يمسك به، دون أن يخطر بباله أن الجدي جرّه وجذبه إليه جذبا.

غمس حمودة رجليه في الماء عبر البركة إلى الجهة الأخرى، ابتعد الجدي منه قليلا ووقف والتفت يحدق بعينيه، وإذا بحمودة يلحق به، كلما اقترب من الإمساك به إلا وابعد عنه قليلا، المسافة بينهما لا تتجاوز عشرة أمتار، تتمدد وتتقلص، لم يخطر في بال حمودة بأن الجدي هو من يتحكم في المسافة الفاصلة بينهما، كلما ضاقت بينهما، إلا ومد يده ليمسك بالجدي من أعلى ظهره، الجدي يجري وحمودة يجري من ورائه، لمسافة طيلة، في الأخير وسط كثبان الرمال، قفز حمودة بكل قوة عالية وإذا به يجد نفسه من أعلى ظهر الجدي، فأمسك بيده اليمنى بالشعر الأسود المتدلي من رقبة الجدي، وامتدت يده اليسرى لتمسك بإحدى قرونه، وتلحقها اليسرى لتمسك بالقرن الآخر. الجدي الآن لا قدرة له على الهرب.

استرجع حمودة أنفاسه، وهو ماسك بقرون الجدي، بعد ذلك رفعه إلى الأعلى ووضعه بين كتفيه، إلى الوراء من قفا رأسه، وأرجله الروائية متدلية إلى الأسفل من جهة الكتف الأسر، أما رأس الجدي فهو متدلي بعد الأرجل الأمامية الى جانب الكتف الأيمن. اليد اليسرى تمسك الآن الأرجل الخلفية بالقرب من حوافر الجدي، واليد اليمنى تقبض بصلابة على الأرجل الأمامية بالقرب الحوافر، كلما تحرك الجدي ما بين أكتاف حمودة، إلا وجذبته حمودة من كلا أرجله الخلفية والأمامية الى الأسفل. كل ما يفكر فيه حمودة، هو الوصول الى باب القصبة، والجدي على كتفيه، ليعلن في الملأ أنه وجده تائها بالقرب النهر الكبير، ربما يظهر صاحبه، أو يتم ذبحه وتوزيعه على الجيران، أو ينضاف الى عشرت النعاج وهم في طريقهم نحو القطيع... بعد عناء وتعب شديد، ها هو الآن بالقرب من باب القصبة وسط الساحة، حافي القدمين، قميصه لا يتجاوز ركبتيه، خنجره مثبت على الحزام الذي يلف خصره بإحكام، أكمام القميص واسعة بشكل ملفت للنظر، الجدي من أعلى كتفيه يرفع رأسه ويدليه نحو الأسفل حينا آخر.  ها هو الآن، يفتح فمه ويخرج أسنانه ولسانه، ويلف رقبته في اتجاه رأس حمودة، ويهمس له في أذنه اليمنى " حمودة أنظر إلى أسناني" (حمودة شُوفْ سِنيَّ)

نعم كلّمه بهذه العبارة التي التقطتها أذن حمودة في المرة الأولى والثانية... منكم من لا يصدق هذا... لا يعقل لجدي أن يتكلم مع إنسان... لكن حمودة حدث له هذا، إنها حالة تخصه لوحده دون غيره، ربما هي حالة نفسية يمر بها حمودة وهو يتخيل نفسه يسمع كلمات جدي يخاطبه...اليس في علمكم بأن طير الهدهد كلم سليمان... يا الله، سليمان نبي الله، هذا أمر لا يستقيم، فلا مقارنة مع وجود فارق...

لم ينتظر حمودة تكرار المقولة للمرة الثالثة، وإذا به يرفع الجدي من كتفيه إلى أعلى رأسه، وينزله ويحطه على الأرض، وهو ممسك بكلا أرجله الأمامية والخلفية، أحكمه مرة أخرى بوضع ركبتيه على صدره وظهره، مرر يده بشكل نحو الخنجر وقد تمكن من أن يستله من مكانك بشكل سريع، أقترب من رقبة الجدي وهو مثبت على الأرض، حمودة الآن يتردد في سمعه صوت الجدي وهو يقول " حمودة أنظر إلى أسناني"(حمودة شُوفْ سِنيَّ) لا جواب عند حمودة، وقد ابتكر جوابا بشكل عفوي، والخنجر يمتد إلى رقبة الجدي "وأنت أنظر إلى الخنجر بأيدي" ( وأنت شُوفْ جَنْوِيَّ بِدِّيَّ)[3] وإذا به يمرر الخنجر يمينا وسيارا على رقية الجدي، فجأة وجد خنجرة يمرر فوق التراب، اختفى الجدي، ولم يعد له أثر... ركبتي حمودة الآن منثنيه على الأرض، وإذا به يقف ويدخل الخنجر في غمده ويضرب كفا بكف...هكذا تقول الأسطورة حمودة نفسه سار يتقمص صورة وشخصية الجدي، إن رغب في ذلك. فلم يعد يطيق الناس كثيرا، عندما يمر أمام جماعة من الناس، لا يحتملهم، يتقمص صورة الجدي. سار الأمر مشاعا بين أهل الواحة، عندما ترى جديا أسودا، احذر أن تلقيه بحجر، أنت لا تعرف هل هو جدي فعلا، ام إنسان يتقمص صورة جدي، إنها حماقات من يسلمون بأن الأرواح تخرج من جسد لتسكن جسدا آخر، والغريب أن تجد من الذي يدعي قدرته استحضار الأرواح بالضرب على الطبول، بإيقاعات مختلفة، وبالاجتماع حول وجبة لحم جدي أسود. الخروف لا نصيب له ولا قدرة عندهم في استحضار الأرواح.

الأساطير من شأنها أن ترتحل عبر الزمن من مكان إلى آخر، من ثقافة إلى أخرى، والغريب فيها أنها تتلبس بخصوصيات المكان والزمان والمحيط، كذلك هي أسطورة الجدي عند اليونان فقد ألقت بظلالها عبر التاريخ وسافرت عبر الزمن من مكان إلى آخر. وتمثلت في مختلف الحكايات الشعبية.

أهل الواحة يميلون لسرد مختلف الحكايات، الطولة منها والقصيرة، بالرغم من أنهم لا يصدقونها، ولكن عند ما يخلوا الفرد الواحد منهم بذاته، دون أن يكون معه أحد، وهو في طريقه إلى عمله، أو قادما من حقله البعيد عن القصبة أو القصر الذي يسكن بداخله، فقد تستحوذ عليه مختلف الحكايات والأساطير، من النادر أن تجد رجل في الواحة أو في جنبات الصحراء يطار جدي لوحده، فضاء الصحراء بطبعه ينسجم مع مختلف الإيحاءات والتصورات الغريبة، وهذا لا يعني أن أهل الصحراء و الواحة لا يكسبون قطعان الماعز، فعلى العكس من ذلك، الأسطورة تعود على الجدي الواحد، اما إن تجاوز الواحد، فقد تحللت الأسطورة والحكاية من معناها.

... يتبع ...

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

........................

[1]  قال تعالى: "أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)" (الغاشية)

[2] ورد في (إنجيل يوحنا 1: 29) "وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلًا إِلَيْهِ، فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!"

[3]  جَنْوِيَّ، وهي الخنجر أو السكين، نسبة الى جنوة وهي الآن مدينة داخل التراب الإيطالي، قديما كان المغاربة يستوردون نوعا من السكاكين جنوة، وقد سمي السكين نسبة إلى اسم المدينة في العامية المغربية جَنْوِيَّ.

 

لقد عرف البشر القلم منذ آلاف السنين بل يذهب الكثير من علماء تفسير القرآن الكريم أن القلم أول ما خلق الله سبحانه مستشهدين بعدد من الروايات واستدلوا بحديث عبادة بن الصامت الذي رواه الإمام أحمد وأبو داوُد والترمذي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم، ثم قال له اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقد كان للقلم دور كبير في توثيق تاريخ البشر سواء من الحضارة السومرية وألواح الطين والخط المسماري أو الحضارة الفرعونية وأقلام نبات القصب وورق البردي وما بين تطورات صناعته بين الألمان والإ نجليز ودخول اليابان على خط التصنيع للأقلام، حتى أصبح القلم اليوم قيمة رمزية فاخرة ، سواء كان القلم ذهبيا أو فضيا أو برونزيا فإن الأثر الذي يتركه الحبر في العقول هو الرهان، ولطالما صعب أو استحال قياس الأثر الإنساني للأعمال الفنية فإن التحدي الذي سيواجه النقاد في الجائزة كبير بلا شك؛ وهم أهل له. والأمر الأكثر إثارة هو الفجوة الحسية والمعرفية بين الأجيال وكيف يمكن تلبية ذائقة الجماهير الشابة التي تتغذى على الثقافات المختلفة والمتنوعة، وهل من الممكن أن تكون مثل هذه المبادرات العظيمة نقطة تحول في المجتمع لنشهد ولادة كُتاب محليين بمعايير عالمية؟ أو حتى صناعتهم لهذه المناسبة التاريخية

لقلم اهمية في القرآن الكريم، قوله تعالى اقسم بالقلم "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، الذي بواسطته الناس يكتبون فينقشع الجهل ويستبدل بالعلم "الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وهذا شرف للعلم وتعلمه الذي له اثر على القلوب والعقول والدين وانارة البصائر ويميز الانسان عن غيره من المخلوقات باستخدامه اداة الكتابة. ويربط القلم هذه الاثار فقد قرن النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم الدين بالعقل حيث قال (انما يدرك الخير كله بالعقل ولا دين من لا عقل له). ومن القاب القلم مذيع العلم. وسورة القلم من السور المكية التي نزلت بعد سورة العلق وهذا يدل على ارتباط العلم بالقلم. وهي من اوائل سور القرآن التي نزلت التي منها سورة العلق وفيها اشارة الى اهمية القراءة وارتباط ذلك بالقلم فلولا القلم لما استطاع الانسان ان يقرأ. عن النبي صلى الله عليه واله وسلم: ان اول شئ خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة، ثم قال له اكتب، وفي تفسير لاية "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ" وهنالك ايات قرآنية اخرى تشير الى اهمية العلم "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ان القلم هو اللوح المحفوظ الذي تكتب فيه الملائكة اعمال الكائنات خيرا وشرا

للاسف بدأ الناس والادباء ورجال الصحافة وطلبة الجامعات يتخلون تدريجيا عن الكتابة بالأقلام في عصر التكنولوجيا، حتى صاروا يتوقعون مع ازدياد الاعتماد على تقنيات وأنظمة الذكاء الاصطناعي، وبدأ الاستغناء عن الكتابة الورقية، وحلت مكانها اجهزة الكمبيوتر والموبايل والايباد، رغم ان الابحاث العلمية تؤكد أن استخدام الكتابة اليدوية في التعليم يعزز التفكير، وينشط الدماغ، المعلومات البصرية والحركية، التي يتم الحصول عليها من خلال حركات اليد التي يتم التحكم فيها بدقة عند استخدام القلم، تساهم بشكل كبير في أنماط الاتصال في الدماغ التي تعزز التعلم

ولعل هذه الحقبة الزمنية تعيد هيبة "القلم" وإعادة صياغة مواد تعليمية داعمة للكتابة، حيث يندر أن تجد في الجامعات لدينا مقررات خاصة بالكتابة، بل يمكنك أن تشاهد بالعين المجردة انهيار المنظومة اللغوية لدى بعض أفراد الأجيال القادمة خاصة من لا يتقنون لغتهم الأم ولا لغة أخرى عباراتهم مشوهة بدون معنى، وهذه بلا شك مسؤوليتنا جميعا. أخيرا، لا تتنازل عن قلمك ولا تجفف حبرك إن كان ما يخطه لا يروق للناس ولا تتخلى عن صفحتك حتى لا تجد عدوك يملأ عليك ما يريد.

سأل صحفيٌّ نجيب محفوظ كيف تكتب الرواية؟ فرد عليه فوراً بالورقة والقلم يا ابني، رُوي عن جرير أنه كان يتمرّغ في الصهريج وهو يعاني لحظات تصيُّد أبيات الشعر، وروي عن الجواهري أنه يصاب بنوع من اللوثة ولمسات الجنون حين ينهمك في كتابة الشعر إلى أن تلين الفكرة العنيدة (حسب كلمة السياب الذي روى أيضاً حالته مع ميلاد القصيدة)، مما يعني إن تصيُّد إيقاعات الشعر ومجازاته مثلها مثل تصيُّد حبكات الرواية، ومثل تصيد شوارد الأفكار، وكلها شوارد تقلق وتؤرّق وتشعل روح مُنشئها وتؤلمه بمثل ما تسهر عيون الخلق عليها بعد ذلك حسب المتنبي، وذلك بعد أن تستقل عن صاحبها وتطوف عوالم الحياة والناس، وينام صاحبها الذي قلق وتألم منها فتتولى إيلام القراء وتعذيب مشاعرهم وأفكارهم في تتبع شواردها ".

***

نهاد الحديثي

فارقت الحياة يوم السبت 3  آب  2024م في بلاد المغرب العربي، بعد تعرضها لجلطة حزن على فراق زوجها وحبيب عمرها: فراس عبد المجيد رشيد

وصبيحة شبر كاتبة عراقية، بدأت الكتابة في الصحف العراقية عام 1960، نالت لقب أفضل كاتبة في العالم العربي من المجلس العالمي للصحافة عام 2009.

السيرة الادبية

1- كتبت القصيدة العمودية اثناء الدراسة الابتدائية

2- نشرت المقالات في الصحافة العراقية منذ عام 1960

3- تخرجت من جامعة بغداد كلية الآداب – قسم اللغة العربية عام١٩٧٠

4-أصدرت مجموعتها القصصية الأولى بعنوان (التمثال) من مطبعة الرسالة في الكويت عام 1976

5 - غادرت العراق عام 1979 بسبب اشتداد الهجمة الدكتاتورية على القوى التقدمية

6– كتبت في الصحف الكويتية بين عامي 1979 – 1986 باسم مستعار (نورا محمد)

7 – استقرت في المغرب عام 1986 8 – نشرت القصص في الصحف العربية بين عامي 1986 الى 2004

9 – أصدرت مجموعة القصصية الثانية بعنوان (امرأة سيئة السمعة) من وكالة الصحافة العربية للمطبوعات في مصر

10 – كتبت في الجرائد الالكترونية مثل الكاتب العراقي – الحوار المتمدن –فضاءات – بنت الرافدين - واتا – منتدى شروق- انانا- ازاهير- اقلام – الوراق- البيت العراقي

11 – نشرت المجموعة القصصية الثالثة  عنوانها (لائحة الاتهام تطول) صدرت في  2007

 12- رواية مشتركة عنوانها(الزمن الحافي) مع الروائي العراقي سلام نوري صدرت في بغداد – 2007

ا13 – عضو في الجمعيات والمؤسسات الاتية :مؤسسة تراي الثقافية – جمعية جمع المؤنث الثقافية في المغرب – اتحاد كتاب النت العرب – الهيئة الادارية لجمعية الرافدين الثقافية العراقية في المغرب - جمعية واتا للمترجمين واللغويين والمبدعين- هيئة التحرير لمجلة انانا- رابطة الكاتب العربي

14- مشرفة على الأدب في المنتديات  شروق – انانا- واتا-نور الشمس

  15- أجرت حوارات مع المنتديات الاتية:شروق مرتين- واتا- نور الشمس- -;- اوتار -صخب أنثى- المبدعات العربيات- مجلة شارع المتنبي- انانا – تعابير- مجلة المثقف من قبل الشاعر يوسف الشرقاوي- مجلة اويا الليبية بواسطة الشاعر صابر الفيتوري

16- كرمت من قبل جمعية المترجمين واللغويين العرب، يناير 2007، انانا نوفمبر 2007 – مهرجان المريسة المغربي4337 صبيحة شبر

السيرة المهنية

 1- أستاذة اللغة العربية في مدرسة الرصافي العراقية في الكويت بين عامي 1972- 1977

2- أستاذة اللغة العربية في مدرسة واسط (في العراق) بين عامي 1977 – 1979

3- استاذة اللغة العربية في مدرسة الأمل (للراهبات العراقيات في الكويت) بين عامي 1980 – 1986

4 - أستاذة اللغة العربية في مدرسة جبران خليل جبران المغربية الخاصة بين عامي 1986 – 1992

5- أستاذة اللغة العربية والتربية الإسلامية في المدرسة العراقية في الرباط منذ عام 1992 وحتى وفاتها ...

قصص قصيرة

الثمثال، من مطبعة الرسالة في الكويت عام 1976.

امرأة سيئة السمعة، من مطبعة وكالة المطبوعات العربية في مصر عام 2005.

لائحة الاتهام تطول، صدرت عن دار الوطن للطبعة في الرباط، عام 2007.

التابوت، صدرت عن دار كيان في مصر عام 2008.

لست أنت، صدرت عن دار ضفاف.

غسل العار، دار فضاءات، عمان.

روايات

الزمن الحافي رواية مشتركة مع الأديب العراقي سلام نوري.

العرس رواية صدرت عن العراق في عام 2010.

فاقة تتعاظم وشعور يندثر، 2014.

أرواح ظامئة للحب، 2015.

هموم تتناسل وبدائل، 2015.

أدتك قلبي، 2017.

جوائز

نالت لقب أفضل كاتبة في العالم العربي من المجلس العالمي للصحافة عام 2009.

كرّمتها وزارة الثقافة العراقية عام 2010 ضمن المكرمين لحصولهم على جوائز عربية وعالمية

* بدأت الأستاذة صبيحة شبر النشر في المثقف منذ سنة 2010م.

تغمد الله الفقيدة برحمته الواسعة وألهم ذويها الصبر والسلوان.

***

.......................

السيرة الذاتية نقلا عن صفحة ا.م.د ماهر جبار الخليلي بالفيسبوك

تسمى عادة مثل هذه (الدراسة مقارنة) وتكون عادة بين  ظاهرتين أوعالمين أو شاعرين وهكذا، والمقارنة كما يصفها العلماء ام المعرفة، المقارنة هذه بين شاعرين كبيرين، احدهما عراقي هو الشاعر بدر شاكر السياب والثاني شاعر مصري هو امل دنقل، ولد السياب في قرية من قرى جنوب العراق (جيكور) وولد الثاني في قرية جنوب مصر (القلعة)  لكن السياب كان هو الاسبق من الناحية الزمنية فقد ولد 1926 بينما ولد امل عام 1940، كلاهما عانا من آلام الفقر والمرض والغربة فكان هذا هو الخيط الذي جمع بين الشاعرين حتى رحيلهما عن الحياة، وقد نعكست ظروفها الاجتماعية الصعبة على نتاجمها الشعري فكانت قصائد وجدانية تغرق في النزعة الانسانية وذات مواقف متشابهة من الحياة والموت والتي تعكس حياة الشاعرين في البيئة القروية والآفاق الاجتماعية والنفسية لكل منهما، حتى ان امل دنقل قد اطلق عليه النقاد لقب سياب مصر غير ان اللقاء والافتراق لم يكمن تاماً بينهما فثمة اوجه شبه واوجــه اختلاف رغم التشابه في ظروف البيئة القروية القاسية فالفارق بينما هو فارق التجربة فقط فقد كان السياب اعمق تجربة كونه لم يتخلى عن رغبته في الحياة حيث ظهر هذا جلباً في قصائده مثل: انشودة المطر وحفار القبور .. إما امل دنقل فقد غيم على اشعاره شبح الموت الذي اعتبره الحقيقة الوحيدة في هذا الوجود . لقد اصدر السياب اول مجموعة شعرية له عام 1946 باسم "ازهار واساطير" وكانت اول قصائده (هل كان حباً) إما امل فكانت مجموعة الشعرية  الاولى عام 1969 تحمل اسم (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) صدرت بعد انتكاسة العرب في حرب 5 حزيران 1967 .

ان شعراء كثيرين ارتبطت اسماؤهم بمآسي عصرهم واوطانهم مثل: لوركا، ناظم حكمت، الجواهري، البياتي، وكذلك السياب وامل دنقل لقد كان كل من السياب ونقل يحب وطنة وتغنى  به بل يحن إلى قرية وامال كل منهما إلى الملحمية في الشعور، وتضمنت قصائدهم الاساطير  الأغريقية التي نراها واضحة في قصائد السياب و دنقل،  ووقف الاثنان إلى صفوف الجماهير الفقيرة التي كانت تعاني الحرمان وشظف العيش ايام السيطرة البريطانية على كل من العراق ومصر ففي أثناء وجود السياب في بغداد في الأربعينيات لدراسة اللغة الإنكليزية انتمى إلى الحزب الشيوعي العراقي على الرغم من ان بيئة بغداد كانت تؤرقه وهكذا كان الحال عند امل دنقل عند ما حل في القاهرة، لقد مات السياب عام 1964 وهو في قمة النضج وفي عمر مبكر (38) عاماً وكذلك امل دنقل توفي وهو قمة النضج عام 1983 (43) عاماً . كتب السياب قصيدته والتي تضمنها ديوانه في بيروت والمؤرخة 19 / نيسان 1962 اي قبل وفاته بعامين يقول فيها:

من مرضي

من السرير الأبيض

من جاري انهار على فراشه وحشرجا

يمصّ من زجاجة أنفاسه المصفّرة

من حلمي الذي يمدّ لي طريق المقبرة

أكتبها وصيّة لزوجتي المنتظرة

و طفلي الصارخ في رقاده أبي أبي

وامل دنقل قبل وفاته بأيام كتب قصيدته الاخيرة: يقول وهو راقد في المستفى في غُرَفِة العمليات:

كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ،

لونُ المعاطفِ أبيض،

تاجُ الحكيماتِ أبيضَ، أرديةُ الراهبات،

الملاءاتُ،

لونُ الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن،

قرصُ المنوِّمِ، أُنبوبةُ المَصْلِ،

كوبُ اللَّبن،

كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ.

كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ!

فلماذا إذا متُّ..

يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ..

بشاراتِ لونِ الحِدادْ؟

هل لأنَّ السوادْ..

هو لونُ النجاة من الموتِ،

لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ،

صورتان تعكسان روى التشابه بين السياب وامل دنقل.

***

غريب دوحي

 

كما تستطيع السريالية أن ترسم لوحة تقف أمامها بالساعات متأملاً فى محاولة لفك شفراتها السرية العميقة.. هكذا تفعل إذا تحولت فى يد الرسام إلى قصيدة ألفاظها مجرد رموز لمعانٍ أبعد..

هذا ما يفعله الشاعر والفنان التشكيلي (محمد مهدى حميدة) حينما يكتب أدباً شاعرياً بمفردات تجردت من سائر قيود الشعر الموسيقية واللغوية ، وتحررت من أثوابها الجاهلية البالية وارتدت بدلاً منها أردية معاصرة تنطلق بها فى رحاب آفاق صور شعرية مرسومة كقطع الفسيفساء، تجتمع معاً لترسم صورة يفهمها كل منا على هواه كأنها مرايا تعكس أحوالاُ نفسية عدة.. هنا يلتقى الشعر بالفن التشكيلي معاً فى لحظة نادرة تختفى فيها الفروق بين ما هو مكتوب بالقلم وبين ما ترسمه ريشة الفنان..

  بدأ محمد مهدى حميدة حياته الإبداعية كفنان تشكيلية أكاديمى بعد أن نال الماجستير فى تاريخ الفن من كلية الفنون الجميلة بجامعة القاهرة ، وأصدر كتابين حول الفن التشكيليى من إصدار دار سعاد الصباح بالكويت ودائرة الثقافة والإعلام بالشارقة. قبل أن تجذبه عوالم الكتابة الأدبية ويبدأ فى تأليف عدد من المؤلفات الأدبية التى نال عنها عدة جوائز فى كل من مصر والكويت والإمارات..

  أصدر مجموعته الشعرية الأولى فى العام 2012 تحت عنوان"صناعة الأنقاض" ، ثم أتبعها برواية "امرأة خضراء" بالشارقة عام 2014. ثم مجموعته الشعرية "قناص جبل الرماد" عام 2015من إصدار دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة. وقد قرأت تلك المجموعة الأخيرة والتى أراها امتدادا لفنه التشكيلي لا الأدبي، إذ تعج بالأخيلة غير المكتملة والصور التى تتداعى دون أن ترسو بك على شاطئ الوعى وإنما هى صور متحركة بحركة لفظية مستمرة تنقلك من معنى إلى معنى مناقض كأنها أمواج صاخبة لا تهدأ..

  القصائد تتفاوت فى أحجامها الشكلية تفاوت اللوحات المربعة والمستطيلة والقصيرة والأقصر كأنك أمام كتل لونية تتنازعها الجدران..يبدأ الديوان بقصيدة (العدميون) وكأنها بداية لونية رمادية ذات ظلال موحية بعوالم شاعرية تفيض بالغموض وتضع الخلفيات اللونية فى دائرة الضوء بينما تتقلص مساحات المباشرة والصراحة والوضوح.. وتساهم التعبيرات المتقاطرة من النص على تأكيد مدلول العنوان دون التخلى عن مساحات الغموض الممتدة عبر الكلمات والتعبيرات من نوع (اجتهدنا فى محو أشكالنا من عيون الناس- النائمين فى تلابيب الطيف- مستسلمين كلياً للتلاشى..) .. تلك القصيدة هى مدخل تدرك منه أنك مقبل على عوالم غير تقليدية من اللفظ الظلى كأنه لوحة غائمة لا تدرك تفاصيلها إلا إذا ابتعدت وضيقت عينيك لترى ما يختفى خلف الظل اللفظى من معنى مراوغ..

تتدافعك بعدها عناوين القصائد تدافع الأحلام المبتورة والرؤى السريعة كأنها نظرتك عبر نافذة قطار.. فتقرأ ( دودة القز الأخيرة- أعين ماكرة- عشاق المقهى- قصيدة غابرة- بلا عينين تقريباً- أسماك ملونة- دائرة- بلورة- كائن الجهات- ضحك-الغابة- حياة- كورتاثر- أصدقائى- فيما يبدو- حرير- جغرافيا- خريطة- سيناريوهات وشيكة- عبور) لتدرك أنك لست أمام فكرة واحدة جامعة ولا رؤية أم تتفتت إلى نسل من نفس النوع، وإنما هى فراشات متطايرة ذات أشكال وألوان غير تقليدية.. وهكذا تدرك دقة الاختيار فى كونها (مجموعة شعرية) ذات أطياف متعددة ،وليست ديواناً من نبع مشترك. ثم إنك تكتشف أمراً غريباً ليس معهوداً بين مختلف المجموعات الشعرية ، وهو أن عنوان المجموعة ليس موجوداً بين القصائد!! فلا توجد قصيدة من قصائد الكتاب اسمها (قناص جبل الرماد) وهذا ما يدفعك للتفكير أن المؤلف يقصد ذاته بهذا العنوان .. وأنه قناص من نوع جديد لا ينقب عما يبحث عنه الجميع فى كهوف من جبال الذهب أو فى ينابيع النور وبين الورود وأشجار الزيزفون، بل هو يكتشف لنا خبيئة "جبل الرماد".. فهو جبل رمادى طيفى يتغير شكله وحجمه باستمرار ولا يثبت ولا يستقر إذا قررت الوقوف بقدميك راسخاً فوقه..مثل هذا الجبل سرعان ما يتفتت فى يدك إذا حاولت إمساكه، لذا لا تحاول أبداً أن تقلد كاتباً استطاع بريشته أن يقتنص جبلاً من رماد!

***

د. عبد السلام فاروق

 

طيلة أيام فصل الربيع وقبله بأيام، يقضي أهل الواحة وقتا طويلا، وهم يقتلعون مختلف الأعشاب والنباتات الدخيلة على زروعهم، حيث يظهر النصف العلوي من الرجال والنساء أحيانا، بينما النصف السفلي تحجبه عنك سيقان الزرع، وكلما انحنى بعضهم، إلا واختفى عنك داخل الزرع، ولم تعد ترى له أثر، وإذا به لوهلة قليلة ويده ترفع قبضة مما اقتلعه من النباتات، بعد جذبها بقوة وصلابة إلى الأعلى، وهي حركة تجعل صاحبها، على استعداد ليستوي واقفا بعد هزيمة جذور النباتات التي تكون أكثر تمسكا بتربة الأرض المبلّلة.

في أول وهلة يمتلكك نوع من التعاطف، مع مختلف هذه النباتات التي تقتلع من الجذور بهذه الطريقة، أليس لها حق النمو، لكن بعدها يخطر ببالك سؤال مفاده؟ من أُعدت من أجله الأرض وأفرشت له لينمو ويثمر؟ الزرع أم غيره من النباتات؟ يأتيك الجواب حينها بأن مختلف تلك النباتات، دخيلة على الأرض، ويمتلكها الطمع، وإذا بها تضرب بجذورها في عمق التربة أكثر من جذور الزرع، بهدف محاصرته من، والتضييق عليه، إنها خطة خفية تهدف إلى الاستلاء على المكان، فعنما تتسع جذورها تحت التربة، تصير سيدة الموقف، إنها حرب الجذور، من افتقد جذوره فلا مستقبل له. المزارعون يفهمون هذه القاعدة جيدا، فلا رحمة ولا تساهل عندهم مع النباتات الدخيلة، وقد مرت معهم الكثير من التجارب، من بينها، منهم من كان يظن خيرا في بعض النباتات الدخيلة، وقال في نفسه من حقها أن تنموا إلى جانب الزرع، إنها نباتات لطيفة، وقد تتعايش مع الزرع، ترتوي بالماء مثله، وتستمتع بأشعة الشمس كما يستمتع... لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، عندما يتمكن نبات من النبتات أن يترعرع وتشتبك جذوره مع جذور الزرع، لا محالة أنه سيتقوى وتتسع مساحته، ويصبح سيد الموقف، والزرع إلى جانبه  يصبح ضعيف الهيأة والمنظر.

أمر عجيب، ما يجري في الطبيعة، يصدق على الإنسان، في الواحة وفي كل مكان. ولا شك، قد بلغك حديث وقصة ذلك الشعب الذي كان قدره أن يعيش، اختيارا منه، حياة الشتات في مجال واسع عبر العالم، وهو قدر أختاره لنفسه عن طواعية دون أن يكرهه عليه أحد، إذ وجد في الشتات مسلكا للعيش الرغيد، ووجد لنفسه مجالا واسعا من الحرية، فأهل الواحة يعرفون هذه القصة جيدا، إذا عاش هؤلاء بين ظهورهم لوقت طويل. وقد استغل هؤلاء فجوة من الزمن والتاريخ، وإذا بهم يتسللون من كل مكان بأسماء مستعارة حينا، وبوجوه مقنعة حينا آخر، إلى أرض ليست لهم، وقد أعانهم ودفعهم آخرون ليكونوا لهم خدما من أجل تحقيق مصلحة خاصة بهم، وبعد أيام وسنوات ادعوا بأن الأرض أرضهم، وأشجار الزيتون والنخيل لهم، دون غيرهم من الذين استضافوهم، ومن حمقهم وجنونهم، أنهم يمانعون في أن يعيش معهم أهل الأرض الذين استضافوهم أول مرة، وإذا بهم يضربون بجذورهم في قاع الأرض التي ليست لهم، وهم في خوف مستمر، من حالة الاقتلاع التي ستلحق بهم، لأنهم على يقين بأن وجودهم يرتبط بدعم غيرهم، ولا شك أن دورهم الذي يدعمون من أجله سينتهي عاجلا أو آجلا، وقد تتعالى الآن صرخات البعض منهم، لا حياة رغيدة لنا إلا في الشتات. فمصير النباتات الدخيلة إلى زوال واندثار وشتات، أما بذور الزرع فهي محفوظة على طول الزمن، ولم نسمع يوما ما أن بذور الزرع قد اختفت واندثرت، داخل الواحة وخارجها، بينما النباتات الدخيلة فهي إلى زوال، بفعل قوانين الطبيعة، وبفعل الزراع الذين يقتلعونها من الجذور.

مختلف النباتات التي تم اقتلاعها من الجذور، يتم تجميعها وحزمها بحزام من سعف النجيل، ويرفعها الرجل على رأسه، يد تمسك بالحزمة من فوق الرأس، ويد أخرى إلى الأمام مرة وإلى الوراء مرة أخرى، فالرجل على هذه الحال وهو يحمل على رأسه ما يتجاوز ثقله الخمسة عشر كلو غرام وأكثر، ما كان على المارة إلا أن يفسحوا الطريق أمامه، وهو على هذه الحال، سيقطع أقل أو أكثر من أربعة كلومترات، ها هو الآن، يدفع خطواته إلى أبعد مدى، وإذا به وصل إلى جدار على جانب الطريق بعلو مترين، إنها فرصته التي يتوقعها في خاطره ويتمنى أن يصل إليها، قبل أن يرفع الحزمة على رأسه، ها هو الآن يقترب بجانبه الأيمن إلى الجدار، وإذا به يتكئ عليه، وبحرفية عالية يجعل الحزمة تتسرب من فوق رأسه لتأتي على سطح الجدار، يجلس الآن ليستريح ويسترجع طاقته ويعود بعدها ليستمر في طريقه بعد أن يعيد الحزمة على رأسه. وعند وصوله يلقي بها وسط ساحة الدور السفلي من البيت، ويفك الحزام، وإذا بالنعاج والماعز المضطجعة، في أحد جنبات المكان، تقفز من مكانها وتقصدها وهي تتسابق نحوها بشكل جماعي، يغلق الرجل الباب، تاركا النعاج والماعز وراءه وهي تستمتع بوجبتها المفضلة.

عندما تكلف نفسك بجلب القوت والكلأ إلى الماعز والنعاج، فأنت تعودها على التواكل والكسل وكثرة الصياح، فكلما أحست بحركة من يمشي بالقرب منها وراء الباب، أو سمعت كلام متحاورين بالقرب منها، إلا وأكثرت من الصياح بشكل مرتفع، فعنما يتداخل صوت "ثغاء" النعاج والخرفان بصوت "نبيب" الماعز فأنت أمام إيقاع موسيقي يجمع بين، صوت الماعز الرقيق والسريع، وبين صوت يتصف بالبطيء والثخانة وهو صوت الخرفان والنعاج، وقد ينضاف إليها صوت خوار بقرة الجيران...

الماعز والنعاج في هذه الحالة تضعك في حالة من الحرج، فأنت لم توفي لها بطلباتها، شيء يصد صياحها، وهو الجري داخل المراعي الفسيحة، ففصل الشتاء الذي يحلو لها فيه أن ينكمش بعضها في بعض، بفعل البرد القارس، قد ولى وانتهى، حتى أصوافها من أعلى ظهورها تسبب لها نوع من الانزعاج، وكم هي في حاجة لتتخلص منها. هذا النوع من النعاج والماعز، عندما تصاحبه إلى المرعى ففي اليوم الأول، سيتيه في المكان، ولا يعرف إلا الجري تلو الجري، لا يعرف كيف يمدد رقبته ورأسه إلى الأرض، وأعينه تقوده إلى كل لون أخضر من أعشاب الأرض، سيجد نفسه عاجزا عن تتبع الكلأ وجزه أو اقتلاعه بالأسنان والشفتان من الأرض، هذا النوع تعود أن يأتيه الكلأ بدل أن يأتي هو إليه، تعود على مضغ واجترار الكلأ بدل جزه واقتلاعه... يا الله هذا النوع في حاجة إلى دروس وتدريب على الرعي.

أهل الواحة، في القصور والقصبات لا يفوتون فرصة رعي نعاجهم وماعزهم، فإلى جانب ملكية الحقول والبساتين، يملكون عشرات النعاج والماعز، إلى جانب بقرة أو اثنتين بالنسبة للأسرة الواحدة، ففي فصل الربيع يجمعون نعاجهم وماعزهم وإذا بها تتحول إلى قطيع كبير، يتولى مهمة رعيه ثلاثة أشخاص أو أربعة من أهل القصر أو القصبة، يصطحب القطيع إلى المرعى في الصباح الباكر ويعود به في المساء قبل غروب الشمس، ليتولى مهمة الرعي في اليوم الموالي أشخاص آخرون بالتناوب. بينما الذين يمتهنون الرعي وهو حرفتهم الوحيدة، إذ يتناوب أهل الأسرة الواحدة على مدار السنة على رعي قطعانهم وهم يجوبون جنبات الواحة في الصحراء.

يظن البعض أن مهمة الراعي مهمة سهلة ولا تكلف صاحبها شيئا، وكثير من سخروا من مهمة الرعي والراعي، ففي نظرهم، الراعي يتكئ تحت ظل شجرة ويعزف كثيرا على الناي، وقطيع غنمه إلى جانبه، طعامه مخبأ في محفظته بالقرب منه، قد يحلب الحليب بالقدر الكافي كما يريد. فهذه صورة رومانسية جميلة، فالراعي يستحق هذه الصورة وأكثر، لكن حقيقة الأمر شيء آخر. الرعي بين الجبال والتلال العالية والهضاب المخضرة، يختلف كثيرا عن الرعي في الصحراء، فمن بين ما ينتبه إليه الراعي في الجبل، هو الحذر كل الحذر من أن يتجه القطيع في فخ منطقة وعرة منحدرة جنبات الجبل فينزلق بدفع القطيع بعضه بعضا، ويسقط من الأعلى نحو الأسفل وسط الوادي. بينما الراعي في الصحراء أهم ما ينتبه إليه، هو ألا يتفرق قطيعه ويأخذ اتجاهات مختلفة، ويبتعد بعضه عن البعض الآخر، وهي حالة قد تجعل البعض منه يتيه في الصحراء، الراعي في الصحراء يحرص على التحكم في اتجاه القطيع، وإلا تشتت أمام أعينه، ويصعب عليه تجميعه، فالقطيع الكبير، يصحبه أربعة أفراد أو ثلاثة واحد يسر ببطيء على يمين القطيع وآخر على يساره، وواحد أو إتنان من الخلق.

يتقدم القطيع الخروف أو النعجة "المرياع" فالقطيع يحبه ويسير خلفه دائما، لا ينبغي الاعتماد كليا على "المرياع" فهو لا يلتفت إلى الوراء، أحيانا لا يهمه هل القطيع يلحق به أم فارقه في السير نحو اتجاه آخر. "المرياع" بقدر ما يتبعه القطيع ويجتمع حوله، ويسير وراءه، يحتمل أن يأخذ القطيع إلى نقطة ضياع وتيه في الصحراء، "المرياع" يعتمد عليه بأنه يتقدم القطيع، لكن هل هو على وعي إلى أين يقود القطيع؟ والقطيع هل هو على وعي إلى أين يتجه به مرياعه؟ والغريب أحيانا، عندما تجد القطيع في بقعة خضراء وسط شعاب الصحراء، وإذا بالمرياع يأخذها في اتجاه كثبان الرمال!!  يا الله مرياع بليد يقود أخوته لتبتلع حبات الرمال!! وكيف للقطيع أن يلحق به؟ الرعاة في الصحراء لا ثقة لديهم في المرياع، حقيقة الأمر أنهم يستغلونه وهو يتقدم القطيع.

في الزوال يجتمع الرعاة تحت ظل شجرة عالية من الطلح، وأعينهم على القطيع، يخرجون من محافظهم الجلدية المحمولة على أكتافهم، حبات التمر، يعدون الشاي، بعد إيقاد النار، يأكلون قليلا من الخبر المدهون بقليل من العسل. المكلف منهم بحمل "قربة" الماء استراح الآن من عبئها طيلة الوقت، السماء صافية، الجبال البعيدة تبدو بلون أزرق يلتقي بزرقة السماء، من الجانب الآخر تبدوا كثبان الرمال المسطحة هذه المرة ممتدة الأطراف، لا حدود لها، فزرقة السماء تلتقي بلونها الذهبي. الرعاة في جلستهم وحديثهم المستمر، أقترب منهم أحد كلابهم وإذا بهم يصرفونه، بعيدا... وإذا به ينبه بالقرب منهم ويكثر في النباح، قام البعض منهم من مكانه ولمحت أعينه (ابن آوى) وأهل الواحة يعرفونه باسم الذئب، يتسلل من بعديد إلى وسط القطيع، انطلقت الكلاب وهي تجري نحوه، وقد طاردته بشراسة، اختفى بدوره هاربا بين الشعاب وأشجار الطلح والسدر، اختفى ولم يعد له أثر. مرياع القطيع لا يعلم شيئا عن الخطر الذي كان يهدد القطيع، وقد وجهه الرعاة الآن في اتجاه طريق العودة نحو الواحة وقصورها، خطة الذئب (ابن آوى) معروفة عند الرعاة من أهل الواحدة، إنه يتسلل داخل القطيع ويقتل ما تمكن من قتله، ليختفي بعد ذلك، ويعود بعد أن يخلو المكان إلى فرائسه، الذئاب في الصحراء تكون أكثر جشعا، إن اختلت لظرف معين بالقطيع فقد تأتي عليه بالكامل، الذئب ليس كباقي المفترسات، فهو لا يكتفي بقتل واحدة، يحلو له قتل القطيع بأكمله. إنه سلوك مثير للاستغراب، قتل العشرات من النعاج وفي الأخير أكل واحدة!! ولهذا فالذئب موضوع للحكايات عند أهل الواحة.

الرعاة الذي يحترفون الرعي طيلة فصول السنة، وهم يرتحلون من مكان إلى آخر، بين شعاب وكثبان رمال الصحراء، أكثر ما يواجههم هو الخطر الحاذق بهم من كل جانب تسلل الذئاب الى قطعانهم، ولهذا يملكون ما يكفي من الكلاب لتصدّ أي هجوم محتمل. لكن مشكلتهم هذه الأيام لا تكمن في خطر الذئاب، إنها مشكلة الكلأ الذي ضاقت مساحاته في جوف الصحراء، نتيجة فقدان قطرات الماء، التي تخلف وراءها  بعض من السيول هنا وهناك...وهم في هذه الحال يوجهون قطعانهم، اتجاه الواحة لتقتات على ما تبقى النباتات والشجيرات جانب النهر الكبير، وهي حالة يتضايق منها البعض من أهل القصور والقصبات داخل الواحة، اليوم لم يعد لحياة الترحال وجود إلا فيما هو نادر، كما أن الرعي سار محدودا، في مجالات ضيقة.

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

كان ويليام بتلر ييتس، أحد أعظم شعراء القرن العشرين، يستكشف في كثير من الأحيان موضوعات تتعلق بالشيخوخة في شعره. ومع تقدمه في السن، أصبح ييتس منشغلا بشكل متزايد بفكرة الفناء ومرور الوقت، وهو ما يتضح في العديد من قصائده. ومن خلال لغته القوية والمثيرة، يلتقط ييتس تعقيدات الشيخوخة والحكمة التي يمكن أن تأتي معها. في هذه المقالة، سأستكشف كيف يصور ييتس الشيخوخة في شعره، مع التركيز على الموضوعات والتقنيات الرئيسية التي يستخدمها الشاعر.

غالبا ما يصور ييتس الشيخوخة كوقت للتأمل والاستبطان في شعره. في قصائد مثل "الإبحار إلى بيزنطة" و"بين أطفال المدارس"، يتأمل حدود الشيخوخة والرغبة في التسامي. يقدم ييتس الشيخوخة كوقت يجب على المرء فيه مواجهة حقائق الفناء والتصالح مع مرور الوقت. من خلال الصور الحية واللغة المجازية، ينقل ييتس التعقيدات العاطفية والنفسية للشيخوخة.

علاوة على ذلك، يستكشف ييتس بشكل متكرر فكرة الإرث والتأثير الذي تخلفه تجارب الحياة على الأجيال القادمة. في قصائد مثل "هجران حيوانات السيرك"، يتأمل ييتس الخيارات التي اتخذها في حياته والإرث الدائم الذي سيتركه وراءه. بالنسبة لييتس، تصبح الشيخوخة وقتا للتأمل في الماضي والتفكير في مكانة المرء في العالم. من خلال شعره، يشجع ييتس القراء على التفكير في الطرق التي ستشكل بها أفعالهم وخياراتهم إرثهم.

ومن الموضوعات الرئيسية الأخرى في شعر ييتس التوتر بين الشباب والشيخوخة. في قصائد مثل "عندما تكبر"، يقارن ييتس بين جمال وحيوية الشباب وحكمة وخبرة الشيخوخة. يستكشف كيف تتقاطع هاتان المرحلتان من الحياة وتؤثران على بعضهما البعض، مسلطا الضوء على الطرق التي يمكن أن يؤدي بها العمر إلى فهم أعمق للعالم. تعمل قصائد ييتس كتأمل في مرور الوقت والتغيرات الحتمية التي تأتي مع الشيخوخة.

كما يتعمق ييتس في فكرة التحول في الشيخوخة، ويصورها كوقت للنمو الروحي والتنوير. في قصائد مثل "المجيء الثاني"، يستكشف ييتس الطبيعة الدورية للحياة والقوة التحويلية للشيخوخة. يقترح أن الشيخوخة ليست نقطة نهاية، بل هي بداية جديدة، وقت يمكن للمرء فيه تحقيق فهم أعمق لنفسه والعالم. من خلال شعره، يقترح ييتس أن الشيخوخة يمكن أن تكون وقتا للتجديد والولادة الجديدة، وفترة من النمو الشخصي والروحي.

وعلاوة على ذلك، غالبا ما يستكشف شعر ييتس التحديات الجسدية والعاطفية التي تصاحب الشيخوخة. في قصائد مثل "حوار الذات والروح"، يتناول التدهور الجسدي الذي يأتي مع الشيخوخة والشعور بالخسارة التي يمكن أن تصاحبها. يضفي تصوير ييتس الخام والصريح للشيخوخة شعورا بالضعف والإنسانية على شعره، مما يسمح للقراء بالاتصال بالتجربة العالمية للشيخوخة. من خلال عمله، يواجه ييتس الحقائق القاسية للشيخوخة بصدق وتعاطف.

كما ييتس يستخدم الرمزية والأساطير لنقل تعقيدات الشيخوخة في شعره. في قصائد مثل "ليدا والبجعة"، يستعين بالأساطير والخرافات القديمة لاستكشاف الموضوعات الخالدة للحب والخسارة والخيانة. من خلال نسج هذه القصص القديمة في عمله الخاص، يخلق ييتس شعورا بالخلود والعالمية، ويربط تجارب الشيخوخة بالعواطف والتجارب الإنسانية الأوسع. يضيف استخدام ييتس للرمزية والأساطير عمقا وتعقيدا لاستكشافه للشيخوخة في شعره.

وعلاوة على ذلك، غالبا ما يتميز استكشاف ييتس للشيخوخة بإحساس بالحنين والشوق إلى الماضي. في قصائد مثل "البجع البري في كول"، يتأمل في مرور الوقت والتغيرات التي تأتي مع الشيخوخة. يعبر ييتس عن شعور عميق بالحزن والندم على طبيعة الحياة العابرة، ويلتقط المشاعر المريرة التي غالبا ما تصاحب الشيخوخة. من خلال لغته المؤثرة والمتأملة، ينقل ييتس الحنين الحزين إلى الماضي الذي يمكن أن يحدد تجربة التقدم في السن.

يتميز تصوير ييتس للشيخوخة بإحساس بالقبول والاستسلام. في قصائد مثل "البرج"، يتأمل في حتمية الشيخوخة والحاجة إلى التصالح مع الموت. لا يتجنب ييتس حقائق الشيخوخة، لكنه يواجهها وجها لوجه بشجاعة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

الهوية هي موضوع مركزي في شعر عزرا باوند وتي إس إليوت، وهما اثنان من أهم وأكثر الشعراء تأثيرا في الحركة الحداثية في أوائل القرن العشرين. لقد تعمق الشاعران في مسائل الذات والفردية والبحث عن المعنى في عالم سريع التغير. في أعمالهما، يستكشفان التعقيدات والفروق الدقيقة للهوية الشخصية، والتي غالبًا ما تعكس التفتت وخيبة الأمل في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى.

لقد تصارع باوند وإليوت مع فكرة الذات الحديثة ككيان معقد ومتعدد الأوجه. في أعمال مثل "الأرض الخراب" و"أغنية حب ج. ألفريد بروفروك"، يستكشف إليوت الطبيعة المجزأة للهوية في مجتمع مجزأ. غالبا ما تطارد شخصياته شعور بالاغتراب والانفصال عن أنفسهم والعالم من حولهم. وعلى نحو مماثل، يدرس باوند فكرة الذات المكسورة في قصائد مثل "الأناشيد"، حيث يجرب أصواتا ووجهات نظر متعددة لنقل شعور بالارتباك والضياع.

كما يستكشف الشاعران دور التقاليد والتراث في تشكيل الهوية الشخصية. وقد استعان باوند بشكل كبير بالأدب الكلاسيكي والشعر الصيني في أعماله، مما يعكس إيمانه بأهمية الاستمرارية الثقافية والجذور. وفي قصائد مثل "هيو سيلوين ماوبرلي"، يتأمل في التوتر بين الماضي والحاضر، والنضال من أجل التوفيق بين متطلبات التقاليد وضرورات الحداثة. وبالمثل، يشير إليوت إلى مجموعة واسعة من المصادر الأدبية والثقافية في عمله، مستمدا كل شيء من دانتي إلى شكسبير إلى الكتب المقدسة الهندوسية لإنشاء نسيج غني من الإشارات والإشارات التي تتحدث عن تعقيد الهوية الشخصية.

بالنسبة للشاعرين، فإن البحث عن الهوية هو أيضا بحث روحي ووجودي عميق. في قصائد مثل "الرباعيات الأربع"، يتصارع إليوت مع أسئلة الإيمان والفداء والبحث عن المعنى في عالم يبدو غالبا خاليا من الغرض. غالبًا ما تكون شخصياته في رحلة روحية، تسعى إلى تجاوز حدودها الأرضية والاتصال بشيء أعظم منها. وعلى نحو مماثل، غالبًا ما يكون استكشاف باوند للهوية مشبعا بإحساس بالبحث الميتافيزيقي، حيث يتعمق في أسرار الوعي البشري وطبيعة الوجود نفسه.

يرتبط موضوع الهوية ارتباطا وثيقا أيضا بمسائل اللغة والتواصل في أعمال باوند وإليوت. كان كلا الشاعرين مبتكرين في استخدامهما للغة، حيث جربا الشكل والإيقاع والصور لنقل الطبيعة المراوغة غالبًا للهوية الشخصية. تعد قصيدة "في محطة المترو" لباوند وقصيدة "أغنية حب ج. ألفريد بروفروك" لإليوت مثالين قويين لكيفية استخدام اللغة لالتقاط تعقيد وغموض التجربة الفردية. في أعمالهما، تصبح اللغة وسيلة لاستكشاف حدود التعبير عن الذات والتحديات التي يفرضها نقل ما لا يوصف.

فضلا عن ذلك، يتعامل باوند وإليوت أيضاً مع فكرة الهوية باعتبارها بناء اجتماعيا، تشكله ضغوط وتوقعات المجتمع. وفي قصائد مثل "الأرض الخراب" و"الأناشيد"، يستكشفان الطرق التي يمكن بها للقوى الخارجية أن تشكل الهوية الفردية وتفرض قيوداً على الحرية الشخصية. كان الشاعران منسجمين تماما مع الاضطرابات السياسية والاجتماعية في عصرهما، وتعكس أعمالهما اهتماما عميقا بالطرق التي يمكن بها لهياكل السلطة أن تؤثر على الشعور بالذات وتشوهه.

وفي الوقت نفسه، يحتفل الشاعران أيضا بإمكانية الوكالة الفردية وتحديد الذات في مواجهة الضغوط الخارجية. وفي أعمال مثل "الرجال الجوف" لإليوت و"الأغنية الخامسة والأربعون" لباوند، يقدمان رؤى قوية للمقاومة والتمرد ضد قوى المطابقة والسيطرة. غالبا ما تؤكد شخصياتهم على هوياتهم الفريدة في تحدٍ للمعايير المجتمعية، وتحتضن تعقيداتهم وتناقضاتهم كمصدر للقوة والمرونة.

يقدم شعر عزرا باوند وتي إس إليوت استكشافا غنيا ومعقدا لموضوع الهوية في جميع أشكالها العديدة. من خلال استخدامهم المبتكر للغة، وانخراطهم العميق في التقاليد والثقافة، ورؤاهم الروحية والوجودية العميقة، يدعون القراء إلى التأمل في طبيعة الذات والبحث عن المعنى في عالم يبدو غالبًا فوضويًا ومجزأ. في أعمالهم، تظهر الهوية كظاهرة متغيرة ومتطورة باستمرار، تتشكل من خلال العديد من التأثيرات والتجارب. يتحدانا باوند وإليوت لاحتضان تعقيدات هوياتنا، والبحث عن الحقائق التي تكمن تحت السطح، والعثور عليها.

***

محمد عبد الكريم يوسف

هناك كلمة خرجت ودرجت على لسان البعض.

(الساحة التشكيلية المحلية غنية بآلاف الفنانين وهم في تزايد يومي).

وأنا أرى أن هؤلاء البعض هم  أصحاب الآراء المتبدلة وفق ما يتطلبه الموقف وما تقتضيه مصالحهم الموهومة والمزعومة.. هي كلمة مطعمة بحس وطني زائف فهي تخلق دفاعاتها عبر استعارتها جملاً قد تصلح لخطاب وطني شعبوي تعبوي ولكنها تتنافي مع الحقيقة والواقع فهي لا تنتمي سوى للخيانة العظمى وللمحاولات البائسة واليائسة في عرقلة عجلة التشكيل وعجلة التطور والحياة.. فحين يقتضى الموقف وتقتضي مصالحهم الموهومة هذا  لن يكون أمامهم سوى اتهام  الناقد بالقصور والتقصير لأنه لم يشمل تلك الآلاف المؤلفة في دراساته.

إن تجاوزنا تعريف الفن والفنان وشملنا كل رسم لوحة أو قدم عملاً ضمن تلك التسمية..فحن لا نستطيع أن نتجاوز مفهوم الابداع الذي لا يمكن قياسه سوى من خلال الساحة الأكثر اتساعا..أما     ً

لماذا ينتمي هذا الخلط للخيانة؟

هو ينتمي للخيانة من ناحيتين..أولهما: هو يفقد تلك الكلمة رهجتها وقيمتها ومعناها ومحتواها فهذا اللقب الذي الذي كان الحافز وكان المكافئة الأجمل لطالب الفن بعد مسيرة تكللت بالنضج..هذا اللقب سوف تسقط قيمته عند العامة حين يعطى لمن هب ودب.

ثانياً: حين يوضع هذا اللقب في غير موضعه بغض النظر عن الدوافع.. لن تعكس نتائجه سوى الكثير من الملل والكسل والتقاعس والغرور..

وحين يتعلم الفنان من خلال تجربته وفي مخاض اللوحة ألا يُحَمِل عمله ما لا يستطيع تحمله.. حينها سيعي  ما أقصده.. وسيعي تماماً حجم الضرر الذي كان من الممكن أن يلم به لو أنه استسلم للبريق الخادع لتلك الكلمة.. أو لأي كلام غير مسؤول من قارئ لم يدرك المعنى ولم يعي من مفهوم الناقد والنقد سوى الشكل الظاهري للكلمة.

إن لم يكن الفنان محصناً و متمكناً وذا فكر وتجربة فهو سيسقط في براثن المديح الكاذب ولن يتطور عمله بالمطلق.. والحقيقة أن (دوافع بياعوا العبارات الكاذبة لا تنتمي سوى لزيادة رصيدهم الشعبي).

وحين يقصد أمثال هؤلاء الكتابة النقدية..حينها سيقعون في فخ النمطية لأنهم أساساً غير مؤهلين للخوض والنبش في القيم التعبيرية والجمالية وغير قادرين على الكشف عن القيم الإبداعية المكتنزة في عمق التجارب.

(ولأنهم يتجولون على السطح ولا يستطيعون تجاوز القشور ستبقى كتاباتهم موصومة بالتشابهات سواء كتبوا عن فنانين مخضرمين أو شباب).

لا يوجد نص نقدي ينطبق على جميع الفنانين ولكل فنان نصه المنبثق عن تجربته وعن قدرة الناقد على الكشف عن بعض الخفايا حتى لصاحب التجربة.

وكأني أسمع سؤالاً يكاد يختنق بين الحلق واللسان؟

هل تقصد أن طلاب الفن يجب أن يبقوا بعيداً وبمنأى عن الناقد؟

أقول طالما هم في طور التجريب ولم تصل تجاربهم لمرحلة النضج بعد.

فمفهوم الناقد سيكون مختلف هنا لأن النقد مرتبط بالإضاءة على التجارب التي حققت النضج..وملامح ما يود إيصاله الفنان هو مسطرة الناقد..فإن لم تتبلور تلك التجربة من تلقاء ذاته ستكون تابعة ولن تحقق كينونتها

..هم يحتاجون لمعلم ولكن..عظامهم لازالت طرية وأفكارهم لم تتبلور بعد. وأي تأثير خارجي سيكون خطيرا إن اتسم بتجاوب أعمى ببغائي..ولن يكسبهم هذا التأثير غير التقليد.. وسيبقون بمنأى عن الفردية والفرادة لاحقاً..إذاً  يفترض أن تكون تجربتهم الذاتية والحياتية والفنية هي المعلم الأول لهم.. ثم التأمل الملاحظة المتابعة.. والقراءة الفاعلة والفعالة وليست تلك التي تمر مرور الكرام..حينها.. كل  ما حولهم يتحول إلى معلم.. وقبل كل هذا هم أنفسهم الناقد والفنان والمعلم.

وأقول أحيراً  لنكن بالصورة التي فطرنا عليه ننموا ونكبر من خلالها حينها لن تزدنا قسوة الحياة والمسؤوليات سوى رأفة ورقة ومحبة ولن تزدنا سوى إصرارا على مواصلة درب الحلم الذي يحركه ذلك الحب الدفين الذي كان ولازال  ينبض في ذاكرة الروح.. هو الحب الدافع والرافع لتلك الرغبات العارمة.. لمواصلة العطاء وترميم الجروح.

***

الفينيق حسين صقور

...........

* مقتطف من ملف الناقد والفنان

 

تبدوا السنابل من بعيد مستوية على سيقانها، الكثير منها منحنية الرأس، تميل يمينا ويسارا، مع نسمات الهواء العليل، وقد بدأت تتخلى عن اللون الأخضر وتستبدله باللون الأصفر، حباتها تبدوا ظاهرة المعالم تكاد تنسلخ عن قشرتها الصغيرة، بفعل امتلاء بطونها، وفي الصباح وعند الغروب تتحول إلى مرآة عاكسة لأشعة الشمس. أنت الآن وسط السنابل وهي تحيط بك يمينا ويسارا، وإذا بك تبسط كفك وتمرِّره من فوقها من الأعلى، وتحس بخشونة حسكها وسفاها، وهو شعيرات تحمي حباتها أن تكون لقمة سهلة المنال، أمام مناقير مختلف الطيور، الكبير منها والصغير، فالحسك والسفا يعلق في حلق من سولت له نفسه أن حبة القمح هذه سهلة المنال، فهو يتقوى ويزداد خشونة عندما تنضج السنابل وتمتلئ بطون حباتها. الدواب، الحمير منها والبغال والأحصنة لا تقبل على ذلك إن أتيحت لها الفرصة، فهي تحتاط كثيرا من أن يعلق حسك وسفا السنابل في أحْلاقها، ولا تتخلص منه إلا بمشقة التنحنح، بتَرَدّد صَوْتها فِي حَناجرها، بشكل مرتفع ومفاجئ، لوقت طويل، وقد تتجاوز هذه الحالة بشرب الماء والإقبال على أكل عشب أكثر ليونة. والعجيب أن الدواب تأخذ الدرس، إذ تجدها في المرة الموالية تأني على السنابل من سيقانها ومآزرها وتتجنب حباتها المليئة بالحسك والسفا.

تخلف بذرة حبة القمح أو الشعير الواحدة بضعة سيقان، تلتف حولها أوراق كالمآزر من كل جانب عند كل عقدة من الساق، وبعدها تخرج السنبلة الملفوفة وسط الساق من بين المآزر أي الأوراق، ظاهرة للعيان، فأول ما يظهر معها هو شَطْؤها أي حسكها أو سفاها، وعندما تكون السنبلة في هذه المرحلة المتقدمة من العمر، فهذا يعني أنها قريبة من أن تستوي على سيقانها، وهي على هذه الحال فحباتها فارغة وشَطْؤها لين بعض الشيء، وكلما امتلأت حباتها، إلا وخرج شَطْأها عاليا، وأخرج الساق مآزره وأبعدها عنه وبالأخص السفلية منها، وفي هذه الحالة العمرية تظهر حبات السنبلة بشكلها السميك أي الغليظ  وهي مستوية على سيقانها بشكل بارز، وليس هناك وصف دقيق لهذه الحالة المتجددة في الطبيعة، التي يصاحبها الزراع طيلة المسم أكثر من هذه الآية قال تعالى: ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ (الفتح/29)

أهل الواحة يتباهون بزروهم، عندما تستوي على سيقانها، فمنهم من يضرب به المثل، ويقصده الناس لمعرفة السرّ الذي جعل سنابل حقوله مستوية ومثمرة. الكثير منهم يمتلكه التواضع ويفصح عن تجربته الناجحة، ويعمل على تعميمها على الآخرين، ولا يمانع إن قصده الزراع في الموسم القادم ليقترضهم بذور الزرع. والبعض منهم يملكه الغرور، ويظهر بين أهل الواحة بأنفة وثقة زائدة في النفس، ظنا منه أنه ملك قوت وطام عياله طيلة العام وزيادة، فحقول زرعه المستوية ستملأ بيت خزين الحبوب داخل داره، فهو لا يريد للزراع الآخرين مثله أن يستوي زرعهم كما استوى زرعه. وهو على هذه الحال، يتجنب أن يخوض في حديث حول الزرع والزراع، وعلى حذر أن يفك أحد شفرة لسانه ويبوح له بالسر من وراء استواء زرع حقله.

رجل من هذا النوع من الرجال، يظهر بأكثر من شخصية، في أيام الحرث والزرع يكون أكثر تواضعا، ويميل إلى مخالطة غيره من الزراع، ويجالسهم كثيرا، ويكثر الحديث حول بذور الزرع وأنواعها، ويسترق السمع من هنا وهناك، لمعرفة طبيعة البذور التي استقدمها أهل الواحة من الواحات المجاورة، يشتكي كثيرا بأنه لا يملك ما يكفي من البذور، وحقيقة الأمر أنه يملك ما يكفيه ويكفي جيرانه من أهل الواحة. فهو حريص كل الحرص أن يأتي زرع حقله مثمرا، ولا يهمه زرع حقول الآخرين، تبدأ ملامح شخصيته بالتغير والتبدل بدءا بالابتعاد عن مخالطة الزراع مثله، وعندما تبدأ السنابل في الاستواء على سيقانها، يكون الغرور قد استحوذ على شخصه، فهو يشعر أنه لم يعد في حاجة لأحد، ويتوقع أن سنابل حقله ستستوي وتثمر كما هو معتاد.

لا ندري هل لحسن حظه أو لسوئه، أن حقله بعيد عن الساقية الرئيسة للواحة، يقع في آخر جنبات الواحة، وهو منحدر بشكل بين في اتجاه النهر الكبير، وتربته تربة ممزوجة بالرمل سهلة الانجراف. في ليلة من الليالي تسلل خفية، ليتفرد بسقي زرع حقله، دورن زرع الآخرين، فإذا به يصرف الماء في اتجاه حقله، بعدما أن أحكم إغلاق كل بالوعات مصاريف الحقول الأخرى. تعب الرجل كثيرا نتيجة الإنحناء لوقت طويل دون توقف، وهو يسحب التراب من هنا وهنالك بمعوله الكبير، قال في نفسه، هذه مقدمة الليل، سأترك الماء ينساب إلى الحقل، وأعود إلى البيت للراحة والنوم، وفي الصباح الباكر، أعود إلى الحقل لأجده في حالة من الارتواء. لكن حدث ما لم يتصوره في الحسبان، ازداد منسوب الماء في الساقية الرئيسة بشكل كبير، نتيجة قطرات من المطر في أعلى الواحة، تحول إلى سيل خفيف زاد من منسوب الماء داخل النهر الكبير. قبل أن يطل نور الصباح، جرفت المياه المنسابة بكثرة، تربة سطح الحقل نحو منحدر الوادي مصحوبة بما عليها من السنابل، وحتى تلك التي لم تجرفها المياه سارت مضطجعة على الأرض لا تقوى على الوقوف.

مشكلة الرجل لا تكمن فيما حل به، نتيجة حادثة إتلاف زرع حقله الذي جرفته المياه، بسبب ما أقدم عليه، فالناس في الحياة بما فيهم أهل الواحة عرضة لمختلف ما يرغبون في حدوثه، أكبر مشكلة عند الرجل أنه لم يتبقى له شيء من الصالحات من الأعمال يذكر به ما بين أهل القرية، لم يقدّم خيرا لحياته، بين أهل الواحة، ولم يجد الزراع شيئا من الباقيات الصالحات تذكرهُم به ويتذكَّرونه بها1.  إذ تحول إلى نكرة بينهم، نتيجة ازدواجية شخصيته.

لما علم أهل الواحة بأمره، سار حديثا فيما بينهم وهم مقبلون على أيام شواء السنابل، فعندما تمتلئ بطون حبات السنابل ويغلب عليها اللون الأصفر، يتم قطفها مع النصف العلوي من ساقها، فالفارغة من السنابل رؤوسها إلى الأعلى، بينما الممتلئ تتصف بالإنحناء وقد صدق الشاعر حيث قال:

ملئ السنابل تنحي بتواضع

 والفارغات رؤوسهن شوامخ

عندما يتم قطف قبضة اليد، يتم تصفيف السنابل بشكل متوازي، وبعده تحزم بخمسة سيقان تلف بشكل دائري من تحت عنق السنابل، وبعد حزم ما يكفي من حزم السنابل، التي يسميها أهل الواحة بـ"الشواطة" يتم وضعها على لهيب النار، لوقت قصير، يُمكِّن النار من حرق سفا السنابل أي شَطْأها الخشن، وحرق القشرة الخارجية لحباتها، حتى تظهر بلونها الذهبي تطل من السواد بفعل الاحتراق، وتلك علامة على أنها استوت في الشواء، وإذا شغلك شاغل عنها فقد تتحول حباتها إلى سواد ورماد. بعدها تفصل السنابل عن سيقانها،  وتوضع وسط طبق مصنوع من سعف النجيل، لا يقل قطره عن خمسون سنتيمتر، وتمعك وتدلك باليد، حتى يختفي شكل السنابل، بانفصال  حباتها عن قشرتها بالكامل، وتتحول إلى كومة من الحب والقشور، وبعدها يمسك الطبق بين اليدين ويتم تحريكه بطريقة فنية سريعة، تجعله متأرجحا من الأسفل  إلى الأعلى، وهي حركة تجعل حبات القمح وقشورها وسفاها ترتفع إلى الأعلى، ليذهب السفا والقشور بعيدا، بفعل نسمات الهواء، وتسقط خارج دائرة الطبق، وتعود حبات القمح لوحدها داخل دائرة الطبق، وبهذه الطريقة المتكررة لبعض من الوقت تفرز حبات القمح عن غيرها من القشور والسفا، وبهذا الشكل يكون شواء القمح جاهزا للأكل بعد أن يضاف عليق قليل من الملح والتوابل.

ظاهرة شواء السنابل عند أهل الواحة، حالة يستأنس بها الشباب فيما بينهم، فمنهم من يتولى مهمة إشعال النار وإحضار حطبها، ومنهم من يتولى إحضار السنابل، ومنهم من يتولى مهمة فرز الحبوب عن قشورها وسفاها... وقد يتحلقون على وجبة الشواء عندما تنضج ويتبادلون أطراف الحديث فيما بينهم، وإذا كانت هذه حالة الشباب فهي الحالة نفسها تتكرر مع مجموعة من النسوة والفتيات، أما الأسر فقد تتكلف الجدة أو الجد بإدارة جلسة شواء السنابل من أولها حتى آخرها. والحقية أن شواء السنابل عند أهل الواحة لا تعد وجبة بذاتها، فهي تأتي بعد وجبة الفطور ما قبل الزوال، أو بعد الغداء قبل غروب الشمس، كما أن أيامها قليلة ومعدودة، فإذا جفت حبات السنابل فلم يعد معنى لشوائها. والحقيقة أن جلسات الشواء ما هي إلا تعبير عن فرح أهل الواحة باستواء ونضج زرعهم، فهم يستعجلون تذوقه، كما أنها فرصة تنسهم بعضا من مشقة الحرث.

الزرع في الواحة هذا الموسم، لم يثمر كما كان من قبل، قليلة هي السنابل المستوية على سيقانها، فالمرفوعة الرأس منها أكثر من تلك المنحنية، السنابل ثابتة في مكانها، لا تميل يمينا ويسارا، مع نسمات الهواء العليل، بطون حباتها تبدوا غير ممتلئة بما يكفي مآزرها تلفها من كل جانب... ومن هذا الذي يفكر في جلسة شواء السنابل، أية سنابل هذه وأي شواء هذا...فأثر قلة الماء وندرته واضحة المعالم...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

.....................

1- قال تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)﴾ (الكهف)

تلعب السحر الأسود والتعويذات دورا مهما في ألف ليلة وليلة، المعروفة أيضا باسم ألف ليلة وليلة، وهي مجموعة من الحكايات الشعبية في الشرق الأوسط تم تجميعها خلال العصر الذهبي الإسلامي. طوال القصص، نتعرف على السحرة والساحرات والجن الذين يمتلكون قدرات سحرية قوية تشكل حياة الشخصيات. تهدف هذه المقالة إلى التعمق في تصوير السحر الأسود والتعويذات في ألف ليلة وليلة والآثار المترتبة عليها على الشخصيات والسرد ككل.

في ألف ليلة وليلة، غالبا ما يرتبط السحر الأسود بالقوى المظلمة والشريرة التي تسعى إلى إيذاء الآخرين. يتم تصوير السحرة والساحرات وهم يستخدمون قواهم للتلاعب بالأفراد والسيطرة عليهم لتحقيق مكاسبهم الخاصة. على سبيل المثال، في قصة علاء الدين والمصباح العجيب، يخدع الساحر علاء الدين لاستعادة مصباح سحري من كهف، فقط لمحاولة سرقته لنفسه لاحقًا. تسلط هذه الخيانة الضوء على الطبيعة الخادعة للسحر الأسود وإمكاناته في التسبب في ضرر لأولئك الذين يقعون ضحية لسحره.

من ناحية أخرى، يتم تصوير التعويذات كأشياء أو تعويذات لها القدرة على التأثير على سلوك أو رغبات الآخرين. في ألف ليلة وليلة، غالبًا ما تُستخدم التعويذات لجلب الحب أو الحظ السعيد أو الحماية للشخصيات. على سبيل المثال، في قصة الصياد والجني، يستخدم الصياد تعويذة لاستدعاء جني يمنحه ثلاث أمنيات. يمنح هذا التعويذ الصياد القدرة على تغيير ظروفه وتحسين حياته، مما يُظهر الجانب الإيجابي للقدرات السحرية.

يعكس استخدام السحر الأسود والتعويذات في ألف ليلة وليلة الإيمان بالقوى الخارقة للطبيعة ووجود عالم خارج عالمنا. طوال القصص، يواجه الشخصيات الجن والشياطين والكائنات الصوفية الأخرى التي تمتلك قوى تتجاوز الفهم البشري. تضيف هذه العناصر السحرية عنصرا من الغموض والعجب إلى الحكايات، فتأسر القراء بحكايات المغامرة والسحر.

كما يعمل السحر الأسود والتعويذات كوسيلة لاختبار سلامة الشخصيات الأخلاقية وقدرتها على الصمود. في العديد من القصص، يواجه الشخصيات إغراءات وتحديات تختبر قوة شخصيتهم وقدرتهم على مقاومة إغراءات السحر الأسود. على سبيل المثال، في قصة الحصان الأسود، يجب على الأمير مقاومة إغراءات الساحرة التي تسعى لإغوائه بتعاويذها السحرية. إن قدرته على البقاء وفياً لقيمه ورفض تقدم الساحرة تؤدي في النهاية إلى انتصاره على الشر.

وعلاوة على ذلك، فإن استخدام السحر الأسود والتعاويذ في ألف ليلة وليلة يسلط الضوء على ديناميكيات القوة التي تلعب دورا في القصص. غالبًا ما يشغل الشخصيات الذين يمتلكون قدرات سحرية منصب سلطة أو نفوذ على الآخرين، باستخدام قواهم للسيطرة على من حولهم أو التلاعب بهم. يخلق هذا الخلل في القوة التوتر والصراع داخل السرد، مما يدفع الحبكة إلى الأمام ويضيف تعقيدا إلى علاقات الشخصيات.

في الوقت نفسه، يرمز استخدام التعويذات والأشياء السحرية في ألف ليلة وليلة أيضًا إلى رغبة الشخصيات في التحول والتغيير. يبحث العديد من الشخصيات عن أشياء أو تعويذات سحرية على أمل تغيير ظروفهم أو تحقيق رغباتهم. سواء كان الأمر يتعلق بالحب أو الثروة أو السلطة، فإن الشخصيات مدفوعة بشوق إلى شيء يتجاوز واقعهم الحالي، مما يدفعهم إلى البحث عن مساعدة القوى الصوفية.

بشكل عام، يضيف تصوير السحر الأسود والسحر في ألف ليلة وليلة عمقا وتعقيدا إلى القصص، مما يثري السرد بموضوعات القوة والإغراء والتحول. من خلال استخدام العناصر السحرية، تستكشف القصص الحدود بين الخير والشر، والخارق للطبيعة والدنيوي، والرغبة البشرية في التغيير والتسامي. في النهاية، يعمل وجود السحر الأسود والسحر في ألف ليلة وليلة على جعل القصص أكثر جاذبية وفتنة، ويجذب القراء إلى عالم من السحر والعجب.

***

محمد عبد الكريم يوسف

تتصادم الصور المختلفة والأحداث، تولد هستيريا تتشابك فيها الخيوط وتنفعل العبارات. الأيام لا ترغب في ولادة حملها الثقيل، باقية حبلى بالأخبار وسوء الطالع. البعض يعلق على شماعة فهمه كل التفسيرات فالضلوع بالتفسير والمبررات مهنة متداولة يمتهنها كل لحظة عدد كبير، ماضيه متناقض مع حاضره كتناقض المشرقين. فسحة هناك وأخرى هنا تشغل الذاكرة وتبعدها من تصادم المتناقضات.. ميزانية الدولة كفيلة بملاعق الذهب الممتلئة شهدا، لكنها عاجزة أن توفر كسرة تعليم لرمق الأمية المتفشي وغسيل الأدمغة المنظم.. التناقض سمة فيزيائية تجيز للمرء أن يلعن سيده إن انتهت سيادته وتسمح بقتل أصحاب الجلالة.. صراخ صامت مختبئ تحت قبة التفكير لا يتحمله ما يدور في الأفلاك الهائمة بنظام صارم هو الوحيد الذي لا يخالف الطقوس، دوران الساعة يرفض العودة الى الوراء، والى قبل قليل، لا يأبه بما نريد، لكن الذاكرة تجبرنا أن نغازل البعد بكل شوقنا اليه، يغادروننا معفرين بلون الوطن وبعضهم بلون عسعسة الليل ممتزجا بحمرة مختلطة بغبار الانفجار. نعود للمكان نحمل ذاكرتنا ودموعنا التي نشحنها كل يوم متأهبة لحدث جديد. إنها سرياليتنا وسريالية الوطن الذي خالف الطبيعة.

***

وداد فرحان

 

"في ألف ليلة وليلة" هي مجموعة من الحكايات الشعبية القديمة في الشرق الأوسط والتي تناقلتها الأجيال. تروي هذه الحكايات شهرزاد، الملكة الشابة التي يجب أن تحافظ على اهتمام زوجها القاتل الملك شهريار، من خلال سرد قصة جديدة له كل ليلة. وبذلك تنقذ حياتها وتفوز في النهاية بقلب الملك. القصص نفسها متنوعة وآسرة، تتراوح من المغامرات الملحمية إلى المآسي الرومانسية إلى الأمثال الأخلاقية.

من أشهر القصص في "في ألف ليلة وليلة" قصة علاء الدين ومصباحه السحري. تتبع هذه الحكاية مغامرات شاب فقير يكتشف مصباحًا يحتوي على جني قوي يمنحه أمنياته. ومن خلال المكر والشجاعة، يتمكن علاء الدين من التغلب على خصومه والفوز بقلب الأميرة. القصة هي مثال كلاسيكي لقوة المثابرة والحيلة.

من القصص الشعبية الأخرى في المجموعة قصة علي بابا والأربعين لصًا. تدور أحداث هذه القصة حول مغامرات حطاب متواضع يكتشف كهفًا مليئًا بالكنوز التي تخص عصابة من اللصوص. ومن خلال التفكير السريع والشجاعة، يتمكن علي بابا من التغلب على اللصوص والاستيلاء على الكنوز لنفسه. القصة هي شهادة على قوة الذكاء والشجاعة في مواجهة الخطر.

تنتشر موضوعات الأخلاق والعدالة في جميع القصص في "في ألف ليلة وليلة". تتميز العديد من القصص بشخصيات يجب أن تواجه معضلات أخلاقية وتتخذ خيارات صعبة من أجل التغلب على الشدائد. من خلال أفعالهم، يوضح الشخصيات أهمية الصدق والولاء والرحمة. يتم نسج هذه الموضوعات في جميع القصص وتعمل كدروس قيمة للقراء من جميع الأعمار.

بالإضافة إلى الدروس الأخلاقية، فإن القصص في "في ألف ليلة وليلة" مليئة أيضًا بعناصر خيالية ومخلوقات سحرية. تملأ الجن والسجاد الطائر والسحرة الأقوياء القصص، مما يخلق شعورًا بالدهشة والسحر للقارئ. وتضيف هذه العناصر إلى ثراء وعمق القصص، فتخلق عالمًا نابضًا بالحياة وجذابًا للقراء لاستكشافه.

ومن أكثر الجوانب المقنعة في "في ألف ليلة وليلة" تصوير الشخصيات النسائية القوية والمستقلة. ففي جميع القصص، تُصوَّر النساء كأفراد أذكياء وذوي حيلة وشجاعة وقادرات على التغلب على الشدائد والتفوق على نظرائهن من الذكور. وشهرزاد نفسها هي مثال رئيسي لشخصية أنثوية قوية تستخدم ذكائها وذكائها للبقاء على قيد الحياة وتغيير قلب الملك في نهاية المطاف.

كما تعرض القصص في "في ألف ليلة وليلة" نسيجًا غنيًا من التأثيرات الثقافية والتاريخية. وتستمد القصص من مجموعة متنوعة من الثقافات والتقاليد الشرق أوسطية، وتدمج عناصر من الفولكلور الإسلامي والأساطير الفارسية والأساطير العربية. ومن خلال هذه التأثيرات، تقدم القصص للقراء لمحة عن عالم الشرق الأوسط النابض بالحياة والمتنوع.

بشكل عام، "في ألف ليلة وليلة" عبارة عن مجموعة خالدة من القصص التي لا تزال تجذب خيال القراء في جميع أنحاء العالم. من خلال شخصياتها الجذابة وقصصها الجذابة وتأثيراتها الثقافية الغنية، تقدم القصص للقراء نافذة على عالم خيالي مليء بالمغامرة والسحر والدروس الأخلاقية. تظل المجموعة شهادة على قوة سرد القصص والجاذبية الدائمة للخيال البشري.

***

محمد عبد الكريم يوسف

قد كانت العطور جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الإنسانية لعدة قرون، حيث تأسر حواسنا وتثير العواطف، وهي تحمل عميقة في حياتنا، وهي الأكاسير الجذابة المعبأة في زجاجات رائعة، كانت جزءًا لا يتجزأ من الحضارة الإنسانية لعدة قرون. في الحضارات القديمة مثل مصر واليونان وروما، ارتبطت العطور بالطقوس والاحتفالات الإلهية وبعيدًا عن مجرد الروائح، تجسد العطور نسيجًا ثقافيًا غنيًا، وتقدم العديد من المزايا وتمارس تأثيرًا نفسيًا عميقًا على الأفراد. وتُعتبر صناعة العطور صناعة ضخمة وذات قيمة اقتصادية كبيرة، فوفقًا لتقديرات احدى شركات العطور، كانت قيمة سوق العطور العالمية في عام 2020 تقدر بنحو 70 مليار دولار أميركي،ومن المتوقع أن تستمر في النمو، حيث يشهد سوق العطور نموًا مستدامًا، وذلك بفضل الزيادة المستمرة في الطلب في مختلف أنحاء العالم، ويسهم التوسع في الثقافات المتعددة وتزايد الوعي بالعطور وتأثيرها في زيادة الطلب على المنتجات العطرية، وتشهد صناعة العطور التجارة العالمية الواسعة، حيث تستورد وتصدر البلدان العطور والمكونات العطرية بكميات كبيرة، وتعتبر مصدرًا مهمًا للتوظيف وخلق فرص عمل، كما تسهم العطور في القيمة المضافة للعديد من الصناعات الأخرى مثل السياحة

يقول كريستيان ديورمصمم الأزياء الفرنسي الشهير العطور هي الصمت الذي يتحدث إلينا، حتى لو كنا لا نسمعها، والتأثيرات النفسية للعطور تعتمد على الروائح المحددة وتركيبتها الكيميائية، والذكريات والتجارب الشخصية المرتبطة بتلك الروائح، والثقافة والتراث الاجتماعي الذي يؤثر على تفسير العطور واستخدامها، فيمكن أن تكون لها تأثير قوي على الإحساس بالانتماء والمشاركة في الحدث، يقولون ــ ان العطور هي الأصوات الصامتة للغة الجمال، فهي تتحدث بلا كلمات وتروي قصصًا بلا حروف، وتترك أثرًا لا يمحى في ذاكرتنا، فعندما تشم عطرًا مميزًا، فتأكد أنه يحمل قصة فريدة وينبض بأناقة لا تضاهى،؛ للعطور أيضًا تأثيرات نفسية عميقة على الإنسان، فرائحة معينة قادرة على إحداث تأثيرات مختلفة على المزاج والعواطف وزيادة الإيجابية العاطفية، فبعض الروائح المنعشة والحيوية مثل الحمضيات تساعد في تحسين المزاج وتعزيز النشاط والانتعاش، واللافندر والبخور يعرف بتأثيرها التهدئة والاسترخاء، وتستخدم في العلاج العطري وفنون الاسترخاء لتهدئة العقل وتخفيف التوتر والقلق، والروزماري والنعناع التي يقال إنها تعزز التركيز وتحسن الذاكرة، ويتم استخدامها في بعض الأحيان في الدراسة والعمل لتعزيز الأداء العقلي، والزهور البيضاء والسوسن تعتبر مهدئة ويمكن أن تساعد في تحسين المزاج والتخلص من الاكتئاب الخفيف

والعطر يعبر عن ثقافة الانسان، ولها تأأأثير كبير عليه وتعكس تاريخ حياته في احيان كثيرة، حيث تعود الجذور إلى العصور القديمة، فكانت تستخدم في الاحتفالات المتعددة، ومنذ ذلك الحين تطور استخدامها ليشمل مختلف جوانب الحياة اليومية، فهي تختلف استخداماتها بين الشعوب، ففي الثقافة اليابانية يفضل الكثير من الناس استخدام العطور الخفيفة والرقيقة والتي تتميز بالانتعاش، بينما في الثقافة العربية يفضل استخدام العطور الثقيلة والعميقة والتي تدوم طويلاً، ويُعتبر استخدام العود والعنبر عند الشرقيين رمزًا للتقاليد والفخامة، بينما يُعتبر استخدام اللافندر والورود في الثقافة الغربية رمزًا للرومانسية والأناقة،وفي بعض الثقافات يُعتقد أن العطور تحمل قوى سحرية وروحية وتستخدم في الطقوس الدينية والشفاء، في حين تُعتبر في ثقافات أخرى مجرد وسيلة للتجمل والتعبير الشخصي، وهناك اختلافات جينية بين الأفراد تؤثر على استجابتهم للروائح، وقد يتسبب ذلك في تفضيل بعض الروائح عن غيرها وتوجهات ذوقية شخصية في استخدام العطور، العطور هي الرمز الأقوى للذكريات فهي الأحاسيس المرئية، وهي الشعور بالجمال الذي لا يستطيع الكلام وصفه، وهي حكاية لا تُروى بالكلمات، بل تُشم وتُعيش، تحمل في طياتها الأحاسيس والأحلام والحب، وتجعل الحياة أكثر سحرًا وإثارة، وهي لغة الأنوف، وكل منا له قصته الخاصة معها، فهي التي تُطلق عواطف الإنسان وتعزز جماله الداخلي، وهي الذاكرة التي تستمر في البقاء معنا لفترة طويلة.

تحتل العطور مكانة مهمة في الثقافة الإنسانية، حيث تقدم العديد من المزايا وتؤثر على حياتنا على مختلف المستويات. إنها تعزز جاذبيتنا الشخصية، وتعزز ثقتنا، وتوفر وسيلة للتعبير عن الذات. تساهم العطور في النسيج الثقافي للمجتمعات ولها تأثير عميق على رفاهيتنا ونفسيتنا. لذلك، في المرة القادمة التي تبحث فيها عن زجاجة العطر الرائعة تلك، تذكر العالم المعقد الذي تمثله والتأثير التحويلي الذي يمكن أن يحدثه على حياتك، تتمتع بعض العطور بخصائص علاجية ويمكن أن تؤثر بشكل إيجابي على صحتنا فهي، معروفة بتأثيراته المهدئة كأداة للاسترخاء وتقليل التوتر وتحسين حالتنا العقلية والعاطفية بشكل عام، ويمكن  لرائحة العطر الآسرة أن تثير الفرح والإثارة والسرور، مما يضيف طبقة من الثراء الحسي لحياتنا

تحتل العطور مكانة خاصة في العديد من الطقوس والاحتفالات الثقافية. يتم استخدامها في الممارسات الدينية، مثل طقوس المسحة والتطهير، وكذلك المناسبات الاجتماعية، بما في ذلك حفلات الزفاف والاحتفالات والتجمعات الرسمية. أصبح فن صناعة العطور جزءًا أساسيًا من الهوية الثقافية، حيث يعرض الإبداع والحرفية لمجتمع معين

***

نهاد الحديثي

 

يحلو لأهل الواحة طيلة أيام الربيع أن يترددوا على النهر الكبير، الوريد الذي يمد الواحة بالحياة، ويجعل منها حياة مفارقة للحياة والعيش داخل جوف الصحراء. جنبات النهر تتسع وتضيق على طول النهر، بعض بركه المائية يصل عمقها الى أربعة أمتار، وقد اكتسبت عمقها بفعل قوة اندفاع صبيب الماء، نتيجة السيول التي تصب في الوادي، زمن وفرة الماء  بفعل كرم السماء، النهر يبدوا  في بعض من جنباته هادئا يتحرك في صمت، إلى درجة يبدو لك أن مياهه راكدة ولا تتحرك، وذلك فخ  وكمين لمن رغب في عبوره إلى الجهة الأخرى، وفي جنبات أخرى يتسع عرضا بشكل كبير، ويتحول بذلك إلى فراش منبسط من الماء يعكش أشعة الشمس، وتعيق جريانه مختلف الأحجار المتوسطة الحجم، ويصدر بذلك  إيقاعا موسيقيا بفعل خرير المياه، وهي فرصة سهلة لمن رغب في عبوره بسلام.

في الصباح الباكر أو عند الغروب وأنت بين الحقول يصلك صدى سنفونية خرير مياه النهر، إذ تشدك إليها كثيرا، ولا تمانع أن تقترب أكثر، لتحجز مكانك على ظهر صخرة ملساء، إلى جانب صخور مماثلة، كأن النهر يستقبل ضيوفه بعناية ويوفر لهم سبل الراحة، إذ لا يعقل أن تطيل الاستماع لسنفونية النهر وأنت واقف، الضيافة والترحاب يقتضي تصفيف كراسي للجلوس. صوت خرير سنفونية العزف في الوادي تكاد تتوقف وسط النهار. النهر يحلو له العزف في الصباح وعند الغروب، تلتفت يمينا أو يسارا وتفاجئك شجيرات "الدفلة"[1] جانب الوادي وهي تميل يمينا ويسارا، على إيقاع خرير النهر، وهي تلقي بالبعض من أزهارها المتعددة الألوان بالأبيض حينا وبالقرنفلي حينا وبالأحمر...

هناك شيء ما يجذب الإنسان إلى خرير الماء، خرير الأنهار، خرير الشلالات، حتى خرير الماء وهو يسكب في إناء للشرب يحدث في الأذن إيقاع لا مثيل له. خرير الماء إيقاع ونوطة موسيقية تخترق العالم شرقا وغربا، كأن الماء يؤكد لنا من خلال خريره أنه لا حياة دونه... خرير الماء يوقد شعلة دافئة في النفس، ويلقي بها في عالم لا قبل لها به، إنه تذكُّر تلقائي وغير واعي للنشأة الأولى، وهي نشأة امتزج فيها الماء بالتراب، وتحول بذلك إلى طين، ألم يخلق الإنسان من طين![2]  الكثير من الناس شرقا وغربا عبر مختلف الثقافات يقصدون أمكنة خرير المياه، ومنابعها للشفاء من الحزن الشديد وضيق النفس... كما يقصدونها للتنزه والاستجمام، وقد لعبت النوافر دورا في إحداث خرير المياه في مختلف الحضارات، وهذا دليل على تلازم خرير الماء مع نفس الإنسان بوعي منه أو بدونه.

الجزء الكبير من جنبات الوادي مليء بالغطاء النباتي الذي اختاره النهر مصاحبا له على طول مجراه، إنها شجيرات قصيرة ومتماسكة وكثيرة الفروع والأغصان تسمى "الفرسيك" بين ثنايا، تفرخ العديد من الطيور بيوضها، وتضع الأرانب صغارها... وأنت على حين غرة يفاجئك طير دجاج الماء،[3] مندفعا بسرعة بين أغصان شجيرات "الفرسيك" في اتجاه النهر، وينغمس في الماء ويذهب بعيدا. تظهر لك بعيد بقع بيضاء على سطح الماء، عندما تقترب منها أكثر تدرك بأنها بضعة لقالق تبحث عن قوتها وسط الماء، طيور اللقلاق لا تبالي بمن يقترب منها، ولا توليه اهتماما كباقي الطيور، من نقط ضعفها أنها تبقى ثابتة في مكان واحد لوقت طويل كلها انتباهها مفرغ في اتجاه الماء، وإذا بها بحركة سريعة تخطف بمنقارها ثعبان أو ضفدعة أو سمكة.

استهداف اللقلاق بحجارة من بعيد أمر سهل المنال، ولكن من هذا الذي سيقبل على ذلك، و طائر اللقلاق "بلاّرج" موضوع تحيط به الأسطورة والقصص عند أهل الواحة، تقول الحكاية الشعبية أن اللقلاق كان رجلاً ورعًا لكن حدث ذات مرّة أنّ توضّأ باللبن فمسخه الله لقلاقًا، رجل يتوضأ باللبن، ما هذه المفارقة العجيبة؟ وتحكي الحكاية الشعبية أيضا، أن اللقلاق كان إذا رأى قوافل الحجاج رافقهم وأنس بهم واقترب منهم بلا خوف، فأطلقوا عليه لقب الحاج. كثيرة هي الحكايات حول "بلاّرج" فهو رمز للبساطة والزهد، فعشه يكون في مكان عال مكشوف، ويروى أن طائر "النّسر" سأل "اللّقلاق" عمي اللّقلاق لماذا عشك هكذا، مكشوف في مكان عالي، تأتي عليه هبوب الرياح، وتأتي عليه الأمطار... لو اتخذت مكانا مهيبا لعشّك مثلي، يحميك من حرّ الصيف ويحجب عنك قطرات الأمطار... كان جواب "اللّقلاق" أنا هكذا أتحمل مرور كل صعاب الطبيعة من حر وبرد وأمطار، أعاني بسببها كثيرا، لكن كل الصعاب تمرُّ كما يمرُّ الزمن... ورد عليه "النّسر"، نعم كل الصعاب تمرُّ بهذه الطريقة، على البخلاء مثلك... يا ترى هل البخل من شيّم اللقلاق؟  فمن ميزته أنه يتعايش مع طيور أخرى، كالحمام وبعض أنواع العصافير، بأن تبيض في عشها وتعيش برفقة فراخها من دون أن يسبب لها أذًى، فهو صديق للجميع.

في جميع الأحوال طائر اللقلاق عند أهل الواحة محطة عناية واحترام، وقد حفظ التاريخ لأهل الواحة دورهم المباشر أو غير المباشر، في بناء دار تطبيب طيور اللّقلاق وجبر كسورها "دار بلاّرج".[4] عناية أهل الواحة، بوضع وحالة طائر بلارج، في حد ذاتها عناية بكل أنواع الطيور. السؤال هنا كيف أدرك أهل الواحة منذ القدم بأن مصيرهم يتوقف على مصير مختلف الطيور؟ (المصير المشترك بين مختلف الكائنات في الوجود)، فكرة تبدوا للوهلة الأولى أنها فكرة بسيطة، وهناك من يرى بأنها فكرة ساذجة، ولكن حقيقة الأمر أنها فكرة تعانق الوجود، ببساطة أهل الواحة لهم فلسفتهم الخاصة في فهم وجود الإنسان، حياة الواحة داخل الصحراء جعلتهم يخبرون معنى الوجود وماهيته، وذلك يظهر واضحا وجليا من خلال أشعارهم.

وأنت الآن تخطو خطواتك بحذر، على جنبات الوادي، وإذا بك أمام مكان منبسط ومتسع امتزجت فيه الرمال بالماء، وأنحصر مجرى النهر في أقصى ضفته البعيدة عنك، الرمل مبللة و وتوحي لك بأنها صلبة قابلة لتتحمل ثقل خطوات من يمشي على سطحها، وقد تغريك وتجذبك حباتها وخطوطها المتعرجة، وهي سوداء اللون تتخللها بلورات رقيقة منها الشفافة واللامحة...إن تجرأت واقتحمت المكان ستجد نفسك بداخل فخ لم يخطر ببالك، ستسحبك الرمال المبلّلة الى الأسفل بشكل سريع، ستغوص أقدامك حتى ركبتيك، في فخ الرمال المبلّلة بالماء، وستجد نفسك في حاجة لجهد مضاعف لتستلّ رجلك بعد الأخرى، من عجينة الرمل، سيمتلكك الخوف ويخيل إليك أن الرمال ستسحب كل قامتك إلى الأسفل، ويخيل لك بأنها نهايتك، بعد جهد جهيد، تتمسك بشجيرات "الفرسيك" وشجيرات الدّفلة على جنبات الرمال المبللة، وستكون مساعدة لك في الخروج من ورطتك.

ومن هذا الأحمق من أهل الواحة الذي يضع نفسه في هذا الموقف؟ لحسن حظك، لم يراك أحد، وأنت على هذه الحال. لو بصرك أحد منهم لكنت موضوع لسخرية الجميع، ابتعد عن هذا المكان إلى مكان آخر، عد إلى سريعا إلى مكان خرير المياه، أغمس أرجلك في الماء، وهي الآن تلامس حبات الحصى والحجارة الصغيرة، أفركها جيدا وأزل عنها حبات الرمل العالقة بها، أغسل وجهك، لا تكتفي بهذا، أكمل الوضوء فغروب الشمس يقترب، صلي المغرب في عين المكان، وعد إلى مقر سكناك داخل القصر في جوف الواحة أو في القصبة التي تطل من أعلى الربوة على نخيل الواحة.

مع الأسف نهر بهذه الضخامة والفخامة، يتحول حاله إلى برك صغيرة من الماء، مثل أكواب بالية متباعدة مليئة بالماء على طاولة بئيسة، وربما سيتحول غدا قعره إلى كوب فارغة. هذا ما يخشاه أهل الواحة وقد هاجرت طيور اللقلاق "بلاّرج" وقد حل موعد عودتها، ولم تعد بعد...

...يتبع...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

........................

[1]  الدفلة أوالدِّفْلَى الزيتية أو خَرْزَهْره أو ورد الحمار... شجيرة صغيرة يصل ارتفاعها إلى 2.5-6 متر، وهي ذات شكل قائم التفريع وأفرعها غزيرة ومقوسة. لها أزهار ذات لون أبيض أو قرنفلي أو أحمر أو أرجواني.

[2]  قال تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)﴾ (السجدة)

[3]  دجاجة الماء هي دجاجة تستوطن في المغرب العربي ومصر والشام، وتمتد شرقاً للعراق حتى منطقة الخليج العربي.. وهو من الطيور المائية حجمه قريب من حجم البطة الصغيرة. يعشش على ضفاف الأنهار والمسطحات المائية وبين النباتات النهرية.

[4] ما بين 1803م و1804م بمدينة مراكش، عمد الأمير مولاي عبد السلام، نجل السلطان المغربي محمد بن عبد الله (-1790م) إلى تحويل منزل كبير في المدينة العتيقة (دار بلارج) إلى حبوس موقوف للعناية باللقالق معتلة الصحة، ورغبة منه في توفير أفضل الظروف لعلاجها، خصص للملجأ مداخيل كراء أحد «الفنادق». بيت بلارج لازال مزارا سياحيا إلى اليوم. ويرى الباحث المغربي محمد أيت العميم أن هناك دار مماثلة (دار بلارج) زمن الموحدين (1123م – 1268م)، أحدثت لنفس الغاية بمدينة فاس.  وقد كتب الكاتب الإسباني خوان غويتسولو قصة بعنوان «الرجال اللقالق»

أنشد أحمد بن شقرون:

إِذَا عَطَبَ اللّقْلاَقُ يَوْمًا فَإنّهٌ *** بِمَالٍ مِن الأوْقافِ يُجْبَرُ مِنْ كَسْرِ.

عندما قرأت رواية سبعون "لميخائيل نعيمة" حلقت روحي عاليا، وشعرت بخفة وتسامي وبهجة ملئت سماء قلبي. أبهرني بأسلوبه الرشيق العذب، لمست عبق صدقه وتواضعه، مراقبته المستمرة لنفسه تأملاته صلته بالكون والطبيعة، تفرده ونضاله وصبره، اختياره للأدب ومواصلة الكتابة رغم حصوله على بكالوريوس حقوق من جامعة واشنطن، مسايرته لشغفه في فك طلاسم النفس، وخبايا الروح، وغموض الفؤاد الهمتني. فعندما ينتابني الشوق والتوق لمسك القيم العليا في زمن تهالكت فيه المنظومة الأخلاقية حيث اشعر أحيانا بالغربة، وأحيانا ثانية ينتابني بعض الشك والتساؤل هل انا غير واقعية؟ هل ان الصدق والطيبة والانفتاح على خلق الله ومحبة الناس وتجسيد الذات بلا اقنعة ضعف وقلة مهارة في فن عيش الحياة؟ فجاءت رواية سبعون وهي سيرة ذاتية لتمد لي يد ممتلئة بالطمأنينة والتسامي ولون لحياة حرة كريمة كان صاحبها هو بقدسيته وقوته وضعفه وحيرته وتساؤلاته، وتيهانه، وطريقه، ورشده.4303 ميخائيل نعيمة

سحرتني هذه العبارات "ستكون لي خلوتي، وستكون لي فيها سياحتي بعيدة في العالم اللامتناهي، وسأعود من سياحتي باليقين الذي تطمئن اليه النفس من حيث وجودها والغاية من وجودها. وذلك لن يتم لي الا بغربلة النفس من شوائبها. واذ انا احسنت الغربلة تناثرت عن كاهلي اعباء كثيرة. فانجلت باصرتي وبصيرتي، وأصبح في امكاني ان اعكف على تنظيف بيتي الروحي وترتيبه وان اتبين هدفي من وجودي، ثم ان امضي في شق طريقي الي ذلك الهدف".

هذه الرواية صاحبتها وصاحبتني بأجزائها الثلاثة لمدة أكثر من شهر، وحين انتهيت منها شعرت بحزن يشبه الحزن الذي يحل لحظة وداع صديق صدوق دافئ قريب للقلب، مؤنس، خفيف الظل مر الوقت برفقته بسرعة البرق، وظلت الروح بتوق وترقب للقاء اخر هكذا كان حالي مع سيرة "ميخائيل نعيمة".

أقف بصمت وتدبر وتامل امام مقاربته لمكنون الانسان بالبحر وطبقاته وابعاده واعماقه، وارتعاشاته وانتفاضاته، وتبخراته وتجمداته، وما ينطلق منه ليعود اليه من ينابيع وجداول وانهار.

اشعر بروحي كفراشة تتنقل بين موضوعات الرواية وكأنها حزمة ورد انهل من رحيقها غذاء لروحي. وانا اقرأ اشعر إنني اتنقل بين لوحات فنية يكمن فيها الكثير من الجمال، ما ان انتقل من لوحة الا وشعور الغبطة والنشوة يغمر قلبي، لجمال النصوص طعم يفتح شهية القلب والذهن لالتهام المزيد، أقف بكل اجلال امام هذه اللوحة التي يصف فيها وجود وشعور الام بأبهي وصف فيقول "يا لقلب الام! انه من غير هذا العالم، ومن عنصر ابقي وانقي وأشرف بما لا يقاس من اللحم والدم. انها النفحة العجيبة التي بها تحيي الاكوان وتتماسك، والمحور الازلي، الابدي الذي عليه تدور، وانه لأوسع من الزمان والمكان، والأقوى من الانحلال والزوال".

في رواية سبعون التقط الكثير من العبارات والجمل كأني التقط درر متناثرة هنا وهناك يدهشني ظاهرها وباطنها ومن هذه الدرر تلك العبارة التي لامست روحي " الفرح ليس وقفا على الأغنياء. والكدر ليس منحصرا في الفقراء. انهما في الفكر والقلب أولا، والحياة عادلة في توزيعها الفرح والترح على بنيها. وقد لا تكون المدنية اجمالا غير ارهاق للإنسان وانحرف به عن طبيعته وطريقه القويم". وهذه العبارة التي تتوافق وتنسجم مع مآلات روحي " أنى لأ وثر القلة مع صفاء الذهن والقلب على الوفرة مع اضطراب العقل والقلب معا. وان يكون لي هدف نبيل فأدب اليه دبيب النملة وأدركه لخير عندي من ان اطير بجناحي نسر من هدف خسيس الى هدف اخس".

في نهاية سياحتي في عالم ميخائيل نعيمة وجولاتي في تفاصيل الاحداث وتنقلاتي بين مواقف الأيام والمها وافراحها اربت على كتف روحي برويه وهدوء لأطمئنها أني عائدة لها.

***

د. حميدة القحطاني

كان أدريان هنري شاعرا وفنانا وموسيقيا إنجليزيا مشهورا ارتبط بمشهد الشعر النابض بالحياة في ليفربول في الستينيات. يتميز عمله بطبيعته التجريبية، حيث يجمع بين عناصر السريالية والفن الشعبي والتعليق الاجتماعي. كان هنري جزءا من المجموعة المعروفة باسم "مشهد ليفربول"، والتي ضمت زملائه الشعراء روجر ماكجوف وبريان باتن. معًا، أحدثوا ثورة في مشهد الشعر بنهجهم الجديد غير التقليدي.

غالبا ما يستكشف شعر هنري موضوعات الحب والسياسة والتجربة الإنسانية. يُعرف عمله باستخدامه للصور الحية ولعب الكلمات والشعور بالعفوية. كان هنري مهتمًا بشكل خاص بجسر الفجوة بين الثقافة العالية والمنخفضة، مستوحى من مصادر متنوعة مثل الموسيقى الشعبية والشعارات الإعلانية والأدب الكلاسيكي. جعل هذا النهج الانتقائي للشعر هنري رائدا في حركة الطليعة البريطانية.

واحدة من أشهر قصائد هنري هي "الحب هو ...". في هذه القصيدة، يستكشف هنري الجوانب المختلفة للحب، مستخدما عبارات بسيطة وتصريحية لالتقاط تعقيد وجمال العاطفة. القصيدة مرحة وعميقة، وتُظهِر قدرة هنري على نقل المشاعر العميقة باقتصاد اللغة. "الحب هو..." تم جمعها على نطاق واسع ولا تزال كلاسيكية محبوبة للشعر الحديث.

بالإضافة إلى شعره، كان هنري أيضا فنانا تشكيليا موهوبا. كان شخصية رئيسية في حركة فن البوب البريطانية، حيث أدرج عناصر الكولاج والرسم والنحت في عمله. غالبًا ما عكس الإنتاج الفني لهنري شعره، حيث استكشفت كلتا الوسيلتين موضوعات ثقافة المستهلك ووسائل الإعلام وتقاطع الفن والحياة اليومية. كان فن هنري وشعره لا ينفصلان، حيث كان كل منهما يعلم ويثري الآخر.

لا يمكن المبالغة في تأثير هنري على مشهد الشعر البريطاني. كان رائدًا دفع حدود الشكل الشعري التقليدي والموضوع. ألهم عمل هنري جيلا من الشعراء لتجربة اللغة والصور والبنية بطرق جديدة ومثيرة. لا يزال إرثه باقيا في أعمال الشعراء المعاصرين الذين يواصلون استكشاف إمكانيات الكلمة المكتوبة.

على الرغم من وفاته في وقت غير مناسب في عام 2000، فإن تأثير أدريان هنري على عالم الشعر لا يزال قائما. لا يزال عمله وثيق الصلة وجذابًا كما كان دائما، ويستمر في أسر القراء بذكائه وبصيرته وأصالته الصرفة. يتجاوز شعر هنري الزمان والمكان، ويتحدث عن الحقائق والعواطف العالمية التي تتردد صداها لدى الجماهير من جميع الأعمار. إن تأثيره الدائم على مشهد الشعر البريطاني هو شهادة على موهبته ورؤيته.

كان أدريان هنري شاعرا يتمتع بموهبة وإبداع هائلين، ولا يزال عمله يلهم القراء ويسحرهم حتى اليوم. إن نهجه الانتقائي في الشعر، الذي يمزج بين عناصر السريالية والفن الشعبي والتعليق الاجتماعي، يميزه كصوت فريد ومبتكر في الشعر البريطاني. لا يزال إرث هنري قائما في شعره وفنه والتأثير الدائم الذي أحدثه على عالم الأدب. يذكرنا عمل هنري بقوة اللغة في التقاط تعقيدات التجربة الإنسانية وإثارة الفكر والعاطفة والتأمل. إن شعر أدريان هنري هو شهادة على القوة الدائمة للإبداع والإمكانيات اللامحدودة للكلمة المكتوبة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

فصل الربيع تطل أيامه الأخيرة، الماء في الساقية الرئيسة داخل الواحة، لم يعد بالوفرة التي كان عليها، الساقية أيام عزها تجرف الماء من النهر الكبير ليلا ونهارا، وتلقي به داخل مختلف الجداول الصغير منها والكبير، يفضل أهل الواحة الجلوس على جنبات ساقية الماء الرئيسية التي تخترق الواحة من أعلاها حتى أسفلها، ويختارون مكان جلساتهم  في نقطة تقاطع مسلك طريق بمسلك آخر، منهم من يجلس القرفصاء وعينه على الماء الذي يعبر الساقية، يحمل معه بعض الأعشاب على السطح، بين الحين والآخر تظهر سمكة من بين الأسماك الصغيرة التي تجرفها الماه، بين فترة وأخرى تقفز ضفدعة من أحد جنبات الساقية وسط الماء، التطام جسمها بسطح الماء، يخلف من ورائه قطرات، تعلو في السماء وتأتي على ثوب الجالسين، وبعدها يقفز ضفدع آخر بلون أخضر في نفس المكان، أمر غريب، من هذا الذي يطارد الضفادع، هل يلاحقها نوع من الأحناش... في الأخير اتضح بأنه ذكر يلاحق أنثاه، وقد تعانقا عناقا حارا أسفل الماء. الغريب أن الضفادع تقترب من الجالسين، أرجلها في الماء ورؤوسها بادية للعيان، في حالة خشوع، بين الحين والآخر يظهر انتفاخ كبير من تحت فكها السفلي، ربما أنها تسترق السمع، وتتبع كلام الجالسين، عندما تقترب منها، تقفز قفزة جماعية وسط الماء.

من الجالسين، من تجده متكئا على جانبه الأيمن أو الأيسر، ومرفق إحدى يديه إلى الأرض ورأسه إلى الأعلى، متخذا من إحدى كفيه وسادة لرأسه، ومن هم من يجلس متكأ على جذع نخلة عالية تطل عليه برأسها من الأعلى، وأرجله ممددة إلى الأمام في اتجاه الماء...البعض من الجالسين يأكل بعض من حبات التمر، ويلقي بالنواة في الماء بعدما يمتصها امتصاصا، من داخل فمه. المحبب عند أهل الواحة أن تأكل التمر وتلقي بالنواة في كل أرجاء الواحة، لعلها تتحول إلى نخلة، فمعظم النخيل في الواحة وخاصة التي لا تنتمي لنوع أصيل من النخيل، جاءت نتيجة نواة التمر، التي نمت وتحولت إلى نوع فرعي من أنواع التمور، فالتمر  والنخيل الفرعي  عند أهل الواحة يسمى "بالخلط" لأنه خليط ومزيج تفرع عن الأنواع الأصيلة، والعجيب أنه يأتي أحيانا بتمر ألذ وأطيب من تمور النخل الأصيلة.

النخل والتمور الأصيلة معروفة بأسماء مشهورة، فرغم اخلاف الاسم ما بين منطقة وأخرى داخل الواحة وحتى خارجها، فصنف التمر يكون معروف ومميز عن غيره، فالحصول على نوع من هذه الأنواع يقتضي نزع النّخيلات الصغيرة جدا المحيطة بالنخلة الأصيلة وغرسها بعناية. الأنواع الأصيلة من التمور معروفة عند أهل الواحة بأسمائها وبشكلها الموحد، وبلونها عندما تكون بلحا ورطبا وتمرا... البلح يأتي باللون الأحمر أو اللون الأصفر أو اللون الأخضر، الألوان الحمراء تتحول إلى تمور باللون الأسود، والألوان الصفراء تتحول إلى تمور باللون العسلي، والألوان الخضراء تتحول تمورها إلى تمور قريبة من اللون الأخضر... والحقيقة أن ألوان البلح لا يمكن عدها أو حصرها، كما أن ألوان وأنواع التمور لا يمكن عدها وحصرها...

تعدد نوع ولون وشكل وطعم ومذاق وسمك وصلابة وليونة وملمس...التمر يصدق عليه ما ورد في القرآن قال تعالى" وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)"(النحل) قد يكون الصواب إلى جانبنا إن قلنا بأن أنواع النخل والتمور لا يصدق عليها العدّ، نتيجة ما يتفرع عنها من أنواع وفروع نتيجة نواة التمر التي تنمو كحبة قمح في الأول وإذا بها تأخذ وقتها الكافي يقرب من ستة أو سبعة سنوات لتتحول إلى نخلة تأتي بنوع ذو بصمة خاصة من التمر، لا قبل لك به من قبل، من جهة الذوق أو الطعم أو الشكل... ومن هذا الذي يدعي أنه يعلم كل أنواع التمور عبر العالم، فهناك تقديرات تجاوزت بضعة ألف نوع عبر العالم، في الحقيقة النخيل وأنواع التمور في حلقة متجددة عبر الزمن، فقد تختفي أنواع بعيها، لتظهر أنواع أخرى، التمر يجري عليه قانون لا نهائية النوع من كل الجوانب، صحيح بأن طبيعة التنوع تجري على مختلف تمار الكروم والأشجار ولكن تنوعها لا يقارن بتنوع تمار وشجرة النخيل.

جلسات أهل الواحة، في فصل الربيع وغيره، وهم يستمتعون بجريان الماء، لا تنقطع، إذ تبدأ من الصباح وتتفرق عند الزوال لتعود إلى ما هي عليه في المساء، يخيل إليك أن جموع الناس لا شغل لهم ولا مشغلة، ولكن على العكس من ذلك، فمنم هذا الذي تجده يكرس كل وقته لتلك الجلسات، التي تتبدل وتتجدد على مدار الساعة، الكل يسرق ساعة من وقته، صباحا أو مساء، ليجلس هنا أو هناك، والكثير منهم يسرقون أقل من ربع ساعة وهو في طريقهم إلى حقولهم أو عائدين منها. الجلسات داخل الواحة بمثابة نقط وصل واتصال فيما بين أهل الواحة، يتناقلون من خلالها مختلف الأخبار المفرح منها والحزين، يتداولون من خلالها بشكل عفوي في مشاكل ومستجدات الواحة.

ما يدور في مختلف الجلسات يعبر عن المواقف الجماعية لأهل الواحة في علاقة بعضهم ببعض، والغريب أن مواقفهم تأتي متضاربة أحيانا وقد تأتي متعارضة، ومتباينة بتباين مصالحهم، حول المراعي والكلأ وحول توزيع الماء وحول حراسة القصور والقصبات، وحول طرد الغرباء، وقطاع الطرق في الصحراء بالقرب من جنبات الواحة، وحول فرض نظام الواحة والخروج من حالة التسيب والفوضى، وهي حالة تحضر وتغيب على طول الزمن.

الكثير من الذين يرتادون مختلف الجلسات وخاصة تلك التي يجتمع فيها الكهول من الرجال، يسترقون السمع من هنا وهناك، يتميزون ببراعة في فك ألسنة الجالسين، ليسمعوا عنهم ما ضاقت به صدورهم، من أمور يرون أنها من حقهم وسارت لغيرهم، من أبناء عمومتهم أو لآخرين لا تربطهم بهم صلة دم، يفهمون إيحاءات الكلام، وقد تسعفهم السخرية في العبارة في فهم مواقف هذا الطرف من ذلك الطرف الآخر.

دور هؤلاء الذين يسترقون السمع ويجمعون كل الأخبار، أنهم يقصدهم، شيوخ وأحيان أهل الواحة من هذه القبيلة أو تلك، وقد يشيرون عليهم بالحلول الوسط لمختلف ما يحل بهم من مشاكل اجتماعية، مجملها يتعلق بتدبير الماء داخل الواحة، فكل ما يخشاه أعيان وشيوخ قبائل أهل الواحة، هو السقوط في فخ صراع وخصام  قبيلة و أختها، وقد يتسع الصراع ويمتد بين مختلف التركيبات الاجتماعية لأهل الواحة، بين من يملك الأرض، وبين من يفلحها، وبين من يمتهن رعي الماعز والجمال... ومن داخل هذه التركيبات المعاشية وغيرها، تركيبة أخرى تنبني على قرابة الدم، فكل قبيلة تعتز بوليها وتاريخها ولها أعراف وعادات.... لا شيء يماثل النزاع والفتنة داخل الواحة إلا عنصر الجفاف، الجفاف يقلص دائرة الحياة في الواحة، والفتنة والنزاع يقلص مساحة الإعمار. الجفاف يحد من نعمة التمر، والفتنة والنزاع يحد من نعمة الأمن والأمان. وكلاهما نعمة التمر ونعمة الأمن لا حياة للواحة دونهما.

فشل قبيلة ما في تدبير أمر الماء بين أهلها، داخل الواحة، يعني تبذير الماء قليل كان أو كثير، بعناد الجميع في دفعه في اتجاه حقولهم، ضدا في غيرهم، فأهل الواحة بالقدر الذي يتصفون به باللطف والتضحية والتضامن... يتصفون في الوقت ذاته بالعناد والأنفة الزائدة التي تتحول إلى أنانية ساذجة. وقد يبلغ الأمر بهم إلى حالة من الانتقام الجماعي فيما بينهم، بإقدام بعضهم على تخريب منبع الماء القادم من النهر أو العين التي تسقي الواحة، العنصر الذي هم في نزاع بشأنه يتعمد بعضهم إتلافه، حينها لا شيء أمامهم موضوع للمنازعة، ولنجاتهم وحبا في واحتهم يجلسون لطاولة الحوار، وتزداد حدة الجدال في مختلف الجلسات التي تدور هذه المرة الى جانب الساقية التي فارقها الماء، وقد يبقون على هذه الحال أسبوعا أو أسبوعين، حتى يتمكنوا من العودة إلى النظام بالعرف المتعارف عليه بينهم في توزيع الماء.

يخيل إليك لأول وهلة، أن أعين الماء  ومختلف السواقي، أنها تسقي مختلف حقول وبساتين الواحة من تلقاء نفسها، ولكن حقيقة الأمر أن توزيع الماء داخل الواحة تحكمه أعراف وقوانين صارمة، وخطط للري وتصريف الماء من المكان القريب إليه إلى المكان البعيد، وتصريفه بقدر محدد في اتجاه المكان المنحدر وبقدر أوفر نحو المكان المرتفع، عندما تستوطن في جانب من جنبات الواحة بداخل قصر من القصور أو قصبة من القصبات، في الوهلة الأولى يخيل إليك أن الواحة عبارة عن غابة من أشجار النخيل تشكلت من تلقاء ذاتها، ولكن يوما بعد يوم تدرك أن المجال تحكمه هندسة ري وضعت بإحكام،[2] تبدأ من النهر الكبير، ببناء سد صغير في نقطة مختارة بعناية من النهر، الهدف من السد هو رفع الماء بزاوية 45 بدرجة  الى الساقية التي تمتد على طول أربع كلومترات أو أكثر، وبعدها تصب الماء في جداول تسمى بالمصاريف، لأن الماء يصرف بداخلها في الاتجاه والمبتغى المطلوب، وتتفرع عن المصاريف الرئيسية مصاريف فرعية، ومنها يصب الماء في قلب مختلف الحقول والبساتين.

نظام الواحة الهندسي في توزيع الماء لا شك أن وضعه على وعي بشكل كبير بالمجال الطبوغرافي المتشكل من المرتفعات والمنحدرات، ونوع التربية بالقرب من النهر أو البعد منه، والأمر المثير للإعجاب في تلك الهندسة المحكمة للمصاريف الرئيسية للماء، التي تتباعد فيما بينها في المنع على طول الساقية. أن معظمها يلتقي في نقطة واحدة بعد ما تفرعت عنها عشرات الجداول والمصاريف الصغيرة والفرعية التي يتسرب الماء منها بقدر، فالفائض من الماء قد يتسرب في اتجاه الوادي الكبير ليزيده جريانا، تستفيد منه سواقي أخرى على طوله.

يعتمد أهل الواحة في تنظيم الماء على مبدأ التناوب، فلكل أسرة كبيرة أو صغيرة حصتها من الماء تتوارثها أبا عن جد، تستولي فيها على الساقية، إذا يكون الماء بأكمله في ملكيتها لمدة معينة نصف يوم مثلا أو ساعات مثلا أو ساعة واحدة، أو نصف ساعة، ومن حقها أن تصرف الماء إلى حقولها أو حقول غيرها، فهي سيدة الموقف في التصرف فيه، فدورة التناوب على الماء قد تغطي شهرا أو خمسة وعشرين يوما أو عشرين أو خمسة عشر يوما وهكذا..، وهي فترة تكون كافية لسقي الجزء الهام من جانب من جنبات الواحة، فدورة المياه لها أصول ملكية وسقف زمني لا يمكن تغييره إلا بموافقة جماعية.

لازالت الأيام الأخير من فصل الربيع تطل وتدفع في اتجاه الاقتراب من فصل الصيف، لازال البعض في مقتبل النهار جالسين إلى جانب الساقية، يحدقون بأعينهم في سطح الماء، وهو يجر من فوقه قليل من الأعشاب حينا، وبعض من نواة التمر حينا، مرور الماء وجريانه بداخل الساقية يشبه مرور الزمن والأيام تلو الأيام، لا عودة حقيقية بالزمن إلى الوراء، إلا أن ذلك قد يحدث في أذهان الجالسين من الناس، بينما لا يصدق ذلك على ماء الساقية الذي يندفع ماؤها إلى الأمام، إنها سنة التغير والتحول من لحظة إلى أخرى التي يتصف بها الزمن، وقد صدق  هرقليطس القول " لا نسبح في النهر مرتين".

ماء الساقية يتصف ماء عذب، مصدره مختلف العيون التي تنبع على طول النهر الكبير، ولكن هذا الموسم أحسّ أهل الواحة أن الماء الذي يجري داخل الساقية تسربت إليه الملوحة، وبدأ يفقد عذوبته، وهي علامة تدلهم أن منابع العيون العذبة قد بدأت تجف من أعلى النهر الكبير، يا الله لعلها تكون لحظة عابرة.

... يتبع....

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

..............................

[1] موضوع الري وتوزيع المياه بالواحات موضوع مهم وقد أنجزت بشأنه العديد من الدراسات، من لدن أجانب وعرب، وقد فاجأني عالم الاجتماع المغربي عبد الله حمودي عند لقائي به سنة 2014م، بأنه أنجز بحثا في ري الماء وتوزيعه على ساقية بواحة درعة بالقرب من مدينة زاكورة الساقية اسمها "تاكمدارت".

في عالم الشعر الحديث، يعتبر عزرا باوند وتي إس إليوت شخصيتين بارزتين لا يزال عملهما الإبداعي يتردد صداه بين القراء والعلماء على حد سواء. وبينما نتطلع إلى المستقبل، من المهم أن نفكر في كيفية استقبال وفهم شعرهما من قبل الأجيال الجديدة من القراء.

كان عزرا باوند من أشد المؤيدين للحركة الحداثية، وكثيرا ما دفع عمله حدود الأشكال الشعرية التقليدية. يستكشف عمله المبكر، مثل "الأناشيد"، موضوعات التاريخ والأساطير والسياسة بأسلوب تجريبي ومجزأ للغاية. كما أثر افتتان باوند بالثقافات واللغات القديمة على شعره، مما أدى إلى مزيج فريد من الشكل الكلاسيكي والحساسية الحداثية.

من ناحية أخرى، كان تي إس إليوت معروفا بشعره الفلسفي العميق والاستبطاني. غالبا ما يُنظر إلى عمله البارز "الأرض الخراب" على أنه أحد أعظم قصائد القرن العشرين، حيث تعكس بنيته المجزأة ولغته التلميحية خيبة الأمل واليأس في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى. استمرت أعمال إليوت اللاحقة، مثل "الرباعيات الأربع"، في استكشاف موضوعات الروحانية والوقت بطريقة أكثر تأملا واستبطانا.

تأثر كل من باوند وإليوت بشدة بتجاربهما في العيش في أوروبا ولقاءاتهما مع شخصيات أدبية بارزة أخرى في عصرهما. ساعدت مشاركة باوند في حركة التصوير وتعاونه مع فنانين مثل تي إس إليوت وويليام كارلوس ويليامز في تشكيل مسار الشعر الحديث. من ناحية أخرى، تأثر إليوت بشدة بصداقته مع باوند وانغماسه في الوسط الأدبي والثقافي في باريس.

بالنظر إلى المستقبل، من الواضح أن شعر باوند وإليوت سيستمر في الدراسة والتقدير لعمقه وتعقيده وإبداعه. لقد كان لأساليبهم الشعرية الفريدة واهتماماتهم الموضوعية تأثير دائم على تطور الشعر الحديث وما زالت تلهم أجيالاً جديدة من الشعراء والقراء.

وعلى وجه الخصوص، من المرجح أن يستمر تأكيد باوند على دور الشاعر كناقد ثقافي وتجربته مع الشكل واللغة في التأثير في السنوات القادمة. وعلى نحو مماثل، فإن استكشاف إليوت للموضوعات الروحية والوجودية في شعره سيظل ذا صلة مع استمرار القراء في التعامل مع أسئلة الهوية والمعنى والوجود.

ومع ذلك، من المهم أيضًا النظر في الانتقادات والجدالات المحيطة بباوند وإليوت، وخاصة فيما يتعلق بمعتقداتهم السياسية وارتباطاتهم الشخصية. لقد أدت آراء باوند المعادية للسامية والفاشية، فضلا عن مواقف إليوت الإشكالية تجاه العرق والجنس، إلى تعقيد إرثهما وإثارة تساؤلات حول الآثار الأخلاقية لعملهما.

مع تقدمنا، سيكون من الضروري للقراء والعلماء والمعلمين الانخراط بشكل نقدي في شعر باوند وإليوت، مع مراعاة كل من الإبداعات الجمالية والتعقيدات الأخلاقية لعملهما. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا ضمان استمرار تقدير وفهم شعرهما في سياقه التاريخي والثقافي الكامل، مع الاعتراف أيضا بالقيود والتناقضات في وجهات نظرهما للعالم.

وفي الختام، من المرجح أن يتميز مستقبل شعر عزرا باوند وتي إس إليوت بالاهتمام العلمي المستمر، وإعادة التفسير الإبداعي، والمشاركة النقدية. لقد تركت مساهماتهما الرائدة في الشعر الحديث علامة لا تمحى على المشهد الأدبي، ولا شك أن عملهما سيستمر في تحدي وإلهام القراء للأجيال القادمة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

الخيانة الزوجية أو الزنا موضوع شائع في العديد من القصص الموجودة في "ألف ليلة وليلة"، والمعروفة أيضا باسم "الليالي العربية". وقد انتقلت هذه القصص، التي نشأت في الشرق الأوسط، عبر الأجيال وتم ترجمتها إلى العديد من اللغات، حيث أسرت القراء بخلفياتها الغريبة والغامضة. غالبا ما يتم تصوير الزنا في ألف ليلة وليلة على أنه فعل محرم يؤدي إلى عواقب على المتورطين فيه، مما يعكس المعايير والقيم المجتمعية في ذلك الوقت.

من أشهر القصص التي تتضمن الزنا في ألف ليلة وليلة حكاية شهرزاد، العروس الشابة التي تحكي القصص لزوجها الملك شهريار لتأخير إعدامها. كان لدى الملك شهريار عادة الزواج من زوجة جديدة كل ليلة وقتلها في صباح اليوم التالي، بسبب اعتقاده بأن جميع النساء خائنات. تستخدم شهرزاد براعتها في سرد القصص لأسر الملك وإبقائه مهتمًا بقصصها، وبالتالي تأجيل وفاتها الحتمية.

في قصة "الحصان الأسود"، الزنا هو أيضا موضوع بارز. يقع البطل الأمير أحمد في حب الأميرة باري بانو ويشرع في سلسلة من المغامرات للفوز بيدها للزواج. ومع ذلك، فإن الأميرة باري بانو متزوجة بالفعل من ملك قوي، مما يؤدي إلى مثلث حب يؤدي في النهاية إلى مأساة وحزن لكل من شارك. يتم تصوير عواقب الزنا في هذه القصة على أنها مدمرة، مع الخيانة والخسارة في المقدمة.

قصة أخرى تستكشف موضوع الزنا في ألف ليلة وليلة هي "حكاية نور الدين علي وابنه". في هذه القصة، يقع شاب يدعى نور الدين علي في حب امرأة جميلة تدعى قمر الزمان، فقط ليكتشف أنها متزوجة بالفعل من رجل آخر. يؤدي مطاردة نور الدين لقمر الزمان إلى سلسلة من سوء الفهم والصراعات، مما يسلط الضوء على عواقب الخيانة والألم الذي يمكن أن تسببه لمن شاركوا فيها.

غالبا ما يتم تصوير الزنا في ألف ليلة وليلة على أنه فعل معقد وغامض أخلاقيا، حيث تواجه الشخصيات خيارات صعبة وتواجه عواقب أفعالها. في العديد من هذه القصص، تؤدي الخيانة إلى الخيانة، وانكسار القلب، والخسارة، مما يؤكد على أهمية الولاء والإخلاص في العلاقات. تعمل القصص في ألف ليلة وليلة كحكايات تحذيرية، تحذر القراء من مخاطر الانحراف عن مسار البر والعواقب المحتملة للاستسلام للإغراء.

يتشابك موضوع الزنا في ألف ليلة وليلة أيضا مع قضايا مجتمعية أكبر، مثل الأدوار والتوقعات الجنسانية. في العديد من القصص، غالبا ما يتم تصوير النساء على أنهن ضحايا الخيانة الزوجية، ويعانين من عواقب الخيانة والخداع على أيدي أزواجهن أو عشاقهن. تسلط هذه الروايات الضوء على ديناميكيات القوة في العلاقات والمعاملة غير المتساوية للمرأة في المجتمع، وتسلط الضوء على الظلم الذي يمكن أن ينتج عن الزنا والخيانة الزوجية.

وعلى الرغم من النبرة الأخلاقية التي تتسم بها العديد من القصص في ألف ليلة وليلة، فهناك أيضا حالات يتم فيها تصوير الزنا في ضوء أكثر تعاطفاً. ففي حكاية "الحمّال وثلاث سيدات بغداد"، على سبيل المثال، تتم دعوة حمال شاب إلى منزل ثلاث نساء ثريات ويتورط في علاقاتهن الرومانسية. وتتحدث النساء إلى الحمال عن علاقاتهن وأسرارهن، الأمر الذي يكشف عن فهم أكثر دقة وتعقيدا للزنا وتأثيره على العلاقات.

يعمل الزنا في ألف ليلة وليلة كأداة سردية مقنعة تستكشف تعقيدات العلاقات الإنسانية والمعضلات الأخلاقية التي يواجهها الشخصيات. ومن خلال هذه القصص، تتم دعوة القراء إلى التفكير في عواقب الخيانة الزوجية والطرق التي يمكن أن تشكل بها مسار حياة المرء. وتقدم القصص في ألف ليلة وليلة نافذة على المعايير الثقافية والقيم في المجتمعات التي كتبت فيها، وتسلط الضوء على تعقيدات الحب والولاء والخيانة التي لا تزال تتردد صداها بين القراء اليوم.

إن الزنا في ألف ليلة وليلة هو موضوع متكرر يلعب دورا محوريا في العديد من القصص الموجودة في هذه المجموعة. ومن خلال حكايات الحب والخيانة وألم القلب، تقدم القصص في ألف ليلة وليلة استكشافا دقيقا ومعقدا للخيانة وعواقبها. من العواقب المأساوية للخيانة إلى تعقيدات التشابكات الرومانسية، تقدم القصص في ألف ليلة وليلة نسيجا غنيا من السرديات التي تستمر في أسر القراء بموضوعاتها الخالدة وحقائقها العالمية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

بحلول فصل الربيع يعرض النخل عَراجينُه التي تحمل التمار، وهي من النَّخْل كالعنقودِ من العنب، وأهل الواحة يسمونها أعراش. كما أنهم لا يرون في النخلة بأنها شجرة كباقي الأشجار، إنهم يرون فيها أنها مفارقة لكل الشجر، الأشجار الأخرى في تصورهم مثل الزيتون والرمان والكروم... تأتي في الدرجة الثانية بعد النخيل، فلا حياة داخل الواحة في نظرهم دون شجرة النخيل، ولو اتسعت المساحة والمجال لمختلف الأشجار، فليس هناك شجرة تحل محلها، الواحة هي النخيل، والنخيل هو الواحة، فلا وجود لطرف دون آخر.

النخيل يأتي ثماره من أعلى رأسه. فالرأس عند النخلة هو كل شيء، الجذع كله في خدمة الرأس، النخلة لا تتوفر على أغصان وفروع وأوراق تفقدها في فصل الخريف كباقي الأشجار، النخلة لها بضعة صفوف من الجريد تحتضن به ثمارها، وتوفر به الحماية لرأسها، وقد تستغني عن صفوفه السفلى في نهاية كل موسم فلاحي. فصل رأس النخلة عن جذعها يعني نهاية حياتها المحتومة، بينما الجزء الكبير من الأشجار قد يستمر في الحياة ولو فصلت جذوعه على مختلف فروعها وأغصانها، ما لم يقتلع من الجذور.

النخلة لا تفيدها الجذور في شيء إن تم فصل جذعها عن رأسها، وهي حالة شبيهة بوضع مختلف الكائنات الحية التي لا تقوم لها قائمة بفصل رأسها على جسدها. فأول ما يتضرر من النخلة هو الرأس وجريدها نتيجة شدة العطش أو نتيجة مرض يحل بها مثل مرض البيوض، الذي يأتي النخلة بدءا من أعلاها، فإن إحتضر رأسها وجفت آخر جريدة منها، فقد انتهى أمرها بالكامل، ولا ينفعها جذعها وجذورها الأرضية في شيء، باختصار نبض حياة النخيل يقع في الأعلى من رؤوسها، وكل الأعراض السالبة أو الإيجابية تظهر من خلال جريدها، فجريد النخلة كأنه وجهها الذي يعكس مختلف ملامحها، فرحها في حالة الارتواء والاخضرار والغنى، وحزنها في حالة من مرض أو في حالة من العطش الشديد، كذلك هو الإنسان حالته تقرأها من خلال جبينه.

مرض البيوض من الأمراض التي تفتك بالنخيل في كل مكان، وهو عبارة عن نوع من الفطريات المجهرية، ينتج عنه جفاف صفوف الجريد السفلي للنخلة وتتبعه الصفوف التي تليه حتى آخر جريدة من قلب رأس النخلة، في حين تبقى الشتلات التي تنمو قرب النخلة المصابة سليمة، وهذا ما يميّز البيوض عن الجفاف. البيوض يأتي على نوع بعينه من أشجار النخيل ويتنقل عبره بشكل سريع، وقد يكون أثره قليل المفعول على أنواع أخرى من النخيل، وقد حاول أهل الواحة محاربة مرض البيوض بحرق جذوع النخل المريض، بيد أن هذا الأمر غير مجدٍ لأن الفطريات المسببة للمرض تعيش على الجذور وتنتقل بوساطة التربة.

حرق جذع النخيل بهدف الشفاء تبدوا غريبة، وقد أتت أكلها في حالات قليلة، ولكن من أين لأهل الواحة بهذه الفكرة؟ فإذا نظرنا إلى حيات أهل الواحة نجد النار حاضرة بشكل كبير في العلاج لديهم، من خلال الكي بالكبريت وغيره في حالة من أصيب بفدع في اليد أو الرجل وفي حالة الكسر... ويستعمل الكي بالأغصان السميكة جدا لشجرة الرمان أو الزيتون، في علاج أمراض أخرى من بينها فقر الدم... وهذه مسألة لها أهلها، ممن يعرفون مفاصل الجسم، والتي تحتاج الكي والتي ينتج عنها ضرر، فالعلاج بالنار بواسطة الكي عند أهل الواحة يشمل الدواب كذلك، فليس من الغريب حرقهم لجذع النخيل لطرد مرض البيوض. مع الأسف ليس هناك اهتمام وعناية كافية بالبحث في علاج يحد من مرض البيوض.

من أعلى الرأس تتفتح عراجين التمر، ففي الأول تظهر على شكل حبات عقيق سميكة منظومة في خيوط متوازية، ومربوطة إلى وريد (عصا) يمتد إلى قلب رأس النخلة من وسطها العلوي، وعندما تنمو بعض الشيء فهي في حاجة إلى التأبير. فطيلة فصل الربيع تجد أعين أهل الواحدة مشدودة إلى الأعلى تتطلع وتراقب رؤوس النخيل وصفوف وجريده العلوية. ومنهم من يفضل الصعود إلى ربوة تطل على أشجار نخيله، ويتفقد الوضع عن قرب، وهو يخمن مع نفسه يا ترى هل النخيل سيعرض ثمارا وافرة هذا الموسم، أم أن ثماره ستكون أقل من الموسم الفارط، وكيف له أن يعرض ثمارا كثيرة، وهو يظهر في حالة شاحبة الوجه والمنظر، لأن قطرات المطر لم تزره طيلة موسم كامل. إننا نحمّل النخل أكثر ما يحتمل، نتطلع إلى العراجين المليئة بالتمر، والنخل لم يرتوي ماء منذ زمن طويل...

قصة تأبير النخيل[1] تزيد أهل الواحة نوعا من الاعتزاز بالبيئة التي تحتضنهم، وتأخذ أذهانهم إلى زمن بعيد، زمن لا يعرفون عنه الكثير، ولكنهم يتصورون بيئة ذلك الزمن شبيهة ببيئتهم في كل شيء، كثيرة هي الأحاديث التي وردت في حق النخيل، فالنخلة في مدونات الحديث تدور في مدار تشبيه الإنسان الصالح بها، فالنخلة لا تأكل إلا طيبا ولا تضع إلا طيبا. فالمؤمن مثله مثل شجرة النخيل التي لا يسقط ورقها. وفي القرآن ذكرت النخلة والنخيل ومن أبرز ذلك ما ورد في حق مريم أم عيسى قال تعالى: ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) (مريم) النخلة هنا مصدر حماية ونجاة لمريم وولدها عيسى، وقد نداها وهو صبي بأن تهز بجذع النخلة، لتأمن غداءها، أية نخلة هذه وأي نوع من النخيل والتمر هذا، وفي أي مكان احتضن ذلك؟

النخيل منه الذكر ومنه الأنثى، والذكر يلقّح الأنثى، فموضوع اللقاح بين مختلف الأشجار حسب النوع سارية في الطبيعة، وقد تقوم الحشرات بهذا الدور من بينها النحل، وقد تلعب الرياح هذا الدور. ورد في القرآن الكريم قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ (الحجر/22) الحشرات لا تقوم بهذا الدور بين النخيل الذكر والأنثى منه، كما أن الرياح لا يترتب عنها هذا الدور إلا في حالات نادرة، كأن يكون ذكر النخيل بالقرب من الأنثى. تلقيح وتأبير النخيل مهمة يتولها الإنسان وقد أبدع فيها كثيرا، وقد تحولت لديه إلى علم تجريبي توارثته الأجيال. الغريب أن أهل الواحة لا يهتمون بشأن الذكر من النخيل كأنه لا يهمهم في شيء، فكل اهتمامهم يدور حول الأنثى التي تأتي بالتمار، فدور فسيلة الذكر هو التلقيح فقط.

ففي فصل الربيع يخرج الذكر من النخيل عرجون مغلق على بعضه، يتفتق بعد أيام، وبداخله فسيلات عديدة مليئة بغبار كثيف أبيض اللون مثل الدقيق، وكل تلك الفسيلات مربوطة إلى وريد (عصا) يمتد إلى وسط أعلى رأس النخلة (الذكر) بين الجريد. جني عرجون التأبير هذا يتم جنيه وجذّه بعناية، وينبغي الحفاظ على المادة المسحوقة بداخله التي تتطاير بشكل سريع في الهواء. يتم فك الفسيلات بعضها عن البعض الآخر، وهي التي تغرس في عراجين النخلة الأنثى، وبهذا تتم عملية التلقيح والتأبير. وتقتضي الضرورة اصطحاب قفة صغيرة إلى أعلى رأس النخلة الذكر منها أو الأنثى، بهدف الحفاظ على الغبار المسحوق داخل الفسيلات بهدف نقله الى النخلة الأنثى، وقد يتسرب عبر الهواء داخل حبيبات عراجين النخلة التي تنمو أسبوعا بعد آخر، حتى تتحول إلى رطب، ومن بعده إلى ثمار.

تأبير النخيل مهمة لا يقوم بها إلا من خبرها، فهي اختصاص وصنعة، تجعل من صاحبها يفهم جيدا طبيعة أنواع النخيل والفرق فيما بينها، ويمتلك فراسة تجعله يميز بين مختلف أنواع النخيل من خلال شكل سعف جريده وطبيعة أشواكه وجذوعه... فهناك أنواع من النخل يكفي تأبير كل عراجينها مرة واحدة، وهناك أنواع أخرى تقتضي تأبير كل عرجون لوحده، عندما يحين وقته، ومعرفة ذلك يتم من خلال طبيعة حبات العرجون من جهة تبدل لونها من البياض إلى الصفرة أو من البياض إلى اللون الأخضر... وهذه مسألة تجعل صاحبها متمرن على صعود رؤوس النخيل، دون كلل ولا ملل. ويصاحب مهمة الصعود لتأبير النخيل الكثير من الأذكار والابتهالات والصلاة على الرسول... بألحان وأصوات شجية.

مهمة تأبير النخل تتداخل بشأنها مجموعة من المكونات، منها ما ارتبط بالطبيعة ومنها ما يرتبط بالمعرفة الاجتماعية والخبرة الفلاحية التي تشكلت طيلة السنين، ومنها ما يرتبط بالتأبين ذاته وما يستوجب من الأدعية والأذكار، وما ينبغي أن يتصف به صاحبه هذه الصنعة وما ينبغي أن يكون عليه بين الناس من حسن الخلق والمعاملة. فأهل الواحة مرة أخرى لا ينظرون إلى التمر بأنه فاكهة من بين مختلف الفواكه، ففي أذهانهم ومخيلتهم التمر ليس كذلك، فهو غداء كامل، ووجبة لها وقتها الخاص في اليوم طيلة السنة، تحل ما بين الفطور والغداء وفي الصباح الباكر بين الحين والآخر. طقس تأبير النخل يبدأ على يد من شهد له الناس بصلاحه بينهم، وله ما يكفي من الخبرة والتجربة ليتعامل مع تأبير النخيل بالقدر والمقدار المطلوب. إذ لا زيادة ولا نقصان في التأبير، فالزيادة فيه أكثر من اللازم تضر بالنخلة وبالتمر معا، فالنخلة قد تفرغ كل جهدها، وتأتي العراجين مليئة ببلح وتمر سميك جدا، خالي من الفائدة... ولا يصلح إلا لعلف الدواب... ولهذا فمهمة تأبير النخل قد تتوارثها وتتولاها أسر بعينها داخل الواحة.

عندما يحل فصل الربيع يتنقل داخل الواحة المختصين في حدادة المناجل المسننة المعكوفة الرأس، وهي بطول يتراوح ما بين عشر أو خمسة عشر سنتمترات من حديد مغروسة في قبضة يد خشبية، وتستعمل في قطع مختلف الحشائش والزروع. وتستعمل كذلك في جزِّ الفِصَّة، وهي جنس نباتي يتكرر نموه كلما تم قطعه، ويعتمد عليها في علف الأبقار والغنم... فعندما يعمّ الماء كل أرجاء الواحة، تجد الكثير من بساتين الواحة مليئة بالفِصَّة على طول السنة، وتجز في الصباح الباكر وقبل غروب الشمس من كل يوم.

وهناك مناجيل كبيرة مثل السيوف، معكوفة الرأس وهي بطول يقل على نصف متر من الحديد الحاد بعناية فائقة، مثبتة على مقبض خشبي بطول عشرين سنتيم أو أقل منها أو أكثر منها بقليل. وتسمى بـ (تامسكرت) وهي مخصصة لتقليم مختلف الأشجار بما فيها مختلف أنواع جريد النخيل، كما أنها تستعمل في قطع عراجين التمر، فضلا على أن أهل الواحة اتخذوا منها سلاحا لهم، يحميهم من مختلف الوحوش التي تسرق منهم بعض من مواشيهم ليلا مثل ابن أوى وهو من فصيلة الذئاب، ومثل بعض الكلاب الضالة التي تعترض طريقهن أحيانا، وهم في وقت متأخر من الليل في جوف الواحة، في حراسة أو في مهمة تسهيل جريان الماء بين جداول الواحة...

أهل الحدادة وهم يطوفون مختلف التجمعات السكنية داخل الواحة من قصر إلى قصر ومن قصبة إلى أخرى... يكتفون ببرد وسقل مختلف المناجل والسكاكين والفؤوس...أما صناعتها فهي تتطلب منهم أن يعودوا لمقر سكناهم، حيث لديهم أفرنت تذويب الحديد وتفريغه كما يريدون، فهم أهل الصنعة التفنن في مختلف أنواع الحدادة المعروفة في الواحة بما في ذلك صياغة مختلف شباك النوافذ التي يستعملها أهل الواحة في مساكنهم.

... يتبع....

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

......................

[1] عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون النخل، فقال: (لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصًا) - تمرًا رديئًا - فمر بهم، فقال: (ما لنخلكم؟)، قالوا: قلت كذا وكذا.. قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) رواه مسلم

يتعمق وليم بتلر ييتس، أحد أشهر الشعراء في القرن العشرين، في موضوع الحب في شعره. فمن خلال أعماله الواسعة، يستكشف ييتس التعقيدات والفروق الدقيقة للحب في جميع أشكاله - الرومانسية والعائلية والروحية. تعكس قصائده تجاربه الشخصية مع الحب، فضلا عن تأملاته الفلسفية حول الطبيعة القوية والمحولة لهذا الشعور العالمي.

في العديد من قصائد الحب التي كتبها ييتس، يشكل الحب الرومانسي موضوعا مركزيا. تتحدث إحدى أشهر قصائد الحب التي كتبها، "عندما تكبر"، عن الطبيعة الدائمة للحب وقدرته على تجاوز الزمان والمكان. يلتقط ييتس جوهر الحب غير المتبادل والشوق الذي يصاحبه، حيث يتوسل إلى موضوع عواطفه أن يتذكره في سن الشيخوخة. تعكس هذه القصيدة تجارب ييتس الشخصية مع الحب والخسارة، حيث تصارع مع الحب غير المتبادل طوال حياته.

كما يستكشف ييتس موضوع الحب في سياق العلاقات الأسرية. في قصائد مثل "صلاة من أجل ابنتي"، يعبر ييتس عن حبه العميق واهتمامه بابنته، وهو يتأمل التحديات التي ستواجهها في الحياة. ومن خلال شعره، يتأمل ييتس تعقيدات العلاقات بين الوالدين والطفل والحب الدائم الذي يوجد بين أفراد الأسرة.

بالإضافة إلى الحب الرومانسي والعائلي، يستكشف ييتس أيضا موضوع الحب الروحي في شعره. في قصائد مثل "البجع البري في كول" و"أغنية أنجوس المتجول"، يستكشف ييتس فكرة الحب الروحي المتسامي الذي يوجد خارج العالم المادي. من خلال هذه القصائد، يتصارع ييتس مع فكرة الحب الأبدي والبحث عن التنوير الروحي.

غالبا ما يتشابك استكشاف ييتس للحب في شعره مع موضوعات الطبيعة والتصوف. في قصائد مثل "جزيرة بحيرة إينيسفري" و"الطفل المسروق"، يصور ييتس الحب كقوة تتأثر بالعالم الطبيعي والعناصر الغامضة التي تحيط بنا. ومن خلال لغته الغنائية وصوره الحية، ينقل ييتس القوة التحويلية للحب وقدرته على ربطنا بالعالم من حولنا.

إن أحد الجوانب الأكثر لفتا للانتباه في شعر الحب لدى ييتس هو قدرته على التقاط تعقيد وعمق المشاعر الإنسانية. في قصائد مثل "يتمنى الحصول على أثواب السماء" و"القبعة والأجراس"، يستكشف ييتس الطبيعة الصاخبة للحب والعواطف المتضاربة التي تنشأ عنه. ومن خلال شعره، يتصارع ييتس مع الرغبات والعواطف المتضاربة التي يمكن أن يثيرها الحب، حيث يتعمق في تعقيدات القلب البشري.

لا يقتصر استكشاف ييتس للحب في شعره على التجارب الشخصية، بل يمتد أيضا إلى تأملات فلسفية أوسع حول طبيعة الحب نفسه. في قصائد مثل "لعنة آدم" و"حماقة التعزية"، يتأمل ييتس التأثير العميق الذي يمكن أن يخلفه الحب على حياتنا والطبيعة الدائمة لهذا الشعور القوي. ومن خلال شعره، يتعمق ييتس في تعقيدات الحب وقدرته على تشكيل هوياتنا وعلاقاتنا.

من خلال شعره، ينقل ييتس فهما عميقا لتعقيدات الحب وتناقضاته. من شدة الحب الرومانسي العاطفي إلى الروابط الدائمة للعلاقات الأسرية، يستكشف ييتس الجوانب العديدة للحب في جميع أشكاله. من خلال لغته البليغة وصوره الحية، يلتقط ييتس جوهر الحب وقوته التحويلية في حياتنا.

في الختام، فإن شعر وليم بتلر ييتس هو استكشاف مؤثر للحب في جميع أشكاله - الرومانسية والعائلية والروحية. من خلال لغته الغنائية وصوره الحية، يتعمق ييتس في تعقيدات الحب وفروقه الدقيقة، ويلتقط جوهر هذه العاطفة العالمية ببصيرة عميقة وحساسية. تعكس أشعاره فهما عميقا للقلب البشري والقوة السامية للحب في تشكيل حياتنا وعلاقاتنا. إن استكشاف ييتس للحب في شعره هو شهادة على الطبيعة الدائمة لهذه العاطفة القوية وقدرتها على ربطنا ببعضنا البعض وبالعالم من حولنا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

ثقافة الشباب والدين والاندماج والمظاهر العنصريه في الدنمرك:

الشباب أكثر تأقلماً في زمننا الحالي حيث صار العالم حقاً قريةً صغيرةً، نلاحظ أنهم يتشابهون في أزيائهم ومظاهرهم وأساليبهم الحياتية في مختلف أصقاع العالم بحكم انتشار السلع من نفس الماركات المعروفة عالميا، في آسيا وأفريقيا يحبون الأزياء الأوروبية ويبدون كأنهم يقلدون الأوروبيين، لدرجة أن بعضهم يرتدي أحذيةً أوروبية شتويةً! لهذا لا يعني هذا أن أغلبهم مندمج بالثقافة الغربية، هذا موضوع آخر، قد يكون العكس صحيحاً في أوساط شبابية معينة بسبب القضية الفلسطينية ومضايقة العرب والمسلمين المقيمين في الغرب، على الأقل إعلامياً.

إذن نحن نلاحظ ثقافة عامة يتميز بها قسم من الجيل الجديد، لكن هذا لا يمنع أيضاً من وجود مجاميع أخرى منهم ينتمون إلى ثقافاتهم الفرعية الخاصة، قد تكون دينية تبرز اثناء ممارساتهم لشعائرهم الدينية مثل الحج أو زيارة الكنائس وبوذا ومعابد الهندوس واحتفالات الصوفيين في مصر والمغرب، والتشابيه السنوية لمقتل الحسين سبط الرسول محمد واللطم عليه منذ نحره قبل ألف وأربعمائة سنة تقريبًا! إنها نوع من تطهير الروح أو الكَثارسيس katharsis! وجلد الذات والشعور بتأنيب الضمير! ويريدون أن يطلع الآخرون في أوروبا على ثقافتهم وطقوسهم بغض النظر عن تسييس الدين وتجييشه من قبل بعض الأحزاب الدينية، ولهذا يرى السياسيون الغربيون من الأفضل السماح لهم بممارستها علناً إذا كانت غير عنيفة، وضمن القانون كي يشعروا بانتمائهم لمجتمعهم الجديد وبالتالي يندمجوا فيه. على الثقافات الكبيرة أن تحترم نظيراتها الفرعية الخاصة وتتقبل الناس كما هم منعاً للشعور بالتهميش والعنف والتطرف وعدم الانتماء للمجتمع والولاء له.

كل هذه المراسيم والطقوس صارت فضاءاً ثقافياً وروحياً يحقق البشر فيه ذواتهم ويعبرون عن مشاعرهم وراحتهم النفسية بغض النظر عن اختلاف وجهات النظر بها من قبل الآخرين. في الدنمرك توجد ايضاً كنائس مختلفة لها نشاطات وطقوس متنوعة، ومدارس دينية وجمعيات خاصة لليهود والمسيحيين والمورمونيين وغيرهم.

الدين هنا يلعب دوراً كبيراً في حياة البشر بغض النظر عن ممارستهم لتعاليم اديانهم من عدمها أو إيمانهم بها من عدمه، لكن الثقافة الدينية بكل حذافيرها تكون أوضح في السلوك اليومي وتفاصيل الحياة اليومية في كل صغيرة وكبيرة لدى الأصوليين والمتزمتين والمنغلقين.

قد يشعر بعضُ هذا النوع من البشر بصعوبة الاندماج الحقيقي في المجتمع ويعترض على ممارسات مجتمعية كثيرة، ولهذا يحاول تجنبها ويفضل إرسال أطفاله مثلًا إلى مؤسسات تعليمية متزمتة خاصة ومغلقة.

هذه الحالة تشمل كل الأديان التي نعرفها، بل حتى التيارات السياسية والفكرية أحياناً، التي أصبح مريدوها ملتزمين بها مثل اي دين، ويعتبرون أنفسهم الوحيدين على حق، و"باقي الناس كلهم تراباً". 

كل هذه العوامل تلعب دوراً في التأقلم ضمن المجتمعات الديمقراطية العلمانية التي تفصل الدين عن السياسة.

لكن هناك العامل الاقتصادي، ففي العالم الثالث، في آسيا وافريقيا توجد فوارق طبقية بين الناس، وبين سكان المدن الكبيرة والريف والمتعلمين وغير المتعلمين، ولكل فئة ومجموعة من هؤلاء البشر ثقافتها حسب ظروفها الخاصة التي تعكس اسلوب حياتهم، فالسكن في الأكواخ والخيام وبيوت الطين والصفيح ليس كالمنازل العادية أو القصور.

المناطق السكنية الشعبية ذات الكثافة السكانية العالية مثل الثورة في بغداد والعمرانية في إسطنبول وإمبابا في القاهرة لها ثقافتها الخاصة بها وأسلوب حياة اجتماعي يميّز سكّانها، فَهُم أكثر تواصلًا مع بعضهم بعضاً، واختلاطاً، وتعاوناً، وتعاطفاً.4277 زهير شبيله

الدنمركيون ورُهاب الغرباء:

العمل ضروري للإنسان، ولا يمكن دمجه في مجتمع يدير له ظهره!

عندما يهرب الناس من بلدانهم مضطرين نتيجة الحروب أو الملاحقات بسبب معتقداتهم ليس كَمَن يُهاجر طوعاً لغرض العمل، أو ليس حتى مثل أولئك الذين يسافرون بشكل رسمي وعلني بفيزة لم الشمل وبدون المغامرات.

كل هذه الفئات تعاني في البداية من صعوبات التكيّف والاندماج في المجتمع الدنمركي العلماني الديمقراطي، بسبب عدم معرفتهم باللغة وفهمهم "البسيط" لأديانهم بما فيها الإسلام، وثقافتهم الريفية المختلفة عن مجتمع "النصارى" الغربي كما يسمّونه، وخوفهم منه بغض النظر عن تفاوت الاختلافات نسبيا بين هذه الفئات سواءًا كانوا لاجئين أم وافدين مغتربين قدموا للعمل هنا من قرى وأرياف وجبال "الدول الدافئة".

بالنسبة للعرب والمسلمين مثلاً فإنهم قدموا إلى الدنمرك بأعداد قليلة جداً في الستينات، لكن أكثرهم جاؤوا إليه بسبب الحروب من لبنان وفلسطين وإيران والعراق والصومال وأخيراً سوريا وليبيا وتونس والخ، وبالذات في فترة سقوط الاتحاد السوفييتي، وظهور الإسلام "كعدو" جديد بدلاً عن هذه الدولة الكبرى الساقطة.

انشغل الإعلام الغربي بالذات بالحركات الإسلامية وتم تصوير الأمر أحيانًا كأن كل المسلمين تربوا على العنف وكره الآخر، متطرفون وإرهابيون وأُصوليون ومتشددون ومنغلقون، وصار قسم منهم يشعرون أنهم مرفوضون من المجتمع، مقبولون فيه قانونياً فحسب. وكل شيء هنا نسبي ومتوقّف حسب قدرات الشخص المغترب أو اللاجىء وطرق تعامله مع أهل البلد، الذين هم أيضاً متنوعون ولهم انتماءات سياسية مختلفة، ومنهم يساريون متعاطفون جداً مع الغرباء، لكن اغلبهم يحترم القانون. 

وقد أكد لي المستشرق الدنمركي الدكتور يورجين بيك سيمونسن المتخصص بالإسلام، في مقابلة أجريتها معه في بداية التسعينات أنّ الإعلام الغربي يثبت قناعات الخوف من المهاجرين ويعطي صورة سيئة عنه.

لم يكن سوق العمل الدنمركي  مستعداً ولا راغباً حقاً كما يجب، في استيعاب مئات المتعلمين والأساتذة الجامعيين من الأجانب القادمين من "البلدان الدافئة" أو "غير الغربية"، وأصبح ليس من السهل عليهم الحصول على العمل باختصاصاتهم الدقيقة وشهاداتهم الجامعية العليا، بمن فيهم أحياناً الأطباء واطباء الأسنان الذين اضطروا لبذل جهود ٍ كبيرةٍ ولعدة سنوات كي يحصلوا على عملٍ وتستوعبهم المؤسسات. على العكس من ذلك لاحظتُ من خلال عملي مع الأوكرانيات والأوكرانيين أن الأمر يختلف تمامًا حيث تحركت مؤسسات الدولة كلها من الحكومة حتى أصغر دائرة فيها من أجل استيعابهن (هم) في سوق العمل، وقبل تعلّمهن لغة البلد الدنمركية!

كنّا نكرّرُ الحديث عن دور العمل في تأقلم الغرباء في المجتمع، ولكي يشعروا أنهم جزء فاعل منه. وإلا فكيف تحصل هذه العملية بشكل إيجابي في مجتمع يخذلهم! العمل حق وواجب وضروري لمن يريد ذلك، كالهواء ومَن لا يعمل لا يأكل. نقصدُ هنا طبعًا أولئك القادرين على العمل وليس الذين يعانون من إعاقات وأمراض عضوية ونفسية تمنعهم عن الدخول في سوق العمل.

هذه الصعوبات أو العراقيل تعيق اندماج هؤلاء البشر، فالعمل ضروري للمتعلم بالذات، ولا يمكن دمجه في مجتمع يدير له ظهره ويحرمه من أهم شيء لدى الإنسان.

ومع ذلك هناك أمثلة إيجابية رائعة وساطعة تبين نجاحات حققها اللاجئون العصاميون أصحاب الشهادات العليا من الجيل الأول، حيث تعلموا اللغة وعادلوا شهاداتِهم واستخدموها، بالذات الأطباء، حتى وإن لم تُفدهم من حيث تحديد الراتب الشهري في التوظيف، ومنهم من أضطر إلى تغيير مهنهم حسب فرص العمل في هذا البلد. ولهم دور كبير في عملية الاندماج والدفاع عن ثقافة المجتمع الديمقراطية.

بالنسبة للحرفيين من الميكانيكيين والعمال والطباخين والمنظفين، فالأمر أسهل بكثير من الخريجين الجامعيين لتوفر فرص عمل لهم في السوق الرسمي أو الموازي "الأسود".

بل إن أغلب هؤلاء اندمج في المجتمع بأقل خسارة شخصية معنوية، ويمكن أن نقول إنهم حققوا أمنياتهم وأحلامهم في ورشاتهم ومطاعمهم التي تمثل طموحاتهم، وإنهم أحياناً أكثر انفتاحاً على المجتمع الدنمركي من بعض اصحاب الشهادات العليا العاطلين عن العمل، بحكم تواجدهم في سوق العمل وتواصلهم مع زبائنهم الدنمركيين وغيرهم الذين يتعاملون معهم بلطافة وأريحية طالما أنهم يقدمون لهم خدماتٍ جيدةٍ مقابل أجورٍ أقل من الآخرين.

وَهُم في حقيقة الأمر مرتاحون نفسياً حيث حصلوا على العمل الذي يطمحون له ولديهم جواز سفر يمكنهم من دخول اغلب بلدان العالم، وربّوا أبناءَهم وبناتهم في ظروف ماديّة أفضل تختلف كثيراً عن ماضيهم وطفولتهم القاسية. 

إنهم ممتنون للدنمرك الذي وفر لهم كل هذه الظروف! وفي النهاية تبين التجربة أن اغلبهم اندمج وتأقلمَ بهذا الشكل أو ذاك بمرور الزمن في المجتمع الدنمركي.

الاندماج هنا لا يعني تخلّي الشخص عن ثقافته ودينه وتقاليده، فهناك أصوليّون متزمتون لكنهم متأقلمون في بعض البلدان الغربية، والأمثلة كثيرة. من الضروري هنا التمييز بين التأقلم والتكيّف، والاندماج، والتماهي، والانحلال.

أما ابناء الجيل الثاني أو الثالث من اللاجئين فأصبحَ من السهل أن نجدَ بينهم الأطباء والمهندسين والعمال والميكانيكيين والبنائين، وفيهم الأخيار وقليل من الأشرار بالتأكيد.

لكن تبقى الخلفية الاجتماعية وثقافة الشخص هي التي تعكس طبيعة انطباعات كل إنسان عن بلدهم الجميل الجديد الذي اسمه الدنمرك.

مرة من المرات سألتُ أحد اللاجئين الشباب البسطاء للغاية من المعوقين قليلاً القادم من بلد مليء بالحروب والصعوبات:

-  ما رأيك بالدنمرك؟

أجابني مبتسماً على الفور وبمنتهى السعادة:

-  الدنمرك بلد يجنّن! شمعه وكأس وحبيبه!

هكذا لخص رأيه بكل بساطة بالدنمرك الجميل! هذه هي مشاعره عن الدنمرك، إنه سعيد للعيش فيه! لِمَ لا ؟ إنها بالنسبة له هبة من ربِّ العالمين!

نعم، لِمَ لا؟ إنه إنسان ضعيف، يُعامل كطفل مدلّل هنا في بلد الرفاهية، يحصل على كل الامتيازات الضرورية ويلقى أرقى معاملة لم يحلم بها طوال حياته في بلده حيث الحروب والفوضى، بينما في نفس الوقت، يمكن أن نجد شخصًا آخر من نفس بلاده من حملة الشهادات العليا، يعاني من البطالة طوال حياته  ويشعر بالكآبة والإحباط، وقد يعتبر الدنمرك "سجناً كبيراً مرفهاً" بالنسبة له.

نعم، النظام الاجتماعي هنا يهتم بالضعفاء، ويوفر لهم كل الرعاية بينما قد يصعب أحياناً دعم المتعلمين المؤهلين. 

الدَنْمَرك بلد صغير وجميل، قوانينه علمانية، لكن الشعب يحتفل بأعياد مسيحية دينية، ثقافته مسيحية، شعب طيب وصل إلى مستوى عالٍ من التطور، ولهذا هناك من يرى أنه مِن "حقه" أن يخاف من الآخر القادم من بلدان العنف ويتحفظ.

وهنا اتذكر قصة "اضطراب في الضواحي" للكاتب الدنمركي الراحل لايف باندورا، كيف يصور الخوف من الغريب في المجتمع الدنمركي.

نقرأ في هذه القصة نهاية ساخرة مؤلمة عن رجل غريب (أفريقي المظهر) يسكن في قرية مع الدنمركيين، يقولون عنه: "ها قد أيقظناه وقلنا له، بأننا كنا بالتأكيد نعرف بأنه من آكلة لحوم البشر- لا يمكنه أن يخدعنا. عرفنا ذلك منذ اليوم الأول عندما جلس في قطارنا. وهكذا فقد قتلناه وأكلناه".

  Lief Pandura, Uro i forstæderne, 1962

المجتمع الدنمركي لم يعد منسجماً كالسابق، فقد تغيّر وتطوّرَ كأي تكوين بشري آخر، وكوبنهاجن مثلاً بالذات صارت مدينة ترى فيها شباباً يتكلمون الدنمركية بدون لكنة، لكن بشراتهم مختلفة الألوان: فيهم الهجين الخليط، والشقر والبيض والسمر، والسود والصُفر، فيهم الأخيار والأشرار، المتدينون والملحدون واللادينيون وغير المتدينيين مثل بعض المسلمين الشباب في العراق مثلاً، الذين كانوا يقولون في السبعينات مازحين: "مسلم بالجنسية"، فيهم المتفتحون والمنغلقون، اليمينيون، والمحافظون والعنصريون واليساريون.

في الدنمرك كان أيضاً عندهم صراع بين اليمينيين المحافظين والشيوعيين واليساريين المتعصبين الأشداء مثلما في البلدان الأخرى، عندهم "مكسيم غوركي الدنمرك"، الكاتب الواقعي الاشتراكي مارتِن اندرسن نيكسو  Martin Andersen Niksø، وهانس شارفي Hans Scherfig  الذي يقولون عنه مازحين: "إنه كاتب وفنان وشيوعي"! 

لكن مع ذلك صار قسم منهم ( على الأقل حتّى حربي اوكرانيا وغزّه) متفتحين، يتقبلون الآخر، أو على الأقل يتظاهرون بذلك، لا أحد هنا يريد أن يُتّهم بالعنصرية، ومقولَبين مبرمَجين، ومرَّتبين بيتوتيين مشغولين بأعمالهم وحدائقهم وعلاقاتهم العائلية والخاصة ومواعيدهم والاحتفال بأعياد ميلادهم والمناسبات الكثيرة الأخرى، يعشقون المواعيد. وهُم حسب تجربتي الشخصية اجتماعيون جداً لكن طريقتهم في الحياة منظمة للغاية، وتظهر عندهم التلقائية وبعض "الفوضى" و"الانفلات" بالذات عندما تشرق الشمس، أو عندما يكون الصيف ساحراً جميلاً.

وعندما حاولت أن أفهم معنى الدَنْمَركَه أو "الدانسكهذ" قبل اكثر من ثلاثة عقود، فهمتُ أنها: تعني فيما تعني الاهتمام بالجمعيات والاتحادات وكل ما يشمل منظمات المجتمع المدني، والمدارس الشعبية العليا التي أسّسها جروندفي حيث يلتقي مختلف الناس فيها كنوع من تغيير الجو، ويتعلمون الأمور بطريقة الاسترخاء، قد تشبه أحياناً مقاهي الشرق الأوسط الأدبية والديوانيات والمضايف، وأمر آخر هو: أن الدنمركيين "يُطلعون أو يَعرضون" منازلَهم الجديدة على ضيوفهم المقربين الذين يدخلونها لأول مرة. وهو أمر غير غريب تماماً على الناس في البلدان الأخرى، حيث يقومون أيضاً بالأمر نفسه عندما يزورهم المقربون كلما ينتقلون إلى منزل جديد.

فثقافات الشعوب عمومًا إنسانية ومتشابهة لكنها متنوعة ببفي الوقت ذاته، وهنا تكمن أهميتها وثراؤها.

غالباً ما نسمع بعض المغتربين ممن يقولون مثلاً "نأحذ من الثقافة الغربية ما يناسبنا ونهمل ما لا يعجبنا" كأنهم في سوبرماركت يختارون السلع التي يحتاجونها، لكن هذا الأسلوب قد يمكن استخدامه بالنسبة للجيل الأول أو أولياء الأمور، وسيكون صعباً على الأطفال حيث سيندمجون مع اترابهم من أبناء البلد الأصليين مع بعض الاختلافات.  

ولا يمكن أن أنهي هذا المقال بدون أن أتذكر أني قرأت في التسعينات بعد احتلال الكويت رسالة مواطن دنمركي، يقول عن نفسه بأنه أقام في الكويت 19 سنة، وإنه الآن عاد إلى وطنه الأصلي الدنمرك ويعاني من الصعوبات في "إعادة اندماجه" او تأقلمه به، فقد اعتاد على حياته السابقة في الكويت رغم سخونة الجو هناك.

وإذا تحدثنا عن العنصرية هنا فلا يسعني إلا أن أتذكر قصيدة شاعر الشعب الدنمركي الساخر الإنسان الرائع والصديق عازف البيانو الراحل بني اندرسن "بلاد هانس كريستيان أندرسن"، الذي حدثني شخصياً عن معاناته وزوجته الباربيديسيه سينثيا من سلوك العنصريين العدواني تجاههما، وقد كتب رسالة في الصحف بعد أن تسلّم تهديدات من الحزب العنصري.

يصف بني أندرسن العنصريين كمجموعة كانت صغيرة ومنبوذة، لكنها تكاثرت بالتدريج ونظمت نفسها في حزب خطير. وأنا أقول هنا إن هذا الحزب وُجدَ أيضاً كرد فعل للمتطرفين والمتزمتين من ثقافات أخرى، ولهذا أكّدَ الشاعر على أننا كلنا بشر ولدينا ثقافاتنا التي نحبها ونعتز بها، وما علينا إلا الاحترام المتبادل والعمل من أجل ازدهار الدنمرك ومساعدة الدول الفقيرة ونبذ الكراهية والتعالي على الآخرين، وأورد مقطعاً منها. يستخدم الشاعر هنا في نهاية القصيدة عبارة gør vores skam til skamme

التي تعني هنا: اجعل عارَنا بلا أساس أو سبب وذريعة، أقضوا على أي تبرير وأساس لهذا الخزي من خلال القيام بأفعال مشرفه، خلّصنا من خزينا من خلال الأعمال الإيجابية! لنبرهن بأننا ليس لدينا ما نخجل منه! بأننا لسنا عنصريين!

Benny Andersen, H. C. Andersens land

-  بلاد هانس كريستان أندرسِن

-  الدَنمَرك

-  أُحتلَّ مرةً من قبل جرمانٍ مجانين

-  ويُحتلُّ قريباً من قِبَل المسكونين الدَنمَركيين*

-  بلدي تسكنه الظهور**

-  بلدي الذي دائما

-  يتهافتون فيه على

-  أحذية صغيرةٍ جداً***

-  تم الخلط بين بلدي ذي الأفق المنكمش

-  فتصوروه صُرّةَ العالم  

*

-  أيها الدنمَرك

-  بلدي المتَجَهّم

-  كُن راشداً وكبيراً

-  افتحْ عينيك

-  افتحْ ذراعيك

-  حتى نستطيع أن نرفع رؤوسنا

-  بانتمائنا لكَ.

*

-  أيها الدنمرك

-  لا تقللْ من شأنك

-  كُنْ  نموذجاً

-  قُمْ بواجبك في العالم

-  خلّصنا من عارنا

-  بحيث يمكننا أن نجدد سمعتكَ.

من ديوان: الزمان واللقلق، المجموعة الكاملة، 1998

.............

* يستخدم الشاعر نفس الفعل: المحتلون، لكن بمعنى المسكونين هم بالجن، أي المختلون وهنا يلعب بالكلمات ويقدم صوراً مختلفة.

** تسكنه الظهور، يعني الناس الذين يديرون ظهورهم للآخرين ازدراءً لهم.

*** التهافت على حذاء ضيّق وصغير جداً، وأنيق ونادر، تعبير مجازي إشارة للإسراع في الحصول على شيء ما قبل أن ينفذ، ويشير عموما إلى ضِيق الأفق والاهتمام بأمور تافهة.

***

د. زهير ياسين شليبه

 

ألف ليلة وليلة، المعروفة أيضًا باسم الليالي العربية، هي مجموعة من الحكايات الشعبية في الشرق الأوسط التي جُمعت خلال العصر الذهبي الإسلامي. وقد انتقلت القصص عبر الأجيال، وتشمل حكايات عن السحر والمغامرة والحب والخيانة. وفي هذه القصص، يسود موضوع الدكتاتورية، مع العديد من الأمثلة على الحكام المستبدين الذين يضطهدون شعوبهم ويستغلون سلطتهم.

ومن أشهر الأمثلة على الدكتاتورية في ألف ليلة وليلة قصة الملك شهريار، الذي يتزوج عروسًا جديدة كل ليلة ثم يقتلها في صباح اليوم التالي لضمان عدم خيانتها له. وهذا السلوك القاسي والاستبدادي هو مثال واضح على الحاكم الذي يحكم من خلال الخوف والترهيب، بدلاً من العدالة والرحمة. وفي النهاية، تؤدي دكتاتورية شهريار إلى سقوطه، حيث أطاحت به زوجته الذكية والحاذقة شهرزاد.

ومن الأمثلة الأخرى على الدكتاتورية في ألف ليلة وليلة قصة الملك يونان، الذي أصبح مهووسًا بفتاة جميلة جارية، واحتجزها في قصره. ويتحرك سلوك يونان الدكتاتوري بدافع من شهوته ورغبته في التملك، حيث يستخدم قوته للسيطرة على الفتاة والتلاعب بها لتحقيق رغباته الأنانية. وتسلط هذه العلاقة المسيئة والقمعية الضوء على التأثير المدمر للدكتاتورية على الحاكم والمحكوم على حد سواء.

في قصة علاء الدين، استولى الساحر الشرير جعفر على السلطة في المملكة من خلال استغلال القدرات السحرية للبطل الشاب. وتتميز دكتاتورية جعفر بملاحقته القاسية للثروة والسلطة، حيث يستغل مواهب علاء الدين لتحقيق مكاسبه الخاصة. ومن خلال التلاعب والخداع، يثبت جعفر نفسه كحاكم طاغية يفرض إرادته من خلال الخوف والترهيب.

تتناول قصة علي بابا والأربعين لصًا أيضًا موضوع الدكتاتورية، حيث يمارس الزعيم القاسي لعصابة اللصوص سيطرته على أتباعه من خلال الخوف والعنف. يحكم زعيم اللصوص بقبضة من حديد، مستخدمًا قوته لقمع واستغلال أهل المدينة. تؤدي تصرفات علي بابا الشجاعة لتحدي الدكتاتور في النهاية إلى سقوطه، لأنه غير قادر على الصمود أمام انتقام الطاغية.

في جميع أنحاء ألف ليلة وليلة، يتم استخدام موضوع الدكتاتورية لاستكشاف العواقب المدمرة للسلطة غير المقيدة والطغيان. تصور القصص الحكام الذين يسيئون استخدام سلطتهم، ويضطهدون رعيتهم، ويستغلون مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية. غالبًا ما يتم تصوير الشخصيات التي تقاوم الدكتاتوريات وتتحداها في هذه الحكايات على أنها أبطال يجسدون قيم العدالة والحرية والرحمة.

على النقيض من الحكام المستبدين في ألف ليلة وليلة، هناك أيضًا أمثلة على الملوك الخيرين والعادلين الذين يحكمون بالحكمة والإنصاف. إن هؤلاء الحكام يدافعون عن مبادئ العدالة والمساواة، ويعملون من أجل تحسين أحوال شعوبهم بدلاً من خدمة رغباتهم الأنانية. ويسلط التباين بين هذين النوعين من الحكام الضوء على أهمية الحكم الرشيد وعواقب الدكتاتورية.

وفي الختام، فإن موضوع الدكتاتورية في ألف ليلة وليلة يعمل كقصة تحذيرية حول مخاطر السلطة المطلقة والطغيان. وتصور القصص التأثير المدمر للحكم الدكتاتوري على الأفراد والمجتمعات، وتسلط الضوء على الحاجة إلى العدالة والرحمة والمساءلة في الحكم. ومن خلال استكشاف عواقب الدكتاتورية في هذه القصص، تقدم ألف ليلة وليلة رؤى قيمة حول طبيعة القوة والسلطة، وأهمية مقاومة الظلم والطغيان.

***

محمد عبد الكريم يوسف

الآن دقت ساعة الصفر طبول ندرة المياه تضرب في كل مكان، منابع عيون الماء تجف شهرا بعد شهر وأسبوعا بعد آخر، النهر الكبير كاد يتوقف عن الجريان، الأسماك فيه محاصرة بين بركة وأخرى، وقد حرمت من السفر عبره نزولا وصعودا، صخور النهر سارت مكشوفة، عارية، ليس هناك ما يحجبها من أعشاب وطحالب الماء. الذين لجأوا لتعويض النقص بحفر الآبار كثرت شكواهم نتيجة نقص حاد في الفرشة المائية، فكلما تسرب الماء إلى الأسفل، إلا وبادروا بزيادة عمق آبارهم، البعض منهم استنفذ جهده وتوقف عن الحفر. حفاري الآبار قلت حيلتهم، فقعر البئر الواحد اشدت ظلمته كثيرا، وقلّ بداخله الهواء، والدليل على ذلك أن شعلة الشمعة في قعر البئر لا تصمد طويلا وتنطفئ، وذلك دليل وحجة قاطعة بأن الهواء في قعر البئر غير كافي، ومن هذا الذي يختار أن يكون قعر البئر قبره.

الكلأ في براري الصحراء التي تلف الواحة من كل جانب، شحيح وقليل في هذا الموسم ، شجرة الطلح التي تخضر أورقها وتتفرع أشواكها لم تعد كما كانت، وقد اقتاتت الجمال على ما اخضر من أوراقها بما فيها الأشواك...الجمال تأكل كل أصناف الأشواك في الصحراء بدءا من أشواك الطلح وأشواك السدر وشوك السعدان وهو شوك يمتد على سطح الأرض، ويحول مساحة منها الى دوائر مغلقة، يعلق بداخلها من نزع حذاءه، فعندما يمشي المرء حافياً على الرمال التي تنمو فيها نباتات السّعدان المثمر تنغرس الأشواك في قدمه وتبقى ثابتة، ويحتاج نزعها لجهد ومشقة، القليل من الناس من يسقط في هذا الفخ في جانب من جنبات الصحراء، فأشوك السعدان تكون هي وأوراقها لينة في فصل الشتاء ولكن بعد فصل الربيع، تتحول إلى إبر ومسامير.

 ثمرة السعدان على شكل كويرة صغيرة الحجم تحيط بها رؤوس أشواك كثيرة، وقد ورد في الحديث " وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان"   مسكين نبات السعدان هذا وقد ضرب به المثل من أجل التشبيه وتقريب الصورة، والمفارقة أن اسمه قريب من السعد والسعادة، كامن من الأولى أن يكون اسمه شوك التعسان، ولكن رغم كل هذا فنبات السعدان مهم ومفيد في غذاء المواشي في فصل الشتاء والربيع، وهو نبات معروف في الطب التقليدي.

الجمال لا تنهزم أمام مختلف أشواك الصحراء، وهي تلتهمها بشكل سهل وبسيط، ولكن فصل الربيع هذه السنة لم يترك وراءه إلا القليل من أشواك مختلف النباتات، بعد أن تساقطت كل أزهارها، نتيجة قلة وندرة قطرات المطر، قطعان الجمال التي لا تكلف أصحابها شيئا، إلا أنهم يتبعوا حركتها وهي تجوب مختلف مراعي الأشواك، سار وضعها هذه الأيام متأزم، الجمال تجوب الشعاب ذهابا وإيابا وأعناقها على الأرض حينا وإلى السماء حينا آخر، دون فائدة، الكثير منها سار نحيف الجسم والبنية، وفصل الربيع هو فرصتها، الفرصة الوحيدة في السنة للكلأ الوفير... يا الله كل البوادر تنبئ بما لا يحمد عقباه.

إذا كان وضع فصل الربيع على هذه الحالة، فهو ينذر بفصل صيف شديد الحرارة، وبشدتها أكثر، تزداد برك الماء في النهر ضيقا وانكماشا على نفسها، الحيتان بداخلها تتجمع في دوائر متقاربة، مما يجعل صغارها فريسة سهلة أمام كبارها، الضفادع لها فرصة حياة أخرى في اليابسة، ستنغمس في كثبان الرمال جانب الوادي، وهي تبذل جهدا جهيدا لتتقمص حياة السحلية (أبو بريص) إنها مغامرة صعبة، أن تنتقل من قعر بركة ماء تسمح داخلها كما تريد، وتقفز بين نقطة وأخرى... وإذا بها داخل جوف كومة عالية من الرمال...إنها مغامرة من أجل البقاء.

جريد النخل يفقد لونه الأخضر ويميل الى اللون البني، لا أثر لجداول الماء التي تخترق الواحة طولا وعرضا، الطيور التي اعتادت على أن تبلل ريشها لتقي نفسها شدة الحر، بالكاد تجد الماء الذي تشربه. جوف الواحة وسط النهار بعد الظهيرة يخلو من المارة، إلا للضرورة، الكل يبحث عن مكان يقيه شدة الحر. حرارة الصيف تنبئ مرة أخرى بخريف جاف، تمسك فيه السماء قطرات مائها، وتزداد حاجة الأرض والنبات إلى الغيت أكثر من السابق.

قبل الصيف تم حصاد القليل من سنابل الزرع والقمح، التي لم يثمر إلا القليل منها، وكل أمل أهل الواحة في الموسم القادم من الحصاد، وقد أخذ الشك البعض منهم، إلى درجة التنبؤ بأن هذا هو آخر موسم حصاد مثمر، فالقادم سيكون أسوأ، ومنهم من يمتلكه أمل كبير، بأن القادم سيكون أفضل، والكثير منهم، يقضي يومه ولا يفكر في غده كيف سيكون. 

موسم الحصاد له طقوس وعادات وتقاليد، فقبله بأشهر يعد أهل الواحة شباكهم، وهي من صناعة محلية، إذ تفتل من سعف النخيل، المختار من أنواع خاصة من جريدة النخيل، أو من سعف جذع النخيل، ذو اللون البني، ويسمى بـ(لفدام) وهو عبارة عن صفائح خشنة تلف جذع النخلة، والكثير من أنواع النخيل يستغني عنها، كلما ازداد طولا.

الشباك أنواع، منها الكبيرة الحجم للبغال والصغيرة والمتوسطة الحجم للحمير، تلقى بداخلها كمية كبيرة من سنابل القمح أو الزرع... وتحزم، ويرفعها أربعة أو ستة رجال شداد على ظهر الدابة، ويتركوا واحدا منهم لمواجهة مصيره طول الطريق الضيقة والوعرة، وهو يخطوا خطواته بحذر وهو إلى الوراء من جهة الجانب الأيسر للدابة، ماسك بالشباك على ظهرها، ومتحكما في طبيعة تأرجح الشباك يمينا ويسارا، في كامل الاحتياط بألا يميل ميلة واحدة إلى اليسار أو إلى اليمين، وإن حدث ذلك، فسيسقط الشباك على الأرض. وربما أن الدابة ستهرب ظنا منها أنها تخلصت من عبئ ثقل كبير. فأول ما ينبغي أن تحتاط منه، عندما تخسر الرهان، ويميل الشباك ميلة واحدة يمينا أو يسارا، ويأتي على الأرض، أن تمسك بالحبل جيدا حتى لا تهرب الدابة وتتخلى عنك، وتتركك وحيدا في منتصف الطريق، تحدق في الشباك وكومة سنابل الزرع بداخلة وهي محكومة بالحبال من كل جانب.

 كيف ستكون حالتك وأنت على هذه الحال؟ إنه إحساس بالخيبة، تضرب كفا بكف، تمسح قطرات عرق جبينك، تبسق على الأرض، تلعن الزمن، تحضرك لحظات ومواقف من خيبة الأمل التي عشتها مثل هذه، كان كل أملك أن تبرهن للأسرة ولأقرانك ولكل أهل الواحة، بأنه يعول عليك، وبأنك قادر على أن تصل إلى الهدف، والهدف في هذه الحالة يبدأ من الحقل والشباك قد رفع على ظهر الدابة، وينتهي بالبيدر الذي لازال بعيدا. ما هذا الحظ التعيس، قد يقولون عنك بأنه ليس من ورائك فائدة، أنت لست مثل أقرانك الأفذاذ من أهل الواحة... كثيرة هي الإيحاءات التي تسيطر عليك وأنت على هذه الحال... لكن عندما تخطو بعض الخطوات في جنبات المكان، وإذا بك تسمع صدى صوت بعض الحيوانات نهيق حمار، خوار بقرة... وبعدها يعم صمت رهيب تكسره زقزقة العصافير... تلتفت يمينا ويسارا حيث لا يذهب بصرك بعيدا وأنت في غابة من النخيل، تنسى مشكلتك التي أنت فيها، ولا يهمك كيف سيكون الحل...فالذي أنت متأكد منه أنها مشكلة بسيطة حلت بيومك، أضفها إلى التي سبقت، هكذا هي الحياة.

كان عليك أن تحكم الحبل وتمنع  الدابة من الهرب، فأنت الآن بين خيارين، كلاهما سيجلب لك سخرية أهل الواحدة، إن تبعت الدابة تجري من ورائها سيسخرون منك كثيرا... ويتهامسون فيما بينهم، هذا شاب لا خبرة لديه، دابته تجري وهو يجري من ورائها، رجل فارق عقله واستحوذت عليه دابته، أنظروا إنها تفعل به ما تريد، لا خبرة لديه في ترويض الدواب، ذوي الخبرة والترويض الصحيح، لا تواجههم هذه المواقف... قد تجد من يعترض دابتك ويساعدك على الإمساك بها، ولكن كن على أتم الاستعداد لأنه سيسخر منك قليلا أو كثيرا، هناك الكثير ممن يساعدك ويقف معك بجد، دون سخرية، إلا أنه يحتفظ بسخريته لمكان آخر، وإلى لقاء آخر، قد يأتي وقد لا يأتي.

أما إن استسلمت وجلست إلى جانب شباك الزرع، وتركت الدابة هاربة لوحدها، فتلك هي السخرية بعينها. فالمارة في الطريق، تلك هي فرصتهم للتصريح بموقف مساعدتهم لك مع وقف التنقيد، يا الله بإمكاننا مساعدتك، ولكن مع الأسف دابتك هربت...وماذا عساك تفعل الآن... حدثنا كيف حدث لك هذا؟  ما كان على الشباب أن يقع على الأرض بهذه الطريقة! هل أخذتك غفوة نوم؟ أين كان عقلك؟ هل هي حالة سهو؟ ومن هذه التي أخذت عقلك؟ وهل ستبقى تنتظر دابتك لتعود إليك من تلقاء نفسها؟ أترك الشباك وأتبعها...كان الله في عونك...

أمام كثرة الأسئلة تجد نفسك عاجز عن الجواب، أي جواب أختار، هل ألقي باللوم على نفسي؟ أم ألقيه اللوم على الدابة بكونها تعثرت وسقطت ووقع ما وقع؟ بالإمكان أن ألفق لها التهمة، الكل يفعل هذا، فالجميع عند عجزهم يلقون باللوم على الآخرين، الكل يبعد المسؤولية عن نفسه في كل ما هو غير مرغوب فيه، وفي الوقت ذاته يدعي لنفسه كل ما يعلي من شأنها. أليس الناس على هذه الحال إلا النادر منهم؟

أهل الواحة يحبون السخرية كثيرا، فالسخرية لديهم جزء من حياتهم اليومية، فالكبار يسخرون من الصغار في حضرتهم، والصغار يسخرون من الكبار في غيابهم، وكل ذلك بهدف الفسحة والمرح، السخرية خطاب يجلب معه مختلف الألقاب والأمثلة، ومختلف أنواع الكناية والمجاز والتشبيه، السخرية عند أهل الواحة ليست بهدف الحط من قيمة الأفراد واحتقارهم، إنها جزء من اللغة والخطاب والتواصل بين الناس.

 والغريب أن الحياة بدورها اعتادت أن تسخر من أهل الواحة، فما تمنحهم إياه هذا الموسم، تأخذه منهم بالكامل في الموسم الآخر، والحقيقة أن الحياة لا تسخر من أهل الواحة من زاوية أنها تحتقرهم، أو أنها ترى غيرهم أفضل منهم، ولكن ذلك من باب أن أهل الواحة يشملهم قانون الصحراء، فالماء في الصحراء موضوع للسخرية.

فعندما تكون عند الظهيرة وسط النهار المشمس، في طريقك بين الشعاب وكتبان الرمال، يظهر لك في الأفق القريب متسع من الزرقة، وتقول في نفسك إنها بحيرة ماء، وتقصدها فرحا، وكلما أسرعت في الطريق إلا وابتعدت عليك تلك الزرقة، كلما اقتربت وإلا ابتعدت عنك، هذا هو السراب، إنها سخرية الصحراء التي حولت موضوع الحاجة إلى الماء إلى موضوع سخرية نتيجة فقدانه واشتياقها إليه. أما الضباب في الصحراء فهو في سخرية دائمة وهو يطوف أعلى السماء من مكان إلى آخر، وناذرا ما يتحول إلى مطر، أهل الواحة تعودوا على سخرية الضباب وهم يرونه بين الحين والآخر، ويدخلون في جدل عقيم فيما بينهم، إنها ستمطر، إنها عابرة فهي تسخر منكم كعادتها، وقد يحجب الضباب أشعة الشمس لوقت طويل، وبدل سقوط قطرات المطر، تحل محلها هبوب الرياح حاملة معها غبار الواحة ورمال الصحراء.

... يتبع....

***

بقلم/ د. صابر مولاي أحمد

كان دائم التحليق لا يتوقف في اجوائه الراقصة الا ليستأنف تحليقاته اللافتة، وكان ينتقل من زمان إلى مكان وكأنما هو يُشهد احدهما على وجود الآخر، وذلك في رحلة شك قصدت اليقين منذ خطواتها المبكرة الاولى في سديم غير مرئي وعالم اوضح ما يكون فيه مضببٌ خفيّ. بقي يتابع هوايته هذه في تحليقه الزمانيّ.. المكانيّ حتى اللحظات الاخيرة عندما شعر بوخز في وجوده.. في البداية لم يعر وخزه هذا اهتمامًا يذكر.. وبقي محافظا على عدم اكتراثه ذاك حتى لاحظ ما هو فيه احد مرافقيه في رحلته التحليقية اليومية، فهمس في اذنه طالبًا منه ان يتوجه إلى طبيبه.. فالأمر على ما يبدو ليس عاديًا كما خيل إليه.. عندها غامت الدنيا في عينيه وتفاقم وخزه.. ولم يكن امامه سوى ان يتوجه إلى طبيبه لتبدأ رحلته نحو النهاية. اربعة اشهر من المعاناة اليومية، اختتمها بالكتابة عبر الفيسبوك إلى احد اصدقائه الشعراء قائلًا: انني اعاني كل لحظة. اطلب من الله ان يضع حدًا لآلامي هذه.. لارتاح قليلًا.. لا اعرف ما اذا كان صديقه قد استجاب له وطلب له ما اراده.. غير ان ما حدث هو ان قلبه الخفاق توقف عن نبضه الدافئ.. وجاءت إليه النهاية ذات لحظة مؤلمة واضعةً حدًا لما عاناه من مواجع.

تعرد علاقتي بالفنان زياد ابو السعود الظاهر (1946- السبت 16/ 7/ 2021)، إلى سنوات بعيدة موغلة في البعد، الامر الذي يُصعّب عليّ تذكر بداياتها الاولى.. منذ كان شارع شهاب الدين في بلدتنا الحبيبة المشتركة، كانت هذه العلاقة. لا اعلم ربما ابتدأت بهزة راس من احدنا هو المهندس الفنان، عاشق التاريخ والوارث الامين لأجداده.. الشيخ ظاهر العمر واحفاده، ومستحضرًا اياه من اعماق التخييل والواقع، ليرسمه كما استمع من الآباء والاجداد وكما قرأ عنه في هذا الكتاب ذي الاوراق الصفراء المهترئة او ذاك، لقد لحقت فتنة الماضي وروعة الارث به فراح يضع الرسمة تلو الاخرى لجده العظيم وباعث الروح القومية ابان الاستعمار التركي لبلادنا، الشيخ ظاهر العمر، وزعيم عائلته، فسعى طوال ايام حياته المديدة نوعا ما ( عاش زياد 75 عاما)، لتثبيت الذاكرة عبر ادوات الرسم من قماش " كنفس".. ريش والوان، وقد لفت صنيعُه هذا انظار كل من همه الامر.. ابتداء من الكاتب ابراهيم نصرالله صاحب "قناديل ملك الجليل"، انتهاء بالعديد من الباحثين والدارسين المعنيين، مرورًا بأهال من بلدته والبلاد عامة، فسرت في شوارع الحاضر همسة تنبئ الجميع بما سعى اليه وقام به، الامر الذي ملاه بالنشوة ودفعه للمواصلة حد الزهو.. فهل هناك في العالم اروع من ان ترى رد فعل ما قُمتَ وتقوم به اولًا بأول؟

رسوماته هذه شجّعته على المضي في طريق البحث والاكتشاف وحضّته على التعمق في تاريخ اهالي بلدته مَنْ هُم من اين جاؤوا وما هي اسرارهم وانتماءاتهم، وما إلى هذه من اسئلة، ابتدأ بوضعها طيب الذكر القس اسعد منصور في كتابه المرجع الشهير عن الناصرة وعائلاتها، ولم يتوقف هنا وعند هذا وانما تجاوزه مستثمرًا مسطرته الهندسية وريشته الفنية، ليقوم بفعلٍ لافتٍ هو رسم شجرة العائلة لهذه العائلة او تلك، وهكذا انفتح باب آخر من ابواب الوجود واسراره في مغائر بلدته المقدسة ودهاليزها المغلقة.. فبعد ان فتح باب التركة الرائعة للظاهر عمر، ها هو يفتح باب الانساب العائلية في البلدة المقدّسة، وها هو يجمع المجد من اطرافه كما رأى مهيار الديلمي في قصيدته الخالدة، فيؤصل لوجوده وينتقل بعد ذلك ليؤصل لوجود ابناء بلدته مصرًا على عمق الوجود واصالة المحتد. وكنتَ انت صديقه الكاتب ترقبه اولًا من بعيد وبعد ذلك من قريب، متنقلًا من معرض فني إلى آخر ومن محاضرة عن العائلات واصولها، اشجارًا وفروعًا، يتنقل تنقل طائر محكي من بلدة إلى أخرى ومن قاعة إلى سواها، عارضًا وراويًا وكلُّ دينه وديدنه ان يقدّم شيئًا للرواية العربية الفلسطينية المهددة بالغياب والاندثار ما لم يكن هناك حول اسوارها خفر وحراس.

انك ترقبه في هذا كله تتابعه بصمت المحب وامل العاشق، فتسعى وراءه " ع الدعسة"، تشاهد ما يعرضه من صور لجدّه الاول الشيخ ظاهر العمر الزيداني، ولكل الاماكن التي ابتناها في طول البلاد وعرضها، مثل الناصرة شفاعمرو وعرابة البطوف.. ها انت تكتشف انك صرت شاهدًا على ولادة تاريخ وتراث من نوعين اخرين، فتسعى إليه لتكتب عنه ماجدًا وسليلًا لتاريخ تليد. كتابتك هذه عنه تثلج صدره ويرى فيها تتمةً لما ابتغاه من ردة فعل على ما قام به عطاء ثرٍّ غني.. وتندمج تلك الكتابةُ بغيرها من الكتابات المماثلة عنه وعن رحلته مع التاريخ تركةً وعائلةً، وتتوطد العلاقة بينك وبينه لتشمل العديد من النقرات على بابه المغلق دائمًا وابدًا، ولينفتح ذلك الباب لتستأنفا معًا رحلة ابتدأت ولم تنتهِ..

الآن وقد انطوت هذه الصفحة المعبّرة والمؤثرة في حياتك الخاصة وحياة بلدتك العامة، بإمكانك ان تقول ذهب زياد.. مضى في طريقه الابدي وانك لن تلتقي به بعد.. لا في شارع شهاب الدين ولا في غيره من شوارع بلدتك الدافئة.. لا في هذا المعرض ولا في تلك المحاضرة وانك حتى لو دققت على بابه المغلق الفَ دقةٍ ودقة فإنه لن يفتح لاستقبالك الرائع الماتع.. وسوف يبقى صامتًا.. اصمَ واخرسَ.. عندها ستتوجّه إلى ما خلّفه صديقك الراحل زياد ابو السعود الظاهر.. من اثر توزّع على اللوحة والكلمة.. لتتأكد من ان مَن ترك وراءه اثرًا.. كما ترك هو.. لا يموت..

***

كتب: ناجي ظاهر

 

المدينة تطورُ الإنسان، اللغة، لا للأحكام النمطية!

المدينة تُطوّرُ الإنسان: هنا يجب أن يُلقى اللوم بالذات على المجتمع نفسه في عدم تطور أفراده بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية والإثنية، مثل اللاجئين الجدد، فمقولة "المدينة تطورُ الإنسان" يجب أن تعطي ثمارها ونتائجها الإيجابية وإلا فالخلل ليس بالغرباء فحسب إن لم "يندمجوا" أو يتكيّفوا للبلدان الجديدة التي انتقلوا إليها لاجئين هاربين من "أوطانهم" أو مغتربين بتأشيرات رسمية لغرض العمل.

هنا تتحمل مؤسسات المجتمع مسؤوليتها تجاه مواطنيها "الجُدد" كما تسمّيهم في القواميس والقوانين، ورعاية أبنائهم  من الصغر وتأمين تربيتهم وتعليمهم، ولا يجدي التشهير بهم في الإعلام بحجة "ثقافتهم الأخرى". صحيح هناك قلّة صغيرة من اللاجئين القادمين من الأرياف ممّن كانوا يقولون في بداية قدومهم إلى بلدان اللجوء قبل أكثر من ثلاثة عقود: "كيف نربي أطفالنا بدون الضرب؟"، لكن الحال تغير نحو الأفضل بالتدريج بازدياد الوعي، لا سيما أنهم صاروا يعرفون أن الضرب ممنوع قانونياً، وقد يؤدي إلى عواقب وخيمة. 

وصارت وسائل الاتصال الجماهيري والاجتماعي والإنترنيت ذات حدّين، المفروض أن تلعب دوراً كبيراً للغاية في نشر الثقافات والاطلاع  على الآخر وبالتالي تقارب الشعوب، لكنها مع الأسف عملت عكس ذلك في عدة حالات.

هنا شَعرَ العربُ والمسلمون أنهم مستهدفون من قبل وسائل الإعلام والاتصال الاجتماعي منذ سقوط الشيوعية حتى اليوم، وانتشرت القاعدة والمنظمات المسلحة الإسلامية الأصولية والمتشددة والمتطرفة كردِّ فعل على الشعور بالظلم، وطبعاً ظهرت الإسلامفوبيا كنتيجة لتسميم الأجواء.

إن هذه الظروف غير المستقرة المتميزة بالانقلابات العسكرية والحروب الخارجية والعنف وفتاوى الجهاد في أفغانستان ومن ثم في العراق بعد احتلاله من قبل الأميركان، ثم ظهور الدولة الإسلامية أدت بالتأكيد إلى انخراط أعداد كبيرة من الشباب في الإسلام السياسي.

وصُوّرتْ الثقافة العربية على أنها سلبية إرهابية أو عدوانية و"عنفية" بسبب سلوك بعض اللاجئين العرب هنا وهناك، وطرق حل الخلافات العائلية، وتعدد الزوجات وامتهان المرأة، وختان الإناث وضرب الأطفال، في حين أن العرب يقولون عن تربية الأطفال: "لاعبهم سبعاً، علمهم سبعاً، وصاحبهم سبعاً". بغض النظر عمّن هو قائل هذا الكلام الحكيم، مع ذلك أنه جزء من ثقافة العرب والمسلمين منذ قرون، ورغم أن اولياء الأمور يحبّون اطفالهم بالفطرة، لكن ليس بالضرورة أنهم جميعاً يأخذون به، إذ إنَّ هذا السلوك يعتمد على ظروف الإنسان، بالذات اللاجىء أو المغترب ومستواه الثقافي وفئته الاجتماعية التي ينحدر منها.

وهناك تعميمات "غربية" عن الثقافة العربية، مثل: التزمّت الديني والمحرمات و"رقابة المجتمع على الفرد" سوشيال كونترول، حيث تتناقص حريته في المجتمع كلما كبر في السن. وإن الثقافة العربية لا تهتم بالتواصل البصري مع الرُضّع ولا تشجع الأطفال على "التواصل  بالعين"، والعرب يمشون مطأطئين رؤوسهم يغضون نظرهم عن الناس بسبب تربيتهم  الاجتماعية والدينية (حسب فهمهم) كما ورد في القرآن: " قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ... وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ. النور: الآية 30 - 31. 

هذه أمور نسبية ولا تخلو من المبالغات، فمن الصعب تصنيف البشر بهذه الطريقة، إضافة إلى أنها تفسّر بطريقة إيجابية عند العرب والشرقيين عموماً، فلكل مجموعة إثنية ثقافتها الخاصة بها.

وإن العرب والمسلمين يقتلون المثليين، ويمارسون "غسل العار" هنا وهناك أحياناً، قد يكون هذا صحيحاً مع الأسف الشديد، لكن مع ذلك ليس دائماً، والمثليون موجودون منذ القدم في المجتمعات العربية وثقافتهم، ولا يمكن إنكار ظاهرتهم، وهناك شِعر "الغزل بالغلمان"، لكن ثقافة العرب لا تتقبّل فكرة الاعتراف بهم قانونياً وإعطائهم حقوقهم كما حدثَ في الغرب، لكن بعد فترة طويلة من القهر والقتل، ولا يشجعونهم على تغيير جنسهم.

الشيء نفسه يقال عن الحديث عن الأمور الجنسية مع الأطفال مثلاً، ولا اعتقد كل هذه القضايا التربوية تطورت في الثقافة العربية الآن، بل تحتاج إلى  تغييرات مجتمعية.

أنا شخصياً التقيتُ بآباء غربيين لا يستطيعون الحديث مع أبنائهم عن الجنس، ولا أريد هنا ان أبدو كأني مدافع عن الثقافة العربية بأي ثمن، أو أرسم صورةً ورديةً عنها، لكن يجب أن لا نأخذ هذه الأمور بشكل حرفي وبمعزل عن البيئة الاجتماعية فالريف يختلف عن المدينة ومستوى تعليم الأفراد يحدّد أحياناً تنوع ثقافاتهم ومستوياتهم ويميّزهم عن الآخرين.

أغلب ما ذكرته أعلاه ليس مقتصراً على الثقافة العربية فحسب، بل يشمل ايضاً بعض الثقافات الأخرى ففي النيبال مثلاً هناك تعدد الأزواج الأشقاء لزوجة واحدة، تتزوج المرأة شقيقين لحفظ الميراث، أو لجميع أشقّاء الزوج الأول كما معمول به في بعض القرى الهندوسية، وهو ما يرفضه اليهود والنصارى والمسلمون. وفي أعرق الديمقراطيات الغربية يُمارَس العنف والاستغلال الجنسي ضد النساء والأطفال حتى في بعض مراكز المطلّقات المغلقة رغم الحداثة والعولمة والقوانين المدنية.

وقد اشارت الكاتبة والروائية الفرنسية الهندية كينيزي مراد Kenizé Mourad إلى التصوير النمطي بالأسود والأبيض من قبل الإعلام الغربي للمجتمعات الشرقية والمسلمة، والتركيز على مظاهر العنف في ثقافتها أكثر من الإيجابية.

ولا بد من القول إن الثقافة العربية مثلاً مليئة بأغاني الحب والغرام وقصص شهرزاد لشهريار في ألف ليلة وليلة وأقوال المحبة ومفردات العفو والتسامح والصدق، ومع ذلك هناك أخيار وأشرار وعنف وقسوة كما هو الحال في الثقافات الأخرى.

ويكفي هنا أن أذكّر بشاعر الحكمة قبل الإسلام زهير بن أبي سلمى الذي نبذ الحرب:

وما الحرب إلا ما علمتم وذُقتمُ  

 وماهو عنها بالحديث المرجّمِ

*

متى تبعوثها تبعثوها ذميمةً 

      وتضرَ إذا ضرّيتموها فتُضرمِ

إن طريقة ضرب الأطفال أستُخدِمتْ سابقاً في مختلف الثقافات بما فيها الدنمركية، ويكفينا أن نشاهد الأفلام الدنمركية القديمة لنجد أوجه شبه مشتركة مع بعض الأفلام العربية والثقافة العربية. نفس الأمر يُقال عن تعامل مختلف الثقافات مع المرأة، ومع ذلك فإن الثقافة العربية تتميز باقوال تراثية إيجابية ورائعة عن المرأة، "الجنة تحت أقدام الأمهات، و"أمهات الكتب"، وكتابات التنويري المسلم الشيخ رفاعه الطهطاوي، وكتاب "تحرير المرأة" للكاتب العلماني المشهور قاسم أمين، وقول شاعر النيل العربي الحديث حافظ إبراهيم:

الأم مدرسة إن أعددتها   

  أعددت شعباً طيب الأعراق

وقد يكون من المفيد هنا الإشارة على سبيل المثال لا الحصر إلى مجلة "المعلم الجديد" العراقية كانت منذ الستينات والسبعينات تدعو إلى نبذ العنف وضرب التلاميذ والثقافة القديمة، لكن عدم الاستقرار السياسي في البلد أعاق ويعيق التطور الثقافي.

المشكلة أن التنويرية العربية (اليقظة) كانت "عرجاء" كونها لم تكن نتيجة التطور الاقتصادي ولم تشمل المجتمع كله، بل اقتصرت على المتعلمين والمتنورين، ولا تُطبق في دولها  العربية القوانين المدنية بسبب المحسوبية والمنسوبية وهشاشة المؤسسات القضائية بالذات في الريف، وانعدام منظمات المجتمع المدني والصحافة الحرة ودَمَقرَطَةِ المجتمع. هذه هي عملياً الفوارق الجوهرية بين الثقافة العربية والغربية.

بعد الاحتلال الأميركي للعراق أصبح الحكم بيد الأحزاب الدينية والطائفية منها بالذات، أو بالأحرى المتاجِرة بالدين، وتأسست جمعيات كثيرة باسم  المجتمع المدني، لكن أغلبها وهمية أو مستَغَلَّة من قبل أحزاب السلطات، وشاعت ثقافة الفساد، وهو ما حدث في أوروبا الشرقية بعد سقوط الأنظمة الشمولية مثل ألبانيا وبولونيا وحتى تركيا كما ترى الباحثة جيني وايت.

White. Jenny B. Civil Culture and Islam. London 1996

هذا ما توصلتُ له في بحثي المكرس ل "منطمات المجتمع المدني في العراق بعد الاحتلال الأميركي"، ضمن مادة "فهم المجتمع ثقافياً"، في جامعة كوبنهاجن. السبب في هذا الخلل يكمن طبعاً في أن التطورلم يحصل بشكل طبيعي وبدون تدخل خارجي أو احتلال.

وإن العرب والمسلمين يقيمون في بقعة جغرافية مليئة بالصراعات والحروب، ولهذا لم يحصل فيها أي استقرار من شأنه أن يؤدي إلى تطور اقتصادي وبناء مؤسسات دولة مستقرة دائمة التطور كما هو الحال في اوروبا.

 وهنا قد يظهر تساؤل: لماذا إذن هذه الحروب المتعددة بين بعض البلدان والشعوب بحيث تظهر كأنها تجسد سمفونية العداوات والاحقاد بين قوميات واديان وطوائف وثقافات مختلفة كثرت منذ سقوط الاتحاد السوفييتي حتى يومنا الحاضر، والإجابة على ذلك طبعاً هو أنها لم تكن لتحدث لولا المصالح الاقتصادية وصراع الدول القوية وتدخلها في شؤون الآخرين حسب أطماعها.

فمن المؤسف أن موطن العرب الجغرافي يقع ضمن مناطق مهمة فخضعوا لسيطرة إمبراطوريات الفرس والروم، ولم يكن ظهور الإسلام بدون خلافات وحروب بين العرب أنفسهم، ثم مع الأديان والدول الأخرى، بمن فيها الأوربية فحدثت الحروب الصليبية،  والشرق الأوسط  اليوم بؤرة خلافات وصراعات عالمية بسبب موقعه وثرواته النفطية.

من الضروري أن نذكر هنا الباحث الاجتماعي الأنثروبولوجي كليفورد غيرتز المعروف بكتبه "تأويل الثقافات" و"الإسلام ملاحَظاً" قدم تحليلاً دقيقاً لدور الإسلام في ثقافة دول مثل اندينوسيا وجاوه والمغرب، واختلافه في هذه البلدان عن غيرها تبعاً لثقافاتها القديمة قبل الإسلام.

Islam Observed. Clifford Geertz

كانت هناك حالة عداء تاريخي بين المسلمين والأوروبيين تُوجتْ بالحروب الصليبية، وتكونت في الغرب أحكام نمطية سلبية عن ثقافة العرب والمسلمين، ومع ذلك سنحت لي الفرصة لألتقي بالعديد من الدنمركيين المتعلمين ممن لهم نظرة إيجابية عنها، أتذكر على سبيل المثال لا الحصر عازف الجاز الدنمركي جون تشيكاي، فاجئني بإعجابه الشديد بالغناء الشرقي وبالذات بسيدة الشرق أم كلثوم، وعندما أبديت "استغرابي" مستفزّاً له، وأنه قد يجاملني؟ أكد لي صدق أحاسيسه وتذوق غنائها، وأنه مستعد لسماعها لفترة طويلة رغم أنه لا يفهم العربية.

اللغة:

اللغة مظهر مهم من مظاهر الثقافة، فالكويتيون، مثلاً، يتكلمون نفس اللغة مع العراقيين وبلهجة قريبة ولهم نفس طريقة السخرية والمزاح وكانت شاعرتهم المشهورة الأميرة سعاد الصباح تكرس قصائدها الغزلية "لبطلها" صدام حسين أثناء حكمه وحرب السنوات الثماني العجاف، بينما كان العراقيون يموتون في هذه المحرقة، لكنه احتلَّ بلادَها وأحدث شرخاً كبيراً بين الشعبين بقيت آثاره حتى وقتنا الحاضر، ولولا ثقافتهما المشتركة رغم الفوارق لكان من الصعب جداً، بل المستحيل رأب الصدع تماماً بينهما.

لكن ما تبقى من "الاحترام" المتبادل بين الشعبين الكويتي والعراقي من خلال الفهم الثقافي للمجتمعين والابتعاد عن العنجهية  واحتقار الآخر، يمكن أن يعوض الخسارة الكبيرة وإزالة سوء الفهم بينهما بسبب الاحتلال. وتلعب هنا اللهجة المشتركة بين الشعبين وطرق السخرية والفعاليات الثقافية والنتاجات الأدبية والمسرحية وبالذات الكوميدية والفنية المشتركة دوراً كبيراً في إبراز التقارب الثقافي ولمنع تكرار الحرب.

أكتب هذه السطور وافكر الآن بالحرب القائمة هذه الأيام بين الشعبين الأوكراني والروسي اللذين يتكلمان بلغتين سلافيتين متشابهتين جداً باستثناء غرب اوكرانيا، وبالذات مدينة "الفوف"، التي يلفظها الأوكرانيون بفخر "الفيف"!

اللغة تقرب الشعوب وتوسع معارف الإنسان ومداركه وتجعله أكثر انفتاحاً على ثقافات الشعوب، "الكلمة الطيبة صدقة" كما يقول الرسول محمد والعرب عامّةً، فهي جزء من ثقافة المجاملات والمعاملات التجارية أيضاً عند كل الشعوب، وأسلوب التخاطب مع الآخرين باحترام.

وكذلك يقول الشاعر الدنمركي أووفه هاردرUffe Harder :  في قصيدته "استرجعوا الكلمة، استرجعوا اللغةَ":

باللغة يستطيع المرء أن يرسلَ إشارات إلى مسافات بعيدة،

اللغةُ هي ايضاً الطريقة التي يفكر المرء بها.

عندما تنكمش اللغة ينكمش الواقع.

وعندما "ينكمش الواقع" بالنسبة للعنصريين، أو لضيّقي الأفق من الطرفين، وعابسي الوجوه، يحصل خلل في فهم الآخر وينتهي أو يتوقف الحوار، ويؤثّر سلباً على المهمشين حتى من أهل البلد الأصليين، وطبعاً بالذات من اللاجئين والمغتربين في المجتمع لأنهم الفئة الأضعف في بداية إقامتهم في بلد اللجوء الجديد، فإن لغتهم يقل استخدامها وتضيق فرصهم فيه. فتعلّمُ لغاتِ الآخرين تقرب البشر بعضهم بعضا (من المواطنين الأصليين واللاجئين) وتسهل اندماجهم معاً وتزيد التعرف على ثقافاتهم المتنوعة والاطلاع عليها عن قرب والتخلّي عن النظرة الفوقية، وبالتالي يتحقق التفاهم بين الناس من مختلف الثقافات.

وقد قالت العرب "من تعلّمَ لغة قوم أمِنَ مكرَهم!".

ويقول الشاعر العربي صفي الدين الحلي:

تهافت على حفظ اللغات مجاهداً       

  فكل لسان في الحقيقة إنسانُ

الغرباء لا يُقبلون على تعلم لغة الموطن الجديد بدون حوافز مادية ومعنوية وشعورهم بالمقبولية والترحيب في المجتمع الجديد وسوق العمل. هذا من شأنه ان يقلص الفجوة بين مواطني البلد الواحد، "الأكثرية" تتخلّى عن أحكامها المسبقة النمطية كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، وتنفتح على "ثقافة الأقلية" ولا تخاف منها، وبهذا يتم التخلص من ظاهرة "نحنُ" و "هُمْ" من خلال الاندماج بثقافة مجتمع ديمقراطي يحترم الجميع. وهنا يجب التركيز على الاندماج وليس التماهي أو الذوبان والانحلال! فالاختلاف في الرأي ثروة وغنى للمجتمع وليس خلافاً!

السفر يلعب دورا كبيراً في التعرف على الشعوب، تحضرني هنا قصة طريفه ذكرها لي أحد المغتربين، حدثت معه في ايام شبابه، كما يقول، في محطة قطارات صوفيا عاصمة بلغاريا، حيث كان يسأل الناس فيما إذا كان  القطار الواقف سيتجه إلى روما التي رغب السفر إليها، فكان جوابهم محيراً له، يهزون رؤوسهم يميناً ويساراً كأنهم يعنون "لا"!

في النهاية أنقذته لغته الروسية التي يفهونها، وقالوا له: نعم!

ففهمَ فيما بعد أنهم بالعكس يقصدون بهذه الحركة "نعم"، بينما طأطأة الرأس تعني "لا"!  هذه الإيماءة والإشارة بتحريك الرأس بهذا الشكل جزءٌ من الثقافة البلغارية.

حتى حركاتِ الناس والإيماءات والنبرات أثناء الحديث جزءٌ من ثقافة الشعوب! 

وقد تُسبّبُ سوء الفهم، ونفس الشيء يقال عن بعض المفردات ضمن نفس اللغة أو عدة لغات، فقد تكون عادية عند بعضهم لكنها قد تُستعمل كشتيمة في لغة أخرى!

والعياذ بالله من الشتائم وسوء الفهم والتفاهم!

***

د. زهير ياسين شليبه

القسم الأول: الطعام والثقافات، شيء عن مصطلح الثقافة

الطعام والثقافات: الثقافة هي السلوك والعادات والطقوس وطريقة التعامل مع الآخرين، وطبعاً الطعام، العراقيون مشهورون بقطع السمكة من ظهرها وشواء السمك المسقوف، ويعرّضون باطنها إلى النار حتى تستوي وتكون لذيذة، وفخورون طبعاً بها، منهم من يعتبرها مستمدة من حضاراتهم القديمة.

كانت بغداد مشهورةً منذ السبعينات بمطاعم متخصصة بشواء السمك الطازج "المسقوف"، وباراتها وحاناتها ومقاهيها على شارع أبي نواس الكائن على شاطئ دجله. هذه المشهد كان جزءاً من ثقاقة بعض البغداديين وسكان المدن الكبيرة بالذات.

لكن الصورة تغيرت بسبب الحروب والحصار الذي تعرض له العراق لأكثر من عقد من السنوات، وأخيرا الاحتلال الأميركي عام  2003 وسيطرة قوى سياسية دينية، والحرب الأهلية والإرهاب، وعادت تقريباً في الآونة الأخيرة بسبب تحسن الأوضاع الأمنية.

العراقيون يتغنون بأسماك الأنهار، في حين أنها مبذولة ورخيصة لا قيمة لها في بلدان أخرى مثل المغرب لأن الناس هناك لا يستطعمونها، يسمونها "سمك الواد"، يعني النهري ويفضلون البحري عليها. ثقافة اكلات السمك مختلفة عند الشعبين المغربي والعراقي، الأول بحري والثاني نهري رغم انتمائهما إلى ثقافة عامة: عرب وبربر مسلمين.

قال لي أحد العراقيين المغتربين المخضرمين:

أنا حالياً أفضل السلمون على الأسماك النهرية العراقية، التي تذكرني بطفولتي وثقافتي، لكن الآن تغيّرت الأذواق ولم أعد أميل لها بعد سنين طويلة من الغربة، يجب أن أكون جائعاً جداً حتى أستذوقها.

قلت ذلك لأحد العراقيين الجدد من الذين كنت أترجم له، فاجأني، قال مازحاً "أنت مو عراقي، انت خائن!"، لكنه أُصيب هو ايضا بنفس "الداء" بعد عقد من السنين قضاها في بلده الجديد الدنمرك، وصار "يموت" على السلمون! يبدو أن السلمون دخل في ثقافته واندمجَ في المجتمع الدنمركي!

لكنه "برّرَ" هذا الأمر قائلاً : "إن السمك النهري العراقي مثل "البُنّي"، ليس بالضبط نفس "الكارب" الذي نحصل عليه هنا في الدنمرك، وأن أغلبه سمك أحواض! في الحقيقة حتى في العراق تغير طعمه، ساءت جودته مقارنةً بأيام زمان، يقولون لأن نهر دجلة امتلأ بجثث القتلى في الحرب الأهلية! كل شيء صار خراباً عندنا!".

لكني أقول، (والكلام لحد الآن للمغترب المخضرم): إنه التنوع والتغير والتطور الثقافي الذي طرأ على هذا اللاجئ العراقي، فتأقلم مع ثقافة بلده الجديد، الدنمرك. العراقيون يتناولون طعاماً تقليديا منتشراً إلى حد ما في مناطق جغرافية بعيدة عنه تصل حتى القوقاز مثلاً: الرز يومياً وينوّعون المرق: الباميا أو الفاصوليا والخ، إضافة إلى الأسماك والدجاج، قد تكون مرة أو مرتين اسبوعياً، ولا أتذكر أن والدتي كانت تطبخ لعائلتنا الكبيرة أكلات "شبابية" مثل اللازانية، أو أنواع السلاطات الجديدة، فهذا النوع من الطعام الجديد قد تعدّه الفتيات الشابات بعد الاطلاع عليها بفضل مجلات مصرية أو لبنانية مثل "حواء" وغيرها التي كانت تصدر في الستينات والسبعينات. هذه هي ثقافة العراقيين، لا يحبون تغيير وجباتهم بسهولة!

حتى الأكلات الشعبية المعروفة عالمياً الآن مثل "حمص بطحينه" أو "الفلافل" لم تكن منتشرة في المطابخ العراقية المنزلية في الخمسينات، فقد بدأت تنتشر في المطاعم أولا ثم أخذت الأمهات الشابات "المثقفات" التعرف عليها وإعدادها في المنازل.

الآن تنوعت الأكلات في العراق يوميا وليس في الأعياد وشهر رمضان والحفلات فحسب، وتغيرت ثقافة الطعام.

هذا هو دور الاطلاع لتذوق والتعلم والمعرفة، الذي يؤدي إلى الاندماج مع ثقافة الآخر، لكن برغبة وليس تحت الضغط أو التهديد والوعيد!

الأكل العراقي كان تقليديا يعتمد على الرز والمرق، يعكس ثقافة متأثرة بالوضع الاقتصادي والمحيط الجغرافي. لكن دائماً هناك استثناءات واختلافات، فأكلة الدولمة المشهورة يتم إعدادها بمختلف الطرق والإضافات من بلد إلى آخر، ومن مدينة إلى اخرى، بل من بيت إلى آخر، كانت تقتصر على اللهانة والسلق، اصبحت فيما بعد تشمل أوراق العنب.

والشيء نفسه يقال بالنسبة لأكلة "الكبة"، هناك كبة الموصل، وكبة حلب، وكبة البرغل، أنواع الأكلات العراقية تعكس ايضاً تنوع عدة ثقافات وتواصلها مع الآخر.

اللاجؤون والمغتربون العراقيون أينما كانوا متعلقون بأكلاتهم وتراثهم ولهجاتهم وطرق كلامهم القديمة "الجاركون، والسلانك"، الأمر نفسه يقال عن المغتربين الدنمركيين في أحيائهم المغلقة ومستعمراتهم: نيكوشيا تانديل أرّويس Nicochea-Tandil arroys في الأرجنتين، وفي سولفانح في كاليفورنيا.

فالعراق خليط من إثنيات مختلفة ومُحاط بسوريا والسعودية والأردن والترك والفرس وفيه حضارات وأديان قديمة مثل السومرية والأكدية والآشورية وعاش فيه اليهود والنصارى والمسلمون جنباً إلى جنب "بسلام" لقرون حتى تأسيس إسرائيل وبدأ الصراع في الشرق الأوسط مع الأسف.

هؤلاء ثقافتهم العامة عراقية: اللغة، اللهجة، الملبس، المأكل، الغناء، الموسيقى، الرقص، المقاهي والخ

لهذا لا يزال الإسرائيليون العراقيون، بالذات من الجيل الأول يحتفظون بجزء كبير من بعض عراقيتهم مثل الطبخ، ويؤدون أشهر الأغاني العراقية القديمة في حفلاتهم الخاصة والعامة. ومن المفترض أن يكون هذا مصدر قوة لهم من حيث المساهمة بتكوين ثقافة مجتمعية ديمقراطية.

لكن العنف صار سيد الموقف بعد "تحرير" الأميركيين للعراق لعدة سنين، ورغم ذلك يتعايش فيه الآن المسلمون وماتبقى من النصارى والمندائيين الصابئة وطوائف مختلفة بسلام حذر.

في فترة الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988 سكن في العراق العديد من المصريين المشهورين بأكلتهم المفضلة "الملوخية"، والمفروض ان تنتشر في العراق، لكن مع ذلك لم يتعود العراقيون عليها. وهي موضوعة تستحق الدراسة والبحث الإنثوربولوجي الثقافي. أنا عراقي وأحب هذه الطبخة لم استسغها في البداية، لكني بالتأكيد اضطررت لتناولها بسبب "الجوع" اثناء الدراسة خارج العراق بعيداً عن والدتي، قبل أن أتعود عليها، والآن أعتبرها من اطيب الأكلات، وأصبحت جزءاً من ثقافتي التي تعني طريقة الحياة بالنسبة لي.

شيء عن مصطلح الثقافة:

الاختلاط  بالآخرين يلعب دوراً كبيراً في التعلم والتثقف واكتساب العادات الجديدة، هذا ما حصل في عصر الأنوار فاصبح للثقافة معنى في أوروبا أوسع بكثير مما كانت تعنيه كلمة "كولتورا" اللاتينية الأصل، فصارت مفهوماً واسعاً يشمل كل ماله علاقة بالسلوك والعناية بتطوير الذات الأنا والآخر والبيئة والمأكل والملبس والمشرب، أو "الإتيكيت"، فظهرت مصطلحات عديدة مثل "الثقافة الفرنسية" ومن ثم "الألمانية" و"الثقافة الشعبية" والخ.

يمكن أن نورد هنا تعريفات مختلفة للثقافة، لكني أريد أن اقتصر بالذات على سرد انطباعاتي الشخصية لهذا الأمر وأهميته في الاختلاط والاندماج مع الشعوب الأخرى.

في اللغة العربية لم يكن لكلمة "ثقافة" بالضبط نفس معنى "كولتورا Cultura"، التي تعني في الأصل "حالة" الاهتمام بالزراعة والحقول والرعي، وصارت تعني التهذيب. عندنا أن تقول عن شخص "مثقف" يعني بالدرجة الأولى أنه مطلع على معلومات ومعارف مختلفة، وليس لها علاقة مباشرة بسلوكه اليومي وطريقة حياته، أو بالتهذيب مثلاً، لكن أصلَ معناها القديم يعني أيضاً "الصقل والاحتراف"، ويقال عنها في المعاجم: ثقف الرمح إذا قوّمه وسوّاه، ويقال "ثقف الولد، إذا صار حاذقا"… وثقف الكلام: حذقه وفهمه بسرعة". ووردت في سورة الأنفال، الآية رقم 57 في القرآن بمعنى الظفر بالشيء وتقويم الرماح والخ.

أعتقد أن كلا المصطلحين يعبر عن حالة، فعل يؤدي إلى تغييرات وتِقانات ومهارات وبالتالي سلوك وعادات وتقاليد أخرى، فمثلاً ظهرت ثقافة غناء الرعاة والصيادين والريف والمزارعين وظهر منذ غابر الأزمان الشعر الرعوي، مثل كتاب "بوكوليكا" لمؤلف الإنياذه فرجيل (يوليوس فيرجيليوس ماريو، ولد عام 70 قبل الميلاد).

Publius Vergilius Maro

وتَطوّر الرقص في أوروبا بفضل الحريات حتى وصل إلى رقصات القصور"البال" التي صورتها الروايات الكلاسيكية، وفيما بعد الباليه والخ، بينما لا يزال الرقص الشرقي شائعاً في الثقافة العربية رغم التشدد الديني، وظهرت "ثقافة الفنون" التي عكست إبداعات فئات معينة من المجتمعات.

في عصر الأنوار اهتمت طبقة النبلاء وحاشيات الملوك بتقليد الثقافات الجديدة، بالذات الفرنسية وكانوا يدربون الخدم والحاشية والمنظفين والطباخين على سلوكيات معينة مثل اللياقة والأناقة واللباقة، أُصطُلحَ عليها ب "إتيكيت"، من الألف إلى الياء: كيفية الطبخ والملابس والرقص وتناول الطعام. ظهر فيما بعد دَور الثقافة الألمانية وبدأت تنافس الفرنسية، وظهرت تعريفات كثيرة للثقافة، أقربها إليً: ماقاله عنها المسيو هيريوت  Edouard Herriot "الثقافة هي ما يتبقى لدينا بعد أن ننسى كل شيء".

Culture is what remains after we have forgotten everything else” /

واستخدم ألبرت اينشتاين Albert Einstein هذا التعريف، ويقال إنه إستعاظ بكلمة التعليم بدلاً من كولتورا في مناسبة معينة:

Education is that which remains, if one has forgotten everything he learned in school.

فالثقافة في المفاهيم المعاصرة ايضاً لها علاقة بتعلّم المرء، ولهذا يبدو الإنسان المثقف الحقيقي أحياناً كمتعلم، ومتمرس ومتحضر ومتمدن، وإذا كان على حظ من الموهبة فقد يصقلها، أو لديه شبكة علاقات عامة واسعة أو "واسطة" قد يصبح فناناً وصحفياً لامعاً إذا عرف كيف يجامل أصحاب القرار، قد يرفضها بعضهم ويعدّوها "مسح كتافات"، ويسمّوها  ثقافة التملق.

أجل، هذه سلوكيات بحد ذاتها تعكس ثقافة منتشرة في أوساط مهن معينة مثل الصحافة ووسائل الإعلام والفنون وفي دوائر الدول والوزارات، عادة ما تكون لها مسميات. بل اصبحنا نسمع كثيراً بتعدد الثقافات حتى ضمن المؤسسات، قد يحددها مدراؤها ومالكوها، ولكل بيت ثقافته. واليوم كلما تعمقنا بدراسة مفاهيم الثقافة وجدنا صعوبة الإحاطة بها كونها مفهوماً واسعاً مرناً.

صحيح أن كل مجتمع يتميز بثقافته الخاصة به، لكنها اصبحت متقاربة نسبياً، بالذات في المدن الكبيرة وفي أوساط المثقفين والمتعلمين أينما وجدوا بفعل تاثير العولمة.

هذا ما أشار إليه عالم الاجتماع البريطاني أنثوني جيدينس في كتابه "لطريق الثالث" الذي أكد على تأثير التحديث والعولمة على الحياة الاجتماعية والخاصة. فصارت اليوم الكتب الجديدة وكراسات المعلومات عن ثقافات العالم في متناول اليد بمختلف اللغات بفعل انظمة الترجمة السريعة المنتشرة.

The Third Way  . Anthony Giddens

***

د. زهير ياسين شليبه

 

وأنت قاعد على طاولتك المفضلة في المقهى تستمتع بشرب ملكة السواد. وإذا بالرشفة الأولى منها تلقي بك في أحداث ووقائع الماضي الذي ولى وانتهى. تلقي بك وأنت بين جداول الواحة تمشي بين زحام صفوف النخيل، و-أعراشه- تطل عليك من الأعلى وهي تناديك وتجذبك إليها بلونها الأحمر والاصفر والبني... موسم جني التمور في واحة درعة يبدأ مع مطلع شهر شتنبر الشهر التاسع من كل سنة، ويمتد حتى آخر أيام شهر نونبر الشهر الحادي عشر من كل سنة.

تدبير جني التمور يحتاج إلى جهد وتنظيم وتقديم وتأخير بين أنواع النمور المعلقة على أعناق أشجار النخيل. فالأولوية تكون لنوعية التمور التي توجه إلى الأسواق الأسبوعية... بعض التمور يفضل جنيها في الصباح الباكر، لأنها من النوع اللين واللزج، والبعض الآخر بالإمكان جنيه في أي وقت لكونه من النوع المتماسك، فحرارة الشمس لا تأثر في طبيعة تماسكه.

السوق حينها تحكمه عادات ولغة تواصلية بين البائع والمشتري... يعرض المنتوج معبأ في صناديق خشبية. في ساحة ما يسمى برحبة التمر، بدءا من طلوع الفجر إلى المنتصف الأول من النهار. طيلة هذا الوقت المزايدة والمناقصة بين التجار سارية المفعول هناك من التجار من يكون سخيا في الرفع من قيمة الثمن ومنهم من يتصف بالبخل ويعرض أثمان بخسة ويبادر للحط من قيمة المنتوج ويصفه بأوصاف عديدة... والغريب أن البائع يستمع له ويعرض عنه بقوله (هذا ما أعطاه الله) وتكون هذه الكلمة خاتمة الكلام.

وقد تتعالى الأصوات عندما يقبل على البائع مشتر يلح كثيرا على شراء ما يرغب فيه ولكن البائع لا يرضى بالسعر المقدم له، حينها يتدخل رجال آخرون من جهة البائع أو من جهة المشتري من أجل خلق فرصة التراضي بين الطرفين، وهي عملية اقناع للطرفين بثمن معقول حتى لا تضيع فرصة البيع أو الشراء. وعند التراضي يتصافح الطرفين بشكل علني وتستبدل حبات التمر بالأوراق النقدية مصحوبة بعبارة، (الله يربحك) عند الواحدة زوالا يكون مجمل الفلاحة بائعي التمور قد استبدلوا صناديقهم بأوراق نقدية، حينها تجدهم في ازدحام داخل جنبات مجزرة السوق لشراء لحم الخروف أو الماعز أو البقر، الكل يرغب في استبدال أوراقه النقدية بكتل من اللحم، وقد يتجه آخرون لشراء انواع من الشاي والسكر والزيت والفواكه والخضروات ويتجه البعض الآخر عند بائعي قطع الثوب...

داخل السوق يجلس البائعين جلسة القرفصاء أو واقفين، أما المشتري فهو يسير ذهابا وإيابا يترصد المدخل الرئيسي الذي يأخذ بائعي التمور إلى وسط مكان البيع لعله يجد فرصة ثمينة...  الجالسين القرفصاء وصناديق تمورهم تنظر إليهم ولعلها تعاتبهم أو تبتسم إليهم. تقرأ في وجوهم ولحاهم الكثة وعمائمهم تعلوا رؤوسهم وجلاليبهم... محن الزمن وصعابه واحتياجاته...الشباب منهم هجروا الجلباب والعمامة إلى جاكيت وسروال دجينز.

بعد الزوال تجد بائعي التمور خاصة من كان مستعجل في قضاء كل متطلباته من السوق الاسبوعي. متجهين نحو فندق الدواب الذي يتمركز حوله أصحاب حدادة الصفائح الحديدية التي يتم تركيبها على حوافر الحمير والبغال بواسطة مسامير خاصة لتجعل حوافرهم أكثر قوة على المشي والجري... فالمختص في تركيب الصفائح الحديدية على حوافر الدواب في مقام بيطري يفهم جيدا في أمراض الحمير والبغال فمنها ما يداويه بالكي والنار ومنها ما يداويه بوصفات أعشاب خاصة.

وأنت في عين المكان يبدوا لك أنه يعج بالحركة وبائعي التمور يساعد بعضهم البعض الآخر في رفع حمولاتهم على ظهور البغال والحمير وينطلقون جماعات جماعات في العودة إلى قراهم، وعلى طول الطريق يتبادلون الاخبار فيما بينهم ويتمنون غدا أفضل وقد تطول الرحلة إلى ساعتين وأكثر، وهو وقت كافي لمن يجيد متعة الكلام ونقل مختلف الأخبار، التي يتعلق الكثير منها بوقائع وأحداث أهل القرية بين، من أقبل على الزواج وبين من طلق زوجته، وبين من دخل في خصام مع أهله، وبين من خسرت تجارته... ومتعة في الوقت ذاته لمن يجيدون الاستماع، ويلقون بين الحين والآخر بكلمة أو بضعة كلمات، بهدف إثراء الحديث و اتساع مساحو الكلام. وفي طريقهم لا يغفلون وتبادل مختلف الأخبار التي سمعوا بها عبر الإذاعة، حول ما وقع عبر العالم.

وقد تستغرق الرحلة ربع أو نصف ساعة إن كانت على سيارة الأجرة التي يتكدس بداخلها جمع كبير بين الناس بين الجالس والواقف والمنحني، أما سطح السيارة فعليه بضاعة كثيرة من مختلف حاجيات وأغراض المتسوقين، ويركب إلى جانبها من ليس من حظه ان يجد مكانا له داخل السيارة... أهل الواحة من بائعي التمور لا يعرفون الادخار، إلا فيما هو نادر، ففي الأعم أن ما يجلبونه من بيع التمور، لا يغطي مختلف حاجياتهم اليومية، ولهذا فالتقشف عندهم ليس عيبا من عيوب الحياة.

ما يخشاه رجال الواحة على طول حياتهم، وقد يعدون العدة من أجله، لأن الزمن علمهم بأنه سيحل بينهم دون إذن منهم وهم في غفلة من أمرهم، إنه قدر الزيارة المحتومة والتي لا مهرب منها، فالزيارة لزائر غير مرغوب فيه وغير مرحب به إنه الجفاف. فأهل الواحة استيقنوا بأن الجفاف قد يحل لسبعة أعوام ويرحل، أليست هذه تأويلية يوسف لما رآه الملك1.  إنه القدر المحتوم، أنه قانون يعم كل فيافي الصحراء، ولهذا من الطبيعي أن يفكر رجل الصحراء في الواحة وخارجها في الماء قبل التفكير في الطعام.

الآن وأنت في رشفتك الثانية من فنجان قهوتك السوداء، وقد عدت إلى مكانك تحدق بعينيك إلى سطح الطاولة التي أمامك، تمتد يدك إلى مكعبات السكر الأبيض، تتركها جانبا، ترفع برأسك وإذا بصور متتابعة على التلفاز...يمر النادل بالقرب منك ويبتسم في وجهك تبادله نفس الابتسامة، أحدهم بالقرب منك اشتعل سيجارته... كراسي المقهى جلها فارغ... وأنت في رشفتك الأخيرة لا شيء يجذبك ويشجعك على البقاء هنا ما بين جدران هذا المقهى.

***

بقلم/ د. صابر مولاي أحمد

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية

........................

١- قال تعالى: " وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)"(يوسف)

قال تعالى: "يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)"(يوسف)

فقدت الحركة الادبية المحلية في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات، احد اعمدتها البارزين، وودعته في اليوم التالي، الى مرقده الاخير بأكاليل الورد والرياحين التي طالما احبها وتغنى بها فيما تركه من ارث ادبي قصصيّ لامس العديد منه حفاف الخلود وكرّسه منذ سنوات بعيدة موغلة في البعد، واحدًا من رواد القصة القصيرة الفلسطينية بعد قيام اسرائيل، وقد حظي الكاتب محمد نفاع (14 ايار من عام 1939- 15 تموز 2021) باهتمام واسع محليًا وعربيًا وحتى عالميًا، فاقبل القراء على مطالعة ما خلّفه من ارث قصصي غني، اقبال المدرك المحب لأهميته الادبية الثقافية، كما حظي باهتمام عربي واجنبي، تمثل في اعادة نشر قصصه وترجمتها إلى العديد من اللغات الحية، كما تمثل في الدراسات اللافتة التي كتبها عنه دارسون ذوو اهمية ومجلّون في مجال الدراسة الادبية السردية خاصة.

محمد نفاع من مواليد قرية بيت جن الواقعة في منطقة الجليل الاعلى، وقد عُرفت قريته هذه بطبيعتها ذات المناظر الفتانة الخلّابة. تلقى تعلمه الاول في مدارس قريته بعدها تلقى تعلمه الثانوي في قرية الرامة. درس الادبين العربي والعبري في جامعة القدس العبرية. تنقل بين اعمال متنوعة ومتعددة مما اكسبه تجربة وخبرة حياتية واسعة، وجعله بالتالي ذا معرفة متعمقة في مواقع قريته وتضاريسها، وقد اغتنت قصصه بأدق التفاصيل المتعلقة بقريته، مما جعله كاتبًا مكانيًا، لا سيما في قصصه الاولى والمتوسطة، حتى انطبق عليه ما قيل عن الكثيرين من الكتاب في العالم، مثل العربي المصري نجيب محفوظ الذي لم يخرج من مدينته القاهرة الا ليعود اليها. مكانية نفاع هذه منحته عمقًا موغلًا في ارض قريته وما احتوته من نبات وامكنة تحمل الاسماء الفارقة، وما عاش فيها ودب على ارضها من كائنات مختلفة. زاد في هذا العمق اطلاع واسع على العديد من النماذج الادبية العالمية لا سيما الروسية. شغل نفاع خلال حياته المديدة العديد من المواقع السياسية والثقافية، وقف في مقدمتها منصبه عضو كنيست في البرلمان الاسرائيلي خلفًا للشاعر الراحل توفيق زياد، ورئاسته لتحرير صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية العريقة، الا انني لن اتحدث عن هذا الجانب من حياته وآرائه السياسية وافضل ان اتحدث عن الجانب الادبي في حياته، هذا الجانب الباقي منه كما ارى.

الارض حبيبته

ابتدأ محمد نفاع الكتابة عام 1964، وكانت بدايته هذه مع الشعر إلا انه ما لبث ان انصرف عنه لفشله في كتابته كما صرح في احد الحوارات معه. انصرف عن الشعر ليتخصص في كتابة القصص القصيرة، وقد ترك في مجال السرد القصصي والروائي عددا من الاعمال الادبية منها:

1. العودة إلى الأرض (قصص)، 1964.

2. الأصيلة (قصص)، دار عربسك، 1975.

3. ودية (قصص)، الأسوار، عكا، 1976.

4. ريح الشمال (قصص)، الأسوار، 1878.

5. كوشان (قصص)، عكا، 1980، القاهرة، 1980.

6. الذئاب (قصص)، مرج الغزلان (رواية)، عكا، 1982.

7. وادي اليمام (قصص).

8. خفاش على اللون الأبيض.

9. أنفاس الجليل (قصص)، 1988.

10. فاطمة (رواية)، منشورات راية. حيفا،2015.

بذور قصصه

البدايات القصصية الاولى لكاتبنا الراحل، تمت كما سبق في اواسط الستينيات، وقد تزامنت مع طلائع هامة في كتابة القصة القصيرة المحلية، في مقدمتها الكاتبان محمد علي طه وزكي درويش، وقد لفت نفاع النظر منذ البداية مع ان لكل من هؤلاء الكتاب الثلاثة طعمه، رائحته ولونه، وكانت الميزة التي ستتجلى فيما تركه محمد نفاع من انتاج قصصي، هو ذلك التعلق بالأرض والالتصاق بها عُمق التماهي معها، والفريد ان كاتبنا عاش قريته المعروفية بكل عمق وصدق منطلقًا من روح شعبية وتراث اسطوري خصب، وهو ما انتشر في قصصه حد المبالغة احيانًا، وقد دفعت خصوبة فقيدنا هذه الشاعر الصديق الراحل ايضًا سميح القاسم إلى أن يمتدحه وهو يستقبل عام 1968 احدى قصصه ابان عمله محررًا لمجلة "الجديد" الحيفاوية، بقوله لكاتب هذه السطور: هذا كاتب هام جدًا. انظر إليه كيف يصف عزف الراعي الفلسطيني على شبابته بانه راح ينجر عليها. هذه المواصفات التي ميّزت كاتبنا دفعت الشاعر القاسم لان يطبع ضمن منشورات "عربسك" الخاصة به، المجموعة القصصية الهامة لكاتبنا الرحل وهي "الاصيلة" . ولم يكن القاسم هو المفتون الاول بقصص فقيدنا وانما امتدت هذه الفتنة لتشمل قطاعات شعبية واكاديمية واسعة النطاق كما سلفت الاشارة.

اليوم وانا اعود بالذاكرة إلى النتاج الادبي القصصي لفقيدنا اتذكر قصصه: خفق السنديان، الاصيلة، ودية والداغ علاماتٍ فارقةً في قصتنا العربية المحلية، وارى فيها روحًا ادبية شعبية تستمد نسغ حياتها وكينونتها من اعماق بلادنا وانسانها المتطلع الى الحرية والمحبة، روحًا وصلت إلى آماد بعيدة الغور وذات اعماق سحيقة في اليومي والاسطوري ايضًا، وهو الامر الذي جعلني اعيد نشرها في اكثر من كتاب ومجلة ادبية على اعتبار انها من روائع قصصنا المحلية.

محمد نفاع.. باق في الوجدان والذاكرة..

***

ناجي ظاهر

المتفق عليه أن الفنون الجميلة هي منار العقل ومصباح النفس والباعثة على الاطمئنان إلى الصفاء الروحي، وهي الصحيفة النقية الصافية في حياة الإنسان المتطلع إلى المثل العليا .

يخطئ من ينبري عند البحث والدراسة عن بدايات تأسيس الحركة التشكيلية أن يجرؤ على استبعاد جيل الروّاد الأوائل صنّاع الفن الحديث الذين فتحوا المجال أمام اسهامات مؤسسات رسمية ونقاد لمواكبة إبداعاتهم الفنية ونشرها ، إن تعظيم جيل الروّاد هو اعتراف بجميل جهودهم وتقدير عميق لفضل تحملهم عناء المبادرة ، إنه تعظيم تفرضه مبررات واقعية تسعى كل الدول من أجل ترسيخ تقاليده والاحتفاء به لبعث مشاعر الاعتزاز ، ولضمان تنميته ووجوده في إطار الوعي به، وإثراء الحركة الفنية بالقراءات والتحاليل لتأريخ الفن التشكيلي في مختلف الدول فتتوارثه الأجيال، لقد كانت جهودهم محطة مفصلية لنقل الشعوب إلى زمن جديد من رقة الاحساس ورقي التفكير وارتقاء الإبداع، من خلال البراعة في رسم لوحات خالدة ، ناطقة عن سحر البيئة ومدى أصالتها وثرائها البيئي المميز، هي رسومات للحب وللوطن وللمرأة تتحدث فيها الرموز لغة تشكيلية مليئة بالإيحاءات الرمزية التي تحمل الأبصار إلى حركية تلتقي فيها الأشكال بسحر الألوان فيترجمها كل ناظر إليهاعلى طريقته إذ هناك من يستعمل الألوان لتفريغ الهم الاجتماعي.

لقد كان الفضل السبق التاريخي في هذا المجال أثره في تنمية الحس الجمالي ونشره للارتقاء بالذوق الفني ، إنه فضل يضع كل من ينكره في إطار التطاول القميء والنكران القبيح لرموز أسست  بعرقها ودمها وروحها الحركة التشكيلية الرائدة ونشرت الثقافة الفنية وساهمت في إنشاء أقسام الفنون الجميلة في المعاهد والجامعات وأثرت المكتبات بالكتب المتخصصة واستقبلت كثير ممن هم اليوم يجحدون!!

قيمة الفنون الجميلة تنبع من ذاتها،إنها البحث عن الطريق الجمالي لإيصال المعلومة للمجتمع ،لذلك فهي تنشأ بطابع محلي عفوي ، صافي، معبرة بصدق عن واقع حي وعيش قائم وحياة تدب في الأرجاء. وروح الفنان الموهوب يعكسهاحجم الإبداع المستغرق في عمله الفني  صدقا ووحيا وإلهاما، وقد نعجب للشخصية القوية المؤثرة للفنان ذو المزاج الأكثر حساسية ، المتمتع بدراسة أكاديمية جادة للطبيعة تخلق لديه ذلك الميل الفطري للبحث عن صيغة جديدة لموروثاته الفكرية وكلما كان الفنان منفتحا على حقول معرفية أخرى اتسع أفق تجربته الفنية  لذلك فهو يأبى الجمود في رؤيته لأنه يجعله لا يأبه بتغير الواقع من حوله، ولكن هذا الجمود في حد ذاته قد يعكس أيضا رغبة أكيدة وتصميم الواثق على الاستمرار في تكرار ظاهر العالم القديم في نوع من الحنين الدائم إلى زمن ما . والعمل الفني الصحيح لابد أن يكون له جانب تاريخي واجتماعي وإنساني، والأمم المصابة بقصور في حركتها التشكيلية تعاني من الأنيميا الفنية ومع ذلك فعندما تريد الخوض في مجال لا تعرفه بل وتهدف إلى تشتيته وتغييره فإنها تعرض نفسها للانتحار الفني لأنها تريد القفز نحو المجهول حيث لا يوجد امتداد لها فيه.

إن من ينبري لتسويف ماضي الروّاد يريد أن يبادر بالمقاومة الفكرية لظاهرة التعمق في الحركة الإبداعية التي فاته أن يرافقها فعمد إلى أن يقوم بتقليص أدوار صناع الفن الحديث ومساحات حركاتهم ومجال تأثير إبداعاتهم ، أنها محاولة بعيدة كل البعد عن إي ادعاء بتفحص شتى التعبيرات الفنية التي يعبر بها الوعي عن نفسه ويشتق منها السلوك ، بل تخفي سوء نية وقصور تفكير وعقدة نقص بعيدة عن الغرض الحضاري التفاعلي لحسن تصور المعاني ولاستخراج أجمل ما في الأعمال الفنية من مشاعر وتلمس أنبل ما تتضمنه من مواقف.

الفنون الجميلة أرقى ينابيع النهر الإبداعي، إنها فضاء راقي متعدد الألوان بين حالات الفرح والحزن، إنها ترسم صورة المشاعر وتلونها. والتاريخ يشكل مادة هامة بالنسبة لأي فنان ولكل مبدع ، والفن يغرف موضوعاته من ينبوع التاريخ ويرتوي من الواقع المعاش، والفنان ليس مؤرخا مكلفا بتوثيق الحقيقة ولكنه يستعمل الحقيقة التاريخية كوسيلة للتعبير عن أفكاره وآرائه وتصوراته، والفنان حر في نظرته للتاريخ ومن حقه أن يفسر الحوادث كما يشاء بما يخدم رؤيته وغايته الإبداعية، على أن الإيمان بحرية المبدع لا تعفيه من تحمل المسؤولية تجاه فنه لأنها تعني الالتزام بقيم الحق والخير والجمال، وهذه هي القيمة الحقيقة للفنون الجميلة.

***

صبحة بغورة

تظل العتابة من أروع ألوان الأدب الشعبي، واوسعها انتشارا، وتداولا بين الأجيال في ريف الديرة، ليس فقط باعتبارها جزءاً من هويّة الموروث الشعبي وحسب؛ بل لأنها تعبير شاعري مرهف، عن وجدانيات مجتمع متوهج العاطفة، بكل تفاعلاتها الإنسانية، والزمانية، والمكانية، الشجية منها، والسارة.

ولذلك لا زال الوجدان الشعبي الريفي لمجتمع الديرة، يحفل بثراء زاخر في موروثه منها، نظما واداء على الربابة .. بسبب عراقتها الضاربة في وجدانه، واستجابتها الجامحة للتعبير عن أوجاع هذا الوجدان المرهف، كلما سعرها في أعماقه لهيب عاديات الزمن.

واليوم، كعادته، اتحفنا أديب عتابة الوجع، بيج الماجد، بعتابة إبداعية في غاية الروعة والجمال، نظما وتوظيفا للمفردة الشعبية (ولف) بمختلف دلالاتها الشعبية،تعبيرا عن وجعه وحزنه الغائر في أعماق وجدانه.. الذي استعصى على النسيان بمرور الزمان، ولم يعد، بعد من فقدهم.. قابلا للمواساة .. حيث يقول فيها:

 آني وساري العبدالله ولف هم..

حزن وفراگ والضاعوا ولفهم..

تعالوا يهل المروّه والفهام..

عگبهم لا يواسينا حدى..

واذا ما تم غض النظر عن عطائه في ابداعه المتواصل في نظم العتابة،حيث يفاجئ قراءه كل يوم بجديد ..فإن إبداعه في انتقاء المفردة الأكثر دلالة في التعبير عن مراده منها لأوجاعه .. وقدرته على توظيفها ببلاغة مدهشة في عتابته، تجعل منه اديبا متميزا .. وناظما بليغا، يتجاوز بموهبته وبلاغته كل الألقاب المتداولة.. التي قد تخطر على البال، لتعطيه حقه في الوصف، الذي يعبر عن مكانته الحقيقية.. ولعل أقرب لقب يمكن إطلاقه عليه بما يقترب من وصفه حاله،معاناة وإبداعا واشجانا..هو (أديب عتابة الوجع) .. ليكون بهكذا وصف.. سليلا طبيعيا،وبكل جدارة،لأسطورة العتابة فطيم البشر ..

***

نايف عبوش

لمناسبة ذكرى استشهاد أبي الفضل العباس الأخ المناصر للإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، أقدم هذا النص!

يا أيها الليل المشع بلغة الصبر وآلام الثكالى.

أيها الجانب المشرق من العالم،

أيها الفارس الذي امتطى جراح الموت ليحمل عنوان الشهادة

يا شهامة إليها ننصت،  ندعو لعيون الصبح نردد الكلمات

أيها العطش الذي امتد ليحمل سيف الفرات

أيها الدرب الذي يمنح الصبر أوسمة الحياة

أيها النهج الذي يحمل أشرعة الألم، يتحدى خطوات الليل، يواجه طريق الحرب، ينزف بالجرح، أوسمة الكرامة!

***

عقيل عبود - سان دييغو

13/07/2024

...................

Champion of Dignity!

Akeel Abboud

On the occasion of the martyrdom anniversary of Abu al-Fadl al-Abbas, the supported brother of Imam Hussein bin Ali bin Abi Talib, peace be upon him, I present this text!

Oh radiant night with the language of the patience and pains of the bereaved.

O bright side of the world,

O knight, who rides the wounds of death to carry the meaning of martyrdom

O chivalry, we listen to it, we pray for the eyes of the morning, we chant the words

O thirst that extended to carry the sword of the Euphrates

O path that gives patience the medals of life

O approach that carries the sails of pain,

Challenges the steps of the night, faces the path of war, bleeds with wounds, the medals of dignity!

***

Akeel Abboud

San Diego,

7/13/2024

 

إيهٍ صَاحُ...

إنِّي رأيتُ الوَجدَ قد حَبِّذَ واستَطعِمَ ما في الزُّبرِ من بيانٍ بتَمام، حينَ نَبَذَ التَّهتُرَ وانفَصَمَ مِن اللغوِ ومن طَيْشَ الكَلام. وإنَّما ضبطُ ما يَلفِظُ اللسانُ يا صاحُ وما يَحتَنكُهُ من دِقَّةٍ في الكلامِ بانتِظام، لهوَ السَّبيلُ الحميدُ الوحيدُ لفَهمِي لمعانيَ الكلامِ، ولجَنيَ ثَمَراتِ الضَّادِ في الأكمام، وَلَئِنْ فَعَلَها الوَجدُ لَيَكُونَنَّ إذاً وافِرَ اللِّبِّ نافِرَ الجُّبِّ هُمَام.

وإذ لَمحتُ في وسائلِ التَّواصلِ تساؤلاً لطيفاً باهتِمام، وإذ كانَ موجَّهاً لضَليعٍ في الضَّادِ ورُبَما في سوحِهِ عَلًّام، إذ سألهُ سَائلٌ باستِعلامٍ واستِفهام؛ "لمَ قالَ النَّبيُّ القَسيمُ الوَسيمُ ﷺ؛ "بَاعَ مِن أخِيهِ بَيعًا" بإكرَام، ولمْ يقلْ ﷺ "باع لأخيهِ بيعاً"، رُغمَ أنَّهُ ﷺ الفَصيحُ المليحُ، وهوَ خيرُ الأنام. فأجابَ الضَّليعُ السَّائلَ بما قد سَطَّرتهُ في المَعاجمِ الأقلامُ، بيدَ انِّي لم أستلذّ الإجابةَ باستِجمام، وشَعرتُ كأنَّها إجابةُ تلميذٍ حفظَ ما في المنهَاج من أقسام، حفظاً غيرَ ذي فَهمٍ باستِلهامٍ وإحكام، فكتبتُ ردِّي مِن فوري للمتسائِل باحْتِدَام، ثم رحْتُ مِن بَعدُ أبحَثُ عن شَرحٍ شَافٍ للحَديثِ الشَّريفِ باستِهمَام، مُتَصَفّحاً ما في سِجلاتِ آبائيَ الأولينَ باستِلهام، فما وجدتُ ما يشفي الغَليلَ مِن أحكام، رُبَما لأنَّ فهمَ ذا التَّعبيرِ هوَ لدَى الآباءِ بَدِيهةٌ بالهام. وَلَمَّا ٱسۡتَیۡـَٔسْتُ مِنَ البحثِ سَمَحتُ لخَافِقي أن يقعدَ بينَ القَاعدينَ بانضِمام، لحظةَ نُطقِ النَّبيِّ ﷺ بكلمتِهِ الشَّريفةٍ بانسِجام، كي يَعيشَ النَّبضُ في جَوِّ البَيان حينئذٍ باستِسلام، وأحسبُ أنِّي قد فَهِمتُ الحديثَ فهماً لَطيفاً بلا جهالةٍ وبلا أوهام، وهاكَ ما استَلهمتُهُ وفَهِمتُهُ بلا ابهام؛

"إنَّ ثَمَّةَ عروةٌ وثقى تَأْصِرُ المُسلمَ على المُسلمِ هي الإسلام، قد جَعَلَتْ منَ المُحال أن يتسلَّلَ الغِشُّ لسُوقِهم في خضمِّ البيعِ وسطَ الزَّحام، أو أن يتَخَلَّلَ تجارَتَهُمُ مراءٌ وحلفٌ باختصام. وعلى البَائعِ أن يُعطيَ أخَاهُ مِمَّا لدَيهِ مِن بضاعةٍ طلبَها بوِئام، (يُعطيهُ) إيَّاهَا باسترحامٍ وليس (يبيعُهُ) إيَّاها بتفذلكٍ والتِحام، فآصرةُ العُروةِ الوُثقى تأبى وقدِ ارتقَت بهما حتى جَعلت لسانَيهما يَستَحيانِ لفظَتي "البَيعِ والشِّراءِ" بإلجام، فأبدَلَتهُما بالعَطاءِ تزكيةً للذَّاتِ وتودُّداً فيما فيهِ يَتَداولانِ بانتظام، رَغمَ أنَّ لفظَتَي "البَيعِ والشِّراءِ" لا رَيبَ فيهما ولا زَللَ، ولا فيهما عَيبٌ ولا خَللٌ ولا استِعجام، لكنِ الأمرُ ههُنا لمَّا كانَ رَهيناً بتَجَنبِ الغِشِّ في التِّجارةِ بإلزامٍ وإلجام، فقد أتَى الفَصيحُ المَليحُ ﷺ بحَرفِ الجَرِّ "مِن" لِتَضمينِ الفعلِ "باعَ" مَعنَيي "الأخذ والعَطاء" في البيعِ والشِّراءِ مَعاً بالتقاءٍ، وسَويةً باستواءِ واتِّسام، وكأنِّي بالحَديثِ يشبهُ مَعنى الآيةِ المُباركةِ "وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا" وليس "على القَومِ" أي: أنجيناهُ مِنَ الْقَوْمِ وَنَصَرْنَاهُ عليهم "نجاةً ونصراً" بإكرام، وذلكَ ليُعَلِّمَ النبيُّ ﷺ البائِعَ المُسلمَ ويُشعرُهُ أنَّهُ لا يَبيعُ لأخيهِ بل يُعطيه بابتِسام، وأنَّ أخاهُ المُسلمَ لا يشتَري منهُ بل يأخذُ باحترام، ثُمَّ يُناوِلُهُ ثَمناً مُقدَّراً كي يتمكنَ البائعُ من مُواصلةِ مِهنتهِ في السُّوقِ على الدَّوام، فلا يُفلسُ فيقعدُ على رصيفِ فَقرٍ مٌنقَعِرٍ، ولنَصيفِ درهمٍ مُفتقِرٍ بإيلام.

وها قدِ انتهى رَدِّي على ذاكَ السائِلِ باستِعلام. رُبَما كانَ صواباً، رَبَّما كانَ الرَّدُ حُطاماً من حطام؟ غيرَ أنَّهُ لأمرٌ لطيفٌ أن يُعيدَ أُسْتَاذُ اللغةِ نَشرَ رَدِّي على صفحَتِهِ الشَّخصيةِ باحترام، وبلا اعتراضٍ منهُ ولا إحجامٍ بلِ باهتِمام، وذلك هو شأنُ أهلِ العِلمِ الحَقِّ وليسَ العِلمُ الزَّقُّ بانصِرَام، فاطْمَأَنَّ قلبي لمَا أجبتُ وكتَبتُ ردَّاً بانسجام، وما زَادَني نَشْرُ إجابَتي مِعشارَ فَخْرٍ لأنِّي عليمٌ بجهالَتي في علومِ الضَّادِ بإضرَام. جَهالةٍ لمْ تزلْ قائِمةً ولن تزولَ بانفصامٍ ولا انهزام، وإنَّما النَّشرُ قد زادَني يقيناً أنَّ ضبطَ ما يَلفِظُ لساني وما يَحتَنكُهُ من دِقَّةٍ في الكلامِ بانتِظام، وأنَّ سَمعَ ما تَنفضُ بهِ ألسنةُ الأنامِ وما تَشتَبِكُ بهِ برِقَّةٍ واهتِمام، لهوَ السَّبيلُ الوحيدُ والحميدُ لفَهمِي لمعانيَ الكلامِ، ولجَنيَ ثَمَراتِ الضَّادِ في الأكمام.

فحَذارِ حَذارِ ياصاحُ مِن الهَذَرِ المَذَرِ، وحَذارِ من طَيشِ الكَلام، وخُذْ آيةَ "مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" بقوةٍ واهتمام وهيام، واربطِ التَّصريحَ في لسَانِكَ، واضبطِ التَّلميحَ في وجدَانِكَ بينَ الأنَام، وتَذَكَّرْ أنَّ التَذَوَّقَ لثَمَراتِ رَحْو المَعانيَ في الكلامِ لا يَسْتَلْزِمُ التَّفوّقَ في غَمَراتِ نَحْوِ المَباني أحكامِ بتَمام.

دَعْكَ يا ذا عزٍّ مِن طَيْشِ الكَلام ..

دَعكَ منه!

***

علي الجنابي

قبل البرتغاليين ب 2000 عام، أبحر الفينيقيون وطافوا حول أفريقيا مجتازين مضيق ال مليكارت (وهو إسم وضعوه هم بانفسهم)، وقد أسماه الاغريقيون لاحقا بمضيق هرقل، وأسماه العرب جبل طارق، ومنه تابعوا دورانهم حول رأس الرجاء الصالح، حتى بلغوا البحر الاحمر، وداروا كذلك حول مايسمى ب (الخليج الفارسي) وأسسوا مدنا تحمل الاسماء ذاتها ك اوتاد وتيرو (صور أو ثور) وسيدون (صيدا)، مما يؤكد ان الفينيقيين لم يكونوا الامة البحرية الاولى في التاريخ فحسب، بل أنهم أول امة هاجرت في البر وفي البحر.

سفنهم المكونة من طبقتين: الطبقة العليا منها مخصصة للركاب والسفلى للمجذفين، كانت تتميز بسعة أقبيتها وبمؤخرتها التي تشبه هيأة هلال، وبمقدمة فوهة خرطوم، وكانوا يعتمدون على شراع واحد يبسطونه عندما ترسو السفينة في الاجواء السيئة ويفترض على حسب صور الأواني المقارنة، أن الاغريقيين نسخوا هذا النوع من السفن وعلى الاسلوب نفسه، كان أسطول سفن الملك سليمان التي شيدها أولئك البحارة العارفون بالبحر، في إشارة للفينيقيين إذ بعث ملكهم حيران ملك صور الى سليمان بجزء من أسطول سفنهم.

ومن غير طموح سياسي كبير، بنى الفينقيون وأسسوا مستوطناتهم التي وصلوا اليها بصمت ومن غير إثارة لأية شكوك، كانوا يتكيفون مع أي مناخ جديد، وهم إذ يدخلون أبجديتهم وبضاعتهم وعوامل حضارتهم في العديد من الافاق التي كانوا يكشفونها فإنهم يربطون من خلال جذورهم البحرية، المستوطنات الجديدة بالمدن الأم المنتشرة على السواحل الشرقية للبحر المتوسط.

وبهذا وبعد إقامة ومدن في دلتا مصر وسواحل سيليسيا واليونان وقبرص وصقلية وسردينيا إضافة الى شمال افريقيا وأسبانيا فأنهم يشكلون من هذا البحر بحرا حقيقيا هو (البحر المتوسط).

وثمة دلائل مدونة في الكتاب المقدس (التوراة) تؤكد أن الفينيقيون يستوردون فضلا عن الذهب والرصاص، القصديرعن طريق المقايضة بالفخار والملح والبخور والقماش والفاكهة والزجاج وأواني البرونز وصولا إلى المكان الوحيد لوجود القصدير: جزر سيلي الواقعة في المحيط الهادي على بعد 40 كيلومترا من أنجلترا وشبه جزيرة كورونوول الواقعة أقصى الجنوب الغربي من هذا البلد بين قناة بريستول وبحر المانش ، وصولا الى سواحل غروند لانديا التي تعد نهاية العالم كما يراه القدماء ، مما يؤكد الدخول العميق للفينيقيين – كما لم يحدث لأي من شعوب العصور القديمة – في المحيط الذي أسماه العرب لاحقا (بحر الظلمات).

***

رنا فخري جاسم

 

"الأرض الخراب" للشاعر ت. س. إليوت عمل رائد في الشعر الحديث يعكس التفتت وخيبة الأمل واليأس في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى. القصيدة عبارة عن نسيج معقد من الأصوات والصور والإشارات التي ترسم صورة قاتمة لعالم في حالة انحدار. وفي حين يُنظر إلى القصيدة غالبا على أنها نقد للحاضر، إلا أنها تحتوي أيضا على عناصر تشير إلى رؤية للمستقبل.

أحد الموضوعات الرئيسية في الأرض الخراب هو فقدان التقاليد وتفتت الثقافة. القصيدة مليئة بالإشارات إلى الأعمال الكلاسيكية والأدبية، والتي غالبا ما يتم وضعها جنبا إلى جنب مع صور الاضمحلال والدمار. يشير هذا التجاور إلى مستقبل تم فيه نسيان الماضي أو التخلي عنه، ولم يتبق سوى حاضر مجزأ وفارغ. يمكن اعتبار السطر الافتتاحي الشهير للقصيدة، "نيسان هو الشهر الأكثر قسوة"، تعليقا على فقدان التقاليد وتآكل القيم التي كانت تربط المجتمع معا ذات يوم.

من الموضوعات المهمة الأخرى في قصيدة الأرض الخراب البحث عن المعنى في عالم يبدو خاليا من الغرض. القصيدة مليئة بمجموعة من الشخصيات الضائعة والمربكة والخاوية روحيا. ينعكس البحث عن المعنى في الأصوات المتعددة التي تتحدث طوال القصيدة، كل منها يبحث عن نوع من الاتصال أو الفداء. يشير هذا الشعور بالفراغ الروحي إلى مستقبل حيث تنجرف البشرية، دون بوصلة أخلاقية إرشادية.

تحتوي الأرض الخراب أيضا على عناصر من النبوءة والصور الكارثية. القصيدة مليئة بالإشارات إلى الدمار والموت والبعث، مما يشير إلى مستقبل يتم فيه اجتياح النظام القديم لإفساح المجال لشيء جديد. يحتوي القسم الأخير من القصيدة، "ما قاله الرعد"، على سلسلة من النبوءات الغامضة والغامضة التي تلمح إلى مستقبل حيث يكون الفداء ممكنا، ولكن فقط من خلال عملية التدمير والتجديد.

من نواح كثيرة، يمكن النظر إلى قصيدة "الأرض الخراب" باعتبارها حكاية تحذيرية حول عواقب إهمال الماضي والفشل في إيجاد المعنى في الحاضر. تعكس البنية المجزأة للقصيدة الحالة المجزأة للمجتمع، حيث يكون الأفراد معزولين ومنفصلين عن بعضهم البعض. المستقبل الذي يتصوره إليوت هو المستقبل الذي فقدت فيه البشرية طريقها، ويجب أن تخضع لعملية تجديد روحي من أجل العثور على الخلاص.

على الرغم من نبرتها القاتمة واليائسة، تقدم قصيدة "الأرض الخراب" أيضا بصيصا من الأمل للمستقبل. تنتهي القصيدة بصورة الملك الصياد، وهي شخصية من أسطورة الملك آرثر جريح ولكنه ليس ميتا. تشير هذه الصورة إلى أن الخلاص لا يزال ممكنا، حتى في عالم يبدو خاليا من المعنى. يمكن النظر إلى السطور الأخيرة من القصيدة، "شانتيه شانتيه شانتيه"، كصلاة من أجل السلام والمصالحة، ودعوة لمستقبل يمكن للبشرية أن تجد فيه الوحدة والانسجام.

تقدم قصيدة "الأرض الخراب" رؤية معقدة ومتعددة الطبقات للمستقبل قاتمة ومفعمة بالأمل. تعكس القصيدة تفكك المجتمع والبحث عن المعنى في عالم يبدو خاليا من الهدف. وعلى الرغم من تصويرها القاتم لعالم في حالة انحدار، فإن قصيدة الأرض الخراب تشير أيضا إلى أن الخلاص ممكن، إذا كانت البشرية على استعداد للخضوع لعملية التجديد الروحي. تشير صور القصيدة للدمار والبعث إلى مستقبل يتم فيه اجتياح النظام القديم لإفساح المجال لشيء جديد. في النهاية، تعد قصيدة الأرض الخراب تأملا قويا في تحديات وإمكانيات العالم الحديث، وتذكيرا بأنه حتى في أحلك الأوقات، هناك دائما أمل في مستقبل أكثر إشراقا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

صادف أن نزلتُ في مناسبة من المناسبات بفندق صنف أربع نجوم وعندما دلفت إلى صالة المطعم الفسيحة لتناول فطور الصباح قابلتني الأطباق على يميني وشمالي من كل لون وصنف ومَذاق ولست أدري كيف وقعت عيناي على إحدى الزّوايا فإذا بي أرى صانع فطائر يُديرها بإتقان ثم يلقيها واحدة تلو واحدة في الطاجن ويتعهّدها بعد ذلك بالسّفود فتقدّمت إليه وبعد التحية والملاطفة سألته هل هو من بلد غمراسن المعروف بصناعة الفطائر والزّلابية والمخارق فقال إنّه حذق أمرها لدى أحد صنائعي غمراسن ثم سألني هل أنا من أهاليها فقلت نعم فزاد في الحديث معي وسألني كالمختبر قائلا لابدّ أنك تعرف قَلي الفطائر فأجبته باِعتزاز نعم فتعجّب من أمري وأراد أن يمتحنني فقال إذن خُذ هذه العجينة من يدي وأدِرْ فطيرتك بنفسك إن كنت من غمراسن حقا !

ووجدت نفسي أمام اِمتحان عظيم لم أتهيّأ له طيلة حياتي ويجب أن أنجح وأفوز بالتحدّي وفي تلك اللحظة تذكرت صباي عندما كنت أذهب صباح كل يوم أحد إلى والدي فكنت أراقب تفاصيل حركاته وهو يقلي الفطائر في دكان جدي بشارع الحرية في العاصمة تونس .

قبل أن أهُمّ بتناول العجينة من صاحبي غمستُ أصابعي في طسْت الماء بجانبه كي لا تلتصق العجينة بأناملي فاِبتهج صاحبي وقال يبدو حقّا أنّك عارف بهذه الحرفة وهو لا يدري أن هذه أوّل مرة ألمس فيها عجينةَ فطيرةٍ فأخذتها منه بأنامل يدي اليمنى وسُرعان ما ملّستها بضربة لطيفة على كفّي اليسرى ثم أدرتها بعناية حتى اِستدارت واِستوت  حينذاك ألقيتها بحركة دائرية وسط زيت الطاجن فاِستقرت في وسطه فطيرة كأشهى ما تكون !

حينذاك لاح سرور صاحبي وقال الآن أشهد أنك من غمراسن فقلت هات السّفود إذن لأقلِب فطيرتي على وجهها الآخر ثم لأرفعها تستقطر من الزيت بجانب  الطاجن !

كانت ألذّ فطيرة في حياتي

وكان أصعبَ اِمتحان

رحم الله والدي !

ــــــــ الفطيرة ـــــــــ

تحيّة إلى الكرام من ـ غمراسن ـ بالجنوب التونسي الذين عُرفوا منذ القديم بصناعة الفطائر والمخارق والزلابية ونشروها في جميع أرجاء تونس وفي سائر بلدان العالم وقد كانوا رمز الصّدق والشّهامة والوفاء والتّضحية وبكسبهم الشّريف تمكّن أبناؤهم وبناتهم من التقدّم في سُبل العلم والمعرفة وفي مختلف الوظائف والمهن والأعمال.

فالأمل أن لا ينسى الجيل القديم وأن يحافظ الجيل الجديد على القبم ـ الغمراسنية ـ الأصيلة بما فيها من عرّة وإباء وصبر وحبّ للخير لجميع النّاس.

تَوَكَّلْ عَلَى اللّه خُذْ بِالـلُّجَـيْـنِ

أَدِرْهُ بِلَمْسٍ يَصـيرُ فَـطِيـرَهْ

*

أَنَامِلُكَ السِّـحْـرُ مِنْهَا اَلْحَـــلَالُ

بِـفَـنٍّ تَـلُوحُ كَتَـاجِ الأمِـيـرَهْ

*

بِزيْتٍ وَقَمْحٍ وَعَزْمٍ عَـجَــنْــتَ

جِـبَالا وَجُبْــتَ بِلَادًا كَـــثِيـرَهْ

*

إِلَى الرِّزْقِ تَسْعَى بِشَرْقٍ وَغَرْبٍ

 تَطُوفُ بِهَا وَنِعْمَ اَلسَّفِيرَهْ

*

لَكَمْ جَاءَكَ اَلْجَائِعُ وَاِشْـتَـهَـاهَا

هَنيئًا مَريئًا ـ مَلَاوِي ـ كَبِيــرَهْ

*

وَشَــهْـدُ اَلْمَخَارقِ مِثلُ الـزَّلَابِي

كَلَمْعِ الكَواكبِ تَبْدُو مُنِيرَهْ

*

تَرَى اَلنّاسَ فِي كُلّ شَكْلٍ وَلَوْنٍ

وَوَاحِدٌ أَنْـتَ فِي كُلّ سِيـرَهْ

*

لَـئِنْ طَوَّحَتْـنَا اَلـدُّرُوبُ فَنَحْـنُ

نَحِنُّ جَمِيعًا لِتِلْكَ اَلْـعَشِـيـرَهْ

***

سوف عبيد - تونس

 

في رواية "سيدة التوابل" للكاتبة شيترا بانيرجي ديفاكاروني، تجسد شخصية تيلو، وهي امرأة شابة تدربت على فنون التوابل الصوفية، مفهوم الحكمة بعدة طرق. تعمل تيلو كشخصية حكيمة وعطوفة لأولئك الذين يطلبون مساعدتها في متجرها للتوابل في أوكلاند، كاليفورنيا. من خلال تفاعلاتها مع شخصيات مختلفة وصراعاتها الداخلية، تنقل تيلو دروسا قيمة حول الحب والتضحية وعواقب التدخل في القدر.

أحد الموضوعات الرئيسية في الرواية هو فكرة الإيثار والتضحية. يجب على تيلو، بصفتها سيدة التوابل، أن تتخلى عن رغباتها وعواطفها من أجل خدمة عملائها والوفاء بواجبها تجاه التوابل. يوضح هذا العمل من التضحية حكمة وضع احتياجات الآخرين قبل احتياجات المرء وأهمية خدمة غرض أكبر.

تنقل تيلو أيضا الحكمة حول طبيعة الحب والعلاقات. من خلال ملاحظاتها على علاقات عملائها وشوقها للحب، تعلمت تيلو أن الحب لا يمكن فرضه أو التلاعب به. تدرك أن الحب الحقيقي يأتي من اتصال حقيقي واحترام متبادل بين الأفراد، وليس من استخدام السحر أو الخداع.

علاوة على ذلك، تعلمت تيلو من تجاربها مع التوابل أهمية احترام النظام الطبيعي للأشياء وعدم التدخل في القدر. التوابل لها قواعدها وحدودها الخاصة، ويجب على تيلو الالتزام بها من أجل الحفاظ على قوتها وتوازنها. هذا الدرس في التواضع وقبول النظام الطبيعي للكون هو جانب أساسي من حكمة تيلو.

إن تفاعلات تيلو مع الشخصيات المختلفة التي تزور متجر التوابل الخاص بها تعمل أيضًا كفرص لها لنقل الحكمة والتوجيه. من خلال محادثاتها مع هؤلاء الأفراد، تعلمهم تيلو دروسًا قيمة حول القبول والتسامح وقوة الشفاء. تساعدهم على اكتشاف الحقائق المخفية عن أنفسهم وعلاقاتهم، مما يقودهم إلى إجراء تغييرات إيجابية في حياتهم.

جانب آخر من حكمة تيلو هو فهمها لقوة الكلمات ورواية القصص. بصفتها سيدة توابل، تستخدم تيلو لغة التوابل للتواصل مع عملائها والتأثير على عواطفهم وأفعالهم. إن هذه القدرة على سرد القصص ونقل الرسائل من خلال لغة التوابل توضح فهم تيلو العميق لقوة السرد وأهمية سرد القصص في تشكيل التجربة الإنسانية.

إن حكمة تيلو واضحة أيضا في قدرتها على رؤية ما وراء السطح وفهم الدوافع والعواطف العميقة لمن حولها. لديها حدس حاد وتعاطف يسمح لها بالتواصل مع الآخرين على مستوى عميق وتقديم التوجيه والدعم لهم. إن نظرة تيلو الثاقبة للطبيعة البشرية وقدرتها على رؤية الخير في الناس حتى في أحلك لحظاتهم تظهر حكمتها وتعاطفها.

وفي الختام، تجسد تيلو، سيدة التوابل، الحكمة في رواية "سيدة التوابل" من خلال إيثارها وتضحيتها وفهمها للحب والعلاقات وقبول القدر والتوجيه للآخرين وقوة سرد القصص والحدس والتعاطف. ومن خلال تفاعلاتها مع الشخصيات في الرواية وصراعاتها الداخلية، تنقل تيلو دروسًا قيمة حول التجربة الإنسانية وأهمية عيش حياة ذات معنى ومرضية. تشكل حكمة تيلو نورا هاديا لأولئك الذين يطلبون مساعدتها ومصدر إلهام للقراء للتفكير في حياتهم وخياراتهم.

***

محمد عبد الكريم يوسف

في المثقف اليوم