أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: الحقيقة الموضوعية وفق المنظور النيتشوي؟

هل هناك وجود للحقيقة الموضوعية؟ واذا كنا بشرا مقيّدين باديولوجيا، هل بمقدرونا معرفة أي شيء حول الحقيقة؟ الفلاسفة ناقشوا هذه الأسئلة منذ الاف السنين لكن الرؤية المهيمنة كانت عموما ان عالم الحقيقة الموضوعية – حقيقة كونية منفردة – هي موجودة فعلا.

ما اذا كنا نستطيع الوصول لهذا العالم تلك قضية اخرى، ولكن وفق هذا الرأي المنطقي الى حد ما، فان الحقيقة الموضوعية موجودة بشكل مستقل عن أي تفكير انساني يتعلق بها. فمن جهة، هناك حقيقة، مهما كانت الحالة في الواقع، ومن جهة اخرى، هناك نحن، نحاول فهم ونشكّل معرفة حولها.

في كتابه (العقل،الحقيقة والتاريخ)، الفيلسوف هيلاري بوتنام Hilary Putnam يقدم تعبيرا جيدا لهذا الموقف:

"وفق هذا المنظور، العالم يتألف من مجموع ثابت من الاشياء المستقلة عن العقل. هناك بالضبط وصف حقيقي وتام "للطريقة التي عليها العالم". الحقيقة تستلزم نوعا من علاقة مطابقة بين كلمات الفكر – اشارات واشياء خارجية ومجموعات من الاشياء".

وبينما يسود هذا النوع من "الواقعية الميتافيزيقية" في الفلسفة والعلوم والأعراف، لكن في القرن التاسع عشر جاء فردريك نيتشة لإفساد الحفلة. "لا وجود هناك للحقائق"، أعلن نيتشه في قول شهير هناك "فقط تفسيرات".

وفي مكان آخر لاحظ نيتشه ان "الحقائق هي أوهام نسينا انها أوهام"، وان "الحقائق هي نوع من الخطأ بدونه لايمكن ان يعيش نوع معين من الكائنات".

اذن، ماذا يقول نيتشه هنا؟ هل هو ينكر وجود الحقيقة الموضوعية – واقع حقيقي؟ هل هو يعني ان الحقيقة نسبية؟ هل هو يوافق مع الفيلسوف اليوناني بروتوغاروس القائل "الانسان هو مقياس كل شيء"؟ هذا في الحقيقة ما تطرحه العديد من تفسيرات ما بعد الحداثة لنيتشه.

اقتباسات مثل تلك التي أعلاه، والتي اُزيلت من السياق الفكري الأوسع لنيتشه ربطت اسم نيتشه بفكرة عدم وجود حقيقة موضوعية: وان "جيد" و "رديء"، "صحيح" و "زائف"  كلها نسبية تعتمد على عوامل خارجية مثل الثقافة وعلم الاحياء النفسي والبيئة.

لهذا تحفز ما بعد الحداثويون باسم نيتشه لدعم حججهم: ذلك ان اللجوء الى "الموضوعية" هو دائما معيب، وان كل المعرفة والعالم ذاته هي مجرد بناء مفاهيمي لا ضمان او دقة له او ملائمة خارج تجربة الانسان الضيقة، وان العقل والمنطق ذاتهما صالحان فقط ضمن التقاليد الفكرية التي يُستعملان ضمنها. يرد النقاد، ان هذه النسبية الخارجية خطيرة لأنها تتجاهل كل مصادر المعرفة. اذا كانت الحقيقة غير موجودة، كيف نستطيع الحكم على رؤية مقابل رؤية اخرى، اذا لم يكن هناك معيار موضوعي حول الصح والخطأ لماذا نثق برأي طبيب مختص دون آخر لا يعرف شيئا حول البايولوجي او الكيمياء او الطب؟ لماذا نضع ايماننا في "الخبراء"اذا كان ما يتعلمه هؤلاء الخبراء ويتدربون عليه ليس له نصيب من الحقيقة؟

كيف يستطيع نيتشه الإجابة على هذه الاسئلة؟ حسنا، بينما هناك سبب جيد لتأثير أعماله على رؤى ما بعد الحداثويون والنسبيون كتلك التي أشرنا اليها أعلاه، لكن العلماء بشكل عام يتفقون على ان نيتشه لديه الكثير من القول حول الحقيقة بدلا من إنكارها كليا. في الحقيقة، ان أفكار نيتشه الصريحة والواضحة حول الحقيقة تبدو صريحة جدا لدى هكذا مفكر حاد. على مر السنين، فسر العلماء نيتشه باعتباره يقدم تفسيرا أكثر دقة وتنوعا للحقيقة قياسا بما تشير اليه أقواله المأثورة. هذا التفسير يُعرف بمنظورية نيتشه Nietzsche’s perspectivism، وبينما لايزال هناك الكثير من الخلاف حول ما ينطوي عليه المنظور حقا، لكن هناك أرضية مشتركة يمكننا من خلالها تحديد المشهد ...

منظوراتنا لا مفر منها

في عمله عام 1886 (ما وراء الخير والشر) يلاحظ نيتشه كيف فشل الفلاسفة تاريخيا في ان يأخذوا بالاعتبار محفزاتهم ومنظوراتهم عندما يعبّرون عن رؤاهم حول العالم. هؤلاء المفكرون يدّعون بمعرفة "موضوعية" أو تكهنات غير متحيزة لكنهم في الحقيقة يجلبون أمتعتهم الخاصة لنظرياتهم المقترحة. نيتشه يصرّح ان "كل فلسفة عظيمة حتى الان" – مثلا، فلسفة افلاطون وكانط – كانت بمثابة "الإعتراف الشخصي لمؤلفيها وهي نوع من مذكرات لا ارادية وغير واعية".

وفي مقطع آخر عام 1887 في (جينولوجيا الاخلاق) يكتب نيتشه: "دعونا نحمي أنفسنا بشكل أفضل من الان فصاعدا ... ضد أخطار التلفيقات المفاهيمية القديمة التي طرحت "موضوعا خالصا للمعرفة ، بلا ألم وبلا زمن ويفتقر للارادة ": دعونا نحرس أنفسنا من مخالب هذه المفاهيم المتناقضة كـ "عقل محض"، "روحية مطلقة"، "معرفة بذاتها"".

المعرفة، لايمكن أبدا ان تكون "خالصة"، حسب نيتشه، لأنه لا وجود لمخلوق قادر على الهروب من منظوره: لا وجود لكائن ابداً يمكنه الوقوف خارج اهتماماته وقدراته المعرفية.

وكما يبيّن نيتشه في مقال مبكر. (حول الصدق والكذب في معنى لا أخلاقي)، "الحشرة او الطير يتصور عالما مختلفا كليا عن العالم الذي يتصوره الانسان، والسؤال حول أي من هذه المنظورات للعالم هو الاكثر صحة هو بلا معنى تماما، لأن هذا يجب تحديده بمعيار التصور الصحيح والذي هو معيار غير متوفر".

مع ذلك، مع ان نيتشه يعتقد ان فلاسفة الماضي فشلوا في محاولاتهم للهروب من منظوراتهم، لكنه لا يرى عملهم بلا فائدة. في مقطع رئيسي عام 1887 في جينولوجيا الاخلاق، هو يكشف كيف ان "الموضوعية"ربما تتحقق في النهاية: " لا ينبغي لنا كعلماء خصيصا ان نكون جاحدين تجاه هذه الانعكاسات الحاسمة للمنظورات والتقييمات المألوفة التي ثارت بها الروح ضد نفسها لفترة طويلة ... بهذه الطريقة ...لكي نرى بشكل مختلف ، ليس بالامر السهل الانضباط وإعداد العقل لموضوعيته المستقبلية"- الاخيرة فُهمت ليس كـ"تكهنات غير متحيزة"(والتي هي سخافة وليست مفاهيم) وانما كقدرة على امتلاك المرء للتأييد والمعارضة في ارادته، وتحويلها داخل وخارج، لكي يعرف المرء كيف يجعل الفرق بين المنظورات والتفسيرات الفعالة مفيدا للمعرفة".

هذا المقطع الشهير يسلط الضوء على رفض نيتشه الواضح للمعرفة الموضوعية كما يجري تصوّرها كـ"نظرة من لا مكان" – أي، كشكل للموضوعية يتجاوز كل المظاهر الذاتية ليكشف كيف هي الاشياء حقا.

وكما يوضح لانير اندرسون R.Lanier Anderson ، يقترح نيتشه ان "المعرفة من دون وجهة نظر هي فكرة غير متماسكة كما هي الرؤية من دون زاوية نظر".

فمثلا، عندما تنظر الى بناية، انت تنظر لها من زاوية معينة. في الحقيقة، انت لا تستطيع ان ترى البناية أبدا مالم تنظر لها من منظور معين (تصوّر الان: أي رؤية لديك مثلا عن برج ايفل، تحدث من زاوية معينة، لا"وجود لرؤية عامة او محايدة او نظرة الله".وهكذا فان منظورك يجعل نظرتك للبناية ممكنة. ونفس الشيء مع الحقيقة، نيتشه يقترح اننا لا نستطيع تأمل الحقيقة بدون القيام بهذا من منظور معين. المفكرون القدماء الذين يدّعون انهم أسسوا حقيقة "موضوعية" هم ببساطة يتبنّون ما يبدو صحيحا من وجهة نظرهم.

هذا لايجعل بالضرورة ان وجهة النظر هذه خاطئة، وفي الحقيقة نيتشه يقترح انه عبر الجمع بين او الفهم الدقيق لمختلف المنظورات نحن نستطيع تحقيق تقدم في المعرفة (كلما زادت الزوايا التي ننظر منها الى برج ايفل، مثلا، كلما كانت معرفتنا بشكله اكثر اكتمالا). بكلمة اخرى، المعرفة المنظورية هي حتمية – كلنا نمتلك مختلف الاهتمامات ووجهات النظر، وتجاربنا في العالم هي في الحقيقة اصبحت ممكنة بواسطة هذه القدرات المعرفية والاهتمامات – لكن عبر الاعتراف بهذا واللعب بوجهات النظر ضد بعضها البعض، نستطيع تحقيق تقدم. ويستمر نيتشه في نفس المقطع:

"هناك فقط رؤية منظورية، فقط "معرفة" منظورية، وكلما سمحنا للمؤثرات بالحديث عن امر ما، كلما زادت العيون، مختلف العيون، نحن نعرف كيف نتعامل مع نفس الموضوع وبالتالي فان مفهومنا لهذا الموضوع سيكون اكثر اكتمالا وموضوعية".

الآن، بينما يمكن تفسير هذا المقطع كمجرد اقتراح بانه كلما زادت التفسيرات كلما كان أفضل، من المهم ملاحظة ان هذا لا يعني ان مختلف التفسيرات بالضرورة تحمل نفس الوزن. بعض التفسيرات ربما خاطئة. فمثلا، اذا كانت لديك عدة خرائط لمنطقة معينة – البعض منها يحتوي على معلومات جغرافية، اخرى ديموغرافية، غيرها ايكولوجية – عندئذ الجمع بين هذه الخرائط سوف يوفر معلومات اكثر "كمالا" حول المنطقة. لكن هذا لا يعني بالضرورة ان كل خارطة هي دقيقة.

وكما يعلق الفيلسوف بريان ليتر Brian Leiter في كتابه (نيتشه حول الاخلاق): "المنظورية تُفسر هكذا، التأكيد على ان المعرفة هي دائما قيد الاهتمام (وبالتالي جزئية) وان مختلف الاهتمامات سوف تزيد من اتساع المعرفة، لكنها لا تعني ان المعرفة تفتقر للموضوعية او ان لا وجود هناك لحقيقة حول القضايا المعروفة".

ربما نتسائل اذن بأي معيار نستطيع الحكم على منظور معين باعتباره أفضل من غيره. العلماء يختلفون حول كيفية التأمل مع هذا التوتر في فكر نيتشه، لكن أحد الاتجاهات هو الأخذ بنصيحة نيتشه: وهي مهما كان الذي يجلب "الكثير من العيون، ومختلف العيون" فيما يتصل بمسألة معينة سيمتلك صورة اكثر "اكتمالا" عنها. بكلمة اخرى، شخص ما مطلع على محدودياته المنظورية، وهو قادر على النظر للشيء من مختلف وجهات النظر، سيكون لديه منظور اكثر غنى من شخص آخر ينظر فقط للاشياء بطريقة واحدة.

طريقة اخرى لنزع فتيل التوتر في فكر نيتشه هي ببساطة إنكار وجود مشكلة كبيرة. المعايير موجودة ضمن مختلف الحقول – علم جيد مقابل علم سيء، فن جيد مقابل فن سيء – لذا نسبيا من غير المثير للجدل التفكير في ذلك، حتى بدون توجيه نيتشه الصريح نحن قادرون على فصل المنظورات الواعية عن تلك الجاهلة.

هل تتقرر المعرفة بعلم النفس الحيوي psychobiology؟

نقطة خلاف اخرى بين العلماء هي المدى الذي يقترح فيه نيتشه ان وصولنا للحقيقة يتشكل ليس فقط بقدراتنا الادراكية الفردية واهتماماتنا وانما بمحفزاتنا الحيوية النفسية، بما يسميه نيتشه "دوافعنا".

في كتابها (نيتشه حول الحقيقة والفلسفة) مثلا، تقترح الفيلسوفة ماديمرا كلارك Maudemarie Clark ان منظورية نيتشه هي في الاساس تعليق على الابيستيمولوجي، طبيعة المعرفة – ترى كلارك ان منظورية نيتشه ترقى الى ادّعاء بان الكون ليس له سمة "موضوعية" خالصة. لا وجود لرؤية عامة للكون يمكن اتخاذها، لأن المخلوقات من الصقور حتى الانسان كلها لديها اهتمامات وقدرات ادراكية مختلفة. الطبيعة المنظورية الذاتية للمعرفة لايمكن ان تحرمنا من أي شيء نريده بشكل معقول.

هناك حقائق بين الناس، ربما حتى حقائق مشتركة مع كل الكائنات في الكون، لكن مثل هذه الحقائق ليست محايدة او غير متحيزة ابدا او موضوعية خالصة، لأنها تعتمد سياقيا على مختلف الادراكات المنسجمة. فمثلا، من وجهة نظر العلم انها الحقيقة الاحسن و الاكثر موضوعية بان الارض تدور حول الشمس. لكن العلم يبحث في العالم الذي يمكن للبشر فهمه.  العالم الذي يمكن للبشر فهمه لا يتطلب بالضرورة معرفة كل التفاصيل او المظاهر.

افرض هناك كائنات لا تتعامل مع الكون بثلاثة أبعاد – ربما هم يرونه ببعدين او تسعة أبعاد. افرض هناك كائنات لا تمارس الزمن بشكل خطي كما نفعل نحن. مثل هذه الكائنات يُحتمل لديها علم مختلف كليا عنا. ربما بالنسبة لهم لا معنى للقول ان الارض تدور حول الشمس. ان المنظورية يمكن تفسيرها على هذا النحو وهو ان كل الحقيقة الموضوعية لدينا يجب ان تكون مؤهلة من المنظور الانساني حتى لو بدت متشددة بشكل غير ضروري. نحن نتعامل مع الكون بطريقة معينة، لذا حقائقنا هي صحيحة فقط في تلك الطريقة من ممارسة الكون.

2+2=4 هي صحيحة لكائنات لديهم فكرة عن العدد والاضافة،وهي غير ملائمة لأي شيء ليس كذلك. وكما يكتب كلارك:

"المنظورية ترقى الى الادّعاء باننا لا نستطيع ولا نحتاج لتبرير عقيدتنا عبر اختزالها الى مجموعة من عقائد لايمكن مسائلتها والتي يجب على  جميع الكائنات البشرية ان تتقاسمها.  هذا يعني ان كل التبريرات سياقية تعتمد على عقائد اخرى لايمكن الطعن فيها في الوقت الراهن لكنها ذاتها قادرة فقط على تبريرات سياقية مشابهة".

وفق هذه الرؤية، نيتشه يرفض امكانية الميتافيزيقا بمعنى، هناك نظرية اساسية غير متحيزة ومستقلة عن المنظور الانساني.

كن جيمس Ken Gemes في مقاله عام 2013 (منظورات الحياة) والذي ظهر في دليل اكسفورد لنيتشه، يجادل ان نيتشه غير مهتم في عمل تعليق على الحقيقة او الابستيمولوجي ابدا. منظوريته ربما لها انعكاسات على الحقيقة او الابستيمولوجي لكنها يجب النظر اليها اساسا كادّعاء علم نفس حيوي. في الحقيقة، جيمس يربط المنظورية بعقيدة نيتشه في ارادة القوة،حيث كل "دافع" او "حافز" فينا له منظوره للعالم، ويسعى للتعبير عن ذلك التفسير على حساب حوافز اخرى. وهكذا يرى جيمس ان المنظورية نتيجة طبيعية لعقيدة نيتشه في الارادة الحرة.

وفق هذه الرؤية الاخيرة وفي تباين صارخ مع قراءة كلارك – نيتشه لا يرفض امكانية الميتافيزيقا في منظوريته وانما هو في الحقيقة يقدم واحدة خاصة به: ان العالم هو عدة منظورات، تتنافس لأجل الهيمنة.

أين يتركنا منظور نيتشه؟

ان عدم الاتفاق والالتباس الذي يحيط برؤية نيتشه حول الحقيقة تأكّد بحقيقة ان نيتشه ذاته يبدو يغيّر آرائه طوال اعماله. في هذه المقالة المبكرة (حول الحقيقة والكذب بمعنى غير أخلاقي)، إنكار نيتشه للحقيقة يظهر بوضوح، وهذه المقالة هي المسؤولة عن اثارة المزيد من التفسيرات المابعد حداثوية لرؤى نيتشه.

لكن، في أعماله اللاحقة، وبالذات بدءاً من (في جنيالوجيا الاخلاق) فصاعدا، نيتشه كان متحمسا كثيرا حول امكانية الحقيقة، وكذلك العلم كونه الطريقة الاكثر فعالية للحصول عليها. بالطبع، في هذه الاعمال هو يستمر بنقد العلم من حيث قدرته على تزويدنا بقيمة تعليمية حول الطريقة التي نقترب بها من الحياة – وان متابعة العلم على حساب كل ماهو آخر هو ضار سايكولوجيا – لكنه لم يعد لديه مشكلة كبيرة معه كقاطرة لإعطاء معرفة ثمينة وموثوقة حول طبيعة الوجود (حتى عندما تكون معرفة المزيد عن طبيعة الوجود لاتفيدنا تماما للتوافق معه).

هناك سبب آخر للشك في التفسير المابعد حداثوي الشائع لنيتشه،في انه يرفض الحقيقة الموضوعية. في الحقيقة، اذا كان نيتشه يرفض إمكانية الحقيقة، هذا يعني افتراضا ان جداله يقع ضمن صنف "غير صحيح".

هذا ليس فقط يثير مشكلة الاحالة الذاتية (مبدأ لا وجود لشيء كحقيقة موضوعية" كاستثناء لقاعدته الخاصة به؟)، وانما ايضا يلقي شكا في كل فلسفة نيتشه. لماذا يهتم نيتشه بوصف تجربتنا في العالم باعتبارها تفاعلا بين الأبولونية والديونيسيوسية في مولد التراجيديا، اذا كان لا يعتقد ان هذه الملاحظة حقا تتوافق مع الطريقة التي تسير بها الامور؟

لماذا هو يهتم في صياغة أفكار وإطلاعنا بها مثل فكرة العود الابدي او السوبرمان لو كان لايرى حقيقة عامة فيها؟

مختلف المستويات من الحقيقة

ربما احدى الطرق لحل هذا التوتر الظاهر في فكر نيتشه هو تأسيس درجات مختلفة لكلمة صحيح "true". كلمة صحيح بحرف كبير "True" تشير الى حقيقة ميتافيزيقية عميقة محايدة، بينما صحيح بحرف صغير true”" تشير الى حقيقة عامة مشتركة بين وجهات نظر متوافقة لكنها لا تدّعي اي هدف يتجاوز هذا).

لا وجود هناك لعالم عائم حر محايد للحقيقة الموضوعية، نيتشه يرى هناك فقط العالم الذي نتعامل معه ذاتيا – ونحن نستطيع ممارسة وزيادة معرفتنا به فقط بسبب منظوراتنا، وقدراتنا الادراكية واهتماماتنا. عالم بدون منظور هو تماما مثل الشيء بلا موضوع - غير منطقي. التأمل غير المتحيز في الحقيقة الميتافيزيقية،كما يرى نيتشه، هو استحالة سخيفة، وان النقاشات المؤثرة في ما هو صحيح بالنسبة لنا،وفق المعايير المعمول بها بين مختلف المنظورات المنسجمة، هي كل ما يمكننا ان نسعى اليه او نأمل فيه بشكل واقعي.

لذا، ربما نقول، نيتشه لا يعتبر فلسفته او معرفته العلمية صحيحة بالمعنى الميتافيزيقي (لأن مثل هذه الحقيقة مستحيلة)، وانما صحيحة بمعنى انها افضل نظرية حاليا لدينا من بين منظوراتنا الانسانية المحدودة.

وبصرف النظر عن مكاننا في هذه القراءات المختلفة، منظورية نيتشه غالبا ما يتم الاشادة بها كواحدة من أهم مساهماته الفلسفية الثمينة كونها فتحت النقاش حول المدى الذي تؤثر فيه العوامل الخارجية على "نقاء" المعرفة. انها تضيف دقة وتعقيدا وعمقا سايكولوجيا كان مفقودا عندما يتعلق الامر بتحليل نظريات المعرفة: نحن لا نستطيع الهروب من منظوراتنا، وبالتالي فان الوعي بما يشكل ويحد من وجهات النظر تلك هو هام لتقدم المعرفة.

بكلمة اخرى، ادّعاءات الفلاسفة والمفكرين القدماء لا تحتاج فقط تحليل من وجهة نظر الحقيقة، وانما يمكن تشخيصها ايضا على انها أعراض لأنماط معينة من الوجود، ويمكن ارجاعها الى التكوينات المعقدة لعلم النفس، والدافع والتأثير من وجهة النظر التي تجعلها منطقية. يلخص R.Lanier Anderson:

"منظورية نيتشه ترتبط ببرنامجه "الجينولوجي" في نقد النظريات الفلسفية عبر كشف الحاجات السايكولوجية التي تلبّيها، تساعد المنظورية في تحفيز البرنامج وتزويده بإرشاد ميثدولوجي".

***

حاتم حميد محسن

....................

Philosophy Break, January 2025

  

في المثقف اليوم