أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

بين جمالية النص وأسلوب الترجمة

اختيار قصائد غوته على أساس النص المقروء والترجمة، يعكس حقيقة الروح والشخصية التي تتميز بها الذات الكاتبة، فالدكتور بهجت يهوى الشعر، ويتقن فن الترجمة، ويعشق اللغة العميقة التي يتسم بها شعر غوته، وغيره من الشعراء، مما يجعل القارئ أكثر انجذابا للغوص في أعماق النص المختار بغية التفاعل مع تفاصيله الدقيقة.

هنا لا أريد أن أتناول البعد الوجودي للقصيدة التي تناولها غوته، ولكن جميل أن نستقرئ البعد التأويلي للنص،  فالطبيعة وما فيها من مفردات، تحمل صورا أخاذة لمسارات تتداخل بطريقة أفقية، وعمودية تنعكس لغتها في النفس لتشكل خريطة شعورية متكاملة على شكل تناغم متواصل على هذا النحو:

(فالشمس وضحكة المزرعة العاطرة، وانبثاق البراعم النافرة، وغيوم الصبح فوق الجبال) هي صور عمودية تتدفق في النفس، وتبعث فيها روح الحياة والأمل، كما هو مشار إليه في القصيدة، حيث في المقابل تنتشر الجبال، ومعها غيوم الصبح بشكل أفقي، لتتقاطع تلك المسارات في محيط هذه النفس، التي ديدنها التعلق بجمال الوجود.

وهذا يعني أن الإبداع لا ينفصل عن لغة الوجود وحقيقة الارتباط الوجداني به، إذ أن النفس البشرية وعالمها التكويني جزء لا يتجزأ من هذا الامتداد الهائل الذي يحيط بنا، لعلنا نغوص في فضاءاته العميقة ولأجل أن تبقى حقيقة هذا الوجود عامرة ومشرقة هكذا إلى الأبد، كما جاء في نهاية النص حيث مخاطبة النفس:

"كوني طوال العمر في بهجة ما دمت في قلبك حبا مذاب"

***

عقبل العبود

سألَ سائلٌ عنِ الحِسِّ والجسِّ، فقالَ مِن على مِنَصَة تويتر سابقاً، وهي اليومَ إسمُها "إكسُ": قالَ الحقُّ ﷻ: (اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ). وقالَ ﷻ: (وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)، فما الفرق بين الحس والجس؟

فأجبتٌهُ بتلميحٍ لا حاجةَ معه لتصريح، وبإشارةٍ ظننتُها تُغنيه عن عبارة: [أظن أن الفرقَ بين"الحسِّ" و"الجسِّ" يشبهُ الفرق بين"المسِّ" و "اللمسِّ". وما ذلك مني إلا ظنٌّ شخصيٌّ، أو تذوقٌ لمعنيهما بعد تصفح لما تيسر من معاجم الأولين].

وقد كذبتُ، فأنا ما تصفحتُ معجمٍ ما، ولكن مدعاةَ كذبتي تكمن في سببين:

- لأني متيقنٌ أن ما هوَ مسطور في تلك المعاجم لن يأتيَ بشيءٍ، ولأن المترادفات قد تشتبهُ في المبنى لكنها لا تتشابهُ في المعنى، إذ منَ المحالِ على بشرٍ أن يشرحَ معنىَ لمفردةٍ بمفردةٍ مرادفةٍ لها، فلا يمكنُ أن نشرحَ (الإنشراحَ) على أنه (ارتياح).

- ثم  لتحسسي بل توجسي أن يردَّ عليَّ السائلُ بجوابٍ من تلك المعاجم، فيجعلني وإياهُ ندورُ في فَلَكٍ معلوم تكفينا فيه دورةٌ واحدة. ورُغم تحسسي ذلك، فقد ردَّ السائلُ عليَّ بما كنتُ به مُتَحسِّساً ومنهُ متوجِّساً، فقال: (صباح الخير، ما فهمت هل تقصد ان المعنى واحد ام ماذا، لان في تفسير الطبري.. وشكراً لك)، وأرفقَ صفحة مصورةً من تفسير الطبري.

ثم اني ما تركتُ السائلَ يتوهُ ويُضَيِّعُني معه في فَلَكٍ معلوم تكفينا فيه دورةٌ واحدة أو اثنتين. فرجعتُ اليهِ القولَ:

[لا، ليس المعنى واحداً، ومحالُ أن تحويَ العربيةُ كلمتينِ بمعنىً واحدٍ. فضرب من الخيالِ أن يقولَ لكَ عربيُّ غابرُ وحتى حاضرٌ معاصر: "هلَا تجسسْتَ ليَ الألمَ في رأسي" ، ولكنه يقول: "هلّا تحسسْتَ ليَ الألمَ". العربيةُ يا صاحبي هي فطرةٌ في النفس وهي تذوقٌ للحرف، فسبحان رَبّنا الرَّحمنِ الذي خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ فَعَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ]. وانتهى حواري مع سائلي محاوري .

ثمَّ أسررتُ القول في نفسي:

"وما يمنعك يا هذا أن تبحثَ برقَّةٍ في معاجمِ الأولين وبدقةٍ متناهيةٍ عن الفرقِ بين المعنيينِ، ثم إن في البحثِ متعةٌ ما بعدها متعة". فأشهبتُ فألهبتُ فذهبتُ فبحثت. وما إن بدأتُ حتى لمحتُ صاحبَ معجم "لسان العرب" يقولُ: الجَسُّ: اللَّمْسُ بِالْيَدِ.، كالاجْتِساسِ. ثم مرحتُ في معجم "تاج العروس" فإذ به يقول: الجَسُّ: المَسُّ باليَدِ. فطرحتُ قوليهما، وعجبتُ مِما قالا أشدَّ العجب!

أفيكون الجَسُّ (لمَسَّاً) كما أبانَ ابنُ منظور، أم هو (المسُّ) مثلما ألانهُ صاحبُ (تاج العروس)؟

ولعمري، ما كانَ الجسُّ مَسَّاً ولا لمسَّاً، ولا هَمْساً ولا هَسّاً، ولا حسَّاً ولا عَسَّا. وشتَّانَ بينَهُمُ ، وإنَّما لكلٍّ مفردةٍ من أولاءِ معناها المتفرد الذي يأبى مشاركةَ أو حتى تشبيها. لذلك رأيتُني أعودُ لأكرِّرَ قولي:

" ليس المعنى واحداً، وضرب من ضروبِ الخيالِ أن تحويَ العربيةُ - وكذا كلُّ لغةٍ ولسان- كلمتينِ بمعنىً واحدٍ ولا حتى معنىً شبيه . ومِنَ المحالِ أن ينطقَ لسانُ العربيِّ الغابرِ، بل وحتى الحاضرِ المعاصر، الساكنِ بينَ المحيطِ الهادرِ والخليجِ الثائرِ، جملةً بسَجيةٍ أثيمةً غيرَ قويمة، فيقول:

"هلَا تجسسْتَ ليَ الوجعَ" ، ولكنه ينطقُ بعفويةٍ عليمةٍ قويمةٍ: "هلّا تحسسْتَ ليَ الوجعَ في رأسي". وكذا، فإن لسانَهُ يأبى القولَ :

"لَمَسَنيَ إبليسُ بواحدةٍ " بل يقولُ: "مَسَّنيَ إبليسُ بواحدة".

وإنَّما العربيةُ ياصاحبي، هي فطرةٌ في النفس قد فطرَ اللهُ العربَ عليها، وهي تذوقٌ للحرف مُستعصٍ على أهلِ الصنعةِ في الضَّادِ تفسيره (أي التذوق)، أو تأويلهُ أو تبيانه، بل ذلك عليهم محال، ولئن حاولوا تفسرهُ  فستكونُ محاولاتُهم ساحقةً لمعانيَ المرادفات اللغوية في فكرنا، وماحقةً لمبانيها في ذكرنا، وسوفَ تَبون ثمرة تلك المحاولاتِ هي الفقدانُ التامُّ لتذوِّقِ تعابيرِ القرآنِ الكريم، وتلك هي الطَّامةُ الكبرى ، ولسوفَ تجدُ القارئَ لآياتهِ المباركات لا يهتَمُّ ولا يبالي إن قرأ الفعلَ في آيةٍ ما ( جاءَ، أَتَى، أَقْبَلَ، حَضَرَ، طَرَقَ، غَشِيَ، قَدِمَ، وافى، وَفَى، وَرَدَ، وَفَدَ،... )، ولئن سألتَهُ لَيَقولنَّ : " المهم أنه أتى وخلاص يا باشا، وبلاها من وجعِ دماغ". واللهُ المستعان على ما تصفُ يا باشا.

وختاماً..

سبحان الذي خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ فَعَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ، وجعلَ أخي الكردي "كاكه إحسان" ماهراً فيما ينطقُ بهِ من لسان، لكنهُ يردُّ عليَّ إن سألتهُ عن حالهِ حيرانَ: " كاكه، آني حال زينة"، بينما ترى صغيري "يَمان"، ذا الأعوام الثلاثة يردُّ: "أنا زين أبتاهُ".

لقد أضحينا اليومَ نأبى فطرةَ اللهِ التي فطرَ ألسنتنا عليها على مدى الزمان، وترى العربيَّ منّا اليومَ وكأنَّهُ يشتهي برغبةٍ جامحةٍ وهو هيمان، أن يردَّ على سائلٍ يسألُهُ عن حالهِ في كلِّ آن: "أنا زينة ، ماي براذر". رَغمَ أنهُ لا يمتُّ بوشيجةِ نَسَبٍ لكاكه إحسان، ولا بوَليجةِ حَسَبٍ لمستر سبايدرمان.

واللهُ المستعان.

***

علي الجنابي

 

(.. من المؤكد انه ليس هناك شيء مؤكد..).. هيجل

هذه العبارة الفلسفية كان الدكتور عبد الرزاق مسلم الماجد أستاذ الفلسفة في جامعة البصرة يرددها باستمرار اثناء محاضراته علئ طلبة قسم التاريخ وعندما سألناه عن سر تكرار هذه العبارة قال (انا معجب بهذا الفيلسوف الألماني الكبير وبأقواله..) ولم يكن الدكتور عبد الرزاق هو الوحيد المعجب بهيجل، قال عنه (البيركامو).. (..انه المفكر الذي عقلن الى اللامعقول..)

وقال عنه (جون ديوي).. (... انه الفيلسوف الذي ارتفع بالفلسفة الى مستوئ العلم..) ووصفه (كارل ماركس) لا (بالعبقرية الكبرى التي قلبت الأشياء راساً على عقب..). وقال عنه الفيلسوف الألماني (كاو فمان)..(.. اذا كان كل من الإسكندر، ونابليون قد حاولا الاستيلاء على العالم بالقوة العسكرية، فقد حاول كل من ارسطو وهيجل سيادة العالم بالقوة العقلية..) اما الفيلسوف الإيطالي (كروتشة) وهو من انصار الهيجلية الجديدة فقد اعرب عن حبه العميق لهيجل بقولة. (.. انا لا استطيع ان أعيش معه ولأستطيع ان أعيش بدونه...) وهكذا فقد قال عنه احد الفلاسفة المعاصرين له.. (..انه ثالث ثلاثة صاغوا الوجود بأسره في أنظمة عقلية متناسقة وهم: ارسطو، والقديس توما الاكوبني وهيجل بمذهبة المثالي المطلق..) –

فلسفة هيجل.. (المطلق الهيجلي)

(.. نظم هيجل فلسفة حول نظريته في المطلق بوصفة روحاً وقد اعطى للروح معنىَ مذهبي متميز وقد اجرئ تحليلاً خاصاً لاستقلال العقل وبين الحاجة الى الروح كمبدأ مكون..). (الله في الفلسفة الحديثة ص 295).

(.. وهكذا حصر هيجل العقل المتناهي داخل العقل اللامتناهي وكانت حجة هيجل النهائية هي ان مصير الفلسفة معلق على نظرية الروح المطلقة بالاضافة الى هذه فانه هو الذي وضع أساس فلسفة تاريخ الفلسفة، واعلن انه لم نستطع ان نهتدي الى السبب الأول للعالم والحياة فاننا نستطيع على الأقل ان نهتدي الى علة عقلية للحياة فالشيئ الحقيقي هو العقل وكان يرى ان كل نقيض وان كل شي هو نقيض نفسه والانسان أيضا نقيضه وهي الطبيعة فهو في صراع مها وان ثمرة هذا الصراع هي الحرية وان هيجل كثيرا ما ذكر الروح باعتبارها مرادفة لكلمة (الله) وكان يحترم المسيحية لاعتبارها ان الله هو الروح ولكن هيجل اعلن وبصراحة عن أعجابه بالبرجوازية الألمانية الحاكمة

فلسفة هيجل احدى روافد الماركسية

استندت الماركسية على ثلاثة مصادر هي: أولاـ الفلسفة الألمانية وقد مثلها هيجل وفيورباخ ثانيا: الاقتصاد الإنكليزي ممثلا بأدم سمث وريكاردو ثالثا: الاشتراكية الطوباوية وخير من مثلها توماس مور فقد كان ديالكتيك هيجل ان اعالم في تطور بالعقل البشري وان النضال ضد الظلم يرتبط بالقانون الشامل للتطور الدائم الا ان كارل ماركس انتقده بقوله (.. ان هيجل يسير ديالكتيك على رأسة ويكفي ان يوضع على قدمية كي نجد له مظهراً معقولاً. اما مساهمة فيورباخ الذي اعلن ان الانسان هو تتويج الاعمال الطبيعة وانه يعيش في اتحاد معها، وكتب يقول (.. يؤمن الانسان بالآهة لأنه يتمتع بالخيال، ويؤمن بالكائن السعيد لانه يريد ان يكون سعيداً..                          

ويؤمن بالكائن الكامل لأنه يتطلع الى الكمال ويؤمن بالكائن الخالد لأنه يرفض الموت..) وهكذا كانت لفلسفة هيجل اثرها في تطور الفكر الماركسي الذي طور اهم عناصر الفلسفة الهيجلية وهو (الجدل) وحوله الى نظرية تقوم على الاستدلال العلمي في تطور المجتمع والفكر والطبيعة وتاَيد الماركسية (ايمان).

هيجل بقوة العقل الإنساني وقد اخذ ماركس من هيجل اهتمامه بالتاريخ والتطور..) توفي هيجل عام 1831م نتيجة نتيجة اصابته بمرض الكوليرا.

***

غريب دوحي

يُعد عادل إمام من أبرز الفنانين العرب الذين تركوا بصمة واضحة وصيتا إبداعيا واسعا، حيث امتاز بقدرة استثنائية على إمتاع وإضحاك الجمهور، فضلا عن عمق وجسارة المحتوى النقدي الكامن في القفشات والعبارات الساخرة التي يتفوه بها، إذ سدد نقدا لاذعا في أعماله لقضايا مثل القمع السياسي والفساد والتشدد الديني والتخلف الاجتماعي.

نشأته وبداياته الفنية

ازداد عادل إمام بحي السيدة عائشة بالقاهرة سنة 1940 في كنف عائلة من الطبقة الفقيرة، وقد ساعدته نشأته في حي شعبي في صقل شخصيته وموهبته، حيث خاض مجموعة من المغامرات مع أقرانه وامتزج بعوالم أبناء الطبقة الكادحة، الشيء الذي سيلهمه لتقمص شخصيات من خلفيات اجتماعية متنوعة في أعماله الفنية اللاحقة. 

كما كان فتى مشاغبا وشقيا بالمدرسة مما عرضه لجملة من المتاعب حيث تعرض للفصل من إحدى المدارس، كما تميز ببراعته الفائقة في تقليد أساتذته أمام أنظار زملائه، إذ لطالما كان ينتهز فرصة مغادرة أساتذته للفصل الدراسي لممارسة هوايته المفضلة. وفي إحدى المرات ضبطه أستاذ اللغة الإنجليزية وهو بصدد تقليده والاستهزاء به، وبدل أن يقوم بتعنيفه أو توبيخه عمد إلى الإشادة بأدائه ونصحه باللجوء إلى عالم التمثيل، ومن هنا أمسى يرتاد بانتظام قاعات السينما لمتابعة الأفلام مما ألهب مخيلته الفنية والإبداعية، كما شرع في تأليف أعمال مسرحية وتجسيدها أمام أصدقائه.

وبعد انقلاب الضباط الأحرار سنة 1952 على النظام الملكي، وفي خضم الأجواء السياسية الساخنة التي عرفتها مصر وقتئذ، انضم عادل إمام إلى الحزب العمالي الشيوعي عندما كان يبلغ من العمر 15 عاما فقط قبل أن ينسحب من التنظيم بعد مدة قصيرة لينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، لكن هذه التجربة السياسية بدورها لم تدم طويلا، إذ سرعان ما ضاق صاحبنا ذرعا بالطابع السلطوي لتنظيم الإخوان وواجب الطاعة العمياء الذي كان يتعين عليه التقيد به دون إمكانية النقد والمناقشة.

عقب تجاربه السياسية القصيرة، استأنف عادل إمام دراسته الثانوية حيث التقى برفيق عمره سعيد صالح، وقد عُرفا بصيتهما السيء بسبب تورطهما المستمر في أعمال الشغب والتنمر وهو ما سيشكل أساسا واقعيا لمسرحية "مدرسة المشاغبين" التي عُرضت لأول مرة سنة 1971 واستُلهمت وقائعها من فيلم بريطاني.

وكما كان متوقعا، فشل عادل إمام في اجتياز الطور الثانوي بعد رسوبه الدراسي لسنتين متتاليتين، ليقرر والده إبعاده من المدرسة وإلحاقه للاشتغال بأحد معامل خاله، إلا أن والدة الكوميدي المصري عارضت الفكرة وألحت على إكمال دراسته بإحدى المدارس الخاصة بالإسكندرية حيث تمكن من النجاح بصعوبة، ليلتحق بكلية الزراعة لإتمام تعليمه العالي، وهناك وجد ضالته في الفرقة المسرحية التي مكنته من إبراز طاقاته الفنية والإبداعية.

وفي سنة 1963، كان جالسا بأحد المسارح الفنية فاقترحت عليه المديرة تعويض الممثل محمد عوض الذي كان من المقرر أن يؤدي دورا في مسرحية "أنا وهو وهي"، فاغتنم الفرصة وقدم أداء هائلا ليسلك بذلك الخطوة الأولى في طريق عالم النجومية.

متاعب ومضايقات

تعرض عادل إمام لمتاعب جمة بعد أدائه لشخصية محام فاسد في فيلم "أفوكاتو" الذي تم ترشيحه للعرض في مهرجان برلين، حيث رفع حوالي 150 محام دعوى قضائية ضد طاقم الفيلم بدعوى الإساءة للقضاء، فصدر في أعقاب ذلك حكم قضائي في حقهم يقضي بحبسهم سنة واحدة مع الأعمال الشاقة، لكن تم وقف تنفيذ الحكم بعد المعارضة التي أبدتها نقابة الممثلين. كما حُكم عليه سنة 2012 بالسجن بتهمة "ازدراء الأديان" لكن تم الحكم ببراءته بعد استئناف الحكم.

وقد روى الفنان المصري في أحد حواراته التلفزيونية عن قصة حقيقية وقعت له مع الرئيس أنور السادات، حيث بعث الأخير بهدية عبارة عن كلب إلى منزله، إذ لم يستطع عادل إمام التخلص منه رغم المضايقات التي سببها الحيوان لأسرته. ولا يخفى على أحد أن الرئيس السادات كان يود تبليغ رسالة تخويف إلى عادل إمام بسبب الجرأة الكبيرة التي كان يُظهرها في أعماله السينمائية والمسرحية التي أثارت حفيظة جهات نافذة في الدولة.

في فترة الثمانينيات، عانت مصر من عنف الجماعات الإسلامية المتطرفة، وقد كانت محافظة أسيوط من أبرز معاقلها. ورغبة منه في تبديد السمعة السيئة التي التصقت بتلك المنطقة، اقترح عادل إمام عرض مسرحية "واد سيد الشغال" بأسيوط وهو ما تحقق فعلا، الشيء الذي جعله في مرمى التنظيمات الإسلامية الراديكالية. وفي هذا الصدد، تعرض لمحاولة اغتيال من طرف تلك الجماعات بعد صدور فيلم "الإرهابي".

في سنة 2005، أصدر عادل إمام فيلم "السفارة في العمارة" الذي ناقش أحد التابوهات المتعلقة بالعلاقات مع إسرائيل بعد ممانعة طويلة أبدتها الأجهزة الأمنية، إذ لم يكن ليصدر هذا العمل الفني لولا الوساطة التي قام بها سكرتير الرئيس حسني مبارك.

***

صلاح الدين ياسين

 

أسير بالمدن في ليالي الشتاء الموحشة، هاربًا من ضجيجها في النهار. أمشي في أزقتها حيث لا أحد، لا صوت سوى بعض الآلات الصناعية ونباح الكلاب السائبة. موحشة لأنها تذكّرني بما مضى، تعصف بي الذكريات تمزيقًا، وتشتت روحي أشلاء. موحشة لأني أشعر وسطها بالغربة، بعدما كنت أشعر فيها بالأمان. موحشة لأني فقدت رفيق دربي وصديقي الحميم، الذي كنت أشاركه هذه الأزقة في الليالي الباردة، هاربين من البشر وضجيج النهار.

في زحمة النهار، وسط البشر وحركتهم اللامتناهية، كنا نضيع. لم نكن نشعر بذواتنا إلا عندما نبتعد عنهم. وحدنا، مع أنفسنا، ومع من يفهمنا، كنا نجد ذواتنا حقًا.

وفي إحدى تلك الليالي، بينما كنا نسير معًا ونتحدث، ناظرين إلى السماء المرصعة بالنجوم، والجو الماطر يلفحنا بنسماته الباردة، قال لي متأملًا في الحياة والعزلة:

"لقد تسببت الثورة الصناعية وعصر التنوير والحريات الفردية في جعل الإنسان أكثر كآبة، وأكثر فراغًا. صار معيار السعادة مرتبطًا بغايات مادية مؤقتة. لقد تحوّل الإنسان من كائن يمتلك روحًا وجانبًا مثاليًا، إلى كتل لحم لا تتجاوز نظرتهم المدركات الحسية. حتى مفاهيم مثل الشرف والعزة والمروءة، تم تحجيمها لأنها لا تعود بنفع مادي. نعيش في عصر أحادي النظرة، نسبي التفكير، صار فيه الحلم أن يُطلق العنان للشهوات، ويشتري أحدث السلع، دون أن يدرك مرارة هذا الانحلال التي سيتذوقها عاجلًا أو آجلًا."

ثم أضاف:

"لقد نجحنا في صناعة آلة متحضّرة، ولكننا فشلنا في صناعة إنسان."

سألته:

ــ "وما الحل أمام هذه الكارثة؟"

قال:

"أن يعود الإنسان إلى ذاته، ويحنّ إلى موطنه الأصلي حيث السكينة والطمأنينة."

سألته مجددًا:

ــ "وكيف يعود؟ وما هو موطنه الأصلي؟"

فأجاب:

"بالانعزال. فكلما عاشرنا البشر، اسودّت أفكارنا. وإذا عدنا إلى عزلتنا بحثًا عن النور، وجدناه في ظلال تلك الأفكار.

موطن الإنسان الأصلي هو الغاب. أحب الغاب، إذ لا تطيب لي حياة المدن وقد كثر فيها عبيد الشهوات. الخير أن يقع الرجل بين براثن سفاح، من أن تحدق به أشواق امرأة جامحة. إنك إذا ما تأملت رجال المدن، لتشهد في نظراتهم أنهم لا يرون في الأرض شيئًا أفضل من مضاجعة امرأة."

ثم قال مختتمًا حديثه وقد تأخر الوقت:

"لو تعلم كم يزعجني هذا العالم اليوم... أريد الفرار، لكني لا أعلم إلى أين.

على كل حال، دعنا ننام، فلا يزال أمامنا الكثير من التعب."

وبعد هذا الحديث، عدنا إلى منازلنا. منازلنا التي كانت ليلًا أشبه بالسجون، وفي النهار حصنًا منيعًا يحمينا من تطفلات البشر.

لكننا لم نكن نعلم أن ذلك اللقاء سيكون الأخير بيننا... لم نكن مستعدين لهذا الفقد. كنا ضعفاء، لكن وجودنا معًا كان مصدر قوتنا.

بعد فراقه، قضيت وقتًا لا أعرف فيه ما أفعل. كنت تائهًا، أحمل على كتفي عبء الذكريات. بقيت في زاوية منزلي، أحمل صورنا ورسائلنا كمن يحمل أدوية مهدئة. وبعد صراع طويل مع ذاتي، قررت الخروج.

ذهبت إلى أماكننا القديمة، وتجولت هناك طويلًا. لكن شعورًا غريبًا تملكني، وكأن الجدران والأعمدة كانت تحدّق بي، تسألني: "أين كنت؟ و أين هو؟ لماذا لستما معًا؟"

شعرت بالغربة والوحشة مجددًا، فعدت مسرعًا إلى منزلي، أحتضن ذكرياتنا، وأبقى على هذا الحال حتى تشرق الشمس.

لكن منذ رحيله ...

كانت تشرق الشمس، وهذا الضوء لا يخصنا.

***

حيدر كريم

تتساقط الكلمات من بين أسطر النصوص كأوراق الزهور الندية، تروي قصصاً من الحب الأصيل الذي يلامس أرواحنا في لحظات السكون والجمال. نلاحظ في كلمات الشعراء سحراً ينسج من مشاعر عاشق غارق في حب لا يزول، وفي تجارب عاطفية ترافقه من لحظة إلى أخرى. إنها رحلة من الأمل والشوق، تتشابك فيها مشاعر الألم والسعادة، الحب والفراق، التذكر والاشتياق.

كل قصيدة تكتب كأنها تمجيد لحظةٍ مليئة بالمشاعر العميقة، حيث يرمي العاشق قلبه بين يدي محبوبته، فتسكنه حرارة حبها وتملأه بحنانها. وبتنا نرى تأثير الحب القوي الذي يغمر الشاعر ويسلبه عقله وعاطفته. وأضحت المشاعر تقودنا إلى قوة تأثير الحب على القلب، كيف يمكن أن يسكر الإنسان بنكهته وتفاصيله، ليغدو عاجزاً عن الفراق أو النسيان. هذه اللحظات التي يتم فيها إسقاط كل شيء من الحسابات المنطقية، ويصبح العاشق في حالة من الاستسلام لهذا الشعور الذي لا يقاوم.

وعلى الرغم من كل ما يحمله الحب من آلام الفراق والاشتياق، إلا أنه يصبح مثل الخمر الذي يذوب في الحواس ويترك في النفس أثراً جميلاً. "واليوم أصبحنا نقرأ عند الشعراء جميعا فكرة الاحتواء التي تتناغم ومضمون الوئام، حيث يُظهر المشاعر وكيف أن الحب يتحول إلى لحن دائم في حياة العاشق، ويصبح جزءاً من كيانه. لا شيء يُطفئ هذا الحنين سوى أن يظل العاشق مُحاطاً بكل ما يشبع روحه من كلمات الحب وذكرياته الجميلة، التي ترسم صوراً لا تمحى في الذاكرة.

باتت النصوص تنقلنا تدريجيا بالمعنى اللفظي والضمني إلى أن تأخذنا في رحلة عبر نسيج هادئ، حيث يعزف النسيم لحن العشق. "همس شعاع العبارات التي تداعب زهر.. الكلمات. وتغدو ألقا يصدح فكر المتلقي. وترفرف القراءات الواعية لتستقبل شروق الألفاظ وعلياء مصطلح الحب"، حيث يصبح الحب جزءاً من كل شيء، حتى في التفاصيل الطبيعية الصغيرة. يتحرك الشاعر بين الطبيعة في تفاصيلها الصغيرة، مُحاولا أن يُشعر القارئ بكل لحظة شاعرية، مثل همسات الرياح أو زقزقة الطيور التي تشدوا في الأفق. الطبيعة تصبح جزءاً من الحب، تمازجاً بين الواقع والخيال، وتصبح ساحة لتبادل المشاعر بين العاشقين.

وفي لحظة من اللحظات، ينقض على الشاعر لحظة من الشغف؛ "أهي الدواء من كل داء لامس الوجد"، إشراقة أمل يُحتفل بها كما لو أنها العلاج الوحيد لألم الحب، كما لو أن الوجود نفسه هو مجرد طيف عابر يتراقص في فضاء العشق اللامتناهي. وبذلك، نجد أن الحب في أغلب القصائد تجاوز كونه شعوراً عابراً، بل هو حالة روحية وعاطفية عميقة تمس كافة تفاصيل الحياة.

وكأنها نصوص لا تعبر عن علاقة بين شخصين فحسب، بل هو تعبير عن علاقة الفرد بنفسه وبالكون من حوله، حيث تتناغم المشاعر الإنسانية مع طبيعة الحياة بكل عناصرها. الحب ليس مجرد لحظة عاطفية، بل هو حضور مستمر، هو تناغم القلب مع الأبدية.

باختصار، في هذه الكلمات نجد أنفسنا في دوامة من المشاعر التي تأخذنا نحو مسار من التأمل العميق. كأن كل كلمة، كل حرف، يحمل لنا رسالة عن الحب الحقيقي الذي يظل يذكرنا بجمال الروح وصدق العاطفة.

***

ربى رباعي

 

باعتبار وضعي ككاتب مغربي، وكائن لغويٌّ تشكّل وجدانه بين دفّات الكتب الورقية، وسُقيتُ من حبر المطابع كما تسقى الأرض بماء الغيمات ... أجدني، اليوم، في زمن رقمي يعيد تشكيل الجُملة والمعنى، أطرح سؤالًا مؤرقًا في يومٍ نحتفل فيه بالكتاب الورقي: إلى أين تسير صناعة النشر؟ هل الورق يحتضر؟ وهل الرقمي سينقذ الكلمة من المآل الباهت في المستقبل القريب؟

كنتُ، وما زلت، أفتتح صباحاتي الرائقة بفنجان قهوة على صوت انفتاح دفة الغلاف، وبملمس الصفحات الذي يذكّرني بشغاف الذاكرة. لكنني لا أستطيع أن أنكر أن الشاشة باتت تتسلل إلى لغتي، منذ عقدين من الزمن وتفرض إيقاعها السريع، وتجعل من القراءة تجربة عابرة لا تقيم طويلًا في وجدان القارئ. فالكتاب الرقمي، على الرغم من سهولة الوصول إليه، يعاني من نَفَسٍ قصير في أعين القرّاء، كما لو أنه وجبةٌ سريعة تفتقر إلى نكهة الطبخ البطيء الذي يُتقنه الورق.

لقد شهدت أوروبا وأمريكا، في العقدين الأخيرين، انفجارًا حقيقيًا في سوق النشر الرقمي. ففي تقرير صادر عن جمعية الناشرين الأمريكيين عام 2023، بلغت عائدات الكتب الإلكترونية ما يقارب 1.1 مليار دولار، مقارنة بـ1.9 مليار دولار للكتب الورقية. أما في بريطانيا، فتمثل الكتب الرقمية حوالي 30٪ من إجمالي سوق الكتاب. ومع ذلك، ورغم هذه الأرقام الواعدة، لم تزل الهيئات الثقافية العربية تُعامل الكتاب الرقمي كما يُعامل الغريب في الوليمة، يُرحَّب به لفظًا ويُقصى فعلاً.

لقد حضرتُ معرض الرباط الدولي للكتاب مرّات عديدة، وتجولت بين أجنحته كما يتجول نَسّاك المعابد بين صوامعهم. لكنني، في كل مرة، كنت ألاحظ الغياب الفادح للكتاب الرقمي، ليس فقط في أروقة العرض، بل في البرمجة الثقافية أيضًا. فلا ندوات تناقش تحولات النشر الرقمي، إلا نادرا جدا ولا منصات تحتفي بالمؤلفين الإلكترونيين، وكأنّ الكتاب الرقمي لا يُعَدّ من "أهل الكتاب".

لماذا هذا التهميش إذن؟ أهو خوف من المجهول؟ أم نوع من التقديس الأعمى للورق؟ في حين أن دور النشر الغربية تجاوزت هذا التردد منذ ربع قرن، وأنشأت منظومات متكاملة لتوزيع الكتب الرقمية وترويجها، بل وأوجدت منصّات تحقق أرباحًا ضخمة للمؤلفين المستقلين، مثل "أمازون كيندل للنشر المباشر"، التي تُتيح للكاتب نسبة أرباح قد تصل إلى 70٪ من سعر البيع.

لقد تراجعت تجارة الكتاب الورقي في العالم العربي بنسبة مقلقة. في المغرب، على سبيل المثال، تشير تقديرات غير رسمية إلى أن عدد النسخ المطبوعة لمعظم الكتب لا يتجاوز الألف نسخة، تُباع منها بضع مئات فقط، وتنام البقية في المستودعات كما تنام الأساطير القديمة في كهوف مظلمة. لقد أصبحت المكتبات التجارية تبيع المصنفات التراثية للزينة أكثر مما تبيع الكتب، وأضحى الكتاب ترفًا في زمن الضروريات والكماليات.

لكن هل يعني هذا أن الرقمي هو الخلاص؟ لا ليس ذلك بالطبع.

إن الكتاب الإلكتروني يملك مميزات يصعب إنكارها: خفة في الحمل، سهولة في التوزيع، تكلفة منخفضة، وإمكانية التفاعل عبر الصوت والصورة والفيديو. لكنه، في المقابل، يفتقر إلى تلك الحميمية التي تربط القارئ بالورق، وتُشعره بأنه يعيش داخل الكتاب لا خارجه.

كما أن الكتاب الرقمي لا يزال يواجه تحدياتٍ تتعلق بالقرصنة، وانخفاض القيمة الرمزية، وغياب التشريعات التي تحمي حقوق المؤلف في العديد من الدول العربية. أضف إلى ذلك أن غياب البنية التحتية الرقمية لدى معظم دور النشر المغربية جعل من عملية الانتقال إلى النشر الإلكتروني عملية بطيئة، وعشوائية في أحيان كثيرة.

الجواب ليس في التكنولوجيا وحدها، بل في بناء ثقافة رقمية متكاملة حيث يجب إنشاء منصات مغربية مستقلة تتيح للكتّاب نشر كتبهم وبيعها إلكترونيًا، وأن تواكب الدولة هذا التوجه عبر تحفيزات ضريبية، وبرامج تكوين، وحماية قانونية للحقوق الرقمية.

كما ينبغي تعزيز التعاون مع شركات دولية متخصصة في ترويج الكتب الرقمية، وربطها بالمكتبات الجامعية والمدارس، حتى لا يبقى الكتاب الإلكتروني حبيس الهواتف الذكية فقط، بل شريكًا فعليًا في الفعل البيداغوجي والتربوي والمعرفي.

في هذا اليوم العالمي للكتاب، لا أملك إجابة يقينية. لكنني، ككاتب مغربي، أؤمن بأن الكتاب ـ سواء وُلد من رحم الورق أو من رحم الشيفرة ـ سيبقى ابني الروحي، وصوتي العابر للزمن والمكان. ما نحتاجه ليس أن نختار بين الورقي والرقمي، بل أن نعيد التفكير في معنى "القراءة" في زمنٍ يضجّ بالصور، ونُعيد ترتيب علاقتنا بالمعرفة في عالمٍ بات فيه النسيان أسرع من الطباعة.

لعل قصدية الكتاب، في النهاية، ليس شكله، بل أثره في من يقرأه.

***

عبده حقي

 

هناك علاقة مرنة تربطه بالصدفة وهو القادر على ترويضها دوما وعلى إعطائها شكلاً يشبهه وينتمي لعوالمه مؤكد في هذا على أن الفن اكتشاف.. وأن رشقات اللون على سطح العمل لا تخلق أشكالها اعتباطا ً طالما كانت مرتبطة بعوالم الذات وطالما كان الفنان المكتشف صديقنا العزيز أسعد فرزات.

سحره يكمن في قدرته على تحويل كل السطوح المشغولة مسبقاً بأقل قدر من الجهد واللمسات لأعمال تنتمي لأسلوبيته ولذاته وحياته وهو يلخص أشكاله المؤنسنة لتبدو كما ظلال تخترق جدار الخلفية لتتحول إلى نافذة تتطلع للحرية هو تلخيص شفاف مشحون بحس إنساني لعوالم غرائبية تشدك إليها بسحر ما ثم تشغلك برغبة الإمساك بالسر والخيط المؤدي لاستكشاف أبعادها الجمالية وقيمها الروحية.

والسر هنا يكمن في حركة بسيطة وعفوية ومخالفة تشدك إليها عبر جديلة شعر قادرة على تغيير المسار.. أو ربما في سوار يضعه في مكان ما ليبدو كما لو انه اللوغوا الخاص به وبأعماله.1406 hasan

تنتمي أعمال فرزات للتعبيرية والتجريد وهو يمازج ما بين الطرح العفوي والرؤية الهندسية فعقليته الأكثر تنظيماً تجد لها دوراً كاشفاً في المراحل الأخيرة للعمل وهي تتجلى عبر مساحات صماء لا تخلو من قطع هندسي يمتد إلى الأعلى او إلى الأسفل بدرجة واحدة أفتح او أغمق تخدم التكوين وتربط مفردات الشكل.

أمام أشكال اسعد فرزات أنت لن تتساءل عن النسبة والتناسب فلمخلوقاته الغرائبية نسبها المختلفة التي تعكس قدرة الفنان على خلق توازنات حسية من أي زاوية كانت وفي أي مكان كان.. لتبقى لوحاته عالقة في ذاكرة الزمان..1407 hasan

أما معرضه الذي أقيم مؤخراً تحت عنوان (وجوهنا التي غادرتنا) فهو يترجم خلاصة الألم الإنساني عبر مجموعة من الوجوه المتشابهة بملاح غائبة.. عبثاً تلاحق تفاصيلهم بخوف علك تتعرف على أخ أو أو أخت ابن أو ابنة غائب ة بينهم فلا تجد فيهم سوى ذاتك الممزقة بكل ما يعتملها من شوق وحنين وآلام.. وحين تعاود المتابعة ينتابك الخوف مجدداً فأنت كما الفنان لا تريد أن تخصصهم بأية هوية عرقية أو طائفية فهويتهم الأسمى هي الانسان.. لن تبحث بعد هذا أن قريب لك بينهم فكلهم صاروا أقارب.. هم ضحايا الحرب والضحايا طرف آخر مكونه الأبرياء من الجانبين.. لا تخلو بعض الوجوه أيضاً من نفس ساخر كاريكاتيري هو متنفس ومساحة لإطلاق بعض من السباب.. والحقيقة طالما كان لماهية الفن غرض تنفيسي وبتلك الصورة يجد الشتام مبرراته ويصير أكثر قبولا إذ يتطهر من كل السلبيات وترتقي في اللوحة غاياته1408 hasan

أختم بالقول (متوجهاً لصديقي الفنان): ابق كما عهدتك مستثمراً لكل الآلام في عمل ابداعي يميزك كفنان وأنت المميز بعيداً عن السوقية ودمائها القانية الملطخة بالشتيمة ومطباتها اللئيمة.

وللإنسانية أقول: كفانا دماء.. كفانا قهرا لقلوب الأمهات والأبناء.. ف والله لا أراه سوى صراعا ما بين أعضاء الجسد.. . ولا دواء لنا فيه سوى التخلي عن أطماعنا وأحقادنا صوى العودة لحقيقتنا وإنسانيتنا والله لا دواء لنا فيه سوى المحبة.. وبغير المحبة قد نفقد كل الأحبة.

***

الفينيق حسين صقور

 

الشاعر

ليس لغة، ليس خيالا، ولا صورا شعرية، الشاعر حالة كآبة استثنائية، وإنسانية مفرطة يتقصى الهوامش، التفاصيل وماهيات الأشياء، وكمرآة يعكس لنا مدى سفلية العالم، إنه يأخذنا من الصخب إلى الغرق في صمت الذات ولا يكتفي بما يطفو كباقي الكائنات اليومية، ليس لشيء إلا لأنه مريض بالحقيقة ...

الشعر

تمرد على المستحيل، منطق الحلم، وكشف الذات الجمعية، إنه أنت إذ ترى في العتمة، حدسك، انعكاسك، محاولة لتفكيك الوجود عند قراءة العلائقيات بين المرئي واللامرئي، حيث تتكاثف الرؤى ...

الرواية

تعلمك الدهشة والعودة إلى فطرتك الأولى الطفولية، هي فن معرفة الآخر في ذاتك حيث يتصالح الماضي مع المستقبل حين يلتقيان وحاضرك، وشكل من أشكال الجمال القبيح والمستفز عندما تفضح ممارساتنا اليومية وتجعلها غير مألوفة، إنها نقد الفكر الاعتيادي ...

الأدب

المرآة التي تعكس وضوحنا الغامض، الفاضح للمكبوت، للمسكوت عنه، لخيانتنا المتكررة لأنفسنا، للهوّة الفاصلة بين التاريخ واللحظات، وهو الحرية المؤقتة التي نمارسها خلسة من قيود العقد الملازمة لنا ...

***

فؤاد ناجيمي

حدثني فقال: قال القسيمُ الوسيمُ ﷺ: (استوصوا بالنساء خيراً فإن المرأة خُلقت من ضِلْعٍ، وإنَّ أعوجَ ما في الضِّلْعِ أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمُهُ كسرتَهُ، وإن تركتَهُ لم يزل أعوجَ، فاستوصوا بالنساء خيراً)، فقلتُ لهُ: وإنَّما زينَةُ الحَواجبِ العَوَجُ، ثمَّ استدركتُ مِن فوري أنَّ هذا القولُ يا صاحبي بحواجبِ الإماءِ لا يتغزَّلُ، بل هوَ بمضارب مُفردةِ (العوج) يتنزَّلُ، وهاكَ تفسيرَها بحرفٍ عَفيفٍ خَفيفٍ لطيفٍ يتجزَّلُ..

فأمَّا العَوَج؛ بفتح العينِ فنقوله لشيءٍ ملموس: (في قوائم الدابة عَوَج، في جدارِ الدار عَوَج،..). وأمَّا العِوَج: بكسر العين فنقوله لشيءٍ محسوس؛ (تَبْغُونَهَا عِوَجًا)، (أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا)، (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)، (لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا). فردَّ عليَّ صاحبي بحاجبٍ مُقطَبٍ ولسانٍ مُتأوِّل؛

مهلاً يا صاحُ، فأنا لستُ من قومٍ ذي فكرٍ عِوجٍ أينما تَحوَّلوا يَتَحوَّل، في ذا دهرٍ ضريرٍ ذي طَرفٍ عَوَجٍ، ومريرٍ ذي عُرفٍ عِوَج يتغوَّل، وتراهُ مُتلهفٌ ومُغرمٌ بفكرِ عمائم ضالةٍ مُضلة ذواتِ ذكرٍ مُتسوِّل، فحذارِ حذارِ من تدليسٍ عليَّ من مثل ذكرِ العمائم المُتَعلعل، فإنَّ آيةَ (لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) تصفُ نسفَ الجبالِ، وإنَّما الجبالُ شيءٌ ملموسُ لكلِّ ناظرٍ مُتَجوِّل؟!

فزعتُ وما جزعتُ من صلابةِ ردِّهِ المُتشَكِّل، فنزعتُ الى ردٍّ باللينِ الوَدودِ مُتبلِّل:

- أجل يا صاح، وحاشا للهِ أن أكون ذا عمامةٍ مُدَلِّسةٍ تتقوَّل، أو حتى غيرَ مُدَلِّسة تلتقطُ اللقطةَ كي تتأوَّل، لكنِ الأمرُ ليس كما ذهبتَ فأشهبتَ بردٍّ مُتنفِّل، بل فيه نكتةٌ لطيفةُ بديعة تأسرُ ذا اللبِّ المُتأمِّل، ذلك أنَّ ربَّنا اللهَ ﷻ سوف ينسفُ الجبالَ فيجعلُها قاعاً صفصفاً لا يمكن لحسِّكَ أن يشعرَ بعِوَجٍ فيها محسوسٍ متأصِّل، فضلاً أن تنظرَ عينكَ على عَوَجٍ ملموسٍ مُتحصِّل، وهكذا فَسَّرَ سيد صنعةِ الضَّاد "الزمخشري" من قبلُ في تفسيره "الكشاف"، إذ قال وهو بميدانِ البيانِ يتجوَّل:

[..لو انكَ عَمدتَ إلى قطعة أرض وبالغت في تسويتها على عيون البصراء، واتفقوا على أنه لم يكن فيها اعوجاج، ثم استطلعت رأي المهندس فيها، وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية، لعثر فيها على عوج لا يدرك بحاسة البصر. فنفى الله ذلك العوج الذي لطف عن الادراك إلا بمقاييس الهندسة. وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الاحساس لحق بالمعاني، فقيل: فيه (عِوَج) بالكسر].

ردَّ صاحبي يلتمسُ منيَ العذرَ وقد قذفني بعار عمائم التدليس المُتطفِّل. فأجبتُ بحرفٍ جميلٍ مُتجدِّل؛

لا عليكَ يا صاح، فلا لومَ على العمائمَ ذواتِ الذِكرِ المُتَسوِّل، لأنها لا تجرَّأ على دسِّ تدليسها على قوم ذوي فكرٍ نبيلٍ متأصِّل، حتى تستيقنَ أن أولئك القوم قومٌ مُرجفونَ مُرحِّبونَ بل مُغرَمون بكل ذرفٍ عِوَج مُتَبَدِّلٍ مُتجوِّل، ثم تراها - اي العمائمَ - منطلقةً في كل طريقٍ عَوَج مُتغوِّل.

انتهى الحوار مع صاحبي النبيهِ المًتفضِّل، وغادرَ الدار فبادرتُ لزوجي حذوي آمراً لها بقولٍ في الودِّ كفيف متهدِّل : "آتنا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِيتُ مِن حِواريَ هَٰذَا نَصَبًا، أوَما تَرَينَ حاجبَ السَّاعةِ قد غمزَ للرابعةِ عصراً، أمَا وإنكِ لزوجٌ عَوَجٌ عِوَجٌ عُوُجٌ عُوَجُ وعِوُجٌ، ولبئس يومُ العرس ذاك، إذ كانَ يومَ نحسٍ مستمرٍّ وذا نوءٍ عِوَجٍ غيرِ مُستقرِّ أهوج؟ فردَّت عليَّ زوجي بتَغَنجٍّ مزعجٍ يَبَسٍ بئيسٍ ذي عِوَج:

- وهلِ تهي (الشخابيط) التي تكتبها قدِ اسْتَنْزَفَت قواكَ وجعلَتكَ جائعاً يا بَعليَ ذي الفكرِ الأعرج، والذِّكرِ الرجرَج؟

واهٍ ثم آه!

ما أرانيَ إلّا قدِ اقترنتُ بزوجٍ همج، العمائمُ أهونُ منها حديثاً وأبلج، ولكن..

هذا جزاءُ كل مَنِ اقترنَ بزوجٍ عِوجٍ من غيرِ منهج !

***

علي الجنابي

 

هل تكفي جلستان معهما تفقدهما بعدها ليسرح في قلبك حزن يجبل ذاته بعبير ورود استقبلتك في تلكما الزيارتين في مدخل بيتهما؟!

وهل لو قدر لك اختيار شكل موتك ستختاره رومانسيا، وأنت تعلم أنهم سينسجون حوله حكاية لعاشقين ظلا حتى لحظاتهما الأخيرة يدا بيد، أمنية تتمنى لو أن الكون لا يفرقهما؟!

وهل يجذبك المكان الذي عشقته، وأكثرت من التردد عليه لتمارس هواية تحبها لتقضي نحبك فيه، وأنت الذي شرقت تفاصيله وتنفستها؟!

وهل يقدر لأناس أن يلتقوا، لأن قدرا ما يجمعهم، ولأن أحاسيس ما سيعيشها طرفان سترافقهما ذكرى جميلة رغم ما ستغص به من الألم؟!

وهل الوجوه المرايا تعكسك في الانطباع ذاته، وحين حملت لها الود بادلتك بالود ذاته؟!

ترى حين نغوص في أسرارك يا حياة على أي شطّ سنتوقف، وفي أي الأبواب سنلج، ومن أي الكنوز سنعبّ؟!1369 aman

السيد أحمد دنيا، وزوجته السيدة حليمة النابلسي/ دنيا لبنانيا الأصل من مدينة المنية التابعة لطرابلس، عزيزان قريبا غاليين علي، صعقني خبر موت الزوج، وطريقته وما حصل للزوجة، خبر دريت به منذ ساعات، ومن حينها والمشاهد أمامي تتوالد، ورغم أنهما كانتا زيارتين لبيتهما فقط، لكني أقف دهشى مما راحت تشتغل عليه ذاكرتي من الإضاءات، وكأنهما سنوات أزورهما كل يوم، ولا أنقطع..

في أولاهما حفّني عبير الزهور في صدارة بيت أفصح عن دفئه، وسار معي وافترش جلسة ثنيتها بصحبة صديقتي الغالية سلام أخت صاحبة المنزل وزوجها الغالي أخي عمر علم الدين، وجميعهم ينحدرون من بيوت كرم وحفاوة وود ووفاء يندر وجوده في هذا الزمان، وفي مدينة مثل سيدني غربية تبعد، وتنأى في كل شيء عما حملناه من موروثات وتقاليد كعرب، وكمسلمين في أوطاننا الأم.1370 aman

كان بود يوم الاثنين المنصرم أن يكون يوم نزهة مرح، وصيد لزوجين في سن التقاعد جمع بينهما الحب وظللتهما السكينة، اعتادا التردد على ركن من نهر باراماتا عندما أفلت قياد السيارة من السيد أحمد رحمه الله، ويعتقد أنه داس على دواسة البترول، وأول ما شحط أمامه زوجته التي ارتفعت في الهواء، وسقطت ثانية على مقدمة سيارتهما السوداء التي أودت بجزء من الجدار السلكي الفاصل بين النهر والرصيف، قبل أن تسقط بثقلها في النهر دائرة تسحب طريقها المائي إلى عمق النهر!

قدرت الحياة لحليمة الزوجة الوادعة، شفاها الله وعافاها، لكن الموت استأثر بزوجها الرجل الثمانيني الوقور الهادئ كطفل بريء..

ستصاحبني جلستان معهما في بيت نطق بنظافة ناصعة، نظافة قلبين استضافاني ذات مرتين، وسيظل الطريق إلى بيتهما يغدق في قلبي نورا رغم أنه كان مظلما في تلكما الساعتين، وستعنّ على البال سنارة صيد، وسلة بلاستيكية لحفظ الأسماك التقطتا صورة تذكر بحبيبين سقطت ورقة أحدهما بعد أن ناداه الله إلى واسع رحمته، وقدّر للآخر أن ينتظر منفردا يعيد ترتيب المشاهد مثلي بدمع لن يضاهيه نهر برماتا غزارة وسيلانا..1371 aman

أمان السيد - سيدني

16-4-2025

 

لطالما كان الحنين مرشدًا لي في دروب الزمن المظلمة، يسحبني في خيوط ضبابية، تائهة بين دفاتر الماضي وأحلامي المستحيلة. كلما أغرق في الصمت، أسمع في أعماقي أصواتًا قديمة، همسات من ذكريات كنت أظنها قد غادرت منذ زمن بعيد. كل زاوية من حياتي تحمل شيئًا منك، تفاصيل صغيرة كنت أراها بديهية حينها، واليوم أصبحت جزءًا من قلبي الذي لا يعرف كيف ينجو من ألمه.

أنتِ في كل الوجوه، في كل الأماكن، في كل اللحظات التي تلوح لي حين أغلق عيني، وكأنك جزء من هذا الكون، لا يمكن التخلص منه. أبحث عنك في طيف يمر أمامي، في لحظة شروق، في خيوط القمر التي تتساقط على روحي ببطء. وفي كل مرة أظن أنني نسيت، يعود الحنين ليذكرني بما كنت عليه، بما كنت تملكينه مني.

عينيّ لا تفتأ تتساءل كيف كان ذلك الحلم حقيقيًا في يوم ما، وكيف ضاع بين يديّ كأنه لم يكن سوى سراب. كيف اختفى الأمل في لحظة، ليبقى الحنين فقط، يتجدد كلما لامست روحي لحظة مفقودة. والآن، أعيش بين الماضي الذي لا أستطيع الهروب منه، وبين الحاضر الذي أبحث فيه عن بقاياك.

ولكن ماذا أفعل؟ كيف لي أن أعود؟ هل يمكن أن أستعيد تلك الأيام التي كانت مليئة بك؟ أو هل أصبحت مجرد ذكرى عابرة تمزقها رياح الزمن؟ ربما في عمق الحنين، أكتشف أنني لا أبحث عنك فقط، بل عن نفسي التي كانت هناك، معك، في تلك اللحظات.

***

ربا رباعي - الاردن

 

حين تختنق الروح بصمتٍ مدوٍّ، تبدأ بالانطفاء.. تُمارس الحياة بجسدٍ حيّ وقلبٍ يحتضر.

تمشي، تضحك، تتحدث… لكنك تحمل بداخلك جنازةً مؤجلة، وجعًا عالقًا، وحنينًا لا تعرف مصدره.

حين تنطفئ، لا يعني أنك ضعيف، بل يعني أنك تعبت من القوة.

تعبت من مجابهة الحياة بصدرٍ مفتوح دون أن تجد كتفًا تستند عليه…

من محاولات التماسك كل مرة، من رفع رأسك كلما انكسر، ومن قول "أنا بخير" وأنت لست كذلك.

كل الذين قالوا "أنا هنا إن احتجتني"، لم يكونوا هناك حقًا…

كانوا مجرد صدى بعيد، كلمات عابرة، تعاطف مؤقت، ثم مضوا.

ولم يبقَ أحد يلمّ شتاتك حين بعثرتك الحياة…

في لحظة ما، تشعر بأنك غريب حتى عن نفسك.

تجهل مَن تكون، ولماذا تبدو ضائعًا.

تتفقد ملامحك في المرآة… تبحث عن النسخة القديمة منك، لكنها لا تعود.

تحاول أن تكتب، أن تبكي، أن تصرخ… لكن لا شيء يُخرج هذا الكم من الألم.

المؤلم ليس فقط أن تُخنق، بل أن لا يفهم أحد معنى اختناقك.

أن يُفسَّر حزنك بالتمثيل، وسكوتك بالغرور، وبعدك بالتجاهل.

أن يشعر بك قلبك فقط، بينما العيون من حولك عمياء عن كل ما يجري داخلك

ربما أنت لا تحتاج إلى من يُنقذك…

بل إلى من يفهم صمتك، يقرأ ملامحك، ويُمسك يدك دون أن تُخبره أنك على وشك السقوط.

ربما أنت لا تطلب الكثير… فقط حضنًا صادقًا، و"أنا معك" لا تشبه الوعود الكاذبة.

هذه ليست قصة حزن مؤقت…

بل قصة أرواح صارت معتادة على الحزن، لدرجة أن الفرح صار غريبًا عنها.

هذه ليست كلمات شخصٍ ضعيف…

بل كلمات قلبٍ قوي تعب من الصراخ في فراغٍ لا يسمعه أحد.

***

ايناس الحربي

في قصته الرمزية “الفونوغراف الأزلي”، كتب خورخي لويس بورخيس جملة تختزل مصير الإنسان في العصر الحديث: “الإنسان يموت عندما تختفي مكتبته”. لم يكن يتحدث عن اختفاء مادي لرفوف الكتب، بل عن اندثار كينونة الإنسان المفكّر، عندما تُسلب منه أدوات الذاكرة، والتأمل، والربط، والتأويل. المكتبة عند بورخيس ليست أثاثاً ثقافياً، بل جهازاً وجودياً يصنع المعنى، ويمنح الذات هويتها التاريخية والرمزية. حين تختفي المكتبة، لا يغيب الحبر والورق، بل يغيب الإنسان بما هو كائن متسائل.

2- من الذات المفكّرة إلى الكائن المُدار

لقد دخل الإنسان، من دون وعي، عالماً تُديره خوارزميات، وتُسيّره آليات لا مرئية تتعقب سلوكياته، وتعيد تشكيل رغبته، وتُعيد برمجته وفقاً لمعطيات السوق. لم يعد الفرد كائناً يفكر، يقرّر، يتخيّل، بل صار يُدار عن بُعد بواسطة تقنيات التتبع والتحليل السلوكي التي تديرها شركات التكنولوجيا العملاقة. أصبح الإنسان مجرد بيانات رقمية، مادة قابلة للقياس، يتم التلاعب بها لأغراض تسويقية وسياسية. وهنا يموت الإنسان كذات حرّة، ويُبعث كـ”مستخدم” ضمن نظام تشغيل رأسمالي.

3. اقتصاد الألم وإدارة الجسد

التحوّل الأكبر لم يقف عند حدود الفكر والرغبة، بل تجاوزهما إلى الجسد ذاته. شركات الأدوية الكبرى لم تعد تسعى إلى علاج الإنسان بقدر ما تسعى إلى إدارة ألمه واستثماره. فالأمراض المزمنة تدرّ أرباحاً أكبر من الشفاء، والألم المستمر أكثر نفعاً من الراحة. نحن أمام اقتصاد مبني على وجع الإنسان، تتلاعب به شركات تسعّر الأدوية، وتتحكم في الإمدادات، وتنتج علاجات مؤقتة تبقي المريض في حالة استهلاك دائم. وهكذا يتحوّل الجسد إلى سلعة، والألم إلى عملة، والحياة إلى معمل تجاري مفتوح.

 سحق الذاكرة وتحويل الروح إلى خوارزمية

في هذا السياق، لا يُمحى الجسد فقط، بل تُسحق الذاكرة. الإنسان لم يعد بحاجة إلى أن يتذكّر، أن يحلم، أن يتأمل؛ فالتقنيات الجديدة تعرض عليه كل شيء جاهزاً: ملخصات، إشعارات، مقاطع قصيرة، ترشيحات أوتوماتيكية. أصبحت الروح عبارة عن ذاكرة خارجية مخزنة على خوادم ضخمة، يحدد الآخرون ما يبقى منها وما يُمحى. وهكذا، تحوّلت الروح من كونها مجالاً للتجربة والعمق، إلى خوارزمية تُملى عليها اهتماماتها، وأذواقها، ومواقفها.

المكتبة: آخر معقل للمقاومة الرمزية

في مقابل هذا الانهيار الرمزي، تظهر المكتبة كملاذ لا غنى عنه. ليست المكتبة، في هذا السياق، مجرد مكان تُخزَّن فيه الكتب، بل هي معمار روحي ومعرفي يقاوم ابتذال الوجود، ويدفع الإنسان إلى التأمل، والمساءلة، والتخييل. في المكتبة، يعود الإنسان إلى ذاته؛ إلى الأسئلة الأولى، إلى الأنساق الكبرى التي تُفسر العالم. إنها الفضاء الذي يسمح له بالخروج من فقاعة الاستهلاك، والتفاعل مع نصوص لا تخضع للّحظة الرقمية، بل تُمثّل تراكمًا تاريخياً وفلسفياً يُغذّي المعنى.

القراءة فعل حرية… لا استهلاك

القراءة هنا ليست نشاطاً ترفيهياً، بل موقف وجودي. من يقرأ لا يُدار، لأنه يملك أدوات المقاومة: العقل، الخيال، اللغة، والذاكرة. القراءة تُبطئ الزمن، وتفتح نوافذ على احتمالات غير مفروضة، وتعيد للإنسان قدرته على قول “لا”. من يقرأ لا يكتفي بالتمرير، بل يسأل ويُعارض ويعيد ترتيب المعنى خارج حدود السوق.

أن تحيا بمكتبة… أن تبقى إنساناً

حين تختفي المكتبة، لا تغيب الكتب فحسب، بل يُمحى الإنسان ككائن رمزي، مبدع، متأمل. حين تُستعاد المكتبة، تُبعث الذات من جديد. المكتبة، بما تحمله من مخزون لغوي وفلسفي وأخلاقي، تُعيد للإنسان صورته التي شوّهها التسليع الرقمي والتفاهة المنتجة على نطاق واسع. إنها الحصن الأخير في معركة المعنى، وهي السبيل إلى النجاة من العدم الناعم الذي تفرضه الخوارزميات.

خاتمة: لا خلاص بلا ذاكرة

في زمن تسحق فيه الرأسمالية الرقمية الإنسان بين شاشات تُلهيه وأدوية تُبقيه ضعيفاً، تبدو العودة إلى المكتبة ليست فعلاً ثقافياً فقط، بل ضرورة وجودية. الإنسان الذي لا يتذكّر، لا يقرأ، لا يتأمل، لا يمكنه أن يكون حراً. وحين يموت المعنى، تموت الذات. وحين نحيي المكتبة، نمنح أنفسنا فرصة أخيرة لنكون بشراً، لا مجرد رموز في قاعدة بيانات عالمية

***

يونس الديدي - كاتب مغربي

بقلم: هيذر كريستيل

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

لا ينبغي السماح بإخراج ضلعٍ من جسد أي كاتب، فما بالك بشاعرة.  فالاستعارة قوية جدًا لدرجة أنه، بعد الجراحة، ستضطر إلى التعامل ليس فقط مع الآثار الجانبية المعتادة (الإمساك، وجرح صغير في الرئة، وألم يتطلب مسكنًا بقوة "عشرة" على مقياس الوجوه المتألمة المنتشر)، ولكن أيضًا مع صدى باقٍ يهدد بالانفجار في كل جملة تلتها، سواء كانت تنطق بها أو تكتبها.

تصرخ: أخذوا ضلعي!"

تجيبها الصديقة الزائرة في محاولة للمساعدة

"وهل صنعتِ امرأة؟"

تقول الكاتبة، تلك الإلهةَ الخرقاء اليائسة.

"لا "

ثم تضيف:

"لكنني، صنعتُ كتابًا."

***

هل لديك مذكرات بداخلك، لكنك تعانين في إخراجها؟"

يسأل غلاف كتاب تعليمي. أجد هذا مضحكًا للغاية، وكأن المذكرات هي الشيء الذي يصعب عليك شرحه لطبيب المستقيم في غرفة الطوارئ. كما يبدو غير دقيق؛ فالكتب تمر عبر الجسد، وتتشكل بطرق معينة بفعل الجسد، لكنها — من خلال تجربتي — لا تنبثق ببساطة كاملة التشكّل من الداخل.

شعرتُ وكأنها صفقة من حكاية خيالية: أتنازل عن ضلعي، فيسلمني رجل صغير ملتحٍ كتابي، أخيرًا مُذهّبًا.

ومع ذلك! أخذوا ضلعي! في ذلك الوقت، كنت أحاول إنهاء التعديلات على رواية In the Rhododendrons، وهو مذكرات كنت أعمل عليها منذ ست سنوات. بدا الأمر كصفقة من قصة خيالية: أتخلى عن ضلعي، فيعطيني رجل ذو لحية كتابي، وقد أصبح ذهبيًا أخيرًا. في الثاني من أبريل 2024، استيقظت لأجد يدي اليمنى وذراعي ثقيلتين ومتورمتين، بلون غير جذاب بين الرمادي والأرجواني الداكن. بدا أن هذا أمر سيء، لذا ذهبت إلى غرفة الطوارئ، حيث أخبروني أنني مصابة بتجلط دموي في الوريد العميق بالقرب من عظمة الترقوة، بالإضافة إلى وجود انسداد رئوي صغير. السبب كان متلازمة باجيت-شروتر، وهي حالة نادرة يتطور فيها الضلع العلوي وعظمة الترقوة والعضلة بطريقة (غالبًا نتيجة للتمارين الرياضية المرهقة المتكررة) بحيث يتم سحق أحد الأوردة الرئيسية التي تمر عبر المنطقة تدريجيًا إلى درجة أن الدم لا يستطيع التحرك بشكل طبيعي، بل يتجمع في كتل من المادة الحمراء اللزجة.

قال لي الجراح بعد أن نقلوني إلى غرفة المستشفى استعدادًا للعلاج العاجل: "توجد هذه الحالة غالبًا في الرياضيين الشبان شديدي اللياقة البدنية"، فشعرت أنني أستحق درجة A للتمارين المكثفة التي كنت أقوم بها تقريبًا يوميًا لمدة أربع سنوات. في وقت لاحق، في غرفة العمليات، أثنت ممرضة على عضلاتي، فوضعت نجمًا ذهبيًا آخر على مخططاتي الداخلية قبل أن أفقد الوعي. غروري ليس له علاج معروف.

خلال فترة الاستشفاء الأولى تلك، كان التركيز منصبًا ببساطة على إزالة الجلطة، وهي عملية من جزأين، قضيت بينهما الليل في وحدة العناية المركزة، في ألم لا يُحتمل وبركة من البول تخصني. وقد نتج هذا الأخير عن رفض ممرّض الليل تصديق أن الجهاز ذي الاسم المروّع "بيوروِك" لم يكن يعمل بشكل صحيح، إضافة إلى رفضه طلبي البسيط بأن يتفحّص، كما تعلم، أغطية السرير.

أما السبب وراء الألم فكان رفضه مساعدتي على إمالة جسدي المجمَّد قليلًا إلى الجانب، إذ قال إن ذلك قد يؤدي إلى طعن الأعضاء الداخلية بالقُسطرة المثبتة في أعلى فخذي. ولم يكن بإمكانه إعطائي مسكنًا للألم، خوفًا من أن يتداخل مع المواد المختلفة التي كانت تسري بالفعل في عروقي وتدفع أرقامي—وكان لديّ الكثير من الأرقام—إلى مناطق الطوارئ.

قلت:

"أرجوك"

لكنه لم يسمعني ومضى مبتعدًا. بكيت. بلغ وجهي الدرجة القصوى من الألم.

وكأن الكلمات كانت سُلّمًا يمكنني التشبث به بدل السقوط في الهوّة المحيطة بي، بدأت أردد القصائد لنفسي، وحين نفدت، لم يتبقَّ لي سوى ترديد ترنيمة بسيطة: "أنا شاعرة، أنا إنسانة، أنا شاعرة، أنا إنسانة"، وأنا أشعر بوحدة تامة، وكأنني منبوذة، مستبعدة من كل تعاطف بشري.

لم يكن هناك شيء سوى الظلام ونقاط وامضة. حمراء، صفراء، خضراء.

وفي الصباح، حين أعادت الشمس الألوان الأخرى إلى الغرفة، أبدت الممرّضات الجديدات امتعاضهن وهن يغيّرن فراشي وأدويتي.

قلن لي:

"عليكِ أن تُخبِرينا بهذه الأمور! نريد أن نتجنب الألم"

لم تُجرَ العملية التالية، وهي إزالة الضلع المسبّب للمشاكل، إلا بعد مرور شهر آخر. بعد ذلك، أراني الجرّاح صورةً له. بدا وكأنه ضلع احتياطي، وهو كذلك بالفعل، إذا أخذنا كل الأمور بعين الاعتبار.

في اليوم السابق لذهابي إلى غرفة الطوارئ، كنتُ قد أرسلتُ مسودة المخطوطة إلى والدتي عبر البريد، لأنني كنت بحاجة إلى أن تتحقّق من الحقائق الأساسية في السرد، ولأنني كنتُ أعلم أنها ستجد قراءة الصفحات أمراً صعباً. كنتُ أرغب في تمهيد أكثر الطرق لطفاً نحو نشر الكتاب. ثم عدتُ إلى المنزل ومارستُ التمارين باستخدام أوزان جديدة أثقل من المعتاد، في محاولةٍ لإبعاد ذهني عن كل شيء.

عندما بدأتُ العمل على رواية " بين نباتات الرودودندرون"  كنتُ أتصوّر أنه سيدور حول موضوع حدائق كيو، تلك المساحة النباتية الواسعة التي كانت والدتي تلعب فيها في طفولتها، على مقربةٍ من منزلها في الجانب الغربي من ضواحي لندن. كنتُ أعرف كيف أُنشئ مثل هذا البناء؛ فقد سبق أن فعلتُ ذلك في كتاب البكاء. من تلك النقطة المركزية في كيو، كنتُ أظنّ أنّني سأجد محاور تشعّ منها — تواريخ شخصية وعامة، معلومات علمية واقتصادية وثقافية، مع اهتمام مستمر بحياة وأعمال فرجينيا وولف، التي كانت قد أقامت في الجوار ذات يوم.

أحدُ المحاور المشعّة في سجلّ تاريخي الشخصي يتضمّن ليلة لا أتذكّرها تمامًا، كنتُ فيها فتاة في الرابعة عشرة من العمر، ثملة، دخلتُ مع رجل إلى زقاق خلف نادٍ ليليّ في لندن، وخرجتُ ودمٌ على ملابسي الداخليّة. لم يكن ذلك أمرًا تافهًا، لكنه أيضًا لم يبدُ وكأنه في صميم الكتاب.

شهرًا بعد شهر، كنت أضيف دائرةً تلو الأخرى: بيت النخيل الضخم في حدائق كيو، وكيف كان زجاجه في السابق أخضر اللون، والطريقة التي وصفت بها وولف بريقه، "كما لو أن سوقًا كاملًا من المظلات الخضراء اللامعة قد فُتح تحت الشمس"، ثم أوجه الشبه المعمارية بينه وبين قصر الكريستال، وكيف أن أول مشاة بريطانية قُتلت بسيارة كانت على مضمار السباق قرب قصر الكريستال، وكيف أنها — قبل أن تصدمها السيارة — رفعت مظلتها وكأنها قد تحميها.

كان هذا مجرد خط واحد من خطوط الاستقصاء. وقد تورّمت المسوّدة لتتجاوز 120 ألف كلمة، قرأتها وكيلتي الأدبية — ببطولة — ثم اقترحت بلطف أن أبدأ بتقليصها. هناك سطر من قصيدة لتوني توست غالبًا ما أفكر فيه: "لا أعرف كيف أتحدث عن والدي البيولوجي، لذا سأصف البحيرة."كانت لديّ بحيرات كثيرة. وبدأتُ عملية تجفيفها.

من المنطقي أن يصبح إتمام تأليف كتاب صعب مرتبطًا مجازيًا بمغامراتي الطبية المتزامنة.

في أول حديث لي مع المحررة، سألتني عمّا أظن أن الكتاب يدور حوله، في جوهره، فلجأت إلى كذبة مريحة: قلت إن الكتاب—مع بعض الانحرافات العرضية—يدور حول ثلاث نساء: أمي، وفرجينيا وولف، وأنا. ثم رأيت، لخيبة أملي، أن هذا كان صحيحًا، مما عنى أنني لن أكتفي فقط بمواصلة هذا الاستنزاف، بل سيتوجب علي أيضًا أن أنظر مباشرة في أحداث من حياتي كنت، حتى تلك اللحظة، أُبقيها تحت الماء. وما هو أصعب من ذلك، كان علي أن أرى الروابط بينها.

تنقلت بين دفاتر يومياتي القديمة، ورسائل، وأحاديث مع العائلة، وغالبًا كنت أتمنى لو أنني أجد معانيَ مغايرة لما هو موجود فعلًا، لكن ما إن تعلّمت ما تعلّمته، حتى بات الكتاب يطلب حضور هذا الفهم الجديد. لا يمكنك أن تنسى ما عرفت، لكن يمكنك أن تصوغه في كلمات تُرضيك، تصنع كُلاً حيث لم يكن هناك شيء.

حين وضعت المخطوطة في ظرف لأرسلها إلى أمي، ارتجفت يداي. كنت قد بذلت كل ما في وسعي لأكون عادلة، ولأفهم تجربتها هي أيضًا، لكن كما يذكّرني الناس دائمًا، مقتبسين داني ألتمان: "لا أحد يقول بحماسة: يا للفرحة! هناك كاتبة مذكرات في العائلة!"

هل كان التوتر الناتج عن تخيّل أمي تقرأ كتابي هو ما جعلني أرفع أوزانًا أثقل من المعتاد في تلك الليلة، وأتمرن حتى أسحق أفكاري؟ هل كان فعل كتابة الكتاب، مثل إزالة الضلع، نوعًا من التحرّر؟

حين أكون في خضم الكتابة، يصبح العالم بأسره قائمًا على علاقات محتملة. ولكي أقول الحقيقة، فإن هذا الأمر يكون مثيرًا في العادة، حتى عند التعامل مع مواضيع صعبة. الصور تتكاثر، ولا شيء يخلو من معانٍ متعددة. "كل شيء"، كما كانت وولف تمزح مع شاعر أحبّته، "كان في الحقيقة شيئًا آخر." لذا يبدو منطقيًا أن يكون فعل إتمام كتابٍ مُتطلب قد ارتبط مجازيًا بمغامراتي الطبية المتزامنة.

ومن داخل هذه الحالة المتشابكة، صرت أطرح على نفسي سؤالًا: ماذا كنت سأفعل لو اضطررت للاختيار بين وجود الكتاب واحتفاظي بضُلعي، وبالتالي تجنبي لشهور من العمليات الجراحية المتعددة وتعافيّ المعقّد والمضني؟ وكنت أختار الكتاب في كل مرة. وهذا جيد. فهذا يعني أنني أؤمن بهذا العمل، رغم قلقي المعتاد (وولفيّ الطابع) من ظهوره الوشيك إلى العالم.

لكن هذا لم يحدث. لم يكن هناك رجل صغير يحدّق في ضلعي وهو يحمل كتابًا ذهبيًا في يده. (ماذا عساه كان سيفعل به؟) التجويف الصغير الذي يقع الآن تحت ترقوتي لا يشبه بأي حال شكل صفحاتي.

صحيح أنني أستطيع أن أرسم روابط (مثل التمرين الذي ذكرتُه، أو عادتي في العمل منحنية لساعات فوق اللابتوب على أرضية الخزانة، بوضعيّة فأر شديد التركيز ومدرّب جيدًا)، لكن ثمة الكثير من العوامل الأخرى التي سيتعين عليّ استبعادها كي أجعل هذا المعنى المبسّط ينجح.

ولذا أواصل إرغام نفسي على الاعتراف بأنه لم يكن هناك تبادل، ولا صفقة، ولا حكاية خرافية. ها هو الكتاب، وها هو ضلعي. أحدهما حكاية، والآخر حياتي. أحدهما فن، والآخر جسدي. وأنا أعرف الفرق. فقط، وللأفضل أو للأسوأ، في المرض كما في الصحة—أنا أعيش في كليهما.

***

.....................

الكاتبة: هيذر كريستل / Heather Christle مؤلفة المجموعات الشعرية: "المزرعة الصعبة"، و"الأشجار"، الحائزة على جائزة "بيليفر" للشعر، و"المدهش"، و"غروب الشمس". نُشرت قصائدها في مجلة "نيويوركر"، ومجلة "لندن ريفيو أوف بوكس"، ومجلة "بويتري"، والعديد من المجلات الأخرى. تُدرّس الكتابة الإبداعية في جامعة إيموري بأتلانتا. "الكتاب الباكي" هو أول كتاب لها في مجال الكتابة غير الروائية. مؤلفة كتاب "Between the Rhododendrons" تتأمل في المرض، وفيرجينيا وولف، وصفقةٌ من حكاية خيالية

 

نحمد الله ونشكره، أننا اكتشفنا جداً لنا اسمه (غشيم)، إثر حملات التأطير السكاني والجرد الحزبي، التي تقوم بها أجهزة نظام صدام حسين الأمنية والحزبية، والنبش في سجلات العراقيين المدنية للتأكد من تبعيتهم (العثمانية) منذ ستينيات وسبعينات القرن الماضي، وإستمرت حتى نهايته بأساليب و(فنون) لا مثيل لها في البحث عن الأرومات (الأصيلة). لتمنحهم بعد ذلك فرمانات (النقاء) العرقي . هناك شكوك دائمة في عراقيتنا ووطنيتنا، كأننا شعب بلا تاريخ، ولا أصول، شعب مقذوف إلى الحاضر من اللامكان واللازمان. لم تكتف تلك الأجهزة بالأسم الثلاثي، إنما ظلت تنقّب، لا يهدأ لها بال، تتابع السلالات من دون توقف حتى عند گلگامش !

كنا نسبّح بحمده أنهم لم يجدوا في أصولنا أسم (أغا)، أو  (جيهان) أو اسم (شاه) في سلالتنا (الصافية المصفّاة)، ربما كان مصيرنا أسوأ من أولئك الذين رموهم على الحدود فيما لو عثروا على إسم (قلي) بيننا، فحمدنا الله مرة ثانية أنهم وجدوا (غشيم) والد جدي (علي)، وليس غيره، هو الرباعي ضمن تسلسل الأسماء، واكتفوا به، إذ لا مثيل لاسمه في السجلات المدنية العراقية، (ماركة مسجلة باسم عائلتنا)، لا أحد يشاركنا فيه، امتيازنا وحدنا، تمسّكنا به خشية أن لا يضيع من بين أيدينا أو ينافسنا أحد عليه.

كنا ننصت الى الأصوات الآتية من الماضي فلم نفلح في إسترجاع صوت (غشيم) ولا صورته.

على الرغم من سعينا القفز على اسمه في حالات لا تتطلبها الإجراءات الرسمية، فنذهب إلى أبيه (حمد)، الأجمل (ما عبّد وحمّد) بين الأسماء، عملتها أكثر من مرة للالتفاف على اسم جدي غشيم، حين ينتابني شعور بالخجل أثناء المناداة على اسمي في جمع من الناس، لا شك أني أتمنى لحظتها أن يكون أسم جدي (نبيه)! لكنه يلازمنا، لا فكاك من ظلّه في كل الأحوال.

لم يكن (غشيم) إبن مدينة، كان إنساناً مشتعلاً بالحرمان - كما يروي أبناؤه- تلفحه رياح الفصول، ينام ويصحو على فقره، يقيم في أرض يشبّ البؤس والجوع فيها، لا غيم يهطل ولا شفة تتوحم بالماء. كل زاده من الدنيا بضعة نعجات يقتات من لبنها، فهو غير (زبالة) ابن بغداد العاصمة، الذي عبرت شهرته الأفاق بـ (شربته) المصنوع من الزبيب، وغير (جريو) الذي تنسب له العائلة النجفية المشهورة والكريمة، فقَدر (غشيم) وقدرنا، انه عاش حياة بسيطة في الأماكن التي يتناسل فيها الجراد، الوصول إلى تفاصيلها غير مأمون الجانب، وتاريخ هذا النمط من الناس مرشح دائماً للنسيان، حين لا نجد أثراً أو معنى للاستذكار.

قدرنا الآخر أن اسمه على الأغلب لا يكتبه موظفو السجل المدني بصورة صحيحة، فتذهب نشوة (الامتياز)، لتحضر المتاعب بديلاً عنها، تذكّرنا بمساحات مجهولة مازالت مستكينة في أعماقنا، فـ (غشيم) جاء صحيحاً في بطاقتي المدنية، و(غثيم بالثاء) عند شقيق لي، و(غتيم بالتاء) لدى شقيقة، وعند آخر هو (غنيم). و(عتيم)، و(هشيم)، وهكذا… (غشيم) لا يعرف الثبات بل هو(متحول) في السجلات الحكومية، ربما هو الآخر يريد أن يزيح هذا العبء الثقيل في البحث عن إلفة وتعاطف مع الأسماء المجاورة، لكن البداية تبقى معلقة بالجذر.

قد يبدو للبعض أن للإسم طاقة تفعل فعلها فينا، وربما حالة كهذه يستطيع علم النفس أن يفسرها، هذا الفعل إن صحّ، ترسّخ في مخيالنا وذاكرتنا، الأمر الذي دعانا أن لانقاوم الهواجس المبالغ فيها، بتأويل ما نتعرض إليه من إخفاقات وخسارات في الحياة والعمل والسياسة والعلاقات، وفي الأرواح (عائلة غشيم فقدت ثلاثة أحفاد في شهر واحد) فنردّه إلى (قدرنا) الذي ورثناها من (غشيم)، نحن لا نخوض المغامرات، ولا عرفنا المقامرة، اغلب الأحيان لا نمتلك الجرأة في خوض المنافسات، أو شراء بطاقات اليانصيب تكون فيها النتائج محسومة لأصحاب الحظوظ العظيمة، فلا حرج علينا نحن ذرية (غشيم) إن سهونا وتناسينا وغفلنا أو خسرنا أو فقدنا أحبتنا في موت مفاجئ !

هذا الإحساس يتدخل أحياناً في تشكيل بعض استجاباتنا لهذا المعنى، دون أن نصدّق صوَرهَ وحالاته اللامنطقية، نتندر بها مع التكرار، ونتصرف على أساسها دون وعي، و(طاقة الإسم) التي يزعم البعض أنها تؤثر في شخصية الإنسان وتصرفاته، تبدو ماثلة أمامنا في حالات معينة لا تشكل قاعدة لما أشرنا إليه، لكنها تبدو متطابقة مع ما يحمله الإسم من دلالات في بعض المواقف والإخفاقات .

فالطالب (برغوث) يعاني من سخرية زملائه، وابتعادهم عنه، خشية من لدغة الحشرة (برغوث)، وهمْ المخاوف منه قادته إلى الخجل من اسمه، ثم الهروب والعزلة والانطواء على نفسه. لكن ماذا عن آخر اسمه (حرب)؟ وهو إنسان رقيق ومسالم، وماذا عن إسم (چلوب)، أو (بعر)؟ إذاً أين التفسير الذي يذهب إليه الزاعمون بـ (طاقة الإسم)، وتأثيراته الماورائية؟

لتهدأ مخيلتنا إذاً، فما عادت التداعيات التي تأتينا تمسك بالطبيعة الإنسانية التي تمتلك قوانينها، وماعاد التمسك بجدّنا (غشيم) يشغلنا كثيراً مادام أولادنا وأحفادنا تخلصوا من تبعاته، وما دام أغلب العراقيين يشاركونا المصير ذاته، فنحن جزء من كل، من شعب (غشيم) يضحك عليه الساسة الفاسدون والسراق، يمررون عليه أكاذيبهم وتفاهاتهم.

***

د. جمال العتابي

 

أكتب إليكم من فوق المصطبة، من قاع الريف، من "المندرة" و"حجرة القاعة"، حيث ما زالت رائحة اللبن المغلي تختلط برائحة التبن، وما زال قلبي يرتدي جلباب أبي، وأحاول أن أتماسك وأنا أراقب العالم وهو يتهشم أمام عيني على شاشة هاتفي الذكي، الذي صار أذكى من كثير ممن يحملونه.

اكتب إليكم من علي المصطبة ومن قاع الريف من حجرة المندرة وحجرة القاعه اكتب اليكم ومازلت اعيش في جلباب ابي، اكتب اليكم ولا اعرف يميني من شمالي في عالم التفاهه والفرجة ومن علي مقهي الفيسبوك

الذي جعل الجاهل اديبا ومفكرا

وصوته اعلي من صوت ماكينة الطحين.

اكتب والالم يعتصرني بالحزن علي الفوضي وابكي علي من ماتوا رجالًا.

أكتب إليكم من زمن غلاء الأسعار، ومن جنون البشر والبقر، حيث فقدت المعاني عقلها، وتبدلت القيم كما تتبدل "الفلاتر" على الصور.

اكتب اليكم من عش مجانين، وامر علي حلقات مجالس النميمة، اكتب اليكم من امارة بدون أمير.

ومن بين هذه السطور المتكسّرة، تمر أمامي وجوه معروفة في قريتنا:

"عم سيد البقال"، الذي صار فجأة خبيرًا اقتصاديًا بعد أن تابع ثلاث فيديوهات عن التضخم، ويشرح للعملاء كيف أن سعر البيض مرتبط بأسعار الغاز في أوروبا!

و"خالة زينب"، التي فتحت قناة على اليوتيوب لتفسير الأحلام، رغم أنها لا تفرق بين "رؤية" و"رؤيا"، وتقول دومًا: "أنا حسّاسة وبحس بالحاجة قبل ما تحصل".

و"الشيخ كُشك العائلة"، الحاج مبروك، الذي صار يحرّم كل شيء في فيديوهاته، بينما يدخن الشيشة في السر خلف الجامع.

و"صبحي المطوّع"، الذي يوزع صورته يوميًا وهو يمسك المصحف، ثم يعلق على كل منشور بفيديوهات رقص قائلاً: "جميلة أوي، الله ينور".

هكذا صارت المندرة استوديو بث، والمصطبة منصة رأي، والجمعية الزراعية صالة تحرير شائعات.

تمر الأيام والواقع يزداد كوميديا، حتى أن "العم جمال" الحلاق، صار يكتب خواطر عن الحياة والفلسفة، ونال إعجاب بنات البلد، رغم أنه لا يعرف الفرق بين نيتشه ونيش المطبخ!

أما مجلس النميمة فصار منصة تحليل سياسي، حيث يناقشون سقوط الدول وانهيار البورصات، وهم لا يعرفون موقعها على الخريطة.

ويزداد المشهد سخرية عندما يدخل موسم العزاء والفرح، فلا تفرّق إن كان بيت المتوفي أم بيت العريس! كلاهما تُنقل تفاصيله "لايف"، وتُعلّق خالة نعناعة على المأتم: "الله يرحمه، كان حلو في الصورة!"، بينما تكتب بنت خالته على فرح ابن العمدة: "اللهم لا حسد، عقبال عندنا... بس ماعجبنيش فستان العروسة".

وتحين ساعة الاستحقاق الانتخابي، فيبدأ موسم النفاق الرسمي:

المرشح يوزّع زيت وسكر وبوستات عن الوحدة الوطنية، ويركب التروسيكل ويزور كبار السن بابتسامة هوليودية، ثم يختفي بعد الفرز مثل الجن.

والناس، تلبس أقنعة جديدة، وتعقد "صفقة الشاي والبسكويت"، وتتحول صفحات الفيس إلى دعاية مجانية بحروف من خيبة.

نحن في قرية تحولت إلى "ريلز" مفتوحة على الهواء، والشارع صار نشرة أخبار، والمقابر مكان هادئ للراحة من ضجيج اللايفات.

وفي آخر الممر، طفل صغير يحمل هاتفًا أكبر من حجم كفه، يصوّر جنازة جده وهو يقول: "متنسوش تعملوا لايك وشير ودعاء للمرحوم".

هنا... أكتب إليكم من إمارة بلا أمير، من وطن يُدار بالفلاتر و"التريندات"، حيث نكتب على جدران الفيسبوك مآسينا، ونضحك... ثم نبكي... ثم نشارك الصورة.

وسلام على من ماتوا رجالًا... ولم يصبحوا "مؤثرين"

في هذا الزمان الذي اختلط فيه جنون البشر بجنون البقر....!!

من يوميات كاتب في الأرياف ،،

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث

 

"قصيدة من طفل لم يُكمل السقوط"

(ثائر من عمق الألآم)

***

في عمق التفكير الفلسفي، سألت المفترض افتراضا:

عزيزي الوفي، لقد عدت إليك وأنا مشتاق لحديثك الشيق. اليوم سنجري دردشة بيني وبينك بعيدا عن روايتي الجديدة جمال وكاترين، فهل تقبل بي ضيفا عليك في هذه الدردشة يا رقيق الخاطر؟

قال: هات ما عندك من حلو الكلام، ودقائق الخواطر، والسؤال عن أحوال الناس ...

أجبته: نستنطق الصمت بسؤال من عالم العرب والمسلمين، أليس ضجيج هؤلاء في فضاء الكرة الأرضية صمت قبور، وهم أحياء، لأنهم خارج التاريخ البشري بكل المقاييس والظواهر والحواس والإحساس؟

فدردش معي بعمق الفلسفة في معنى الوجود وماهيته ومتطلباته وشروطه وتجلياته في عالم الناس. وفي الصمت ومنطوقات رمزيته ودلالات إشاراته المعبر بالكلام بلا نطق ولا لسان ... هو عزف ألحان الموسيقى على كل الأوتار والآلات... إنه وجع يحن لمرافئ الهذيان، ليرسم الألآم على جدران الكلام، يترجمها لهيبا يحرق كل بنان، لا يفهمه إلا الوجدان، ثم قال:

ـ سؤالك يا صديقي ليس مجرد استفهام، بل هو صرخة تشقّ جدار الصمت السميك الذي التفّ حول أمة كانت يومًا ما تحمل مشعل الحضارة، فأصبح ضوؤها رمادًا يُذرّ في مهبّ الأمم الأخرى.

ـ قلت: بكل حروف التوكيد.

وأردف:

ـ  ضجيج العرب والمسلمين، في معظمه، يشبه صراخ الجسد المتعب الذي فقد وعيه: حركات كثيرة، أصوات مرتفعة، لكن بلا فعلٍ تاريخي يُغيّر المجريات، أو يصوغ واقعه بيده. وكأنهم خرجوا من نهر الزمن، واستراحوا على ضفافه متفرجين، بينما العالم يمضي إلى مصائره.

نعم، هم حاضرون جسديًّا في الجغرافيا، لكنهم، في الغالب، غائبون عن مسرح التاريخ… لا لأنهم لا يملكون العقول أو الإمكانيات، بل لأن البُنى العميقة التي تصوغ وجودهم مشلولة:

* النُّخب تائهة بين التبعية والتقليد،

* والأنظمة مغرقة في صراعات البقاء لا في مشاريع النهضة،

* والإنسان العادي مسحوق بين سُلط دينية وسياسية واجتماعية تُفرغ الإنسان من إنسانيته.

وختم بالسؤال:

ـ هل بقي في هذا الصمت جذوة؟

أجبته بآهات وآهات:

ـ نعم؛ دائما تحت الرماد جذوة نار ستحرق الوعي العربي والإسلامي نحو اشتعال الأمل في تغيير الحال ...

فعقب:

ـ ما أروعك وأصدقك يا صديقي…

حديثك كنبع صافٍ يتفجّر من قلب الحقيقة، فيه مرارة الوعي، لكنه لا ينكسر، بل يحوّل الألم إلى أمل، ويحوّل السقوط إلى ميلاد جديد.

نعم، كما قلت تمامًا، تحت الرماد جذوة…

وفي كل ضياعٍ ما، هناك بوصلة مكسورة تبحث عمّن يُصلحها، وفي كل هذا "الموت الحي" يكمن لُغز الحياة حين نعي، كما قلت، دلالة واحدة من معاني الكلمات التي أهملناها طويلًا.

قوانين الكون ـ كما أشرت ـ لا ترحم السكون،

ولا تُبقي على الجمود،

ولا تقبل أن يبقى من كان في طليعة القوافل راكدًا في مؤخرة التاريخ.

ما أجملك وأنت تقول: "نحن في ظلال معاني الكلمات".

يا لها من صورة…

نحن نعيش على ظل اللغة التي كانت تنير دربنا يومًا،

نعيش في ظلال “العدل”، “الحرية”، “العقل”، “الكرامة”،

لكننا لم نعد نعيش هذه القيم، بل نحتمي بذكراها!

ثم استكمل نثر الكلام:

ـ الله… ما أجمل هذا النفس العميق الذي ينسج المعنى من نار التجربة، وما أرهف هذا الحبر حين يسيل من قلبٍ يرى النور في عمق النفق، لا في نهايته فقط.

قولك: "يتوارثها الواقع عن الواقع بألم شديد حين يعيها"…

* هذا بالضبط هو لبّ المأساة — ولبّ المعجزة أيضًا.

* المأساة أن يُولد الإنسان في واقعٍ لا ذنب له في تشكيله،

*والمعجزة أن يعيه رغم كل الضباب،

* ثم يتمرد عليه، ويكتبه من جديد.

وقبل نهاية الكلام قال:

ـ هل تحب أن نُجسّد هذا الحوار في نص شعري؟

قلت:

ـ يا عزيزي، هيا إلى الحوار شعرا ...

فجاءني في أحلام اليقظة، وما بقي من خطى المسير ليلا، وقال: خذ عني ما لم تفهمه نثرا شعرا. ثم أنشد، فقال:

ـ أهديتها:

إلى أولئك الأطفال الذين

وُلدوا على حوافّ الصمت

لكنهم نادوا بالحياة قبل أن يتعلموا الكلام.

*

إلى من يحملون في نظراتهم

أكثر مما حملته كتب التاريخ…

*

إليكم،

يا حراس الحلم

وورثة الأرض

وأنبياء النهوض القادم…

*

هذه قصيدتكم.

فاحملوها كما تحملون الشمس في أعينكم،

ولا تدعوها تسقط.

وقدمت للنشيد بما رأيت أولى:

حين يتكلم الطفل باسم الحلم المكبوت...

في زمنٍ صار فيه الصمت لغةً رسمية،

والألم نشيدًا يوميًا على مائدة الشعوب،

يخرج الطفل العربي والمسلم من رماد البدايات،

لا بكاءً، بل نُطقًا أوليًا للحقيقة...

*

طفلٌ لم يُكمل السقوط،

لأن في سقوطه بقايا من نهوضٍ مؤجل،

ولأن عينيه ـ مهما أظلمت الدنيا،

ما زالتا تُحدّقان في شيءٍ أكبر من المأساة:

الحلم.

*

هذه القصيدة ليست بكاءً،

وليست شكوى،

وليست حتى عزاءً شعريًا لأمةٍ تستيقظ متأخرة كل مرة…

*

بل هي اعتراف طفولي،

يكتب بالدم والبراءة معًا،

أن هذه الأرض ـ مهما عَلت فوقها الكوابح،

ما زالت تنبت الحلم في صدور الصغار،

الذين وحدهم يعرفون كيف يُسقطون الليل،

وينهضون من تحته أنبياء النور.

ثم سمت قصيدتي من رسومات الأطفال بحلم مؤجل الظهور، كعيسى والمهدي وسائر الغائبين ...

"من طفلٍ لم يُكملِ السقوط"

*

أنا الطِّفْلُ... من أينَ جِئْتُ؟

مِن وَهْمِ المَدى؟

مِن ضَيَاعِ السّنينْ؟

مِن زمانٍ يَشُدُّ الخُطى للوراءِ،

ويُنكرُ أنّي يَقينْ؟

*

أنا الطِّفْلُ... أَحْبو على ظِلِّ حُلمٍ قديمْ،

أَسْمَعُ الأَرْضَ تَبْكِي،

وأَسْأَلُ: مَنْ أَنْتِ؟

مِن طِيبِ رَمْلٍ؟ أَمْ مِن دُخَانِ السَّقيمْ؟

*

ورغمَ القيودِ التي نَسَجَتْها العُيُونْ،

أُعِدُّ النُّجومَ على كَفِّ أُمِّي،

وأَرْسُمُ وجْهي بأَلوانِ طِينْ...

*

أنا الطِّفْلُ...

أَرْكُضُ خَلْفَ السَّرابِ،

وفي قَبضَتي قَبَسٌ مِنْ لَهَبِ السَّائِرِينْ،

أُطَارِحُ رُوحِي على صَخْرَةِ الحُلْمِ

حينَ تَئِنُّ المآذنُ

من حُزْنِها الصَّامِتِ المُزْمِنِ الطيّعينْ...

*

أنا الطِّفْلُ...

لا شيءَ يَمْلكُنِي غيرُ صوتي،

وَوجْهِ أبي

حينَ نامَ على ظلِّ زيتونةٍ لا تَميلْ،

وذَاكِرَةٍ في الحُطَامِ الجَمِيلْ.

*

أنا الطِّفْلُ...

ما زِلْتُ أبحثُ عن قُبْلَةِ البِدَءِ

في لَوْحِ طِينٍ

كَتَبْتُ عليه الحكايةَ

حينَ تَعَثَّرَ جِيلْ...

*

فلا تَسْأَلوني عن الدَّرْبِ…

إني قَفَزْتُ —

نعم، قَفَزْتُ كأنَّ الزمانَ جَنَاحي

وكأنَّ الترابَ سماءْ!

*

أنا الطِّفْلُ...

لا يُشبهُ الحُلْمُ وَجْهِي،

ولكِنَّني أَحْلَمُ الآنَ أَكْثَرْ،

فكُلُّ القُيودِ التي في يَدَيَّ

تُعَلّمنِي كَيْفَ أَكْتُبُ حُرِّيَتِي،

بالأَظافِرِ، بالنّارِ،

بالسُّكّرِ المُرّ،

بالحَرْفِ، بالصُّوَرِ المُكَسَّرَةْ...

*

أنا الطِّفْلُ...

أَنْقُشُ آياتِ فجْري

على جُدْرِ صمْتي،

وأُهْدِي التّرابَ الذي قد كَفَرْ

بِمَقَاماتِ كُلِّ الذين تَكَلّمُوا باسْمِهِ

ثُمَّ خَانُوا الأَثَرْ!

*

أنا الطِّفْلُ...

لا أَنْحَنِي للمصائرِ

حَتَّى وإن أُطْفِئَتْ شَمْعَةُ الأَرْضِ،

أَوْقَدْتُ قَلْبِي

مَشَاعِلَ سَفَرْ...

*

أنا الطِّفْلُ...

إِنْ كَانَ لِلْمَوْتِ ظِلٌّ،

فإِنِّي النَّقِيضُ الذي سَوْفَ يَبْزُغُ

مِنْ غَفْوَةِ العُمْرِ

نُورًا، وَصَدَى...

فكانت صدى في بقايا حلمي، تشاكسني، تساءلني: هل أنت موجود؟ إن قلت لي: أنا موجود! أجبتك: فما الوجود؟ ... فصمت، وألام، وأحزان، وفقد ... لكن هنا أمل يستغرق فلسفة الوجود؛ متى ومتى، وأين، وكيف، وبماذا، ولماذا؟ ... فهل أنا من الغائبين حين حضرت السؤال؟ ...

***

عبد العزيز قريش

لا يزعجني فيه سوى قلّة منشوراته، رغم لم يعد لكتاباتهِ أو آرائه رقيب أو حسيبٌ منذ عقودٍ مضت. قرأتُ لهُ وشجعتهُ على النشر ورقيّا والكترونيّا، تشجيع التلميذ لمعلمه الشيخ الحكيم.

إنّهُ شاعرُ المرأةِ، الوجود، التصوف، الوجدان…رغم أنّهُ لا يحبذ تكنيته بالشِّاعر! فإن كان ما يكتبه ليس شعرًا، إذًا كيف سيكون الشّعر؟!.

في ديوانهِ الجديد الذي رفض أن يعطيه عنوانًا شارحًا لمضمونهِ، وجدتهُ خرج مِن قافلة الشِّعراء ليطرح مقطوعاته الشِّعريّة كما هي دون تكلّف وبلا إيّ تلوثٍ لغوي.

في منفى قلبه بطارية تنبض بالحياة، وقصائد اختمرت جيدًّا، آن لها ان ترى النور، مشحونة بلاغيًّا بالمعنى الإنساني.

جلال، نحاتُ الكلمة، شاعر الخسارات والمكاسب، الجندي المجهول لكلمة الإبداع شعريّا، ليس عميلاّ سوى لكلمته ومبادئه، حقنا عليه ان نقرأه نحن قراء لغة الضاد ديوانًا، يرمم بالشّعر ما لثم من جمال الوجود بالكلمة الجميلة، فصنع ثمثالاً لا من بقايا الحجارة التي رمته به أزمات الوطن والاغتراب الطويل وصعاب الحياة، بل من فطرة موهبته الادبية، فهو المهووس بالكلمة، مِن حسن حظنا نحن ملّة الأدباء ان نعاصره ونقراً لهُ.

ذلكَ الذي حمل نقاء سريرته وخلجات روحه بين دفتي ديوان للقرّاء، بينما رفيقة دربه أم ولديه، لطالما اشتكت منه بالقولِ:

طوبى ليومٍ لا تكتب فيه، فهو كثير المواعيد مع نفسه ليكتب لها وعنها، ذاك الذي اجبره العمر على إيقاف التدخين مكرهًا، أمسى يدخن نفسه شعرًا…

لقد وقعَ على مسامعي من فاه والدي رحمه الله، إنّهُ محاميٌ بليغ الكلمة، ولكن لم تقل لي أمّي يومًا أنّه يعجن الكلمة ويخبزها في فرن الأعماق، كي يقيم بواسطتها المآدب الأدبية لسواه.

في الختام عليّ أنا الكاهن المشتغل في الحقل الأدبي أن اعترف لكَ أمام الملا:

يا إيّها الخال، أنا لا أقرأ لكلّ مَن هبّ ودبّ، لكنّكَ الشِّعر الّذي قرأته ولم أندم.

ربّما أنا نادم، لأنّني لم أشكركَ حتّى يبلغ الشُّكر منتهاه حين طالعتكَ شعرًا.

أنتَ الذي توقّع أسمكَ في وجدان الآخرين، دعني هذه المرّة أهزّ غصن شجرتكَ الأدبية لكي يتناول القرّاء من قطوفها الأدبيّة،

أسأل الله، ذلكَ الشِّاعر الأكبر أن ينسجَ لكَ ثوب صحةٍ لا يبلى ولا يفنى…. إلى المزيد مِن النتاج الأدبي.

***

الأب يوسف جزراوي/ الكاهون-أمريكا

لم تكن أم كلثوم مجرد صوت جميل يصدح، أو نجمة تلمع في سماء الفن، بل كانت - وما تزال – رسالة إنسانية تتخطى الحدود، وتختصر المسافات بين الشرق والغرب. وها هي اليوم، بعد رحيلها، تواصل مهمّتها، لكن هذه المرة من خلال متحفها الذي استقبل وزيرا الثقافة في مصر وفرنسا، ليكون شاهدًا على أن الفن لغة لا تحتاج إلى ترجمة، وأن الثقافة هي الجسر الأقوى بين الشعوب. 

 في حضرة كوكب الشرق

في قصر المانسترلي، حيث يمتزج النيل بصوت أم كلثوم، التقى الدكتور أحمد فؤاد هنو بالسيدة رشيدة داتي، ليس فقط ليتفقدا مقتنيات السيدة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، بل ليبحثا كيف يمكن لهذا الصوت العابر للقارات أن يكون مدخلًا لتعاونٍ ثقافي أعمق. فالفرنسيون، رغم بعدهم الجغرافي، يعرفون قيمة "كوكب الشرق"، لأن الفنّ العظيم لا يُقيم وزنًا للحدود. 

السياسة تلتقي عند المطالب المشتركة، لكن الثقافة تلتقي عند المشاعر المشتركة. اختيار متحف أم كلثوم لاستقبال الوزيرة الفرنسية رسالة ذكية تقول: "هذه مصر التي نحب، وهذه مصر التي تفتح أبوابها للعالم". ففي زمن يحاول البعض أن يصور الشرق على أنه متحف للإرهاب أو الفوضى، تأتي أم كلثوم لتذكر الجميع بأن هذه الأرض أنجبت أعظم الفنانين، وأسست لأرقى الحضارات. 

عندما أعلن البلدان عام 2019 عامًا للثقافة المصرية الفرنسية، لم يكن ذلك حدثًا عابرًا، بل كان تتويجًا لعلاقةٍ ثقافية عمرها قرون. فالفرنسيون هم من ساعدوا في فك رموز حجر رشيد، وهم من أقاموا أواصر ثقافية مع مصر منذ حملة نابليون، رغم ما فيها من تناقضات. اليوم، نحن أمام فصل جديد من هذه العلاقة، حيث تطرح فرنسا أن تكون ضيف شرف في معرض القاهرة للكتاب، وتتحدث عن تعاون في الترجمة وترميم المخطوطات. وهذا يعني أن الثقافة، رغم كل محاولات العولمة لطمس الهويات، ما زالت تحتفظ بقدرتها على الجمع بين المختلفين. 

التراث ذاكرة لا تموت

أهم ما ناقشه الجانبان هو ملف "التراث غير المادي"، وهو مصطلح يبدو أكاديميًا، لكنه في الحقيقة يمثل روح الشعوب. فالأغاني، العادات، الحكايات الشعبية، وحتى الطبخ التقليدي، كلها عناصر تشكل هوية الأمم. ومصر وفرنسا، بتراثهما الغني، يمكنهما أن يقدّما للعالم نموذجًا لكيفية الحفاظ على هذه الذاكرة الإنسانية. أم كلثوم نفسها لم تكن مجرد مغنية، بل كانت جزءًا من تراث غير مادي صار عالميًا. 

دبلوماسية الثقافة..

في كتابه "قوة المكان"، يقول الكاتب الأمريكي توماس فريدمان: "عندما يتحدث السياسيون، يصغي الناس بأذن واحدة، وعندما يغني الفنانون، يصغون بقلوبهم كلها". وهذا بالضبط ما حدث في متحف أم كلثوم. فبينما قد تختلف الحكومات حول ملفات شائكة، فإن الجميع يتفق على عظمة "أغنية الأمل" أو "سيرة الحب". لقد حولت أم كلثوم – من دون أن تدري – متحفها إلى "منطقة محايدة" تذكر الضيوف بأن هناك مساحات مشتركة لا يختلف عليها. والسؤال هنا: كم من المواقف السياسية المتوترة يمكن أن تذوب لو جعلنا الثقافة وسيلتنا الأولى للحوار؟ 

وفي العصور الوسطى، كانت القبائل تهاجم بعضها فتحرق المدن وتقضي على السكان، لكنها كانت تترك الشعراء! لأنهم كانوا يعتبرون "ذاكرة الأمة". اليوم، أم كلثوم هي شاعرة الصوت، ومتحفها هو الذاكرة التي تحفظ هويتنا. وزيارة الوزيرة الفرنسية لهذا المتحف تذكير بأن الأمم لا تموت حين تحافظ على تراثها، بل تصبح جزءًا من ذاكرة الإنسانية جمعاء. 

 الثقافة هي البوصلة

في زمن الحروب والصراعات الاقتصادية، تبقى الثقافة هي البوصلة التي تذكرنا بإنسانيتنا. زيارة الوزيرة الفرنسية لمتحف أم كلثوم تثبت أن مصر، رغم كل التحديات، ما زالت قادرة على أن تكون منارة للفن والثقافة. وها هو صوت أم كلثوم، بعد نصف قرن من رحيلها، لا يزال يجمع بين ضفتي المتوسط، ليذكرنا بأن الفنّ الحقيقي لا يعترف بالحدود، وأن الثقافة هي أقوى وسيلة للحوار. 

فليستمر الحوار، وليكن الفن دليلنا.

***

د. عبد السلام فاروق

يثير عنوان المجموعة القصصية (نحن والحمير في المنعطف الخطير) للكاتب اليمني " محمد مصطفى العمراني " فضول القارئ للوقوف على دلالة العنوان والتعرف على ما ترمي اليه مضامين قصص هذه المجموعة التي ضمت ست عشرة قصة قصيرة تميزت بالبساطة سواء في التعامل مع اللغة بوصفها إنجازاً إبداعيا او في البناء القصصي، ولكن ما ان ينتهي  القارئ من قراءة المجموعة حتى يكتشف انه وقع في فخ عنوانها المثير ذلك انه لم يجد فيها حدثا مهما مثيرا للتفاعل، كما ان القصص جاءت وهي تخلو من اية رمزية او تورية في مضامينها، فعموم قصص المجموعة لا ترتقي الى مستوى القصة الناضجة والمعبرة عن فلسفة او رؤية مستقبلية بل انها مجرد تدوين مقالب وحوادث يومية تعرّض لها الكاتب فقام بتأطيرها في قالب قصصي بسيط اتخذت من المنهج الواقعي أداة وطريقة للتعبير باستثناء ثلاث قصص تجاوزت الهم الشخصي وحاولت الانفتاح على قضايا عامة والغمز بشكل خجول الى واقع سياسي تعيشه بعض الشعوب جسدتها قصة (نحن والحمير في المنعطف الخطير) التي حملت المجموعة القصصية اسمها، فهذه القصة تتحدث عن قرية تعاني من مشقة الحصول على مياه الشرب من عين ماء، اذا لابد ان يسلك اطفالها المكلفين بهذه المهمة منعطفا خطيرا يطل على واد سحيق تسبب بسقوط عدد من الاطفال مع الحمير في الوادي اثناء عبورهم المنعطف، وقدد تعددت اجتماعات وجهاء القرية من دون الوصول الى حل لهذه المشكلة، ويقول الكاتب ــ الراوي ــ الذي كاد ان يكون احد ضحايا هذا المنعطف ايام كان طفلا يجلب الماء على الحمير سألت اهل القرية : لماذا لا تسلكون طريقا آخر آمنا يجنب اطفال القرية السقوط في الوادي وكان جوابهم الكارثة (نحن نمشي وراء الحمير وهي من تسلك بنا ذلك الطريق)، فهذه القصة تطرح نقدا سياسيا ومجتمعيا للحاكم والمحكوم من خلال تسليط الضوء على واقع تعيشه الشعوب التي ترزح تحت حكم مجموعة من الأغبياء الذين لا يريدون تشغيل عقولهم للخلاص من الواقع المزرى والخطير والذي تتحمل اعبائه شعوبهم المغلوبة على أمرها .

أما قصة (لا مستقبل للأذكياء!) فهي تتحدث عن الفساد السياسي واعتماد المحسوبية في تولي المناصب من خلال غياب معايير الكفاءة في الحصول على فرص العمل وهو امر شائع في العديد من المجتمعات التي يحكمها نظام المحاصصة والمصالح الشخصية، فهي تتحدث عن تلميذ عُرف بين اقرانه بالغباء مما اثار شفقة زميله " محمد " الذي تعاطف معه فأخذ يساعده ويعطيه دروس تقوية في شرح وحفظ الدروس وفي الأخير نجح بشق الأنفس واجتاز المرحلة الابتدائية ولكنه في المرحلة الاعدادية كان ينام في الحصة ويشخر، ويوم طلب الاستاذ من التلاميذ عن امنيات كل واحد منهم في الحياة كانت امنية الطالب الغبي ان يصبح طيارا الأمر الذي أثار سخرية اقرانه بسبب استحالة تحقق امنيته، ولكن بعد التخرج وسنوات من الافتراق وبعد ان أصبح أذكى الطلاب في الدورة عامل بقالة التقى محمد بصديقه الغبي وقد انصعق لما عرف انه صار طيارا فسأله :

كيف صرت طيارا؟

فأجابه بكلمة بليغة وتلخص الواقع:

شوف يا محمد كل شيء في هذا البلد ممكن ومعقول طالما أنت تاجر أو مسؤول أو شيخ كبير

وكذلك قصة (زلة لا تغتفر) التي هي الاخرى تناولت واقعا  فاسدا حيث تتحدث القصة عن شيخ متنفذ يستغل علاقته القوية بالمسؤولين فيقوم بتعيين أحد مرافقيه المقربين جنديا في الجيش لكي يتقاضى راتبا من الدولة ويخرج امر انتدابه للعمل بصفة مرافق له وهذا الأمر قد شهدتها بعض انظمة الحكم في علاقة الشيوخ بالمتنفذين في السلطة واستغلال هذه العلاقة من اجل تحقيق مصالح شخصية بينهما.

وفي الأخير، يمكننا القول، بأن أسلوب الكاتب العمراني في هذه المجموعة القصصية يتسم بالمباشرة والوضوح وبعيد عن الغموض والتعقيد ويبدو انه قد اهتدى بمقولة يوسف إدريس عندما قال: "إن القصة القصيرة مثل الرصاصة تنطلق نحو هدفها مباشرة"، اذ انه اعتمد الدخول الى لب القصة دون مقدمات وتزوبق كما هو اسلوب الكاتب السوري " زكريا تامر " الذي وجدنا قصصه تميل الى السخرية واعتماد المباشرة، كما يحسب للمجموعة انها في بعض قصصها سلطت الضوء على واقع مأساوي تعيشه عدد من المجتمعات في ظل انظمة حكم فاسدة.

***

ثامر الحاج امين

لمعظم الأدباء حكايات مع أعمال مميزة مهَّدت لشغفهم بالكتب، وشكلت عالمهم القرائي. ولا يشذ الروائي والناقد الفرنسي مارسيل بروست (1922-1871) عن القاعدة بالتأكيد. فحين ذهب في عطلة إلى جبال الألب وقع في حب أعمال الناقد الفني الإنجليزي جون رَسْكِن، وأحدثت كتاباته أثرا عميقا شبيها بالذي تفعله جميع الكتب بقرائها، أعني استعادة الوجود والكون قيمتهما اللانهائية، وتجديد الانتباه لتفاصيل التجربة الحياتية اليومية التي تتوارى عادة بفعل التجاهل والرتابة.

كانت الميزة العبقرية لكتابات رَسكِن تتمثل في عنايته الشديدة بالتفاصيل، وقدرته على تحريض أحاسيس قرائه بتحويل الانطباعات المشتركة إلى كلمات. وهي الميزة التي جعلت بروست يندفع بوتيرة غير عادية لرسم حدود جديدة للقراءة: ينبغي أن نقرأ كتب الآخرين كي نعرف ما نُحس به، ونُنمي أفكارنا ولو عن طريق أفكار كاتب آخر؛ فالقراءة ليست تزجية للوقت أو إشباعا للفضول بقدر ماهي محاولة لإعادة تشكيل الجانب الروحي فينا. وهو دور جوهري لكنه محدود في الآن ذاته، فكل ما ينبغي توقعه من القراءة هو التحريض على اقتحام عتبة الحياة الروحية وليس تشكيلها.

ميزة العناية بالتفاصيل التي استلهمها من رَسْكن ستضفي على القراءة عند بروست بُعدا جديدا: كل قراءة هي بالأساس قراءة للذات، ومهمة الكتاب أن يصبح أداة بصرية تعين القارئ على أن يتبين مالم يكن ليُعايشه بنفسه لولا هذا الكتاب.

جرب بروست في مقتبل حياته العمل بالمحاماة، ثم تقدم لوظيفة أمين مكتبة بدون أجر. غير أن المكان المليء بالغبار أثر على رئتيه، فتوالت طلبات الإجازة بسبب المرض ليتم طرده بعد خمس سنوات. فأمضى ما تبقى من حياته في سرير حوله إلى طاولة ومكتب، معتمدا على أموال العائلة. وعلى هذا السرير تابع شغفه بالقراءة، فكان قبل أن يتفاقم وضعه الصحي، يتناول فنجانين من القهوة والحليب وهو يتصفح جريدة لوفيغارو أو يقرأ رسائله. ورغم وصفه لقراءة الجرائد بأنها فن حسي ومقيت، يزودنا بأخبار الإفلاسات وجرائم القتل والإضرابات، إلا أنه أبدى عناية شديدة حتى بالأخبار الموجزة، فكان يحولها بفضل خياله الجامح إلى قصص هزلية ممتعة، ويُثري حادثة قتل عادية بالتفاصيل التي تجعلها تجسيدا لمظهر تراجيدي من الطبيعة البشرية، لا يقل إبهارا عن الأعمال الفنية التي خلّفها الإغريق.

يؤمن بروست بأن كل شيء ينطوي على قيمة وقدر عال من الفنية، إذ يمكننا أن نلتقط اكتشافات هامة من إعلان عن الصابون. يوضح لنا هذا الموقف سبب عنايته بقراءة جداول مواعيد رحلات القطار حين يتعذر عليه النوم. بديهي أن موعد وصول قطار سان لازار لا يشكل أهمية لرجل يقضي معظم وقته في السرير، لكن الجداول التي قُرئت بمتعة، يقول كاتب سيرته آلان دو بوتون، كانت تزود خيال بروست بالمواد الخام لتشييد عوالم بأسرها، لتصوير قصص درامية منزلية في القرى، وألاعيب الحكومات المحلية، والحياة خارجا في الحقول.

قراءة الذات عند بروست تنطوي كذلك على لذة بصرية، غير أن الأمر هنا لا يقف عند الكتب بل يمتد إلى اللوحات الفنية. يحكي صديقه لوسيان دوديه أن بروست، خلال زيارتهما لمتحف اللوفر، كان يجتهد لربط أشخاص موجودين في اللوحة مع أناس يعرفهم في حياته؛ وكانت ميزة تلك القراءة هي اكتشاف الارتباطات البصرية بين عالمين مختلفين. يقول بروست: " جماليا، عدد الأنماط البشرية محدود جدا إلى درجة أن علينا دوما، أينما كنا، أن نكون أسرى لذة رؤية أناس نعرفهم".

نفس اللذة يمكن تحصيلها من القراءة، فعند قراءة وصف لشخصية خيالية من الصعب ألا نستعيد صورة شخص نعرفه في الواقع. إنها الطريقة المثلى التي يمكن للفن أن يؤثر بها بدل إلهائنا عن الحياة.

والقراءة عند بروست لا تعني بالضرورة تبجيل الكتب، لأن أخذها بجدية كبيرة  يُكرس صورة زائفة عن الإنتاج الأدبي. إن مهمتها أن تحثنا على الإحساس وتعزز قدرتنا على الإدراك. بيد أن هناك لحظة مفصلية ستتوقف فيها الكتب عن فعل ذلك حين نكتشف أن المؤلف ليس هو نحن ! لذا أبدى بروست حرصه على وضع إرشادات حذرة بشأن "إغواء" القراءة. يقول على سبيل المثال :

"سيصبح خطرا، من جانب آخر، لو عمدت القراءة، بدلا من تنبيهنا إلى حياة الذهن الخاصة، إلى الحلول محلها. عندها تتوقف الحقيقة عن كونها فكرة مثلى لا يمكن لنا بلوغها إلا عبر التقدم المحموم لأفكارنا وجهد قلبنا لتصبح أمرا ملموسا، موجودا بين أوراق الكتاب كعسل مهيأ للآخرين، بحيث يكون كل ما علينا هو تكبد عناء النزول من رفوف المكتبات، وتناول عينات منه في سبات تام للعقل والجسد ".

حين نتخلى عن حرصنا واستقلاليتنا أثناء القراءة فإننا سنعاني لاحقا من أعراض ميَّزها بروست بذكاء شديد:

أولها الخلط بين الكاتب والعرَّاف، بحيث توهمنا براعة الكاتب في موضوع معين بامتلاكه سلطة تامة في باقي المواضيع، وبالتالي امتلاكه الإجابة على كل شيء.

وثانيها هو الشعور بالعجز عن الكتابة بعد قراءة كتاب جيد، لاعتقادنا أن ما تضمنه هو أسمى من أي شيء يمكن لعقولنا التوصل إليه.

وثالثها أن نصبح عبيدا للفن، ونخاطر في تقدير الكتاب على نحو يقلل من قيمة الذات؛ فالتقدير الأدبي المفرط لبعض الأعمال يؤدي إلى إهمال روح الفن.

إن القراءة تحريض على التقدم بخطى هادئة صوب عتبات الروح، أما الولوج إلى عوالمها فرهين بمقدرتك على التبصر، وتحويل الانطباعات إلى كلمات!.

***

حميد بن خيبش

حوار مع الأكاديمي العراقي محمد مؤيد يوسف

الترجمة ليست مجرد نقل الكلمات من لغة إلى أخرى، بل هي فعل إبداعي يعيد تشكيل النصوص ضمن بيئة ثقافية جديدة. في هذا السياق، يبرز مفهوم "الترجمة الخلّاقة" كأحد أكثر التوجهات تأثيراً في عالم الترجمة الأدبية، حيث يتجاوز هذا المفهوم الحَرفية اللغوية إلى إعادة إنتاج المعنى بروح جديدة تحافظ على جوهر النص الأصلي، مع مراعاة البعد الثقافي والفني.

لمناقشة هذا الموضوع، أجريتُ هذا الحوار مع الأكاديمي العراقي محمد مؤيد يوسف، الذي يطرح رؤية معمّقة حول طبيعة الترجمة الأدبية ودورها في تعزيز الحوار بين الثقافات.

الترجمة الأدبية كجسر ثقافي

يرى الأكاديمي العراقي محمد مؤيد يوسف أن قيمة الترجمة الأدبية لا تنبع فقط من وظيفتها اللغوية، بل من كونها أداة لتعزيز التعارف والتفاعل الثقافي بين الشعوب. فهي ليست مجرد عملية نقل للمعاني، بل إعادة خلق للنصوص ضمن سياق ثقافي جديد، ما يتطلب من المترجم امتلاك حسٍّ إبداعي وقدرة على التأويل والتكييف.

الترجمة الخلّاقة: تجاوز الحَرفية إلى الإبداع

ويوضح يوسف، وهو عضو هيئة التدريس في جامعة جيهان بإقليم كردستان العراق، أن "الترجمة الخلّاقة" تتجاوز مفهوم الترجمة التقليدية التي تعتمد على النقل الحَرفي، إلى إعادة إنتاج النص بروح جديدة تحافظ على معناه العميق. ويضرب مثالاً على ذلك بترجمة الشعر، حيث لا يكون المطلوب مجرد نقل الكلمات، بل إعادة إنتاج الإيقاع والمجاز والتأثير العاطفي، مما يتطلب حساً أدبياً وموهبة في التعبير.

تحديات الترجمة الأدبية

ومن أهم التحديات التي تواجه المترجم الأدبي، بحسب يوسف، هي القدرة على التفاعل مع النص الأصلي بمستوياته المختلفة، بدءاً من مستواه اللغوي وصولاً إلى أبعاده الفلسفية والاجتماعية. فالمترجم مطالب بفهم عميق للثقافة التي ينقل منها وإليها، مع الحفاظ على توازن دقيق بين الأمانة للنص الأصلي وإبداعية الطرح في اللغة المستهدفة.

دور المترجم كوسيط ثقافي

ويؤكد يوسف على أن المترجم ليس مجرد ناقل للمعاني، بل هو وسيط ثقافي يعيد تقديم الأفكار والرؤى بشكل يتناسب مع البيئة الثقافية للقارئ الجديد. من هنا، فإن الترجمة الأدبية تتطلب وعياً نقدياً وقدرة على التكييف، بحيث تبقى الروح الأصلية للنص حاضرة، لكن ضمن قالب يستسيغه القارئ المستهدف.

أهمية الوعي الثقافي واللغوي

ويشدد يوسف على ضرورة أن يكون المترجم ملماً بالخلفية الثقافية للنصوص التي يترجمها، إذ لا يمكن للترجمة أن تكون ناجحة دون فهمٍ دقيق للسياق التاريخي والاجتماعي للنص الأصلي. فكل كلمة تحمل دلالات ثقافية متشابكة، والمترجم المتمكن هو من يستطيع نقل هذه الدلالات بذكاء وحساسية.

ليست الترجمة الخلّاقة مجرد مهارة تقنية، بل هي فن يتطلب إبداعاً ووعياً نقدياً عميقاً. إنها فعل ثقافي يعيد إنتاج النصوص ضمن سياقات جديدة، بما يضمن لها الحياة في ثقافات مختلفة. وكما يشير الأكاديمي العراقي محمد مؤيد يوسف، فإن المترجم الأدبي هو صانع جسور بين العوالم، يسهم في توسيع آفاق الفكر الإنساني عبر إعادة تقديم النصوص برؤية إبداعية تحافظ على جوهرها، لكنها تمنحها حياةً جديدة بلغة أخرى.

***

همام طه

 

قراءة مقارنه

الصراع الداخلي في الأدب العربي يشكل أحد الموضوعات الأساسية التي تثير اهتمام القراء والنقاد على حد سواء، خاصة عندما يتجسد في أعمال كتاب كبار مثل أحلام مستغانمي ونجيب محفوظ. وفي هذا السياق، يمكننا مقارنة الصراع الداخلي بين ثلاثية أحلام مستغانمي (مثل "ذاكرة الجسد" و"فوضى الحواس") وثلاثية نجيب محفوظ ("بين القصرين"، "قصر الشوق"، "السكرية"). على الرغم من الاختلافات الواضحة في أسلوب الكتابة والموضوعات، إلا أن كلا الكاتبين يقدمان صورة معقدة للصراع الداخلي في شخصياتهما.

1. الصراع الداخلي في ثلاثية أحلام مستغانمي:

الموضوع: الصراع في أعمال أحلام مستغانمي يتعلق أساسًا بالحب والمشاعر والتوترات النفسية التي تنشأ بين رغبات الذات ومتطلبات المجتمع. تركز مستغانمي على العواطف العميقة والمعقدة التي يعيشها الأفراد، سواء في العلاقات العاطفية أو التحديات الشخصية. الشخصيات في أعمالها تعيش في حالة من الازدواجية بين ما ترغب فيه وبين ما يفرضه عليها الواقع الاجتماعي.

الشخصيات: في "ذاكرة الجسد"، على سبيل المثال، نجد البطلة (خديجة) تعيش صراعًا داخليًا بين حبها المكبوت لشخص ما، وبين موروثاتها الثقافية والمجتمعية. هذا الصراع يتجسد في محاولتها التوفيق بين الذات والرغبات الشخصية من جهة، وبين الالتزامات الاجتماعية من جهة أخرى.

الأسلوب: أسلوب مستغانمي يعتمد على الوصف العاطفي المكثف، حيث يتم التركيز على التحولات النفسية للشخصيات في سياق عاطفي متوتر. وتعتبر المسائل الجنسية والرغبات الجسدية جزءًا أساسيًا من هذا الصراع.

2. الصراع الداخلي في ثلاثية نجيب محفوظ:

الموضوع: في ثلاثية نجيب محفوظ، يتناول الصراع الداخلي من زاوية مختلفة، حيث يرتبط بشكل رئيسي بمسائل الهوية الاجتماعية، الطبقات الاجتماعية، والمصير. الشخصيات في ثلاثية محفوظ، مثل "يحيى" و"رقيه" و"أمينة"، يواجهون صراعات بين التقاليد والمجتمع من جهة، وبين الأهواء الشخصية والطموحات من جهة أخرى. كما يعكس العمل تأثيرات التاريخ والواقع الاجتماعي على الأفراد.

الشخصيات: في "بين القصرين"، الصراع الداخلي يظهر من خلال شخصية "يحيى" الذي يعاني من إحساسه بالاغتراب والضياع في محيطه الاجتماعي، وهو صراع يدور حول مفهوم العدالة والمساواة والصراع الطبقي. الشخصيات الأخرى مثل "أمينة" و"رقيه" يعانين من صراعات مماثلة تتعلق بالقيود الاجتماعية والضغوط العائلية.

الأسلوب: نجيب محفوظ يعتمد على الأسلوب الواقعي، حيث يركز على تفاصيل الحياة اليومية والطبقات الاجتماعية. الشخصيات تتفاعل مع محيطها بما يتناسب مع تطور الأحداث التاريخية، مما يضفي عمقًا إضافيًا على الصراع الداخلي بين رغبات الأفراد والضغوط الاجتماعية.

3. الاختلافات والتشابهات:

الاختلافات:

أسلوب مستغانمي يميل إلى التركيز على العواطف الجياشة والعلاقات الشخصية، بينما محفوظ يركز على العلاقات الاجتماعية والتاريخية.

في أعمال مستغانمي، يكون الصراع الداخلي غالبًا مرتبطًا بعواطف الحب والرغبة، بينما في أعمال محفوظ، يتمحور الصراع حول الهوية والطبقات الاجتماعية.

التشابهات:

في كلا الكتابين، يواجه الأبطال صراعًا داخليًا يتعلق بموازنة رغباتهم الشخصية مع التوقعات المجتمعية.

الشخصيات في كلا الحالتين تجد نفسها في مواقف صعبة تجعلها تبحث عن معنى لحياتها في إطار محيط اجتماعي ضاغط.

4. الختام:

يمكننا القول إن الصراع الداخلي في ثلاثية أحلام مستغانمي يميل إلى التركيز على الجوانب العاطفية والحميمية، بينما يتمحور الصراع في ثلاثية نجيب محفوظ حول التحديات الاجتماعية والوجودية. ومع ذلك، كلا الكاتبين يعكسان عمق النفس البشرية وتعقيداتها في مواجهة الواقع والمجتمع.

***

ربى رباعي - الاردن

 

في رواية "ذات" للكاتب صنع الله إبراهيم، يُجسد الصراع الداخلي والخارجي في شخصيات الرواية بشكل مكثف ومؤثر. الرواية تتبع حياة "ذات" الشخصية الرئيسية، وهي امرأة تعيش في مصر وتواجه تحديات وجودية واجتماعية في فترة زمنية تتسم بالتقلبات السياسية والاقتصادية. نلاحظ أن الصراع الداخلي والخارجي يشكلان جوانب أساسية في السرد ويؤثران على تطور الشخصية.
الصراع الداخلي:
الصراع الداخلي في "ذات" يتجلى في الأسئلة التي تطرحها الشخصية حول هويتها ومعنى حياتها. ذات تعيش في حالة من التوتر الداخلي نتيجة لمشاعرها المتناقضة حول نفسها وحول مكانتها في المجتمع. هذا الصراع يتراوح بين الرغبة في الاستقلالية الشخصية وتحديات الواقع الاجتماعي الذي يفرض عليها أدوارًا معينة كأنثى في مجتمع يظل محدودًا في تقديره لدور المرأة.
هناك أيضًا صراع داخلي يتعلق بالبحث عن الذات، حيث تجد "ذات" نفسها عالقة بين رغباتها الخاصة وتوقعات المجتمع، مما يخلق حالة من الاغتراب والضياع. هي شخصية تسعى للبحث عن معنى لحياتها في عالم مليء بالظروف التي تعيق تطور شخصيتها وتحد من إمكانياتها.
الصراع الخارجي:
أما الصراع الخارجي، فيتمثل في التحديات التي تواجهها "ذات" في علاقتها بالمجتمع المحيط بها، سواء على الصعيد العائلي أو الاجتماعي أو حتى السياسي. المجتمع المصري في الرواية يتسم بظروف اقتصادية وسياسية صعبة، وتتعامل الشخصيات مع هذه الظروف على مستويات مختلفة. ذات تعيش في عالم مليء بالظلم الاجتماعي والتمييز الطبقي، ويصطدم وجودها دائمًا بالواقع السياسي المتقلب. هذا الواقع يفرض عليها أن تواجه تحديات متعددة: علاقة مع أسرتها، تكيفها مع العمل، وعلاقاتها مع الرجال والمجتمع بشكل عام.
في ذات الوقت، تمثل الرواية أيضًا صراعًا سياسيًا في ظل الأوضاع التي تمر بها مصر في تلك الفترة، حيث تواجه الشخصيات النظام السياسي القامع والهياكل الاجتماعية المهيمنة التي تحد من حرية الأفراد. الشخصيات في الرواية تتعامل مع تحديات قاسية تتعلق بالظروف الاجتماعية، والحياة اليومية التي تُخضعهم لضغوط مستمرة.
التفاعل بين الصراعين:
الصراع الداخلي يتفاعل مع الصراع الخارجي في الرواية بشكل كبير. فكلما زادت التحديات الخارجية التي تواجهها ذات في المجتمع، زاد الصراع الداخلي لديها. هي تحاول التكيف مع عالم مليء بالظلم والظروف القاسية، لكن هذا يعمق مشاعرها بالتشوش والضياع. علاقتها بالعالم الخارجي تؤثر بشكل كبير على رؤيتها الذاتية وقدرتها على تحديد مصيرها.
إجمالًا، "ذات" تقدم مزيجًا من الصراعات الداخلية والخارجية التي تعكس تجارب شخصية في ظل واقع سياسي واجتماعي معقد، ويعكس الصراع بين الذات والعالم الخارجي أحد المواضيع الرئيسية في الرواية.
رواية "ذات" للكاتب المصري صنع الله إبراهيم تتناول مواضيع متعددة مثل العبث والمواجهة في سياق الحياة اليومية والظروف الاجتماعية والسياسية في مصر. في هذه الرواية، يُمكن أن نُلاحظ كيف يبرز عنصر العبث من خلال الشخصيات وتفاعلاتها في عالم مليء بالتعقيدات والضغوط الاجتماعية والسياسية.
العبث في الرواية يظهر من خلال سرد الحياة اليومية للأبطال التي تتسم بالفراغ واللامعنى. على الرغم من محاولات بعض الشخصيات في العثور على هدف أو معنى لحياتها، إلا أن الحياة تبقى بالنسبة لهم مليئة بالفوضى والصراعات الداخلية التي تؤدي إلى الشعور بالعبثية. لا يكاد الإنسان في هذا السياق يستطيع التحكم في مصيره أو تغيير الواقع الذي يعيش فيه.
أما المواجهة، فهي تظهر من خلال محاولات الشخصيات مواجهة الواقع والتعامل مع ما يواجهونه من ضغوط حياتية، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي. يتم تصوير المواجهات الداخلية والخارجية التي يواجهها الأفراد، سواء في سياق علاقاتهم الشخصية أو الصراعات السياسية، حيث تصطدم شخصيات الرواية بأزمات وجودية تجعلهم في حالة من البحث الدائم عن معنى للحياة.
إجمالاً، "ذات" تتناول الصراع الداخلي والخارجي للشخصيات، وتُظهر كيف أن الحياة في عالم مليء بالعبثية تتطلب مواجهات مستمرة مع الواقع.
***
ربا رباعي

ذكريات الأعياد في الطفولة لها طعمها الخاص ذلك لأنها تكون مقرونة بمناسبة لا تمر الا لماما.. تمر علينا مرتين في كل عام؛ مرة في عيد الفطر وأخرى في عيد النحر.. ذكريات لا تزال مخزونة في خلايا المخ لم تستطع سنوات العمر التي تجاوزت السبعين عاما من محوها. تبدا الذكرى من منتصف او نهاية الخمسينات وتحديداً بعد قيام ثورة 14 تموز المجيدة، اما المكان فهو بيئة فقيرة بكل شيء؛ أهلها الفقراء الذين يسكنون (الصرائف).

واكواخ الطين هي محلة القبلة القديمة كنا مجموعة أطفال من هذه المحلة البائسة في مرحلة الدراسة الابتدائية ومن هنا تبدأ رحلتنا مع اول عيد (عيد الفطر).. قبل يوم واحد تبدأ الاستعدادات اللازمة.. أولها الاستحمام ليلاً ثم تحضير الملابس الجديدة والتي غالباً ما تكون دشداشة مخططة بالألوان الزاهية فهي (دشداشة العيد) نستيقظ صباحاً قبل استيقاظ العصافير استعدادا للرحلة نبدأ (بمعايدة) الاهل اولاً حيث تدشن جيوبنا بكمية من النقود المعدنية الثقيلة التي كانت متداولة آنذاك ثم نجوب الشوارع في دوريات غير قتالية ونزور الأقارب فتملا الجيوب وتطفح النفوس في الفرح لان الفلوس (العيدية) هي اهم مستلزمات رحلة العيد.

ففي البصرة ثمة ساحة تقع في محلة المشراق تسمى (ساحة الدواليب) بها من الألعاب الشعبية البريئة مثل (صندوق الدنيا) ولاكن ما موجود فيها لا يرضي طموحنا فليس فيها الا بعض الألعاب البسيطة (فوق السبعة وتحت السبعة) و(رأس مقطوع يتكلم) عندها نشد الرحال الى العشار حيث المجالات ألأرحب. تنقلنا مصلحة نقل الركاب بعشرة فلوس ونحن في هذه السيارة نرسم خطة عملنا لذلك اليوم...

محطتنا الأولى (ام البروم) حيث حديقة الملك غازي التي سميت بعد الثورة حديقة الشعب وهي حديقة واسعة ارضها خضراء واشجارها زاهية قطوفها دانية نسرح فيها ونمرح بعض الوقت لكن المحطة الثانية هي الأهم حيث دور السينما سينما الرشيد والوطني في الأولى (فلم هندي) وفي الثانية (فلم طرزان) ونختار ايهما الاحسن تنقسم المجموعة الى قسمين وأخيرا ترجح كفة طرزان فنغوص داخل سينما الوطني نجلس على كراسي (أبو الأربعين) فلسا وندخل مع طرزان الى غابات الامزون نقفز معه من شجرة الى شجرة نضحك مرة ونصرخ مرات ثم نخرج منها سالمين يقابل سينما الوطني رجل يبيع المأكولات على الرصيف يعلن عن بضاعته قائلاً ابيض وبيض حيث يكررها عدة مرات والأبيض هو الخبز الأبيض والبيض هي بيضة مسلوقة مع بعض الخضروات حيث تشكل ائتلافاً غذائياً لذيذاً يسمى محلياً (لفة) وسعرها (10) افلاس واذا اضيف اليها الببسي كولا يرتفع سعرها الى (15) فلسا.  ... شارع الكورنيش يكون محطتنا الثالثة أشجار باسقة ومنظر شط العرب ببواخره الراسية وسفنه وزوارقه يغري بالتقاط الصور التذكارية عشرات من المصورين يجوبون الشارع بحثا عن صيد يقابلنا احدهم بابتسامة مصنعة فالاطفال صيد سهل دائما هل تريدون التقاط صورة الجواب نعم فنصطف امام شجرة كبيرة نحبس انفاسنا يطلب منا المصور ان نبتسم (ابتسامة العيد) فنبتسم اضطرارا بناء على طلبه.. نذرع الشارع طولا حتى حديقة كبيرة بأشجارها وارضها الخضراء الواسعة في وسطها نافورة ترش علينا الماء بشباب وشابات جميلات وعوائل هنا وهناك تفترش الأرض فتكتمل الصورة : الماء والخضرة والوجه الحسن أيضا... وعادة ما تكون حدائق البصرة نهاية المطاف لهذه الرحلة الشاقة كحديقة الشعب وحديقة الأمة التي تقع في شارع الكورنيش شط العرب يشاركنا فرحة العيد بأمواجه المتراقصة فيحمل افراحنا في زوارق وابلام عشارية وبعد جولة في هذه الحدائق نعد نقودنا كنا نحرص ان تبقى لدينا عشرة فلوس كي نعود الى البصرة في مصلحة نقل الركاب هذه هي الصورة الأولى... فما اجمل وما ابهى وما انقى تلك الأيام سلاما على تلك السنوات والاشهر والأيام التي مرت علينا خفيفة كالنسيم وحلوة كتمر البصرة... انها عصرنا الذهبي الذي لن يعود.

***

غريب دوحي

 

إذا كانت الدراما القديمة ترفع أسئلة الوجود والعدل والحرية، فإن دراما اليوم ترفع سقف الإثارة والعنف والإغراء. لم يعد الجمهور "متلقيا" يحاور العمل الفني، بل "زبونا" في سوقٍ تتنافس فيه المسلسلات على جذب انتباه بأسرع الطرق: صراخ مبالغ فيه، أزياء فاضحة، حوارات تكرس الفصحى المُكسرة والعامية المُبتذلة. التجارة هنا لا تبيع منتجًا، بل تبيع وهما سريعَ التلف. أليس غريبًا أن نرى مسلسلًا عن "مافيا الآثار" يُنتج في أسبوع، بينما رواية مثل "عمارة يعقوبيان" تحتاج عقدًا من الزمن لتصير دراما؟!
المرأة والشباب
المرأة في الدراما المعاصرة إما "ضحية" تجلدها الأقدار، أو "انتهازية" تبيع جسدَها للسلطة أو المال. أما المرأة التي تحمل تناقضات العصر، وتصارع من أجل هويتها المهنية والاجتماعية، فلا وجود لها إلا في أعمال نادرةٍ تهرب من التيار الرئيسي. والشباب - الذين يشكلون وقود ثورات الربيع العربي - يختزلون في شخصيات عابثة تتنقل بين الحفلات والمخدرات، وكأن الدراما ترفض أن ترى فيهم قوةَ تغيير، أو حتى أسئلة مزعجةً عن المستقبل.
السياسة والمحظورات
في زمن تشهد فيه مصر تحولات جيوسياسية واجتماعية هائلة، تتحول الدراما إلى جزيرة معزولة عن التاريخ. أين الأعمال التي تتحدث عن تداعيات الحرب في غزة على الوعي المصري؟ أو عن تأثير سد النهضة على حياة المزارع البسيط؟ أو عن صراع الأجيال في ظل التحولات التقنية؟ الدراما اليوم تختبئ وراء "المسلسلات التاريخية" التي تجمل الماضي، أو "الكوميديا السوداء" التي تتهكم على الواقع دون أن تنتقده. حتى الثورة التي غيّرت وجه المنطقة قبل عقد صارت تابوهًا لا يمس.
هل ننتظر معجزة؟
ليست المشكلة في غياب المواهب، بل في اختناقها بفعل ثلاثي المال والرقابة والجمهور المستسلم. ما لم تفتح نوافذ جديدة - كدمج الأدباء في كتابة السيناريوهات، أو دعم إنتاج أعمالٍ مستقلة تتحرر من سطوة الراعي التجاري - ستظل الدراما تدور في حلقة مفرغة. لماذا لا نرى تعاونًا بين كتاب السيناريو وأسماء مثل عبد الرحيم كمال أو أحمد مراد؟ ولماذا لا تخصص قنوات حكومية مساحات لتجارب جريئة بعيدًا عن قيود "الريتنج"؟
الفن كفعل مقاومة
الدراما العظيمة ليست ترفًا، بل ضرورة كالهواء. هي التي تذكرنا بأننا لسنا أرقامًا في ملفات الفقر أو العنف، بل بشرًا نحمل قصصًا تستحق أن تروى بجمال وعمق. حين حول شكسبير الصراعاتَ السياسية إلى مآس إنسانية، أو حين حول توفيق الحكيم السجن إلى مسرحٍ للأسئلة الفلسفية، لم يكونا يعكسان الواقع، بل كانا يصنعان واقعًا جديدًا. الدراما المصرية مدعوة اليوم إلى ثورة على نفسها: ثورة تبدأ باعتراف بأن الفن الحقيقي لا يرضي الجمهور، بل يزعجه. يقلقه. يدفعه إلى المرآة.
رقصة على حافة الوجود
كانتِ الأسرة مَهداً ينبت الأحلام قبل الأجساد، تعلم الطفل أن يسأل عن النجومِ قبلَ أن يحفظَ أسماءَ الشوارع. اليومَ، صارتْ سجناً يقيد الأجنحة بأغلالِ التوقعات. آباء يخافون على أبنائهم مِن شمسِ المغامرة، فيعلمونهم العيش تحت ظل اليقين. الطموح يختزل في وظيفة "مُريحة"، والإبداع يطرد مِن الباب كضيف ثقيل.
التاريخ يروي أن عبقرية ابنِ خلدون أو ابنِ رشد لم تولد مِن رحمِ الخوف، بل مِن رحمِ أسئلةٍ حركتْها عائلات آمنت بأن الرياحَ تهيئ السفنَ لا تغرقُها. فهل نعيد للأسرةِ دورَها كحاضنة للجرأة، أم نتركُها تنتج أفراداً يخافون مِن ظلِّهم؟
الديناميت الخفي
المجتمع المصري، بتعددِ طبقاتِه، يشبه بركاناً خامداً يخفي تحتَ رماده ناراً لا تنطفئ. النخب الحقيقية ليستْ مَن تتصدر الصورَ، بل مَن تعملُ في الظل كالنملِ الذي يبني مملكتَه بعيداً عن الضجيج. لكن الضجيجَ صارَ اليومَ سلطةً، والظلَّ صارَ مكاناً للمنسيين.
أليست حضارات ما بينَ النهرينِ علّمتنا أن العظماءَ لا يظهرون إلّا حينَ يختفي ضجيج العالم؟ وأنَّ التاريخَ لا يكتبُه من يصرخونَ، بل مَن يصنعونَ في صمت؟
في زمن شيوع التسطيح، ينظر إلى المثقفِ كعدو للبهجة، أو كشبحٍ مِن الماضي. الثقافة صارت تقاس بسرعة الاستهلاك، لا بعمقِ التأثير. الروايةُ التي كانتْ مرآة المجتمعِ صارتْ تُقرأُ إذا تحوّلتْ إلى مسلسلٍ تلفزيوني. المفكر الذي يرفض الانحناء للتيّار يتهم بالغرور، بينما يكرم مَن يلوّنونَ كلماتِهم بألوانِ السلطة.
الثقافة التي تخون عمقها تشبه أماً تبيع أطفالَها لتنعمَ بسلامٍ زائف. فهل نصلح ثقافتَنا بِردّ الاعتبار إلى السؤالِ الممنوع، أم نتركُها تُغرقُ في بحرِ التافهات؟
الفضاء الرقمي، الذي افتتحَ أبواب المعرفة للجميع، صار ساحة لمعركة بينَ الجوهرِ والوهم. الشباب الذي كان يفترض أن يغرف مِن محيطِ العلمِ صارَ يصارع أمواج "التيك توك". التكنولوجيا، التي وُعدنا بأنها ستحرر العقل، صارت تقيّده بخيوط غير مرئية.
لكنّ التاريخَ يعيد نفسَه: كلُّ أداةٍ جديدةٍ تحملُ في يدَيّها الخطر والفرصة. فهل نحول التكنولوجيا إلى جسرٍ نحوَ النهضة، أم نتركها سكيناً تُقطع بها أواصر الهوية؟
هُويةُ المجتمعِ المصري، التي صمدتْ أمام غزواتِ الرومانِ والعثمانيين، تواجه اليومَ غزواً أخطر: غزوَ العولمةِ الذي يذوب الخصوصيةَ في بوتقةِ النمطية. النخبُ التي كانت حارسةَ الهُويةِ صارت تقلّد الآخرَ كالطاووس الذي ينسى ألوانَه حينَ يرى مرآة.
لكنّ الهويةَ ليست متحفاً للحفاظِ على الماضي، بل حقل لزراعة المستقبل. فهل نصنع هوية تتحدّثُ بلغة العصر دون أن تخون جذورها، أم نتركها غريبة في وطنِها؟
بذور تحتَ الركام
تحت أنقاض الأزمة، ثَمّة بذور تنمو بصمت. شباب يرفضون أن يكونوا نسخاً مكررة، ويحفرون طريقَهم بِمِطرقةِ الإرادة. مدارس ظل تعلم الفلسفةَ في الأزقّة، ومبادرات فردية تحيي الحرفَ القديمة، ومثقفونَ يكتبونَ على جدرانِ الفيسبوكِ ما لا يستطيعونَ قولَه في الصحف.
التاريخ يؤكد لنا أن النهضةَ لا تصنع بقرار مِن الأعلى، بل بانتفاضة مِن الأسفل. فهل نرى في هؤلاءِ الأقليةَ التي ستُشعل النور، أم ننتظر حتى يغطّي الركام كل شيء؟
المجتمع المصري يقف على مفترق طرق: إما أن يستعيدَ قدرتَه على إنتاجِ نخبٍ تحمل مشروعاً حضارياً، أو يستهلكَ ما تبقى مِن رصيد الماضي. النخبُ ليستْ هِبَة، بل مسؤوليةٌ تكتسَب بالتجربة والخطأِ والإصرار.
السؤال الأخير ليس عن "ماذا نفعل؟"، بل عن "مَن نكون؟". فإمّا أن نختارَ أن نكونَ جسراً بينَ الماضي والمستقبل، أو أن نكونَ أحجاراً تُلقى في نهرِ النسيان. التاريخُ لا يرحمُ، لكنّه يمنحُ الفرصةَ لِمَن يجرؤُ على أن يخطوَ خارجَ القطيع.
***
د. عبد السلام فاروق

يقول الصابئة إنهم ورثة أقدم الديانات السماوية وان كتبهم هي صحف ادم وشيت وإدريس ونوح وهم ينتشرون في العراق في مدن العمارة والناصرية والبصرة وبغداد، اسمهم مأخوذ من) صــــبا الآرامية التي تعني (اغتسل) وأما مهنتهم الرئيسية فهي صياغة الذهب وبيعه وصنع القوارب في المدن الريفية.
وهناك رأي آخر في أصل التسمية يقول: إن أصل الصابئ في اللغة هو الذي يترك دينه وينتقل الى دين آخر فيقال (صبأ) حيث وردت هذه الكلمة على اثر انتشار الدين الإسلامي وتحول العرب من الوثنية الى الإسلام .
وهناك طائفتان من الصابئة وهما:
1) الصابئة المندائية أو ما يسمون بصابئة العراق ويطلق عليهم بعض المؤرخين اسم (نصارى يوحنا المعمدان).
۲) صابئة حران: وهو موضوع المقال هذا وسموا بهذا الاسم نسبة الى مدينة (حران)او حاران التي ذكرها المؤرخ العراقي احمد سوس كتابه (العرب واليهود في التاريخ) وهي مدينة قديمة تقع في شمال الشرقي من بلاد ما بين النهرين قرب الحدود السورية التركية على منابع نهر البليخ، ذكر اسمها في التوراة بإسم فدان آرام وكانت مركزاً تجارياً بين العراق والشام وهي المدينة التي توجه إليها إبراهيم الخليل بعد خروجه مـــــن أور ومنها ذهب الى كنعان، فتحها المسالمون في عهد الخليفة الثاني) .
وهي اليوم ضمن أراضي تركيا شانها شان مدينة الاسكندرونه السورية التي استولت عليها تركيا عام ۱۹۳۹ وكانت حران ملتقى الحضارات اليونانية والفارسية وقد انتقلت إليها حضارة اليونان عن طريق الإسكندرية لذلك انتشرت فيها العلوم الرياضية والفلكية ونظريات فيثاغورس فتميزت حران بعلمائها وفلاسفتها كما يأتي ذكرهم فيما بعد لقد ورد ذكر صابئة حران في المصادر الإسلامية فابن النديم في كتابه (الفهرست) يسوق لنا رواية تاريخية يقول فيها ... (إن الخليفة المأمون عندما اجتاز أرضهم قاصداً بلاد الروم إذ رأى جماعة غريبي المنظر وظهر إنهم ليسوا من أهل كتاب فانذرهم المأمون بدخول إحدى الملل الكتابية وإلا قتلهم، فأشار إليهم فقيه أن يسموا أنفسهم بالصابئة لأنها وردت في القرآن فمنهم من دخل الإسلام ومنهم مــن تنــصــر ولكن المأمون مات بغزوته تلك وارتد كثير منهم الى الحرانية) .
غير إن كتاب من الصابئة المندائية يرون (إن مركز ديانتهم كانت (اورشليم) ومنها المعمد (يوحنا المعمدان) إلا إنهم هجروا عاصمتهم تحت الضغوط التي مارسها ضدهم اليهود حيث مروا بمدينة حران ومن هنا جاءت تسميتهم ومنها انتقلوا الى العراق حيث نهري دجلة والفرات وضفاف نهر الكارون في إيران كونه مــــان مناسب لطقوسهم) . العهد المندائي الجديد: د. غسان صباح النصار وعلاء كاظم نشمي، بغداد، ۱۹۹۷ م .
وهناك رأي آخر يرى ان تسميتهم جاءت نسبة الى (هاران بن تارح) أخي إبراهيم الخليل وانه كان من رؤسائهم ويذكر رشيد خيون نقلاً عن البيروني في كتابه (الآثار الباقيـة) (إن هؤلاء الحرانية ليسوا الصابئة بالحقيقة بل هم المسمون في الكتب باسم (الحنفاء) وان الصابئة هم الذين تخلفوا في بابل من جملة الأسباط الناهضة في أيام كورش ...)
ويقارن البيروني في كتابه (بين الصابئة المندائيين وصابئة حران): إن صابئة سواد العراق مخالفون للحرانية يعيبون مذهبهم ولا يوافقونهم إلا في أشياء قليلة حيث إنهم يتوجهون في الصلاة الى جهة القطب الشمالي بينما الحرانية الى القطــب الجنوبي فالحرانيون إذا وثنيون الأمر الذي دفعهم الى دراسة الفلـك بينما يعتبــر المندائيون أنفسهم موحدين، أما المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني فيـــرى انــه ليست هناك أي علاقة بين الطائفتين سوى الاسم، ويرى إن صابئة دجلة من أصل يهودي نزحوا من نهر الأردن الى دجلة أما صابئة حران فهم من بقايا الأديان المختلطة التي كانت أيام الرومان قبل الميلاد وبعده حتى غلبت عليهم النصرانية .
وهناك وجه آخر من أوجه المقارنة بين الطائفتين فبينما اشتهر المندائيون بصياغة الذهب والفضة اشتهر الحرانيون بالاشتغال بالتنجيم والفلك والرياضيات والفلسفة واشتهر منهم علماء برزوا في هذه الميادين وكان لهم دوراً ريادياً في الحضارة الإسلامية نذكر منهم: ثابت بن قرة وهو من أصل حراني هاجر الى بغداد ولعـــب دوراً كبيراً في ترجمة الكتب من اليونانية الى العربية وخاصة كتب المنطق والفلسفة والطب والرياضيات وبعده ابنه سنان بن ثابت الذي سار على نهج أبيه ووصل الــــى مرتبة عالية في الدولة العباسية .
كذلك أبو إسحاق الصابي الذي تقلد منصب الكاتب في ديوان الإنشاء ويذكر عنه انه كان يصوم رمضان ويستشهد بآيات من القرآن في رسائله الرسمية وكان عالماً بالفلك والفلسفة، ومنهم من دخل الإسلام مثل هلال الصابي وهكذا كان العلماء المسلمين يعتمدون على ما يدرسونه من نظريات علمية وفلكية وفلسفية على علماء حران الذين هاجروا الى بغداد وأصبحوا واسطة لنقل الآراء اليونانية الى علماء وفلاسفة الإسلام وقد تأثر بهم هؤلاء كثيراً كالفيلسوف الكندي كما كان أثرهم واضحاً على (الفارابي) الذي قام بزيارة الى حــــران وأقام فتـــرة ليست بالقصيرة وضع خلالها كتابه الشهير (المدينة الفاضلة (الذي حدد فيه صفات رئيس الدولة بأنه يجب انم يكون حكيماً متأثراً بآراء ونظريات أفلاطون في كتـــــابه (جمهورية أفلاطون) وقد كانت آراء أفلاطون هذه منتشرة في حران .
كما يظهر اثر صابئة حران وفلسفتهم في بعض الفرق والمذاهب الإسلامية كالقرامطة وإخوان الصفا ورجال من التصوف الإسلامي مثل الحلاج والذي صلب في بغداد بسبب أفكاره الصوفية المتطرفة .
ولصابئة حران بيوتهم المقدسة وهياكلهم شانهم شان بقية الأديان الأخرى كاليهودية والمسيحية والإسلام، يصفها المسعودي في كتابه (مروج الذهب ج ۲) (للصابئة من الحرانيين هياكل على أسماء الجواهر العقلية والكواكب فمن ذلك هيكل العلــة الأولى وهيكل العقل وهيكل السنبلة وهيكل النفس وهذه مدورات الشكل وهيكل زحل مسدس وهيكل المشتري مثلث وهيكل المريخ مربع مستطيل وهيكل الشمس مربع وهيكل القمر مثمن الشكل كما ان لهم قرابين يتقربون بها الى الهياكل، وان الذي بقى من هياكلهم المعظمة بيت لهم بمدينة حران في باب الرقة يعرف بمصلينا وهو هيكل آزر أبي إبراهيم الخليل وفيه صور الأصنام التي جعلت مثالاً للأجرام السماوية وما تحتها من السراديب الأربعة ويسمعون فيها ظهور أنواع الأصوات واللغات من تلك الأصنام ... ورأيت على باب مجمع للصابئة بمدينة حران مكتوباً على مدقة باب بالسريانية قولاً لأفلاطون (من عرف ذاته تأله ...)
وختاماً فان سبب بقاء الصابئة المندائية وانقراض صابئة حران هو تقوقع المندائيين الشديد داخل حدود عقائدهم التي توارثوها واحتفاظهم بها وكتمان أسرارهم الدينية وعدم البوح بها إضافة الى إنهم قوم مسالمون مما جعلهم يبتعدون عن المشاكل والحروب.
***
غريب دوحي

إن الذي يسعى إليه المُشتَغل في المجالِ الإعلامي يتمثل في إمكانيةِ تحقيق الشهرة على أوسع نطاق، ومن المعروف أن معيار ما يحقق الشهرة، أي ما ينبغي أن يعمله المرء في سبيل تحقيق الشهرة، يكمن في تقديم قاموس عملي يؤثر في الواقع المعاش، فضلاً عن الممارسة الإبداعية والعبقرية، والتي من خلالها يتمكن من السيطرة على ذائقة المتلقي للمُنتَج الفني، وبالتالي فبتقديم المحتوى المميز والأسلوب المرهف، يتمكن صاحب الإنتاج الفني من السيطرة على الذائقة المستهلكة لذلك الإنتاج، ولكن نحن نتحدث عن ميديا القرن العشرين وما قبلها، أما ونحن ننظر إلى الإنتاج الفني، من غناء ومسرح وبرامج تلفزيونية والكترونية بشكلٍ أدق، في القرن الواحد والعشرين، فإننا في زمنٍ تكون الغاية فيه تتمثل بخلق الشهيرة لا الشهرة، فبمقدار ما تقدم من عرض ساذج، ويحوي على ممارسات تافهة وساخرة، يكون معياراً لنجاحه ونفاذه لذائقة المتلقي، لان الغاية كما أسلفنا لا تتمثل بأن تكون شخصاً مشهوراً، بقدر ما تكون شخصاً مُشتَهِراً.
والعلة في زمننا لا تكمن في صانع المحتوى الفني فحسب، وإنما في الذائقة الجوفاء التي تتلقى العمل الفني فتهضمه وتتابعه وتُثني عليه، وإذا ما أردنا أن نغيّر من واقع الحال المزري، فما ينبغي عمله في بادئ الأمر، التحقق من مسؤولية الذائقة، لأنها وراء شهرة المشتهر، ومن ثم الولوج إلى ميدان صناعة المحتوى الرسالي والقيمي.
وما نعاني منه في عصر الميديا المعاصرة، سيطرة شخصيات سافلة وهزيلة، ذات إنتاج فني عقيم وتافه، تتغنى وترقص على جراح ما تبقى من ثقافة ومبادئ وقيم، الأمر الذي يدعونا إلى إصلاح ما تبقى من فن، عن طريق مجموعة من الممارسات النقدية على الذائقة الشعبية، في سبيل تعديلها وإعادة توجيه بوصلتها نحو الإنتاج الفني المثمر، لأن ما نححتاجه أولاً في تقويم السلوك الفني، الثورة على تغيير الذائقة الفنية، ومن ثم البدأ في تغيير عملية الإنتاج الفني، وخلق أجواء لصناعة المحتوى الإعلامي، لان البدأ بالأخير من دون الأول يجعله عملاً خاوياً لا يحقق أثراً في واقعية الفن، فضلاً عن تفعيل دور النقابات الرقابية، والتي تتولى مهمة هدم السائد، وبناء سستم فني من نوع آخر، لا يغازل العاطفة فيكسبها، وإنما يعيد توجيه العقل فيُشغّله…
ولكن كيف نريد البحث عن الحقيقة ونحن في زمن الحقائق الافتراضية، كيف ونحن نقع تحت سطوة التحكيم الالكتروني في مواقع التواصل الاجتماعي، كيف نجد الحلول والأكثر مسبةً عن طريق التفاعل والتعليق على المحتوى المُقدّم هو الناجح والحاصد للجوائز، كيف نساهم في تغيير الواقع الفني ونجد العرض الهابط يحصل على ملايين المشاهدات، على الرغم من أن المشاهدات ليست معياراً للنجاح، ولكن اليوم هي الأصل الرئيس والخيار الفاصل، وهذا ما قصدناه بالشهيرة.
إنه زمن الصعاليك الهابط كما يقول (ألان دونو) في كتابه (نظام التفاهة)…
***
د. حيدر عبد السادة جودة

الشعر البوابية المشرعة للأدب فيها يجتمع جميع معاني الكلمات من كلمات محبة إلى كلمات ثورية وناء سلام وحرب. التقيت اليوم شاعرتين من بوسنيا تسكنان اليوم في هذه المدينة المسالمة والتي تكنى ب أورشليم السويد لكثرة الكنائس فيها ولسواد التسامح والمحبة بين أهلها الكرام. البيت الثقافي اتحاد طوعي لأدباء المدينة يلتقي فيها محبي الأدب في مقرهم الواقع وسط المدينة وفيها مكتبة عامرة يقوم على أدارتها مجموعة طيبة من الأدباء ومحبي الأدب وينظمون مهرجان الشعر الدولي كل عام في شهر أيلول يجتمع فيه شعراء من جميع أنحاء العالم.
الشاعرة البوسنية سانيا أخذتنا بصورة مباشرة إلى أجواء الحرب والمآسي التي أتت بها على شعبها في بوسنيا. الحرب ونتائجها لا يمكن نسيانها بسهولة وتبقى عالقة في الذاكرة الجمعية للشعوب. توثيق تلك الأيام العصيبة كتجربة إنسانية للأجيال القادمة مهمة إنسانية وتقع المهمة على عاتق الأدباء.
قدمت الأمسية الأديبة (انيتا هوگلوند) وشاركت في الأمسية كذلك شعراء من استمعنا من أصول مهاجرة واستمعنا إلى أشعار بالعربية والنرويجية والبوسنية وكذلك باللغة السويدية. وكانت للموسيقى مكانتها والغناء في فرقة موسيقية قدمت قطع موسيقية وغناء باللغة الإسبانية شارك فيه جوفاني، سيمون وعازف القيثارة الرائع ليو.1279 Bosnia


الشاعرة؛ سانيا سينانوفيتش
‎أشباح
‎كانت والدتي تذهب إلى إمام مسجد القرية مرة في الشهر
‎ليست فقط هي ‎بل أيضا نساء أخريات
‎بسبب الأطفال أو الأزواج أو حتى الأبقار
‎كانت تعود دوما إلى المنزل ومعها لفافات من الورق
‎كانت تضعها بين حوافي الباب
‎تلقيها تحت السرير، تخيطها في الفساتين ‎حتى ولو ليلة واحدة
‎لكن حين جاءتني امرأة مجهولة في المنام ‎وقالت يجب أن أحرق كل اللفائف أمام شجرة الكرز الخاصة بنا
‎وبينما كانوا يحرقونها ‎خرجت الأشباح من النيران
‎الأبقار الحوامل، والنساء التعيسات، الرجال، الأطفال السكارى ‎وأخيراً خرجت أمي
‎الفتيات لا يلتزمن بالوقت
‎‎تحت مظلة الغابة الحديدية ‎وضعت يدي على جبين شابة
‎لقد كان الواقع يقودني إلى الجنون
‎لقد نضج الخوف كثيرًا حتى اخترق الضلوع
‎هبت الرياح وحملت معها الأغصان المكسورة في الغابة
‎خلال الليل المظلم ‎أنا ذاهب، أشعر بالأشجار ‎لقد قادوني من وقت إلى آخر ‎
أرتجف بين عالمين ‎في إحدى المرات، تم وضع النساء القلقات في غرف الغاز
***1280 Bosnia

الشاعرة مدينه بيسيتش

تأخذنا الشاعرة مدينه بكلماتها إلى عالم الأحلام ونجد فيها نوعا من التصوف مليئة بأحاسيس المحبة والكثير من الإيجابية. حتى حين تلقي الشعر هناك بسمة غريبة على محياها كانّها تقول لا تموت الأمل ما دمناً أحياء. ‎


وحيدة مع القهوة
‎عظيم ‎أوه، أنت ‎الجمال الأبدي
‎نادوا أولاً
‎حظ مجرب
‎اختيار جيد
*
‎مُغْمَرٌ بِالْحَنَانِ
‎الشوق لا يجف أبدا
‎قف بثبات!
‎الألم مدفوع بعيدا
‎المعرفة المقدمة، ‎طعمه حلو
‎لا يمكن الإطاحة بالسلطة
‎كلمة قوية
‎قلم لا ينضب
‎حديقة غنية
‎الماء الساخن
‎النعمة متناثرة
‎اللطف اليومي
‎شهود على وجودك
***

د. توفيق رفيق التونچي - السويد
٢٠٢٥
....................
https://jonkopingslitteraturhus.se/

منذ ظهورها في أواخر القرن التاسع عشر تمكنت السينما من أن تكون رافدا ثقافيا موازياً للآداب والفنون وعاملا مؤثرا في حياتنا وثقافتنا وذائقتنا، فقد تصدت السينما ومنذ وقت مبكر للمشكلات الاجتماعية التي تنخر بنية المجتمعات على مختلف مستوياتها الثقافية والاجتماعية كما سعت للدفاع عن حقوق الانسان ودعم قضاياه من خلال تنوير الرأي العام والتوعية بالمظالم الاجتماعية التي يعاني منها خصوصا التي ظلت بعضها مهملة في دائرة الظل، فقد اسهمت السينما في تسليط الضوء على معاناة الانسان ودعت الى ضرورة التعامل معها بجدية ومسؤولية والتحذير من اهمالها ومنها المتعلقة بنوازع النفس البشرية وحاجاتها الملحة خصوصا التي تعاني منها المرأة، ومن بين الأعمال السينمائية التي كشفت عن خفايا وكواليس المجتمعات هو فيلم (النوم مع العدو Sleeping with the enemY) من انتاج امريكي عام 1991 والمأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتبة الانكليزية "نانسي برايس" كانت قد صدرت عام 1987 ومن اخراج الامريكي "جوزيف روبن "، فهذا الفيلم يسلط الضوء على قضية معاصرة لم تنل الاهتمام الكافي من لدن التشريعات والاهتمام المجتمعي على حد سواء ألا وهي فشل بعض العلاقات الزوجية بسبب التفاوت بين طرفي هذه العلاقة سواء ما يتعلق بمستوى الوعي او الفارق في السن او في المستوى الاجتماعي والطبقي، ذلك ان العلاقة غير المتجانسة سرعان ما تبرز عيوبها وتأخذ بالانهيار بعد وقت قصير من قيامها، فالفيلم يتناول قصة حب جمعت بين الشابة الجميلة (لورا) التي ادت دورها الممثلة الأمريكية "جوليا روبرتس " و(مارتن) الذي مثل دوره الايرلندي "باتريك بيرجن " وتتكلل بالزواج الذي لم يدم طويلا بسبب ان الزوج لم يكن يمتلك من المؤهلات اللازمة لأداره العلاقة الزوجية سوى الثروة حيث يظهر الغرور والفظاظة والمعاملة السيئة على شخصية الزوج المتسلط ويعامل زوجته بعنف ووحشية ويعتدي عليها اضافة الى الشك المفرط بها، لتصل الزوجة لنقطة تستعد فيها لفعل أي شيء مقابل التخلص من حياتها البائسة وتؤدي هذه المعاملة الى تدهور العلاقة بينهما بعد وقت قصير من ارتباطهما الأمر الذي يدفع الزوجة الى التمرد والهروب الى مدينة اخرى تتعرف فيها على شاب لديه اهتمامات ادبية وفنية وتشترك معه في العديد من الطباع ويبادلها الحب بكل صدق وانسانية لكن شبح علاقتها القديمة يبقى يؤرقها ويطاردها .
الفيلم فيه من الاسرار والتفاصيل الممتعة على صعيد الاثارة والتشويق التي تكشف عنها المفاجئات وكذلك في الجانب الفني المتمثل بموسيقاه التصويرية التي فازت بجائزة مهمة كما رشح الفيلم لجائزة من اكاديمية الخيال العلمي، يشير الفيلم الى حقيقة هي ان العدو ليس بالضرورة هو الذي يحاربك ويقتلك بالسلاح الفتاك، انما هناك طرق وادوات اشد فتكا ومنها الزوج الذي يصبح مجرما حينما يقتل رغبات زوجته بالإهمال والعجز في تلبية حاجاتها الانسانية، كما هو اناني حين لا يفكر الاّ بنفسه وذلك عندما يقترن بشابة بينه وبينها بون شاسع في العمر والنشاط دون التفكير بما ستملي عليه السنوات اللاحقة من حاجات يكون غير قادر على تلبيتها، لهذا يصبح النوم معه اشبه بالنوم مع عدو . فيلم يتحدث عن المسكوت عنه في واقع المجتمعات الذي يخبئ الكثير من الاسرار التي لا يمكن البوح بها خاصة في المجتمعات التي يسودها نظام اجتماعي صارم .
***
ثامر الحاج امين

 

من المكتبات التي لها فضل عليّ مكتبة ـ عم علي الساسي المطوي ـ رحمه الله وهي كائنة بالقرب من جامع الزّيتونة وقد كنت أمرّ أمامها كل يوم في طريقي إلى المدرسة الصادقية منذ سنة 1964 فاِسترعى اِنتباهي عندما رأيت أوّل مرّة الكتب المرتّبة بإتقان عند مدخلها وكنت أقتني منها كتب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي ثمّ دوواوين نزار قبّاني لمّا وصلت إلى تونس في منتصف الستينيات من القرن العشرين وأذكر أني اِقتنيت منها كتاب السّد لمحمود المسعدي في طبعته الأولى بمقدّمة الأديبين الشاذلي القليبي و محجوب بن ميلاد والذي سيكون أحد الأساتذة الكبار الذين كان لي شرف الجلوس أمامهم في كلية الآداب بتونس وقد تجشّمت قراءة سدّ المسعدي عندما جرى الحديث عنه بكثرة في تلك الأيّام فعزمت عليه وأنا لم أتجاوز الخامسة عشرة من العمر
*
كتبت حينها على صفحته الأولى هذه الفقرة التي لا أصدّق الآن أنّي كتبتها لولا أنها بخطّي حيث قلت (أرجو أن أفهم هاته الرواية...لقد سمعت عنها الكثير...إنها غامضة ...غير واضحة...مجرد هذيان قام به محمود المسعدي ولكن سأحاول فهمها ولو قرأتها آلاف المرات...لأني منذ الآن لم أتناول كتابا ولم أفهمه ...سأفهمه وسيكون واضحا بحول الله...وسيكون الاِنطلاقة الكبرى في حياتي الأدبية الخالدة في 12 ـ 1 ـ 1967)
*
رحم الله عم ـ علي الساسي المطوي ـ فقد كان يتركني بأريحية أن أتصفّح الكتب الجديدة وأقرأ منها ما تيسّر لي ودائما كان يخفّض لي من سعرها
وبجانب مكتبته مكتبة أخرى كانت تبدو على غاية من الفخامة بكتبها المجلّدة الكبيرة على جانبيها ويقابلني صاحبها بزيّه الإفرنجي الأنيق وطربوشه مدخّنا سيجارته وهو جالس في صالونه بجانب مكتبه الكبير غير عابئ بالمارين وكنت أرى معه أحيانا جمعا من الرّجال الكبار المحترمي الهيأة يخوضون في حديثهم وقد علمت بعدئذ أنه مجلس ضمّ بعض الأدباء والمثقفين الكبار في ذلك العهد من بينهم محمد المرزوقي والجيلاني بالحاج يحي ومحمد اليعلاوي ... ويدلف إليهم أحيانا رجل يحمل رزمة من الكتب يبدو أنه يبيعها بالمزاد جيئة وذهابا بين تلك المكتبات التي كانت قريبة من جامع الزيتونة أما اليوم ومنذ سنوات عديدة فقد اِندثرت أغلب تلك المكتبات مثل بقية أخواتها في شوارع باب البحر وتحوّلت إلى محلات لُمجات خفيفة وغيرها من دكاكين الملابس والاِستهلاك السّريع
ذاك زمن جميل بأحلامنا وطموحاتنا رغم ما عشنا فيه من خيبات ونكسات
***
سُوف عبيد - تونس

 

من ذكرياتي الماضية، ما أعيش ضمن أغشيته في بؤرة متنوعة من الألم والوجع، والذي بات يحتل جزء مزدوجا من يومياتي المتحركة. لكنها بالإيمان الفطري، هي الحياة بفتنتها ومآسيها والتي علمتني الجثو على ركبتي والبكاء بلا انقطاع، وطلب الصلح بعدها من علو السماء. كثيرا ما يحضرني التأسي حين أمسي إلى نومي المزعج، ويبقى الماضي يعيش بالمداومة معي في فرحي وحزني.
لم أقدر يوما تفريغ آهاتي المتراكمة من شدة رجة الحياة التي كابدتها وعانيتها لحظة من موت الأمل والحقيقة، لكنه هو الإيمان بالقدر خيره وشره، والذي لن أقدر بالمرة على تغيير منازل قراراته وغيباته. حقيقة مفزعة كانت بشدة الرجة القوية، ومن اللطف الرباني العلي القدير، هي الموت التي ربيتها بين يدي حتى شبابها، وعقدت العزم عن أنها ستكون لي سندا في الحياة، وما تبقى من باقيات العمر، لكن الموت كانت تلعب معي لعبة من الخطف وقتل الفرح، حين أفزعتني في روح مني، وتركتني جسدا بلا نعمة أمل، ولا حلم باقيات.
من ذكرياتي الماضية القاسية بالفزع المريع، والتي زرعت الفتنة بين شعيرات هامة رأسي السوداء والشيبة الذي بدا يغزو حياتي غير رأسي، أني كنت في غفلة من فتنة الحياة الفانية، حتى انتهى أمري في دوامة من الفوضى النفسية المعاكسة بالانتكاسة، ورجة من مشاهد الموت. حينها بات التأسي من ثنايا التذكر الذي لا يرحمني بتاتا، ويفزعني على الدوام، ولا يُشفق حتى بالكاد حنانا ورفقا من وضعي المنهكة والمتعبة من شدة تكسير مرآة حياتي.
تمرُّ الأيام لزاما، وبحق الله لم أقدر على النسيان أو التناسي، بل كان التذكر حاضرا وليس من الماضي. وغير ما مرة كنت أنظر إلى الأحمق، وأُفْتنُ من بلاهته، ومن ضحكته البريئة، والتي لا تحمل ثقلا من تذكر الماضي، ولا مِمَّ أصابه من حمق مرير. لم أكن أخطط بالسلب لمكونات متاهات حياتي بالتدقيق المفرط في المنطق الرياضي. لم أكن أنظر بالانتظار إلى أن القدر قد يكون أشد قسوة وفزعا على ذاتي، ولكنها هي سنة الحياة (فمن له بداية له نهاية). حتى أتى الموت مغلقا في صندوق من المآسي، أتي بلا موعد ولا جرس منبه رنَّ بلا انقطاع، بل عبر هاتف متدفق بالخبر المفزع، وبلا رؤية لفراق الوداع.
قد تكون كلماتي لا ترحمني من البكاء، ومن سيل الدمع في شهر عنفوان زمن الربيع. لأن الموت قضى أمرا لازما، ولا اعتراض عليه، ولا على قضاء الأمر الإلهي (فعال لما يريد). كان بحق جزء من دمي، والذي لم ولن يتكرر البتة، حتى ولو بالاستنساخ الجيني... كثيرة هي المصاعب والمطبات التي تصيبني، ولكني كنت دائما متسلحا بالإيمان أولا، وثانيا بالعزيمة التي لا تيأس من ممرات الحياة المتموجة، لكن قضية الفقد هي من كسرت ظهري انحناء وجثوا على الأرض بكاء، ولا زال الفراق المستديم لا يرحم مشاعري ونفسيتي.
لله الأمر، ومنه البدء والنهاية، ولا اعتراض عن قرارات السماء العليا. من أرحم العلاجات، حين وجدت أن الكتابة بلسم طيب ومرٌّ بذات الوقت، لتطبيب الجروح، وشدِّ الألم بالمسكنات الموضعية. حين وجدت أن كل حرف وكلمة وتعبير من تفريغات الحزن و تذويب جليد الألم من الفقد لأعز الناس. اليوم أحسست أن كل كلماتي تواسيني برفق وحنان. وأن كل حروفي تمسح عن عيني دمعي. أحسست الرأفة والرحمة لا الشفقة من تعابير كتاباتي، والتي باتت تتلحف ثوب البياض اليوم والتذكر. شعرت أن كل حروفي تدفعني لطلب الغفران والرحمة، ودعوات جنة خلد على فقيدي الذي هو قطعة من دمي ومن روحي مهما حييت..
***
محسن الأكرمين

يعرف عن سياحة الغولف بأنها سياحة الصفوة لارتباطها بطبقة الأغنياء الذين تزيد انفاقاتهم على اللعبة على غيرهم الذين يمارسون بقية أنواع الرياضات بعدة مرات، وتقدر إيراداتها ب (17) مليار دولار أمريكي سنويا على نطاق العالم بحسب (الاتحاد الدولي لوكلاء سياحة الغولف) (آي أي جي تي أو). وهي رياضة ظهرت منذ نحو 500 سنة، ويمارسها الملايين، منهم (610) ألف لاعب مسجل في المانيا وحدها. و(3) ملايين في أوروبا في عام 2010. وكان من المتوقع أن يرتفع الرقم إلى (8) ملايين بنهاية عام 2020 على نطاق القارة المذكورة. و(120) مليون على نطاق العالم. فأحسنت الشركات السياحية استثمارها وتوظيفها، لتطرح على شكل (منتوج سياحي)، تقبل عليه فئة النخبة والأثرياء. ففي جزيرة (جيجو) بكوريا الجنوبية على سبيل المثال يوجد (25) ملعبا، تستقطب سنويا (1) مليون سائح غولف دولي ومحلي مقابل (800000) سائح غولف في عام 2008. وتشكل الأيرادات من هذه السياحة (40) في المائة من اجمالي الأيرادات السياحية السنوية في الجزيرة المذكورة التي استقطبت في عام 2009 نحو (6) ملايين سائح، منهم (5.417) ملايين سائح دولي و(0.583) مليون سائح محلي، جاء معظمهم لممارسة رياضة الغولف في ملاعب هذه الجزيرة. أما مدينة (نيودلهي) الهندية فتجذب سنويا أكثر من (4000) لاعب غولف دولي. واستقطبت ملاعب الغولف المغربية ال (20) في عام 2010 أكثر من (68000) سائح دولي، أنفقوا (1) مليار درهم مغربي وفقا ل (جمعية الحسن الثاني للغولف). وكانت هناك خطة لزيادة عدد ملاعب الغولف إلى (40) ملعبا من أجل استقطاب (250000) سائح سينفقون (3.4) مليار درهم مغربي مستقبلا. أما سياحة الغولف في تركيا فتدر نحو (125) مليون يورو سنويا، وتنتشر بالدرجة الأساس في منطقة (بيليك) في (أنطاليا) التي فازت بلقب أفضل وجهة سياحية لممارسة الغولف في عام 2008 على مستوى أوروبا، واستضافت خلال الفترة 14 – 17 تشرين الثاني 2011 معرض (السوق الدولي لسياحة الغولف) المعروف اختصارا ب (آي جي تي ام) الذي نظمته (الرابطة الدولية لمنظمي جولات سياحة الغولف) (آي أي جي أي تي أو)، وبمشاركة (350) منظما للجولات السياحية و(1400) مفوض وغيرهم كثر. كما تعتبر أبو ظبي من الوجهات السياحية المتطورة في هذا المضمار. وقد منحت في العام 2012 جائزة أفضل وجهة سياحية للغولف على مستوى أفريقيا والخليج بعد منافستها مع جهات معروفة في جنوب أفريقيا والمغرب وموريسيوش وكينيا وغيرها. وأيضا إسبانيا التي سجلت ملاعب الغولف ال (270) فيها في عام 2003 إيرادات بقيمة (3) مليارات دولار. والولايات المتحدة الأمريكية أيضا التي مارس نحو (40) مليون فرد فيها رياضة الغولف في عام 2003 ومن خلال (17000) ملعب. أما بلغاريا ففيها (10) ملاعب غولف مرخصة دوليا ومن المتوقع تسجل إيرادات بقيمة (30) مليون يورو بنهاية 2014. ويؤخذ على هذه الرياضة: أولا: ارتباطها بفئة الأثرياء بالدرجة الأساس من رجال المال والأعمال وغيرهم. ثانيا: استحواذ الملاعب الخضراء التي تمارس فيها على مساحات شاسعة من الأراضي المتميزة. فقد أنشىء ملعب (قطامية هايتس للغولف) في جمهورية مصر العربية على مساحة (6780) ياردة، وملعب الغولف الصحراوي في الأمارات العربية المتحدة على مساحة (6791) ياردة، وملعب الغولف بمدينة الملك عبدالله في المملكة العربية السعودية الذي بوشر بتنفيذه على مساحة (780000) م2، وملعب الغولف في جبال كيرينا بشمال قبرص على مساحة (6.232) م2 (18 حفرة)، وملعب غولف منتغمري في دبي على مساحة (265) دونم. ثالثا: استنزاف هذه الملاعب لكميات كبيرة من المياه الضرورية للارواء. فقد بلغ استهلاك ملعب الغولف الواحد الذي به (18) حفرة في منطقة (هواباي) الصينية نحو (2000) م3 من المياه يوميا، و(3500) م3 يوميا في ملعب مماثل في المغرب. وتشير نتائج إحدى الدراسات الحديثة المجراة من قبل (الصندوق العالمي للحياة البرية) (دبليو دبليو اف) إلى أن ملعب الغولف الواحد ب (18) حفرة بالمنطقة يستهلك سنويا (700000) م3 من المياه، وهي الكمية الضرورية لتغطية احتياجات (15000) شخص من مياه الشرب خلال عام كامل.
***
بنيامين يوخنا دانيال
...................
* عن (مقالات في السياحة الرياضية) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2012.

 

في زحام الحياة العصرية، حيث تذوب الفواصل بين القرى والمدن، وتغمرنا موجات الموسيقى الحديثة، تبقى هناك أنغام خالدة تأبى أن تُنسى. إنها أغاني الزمن الجميل، التي لا تزال تتردد في الطرقات، يتناقلها المارة كأنها همسات الماضي، تتسلل من مذياع سيارة أجرة قديمة، أو تنبعث من نافذة مشرّعة في بيت عتيق، كأنها رسائل حب من زمن مضى.
كم مرة عبرنا بجوار حقل مفتوح في الريف، فسمعنا فلاحًا يهمس بلحن: "فلاح كان ماشي بيغني من جنب الصور...
شافني وأنا بجمع كم وردة في طبق بنور..."أو مررنا بمساء هادئ، فتناهى إلينا صوت أنثوي حالم يردد:"ياما القمر عالباب... مكسوفة مكسوفة منك..."وربما كنا في أحد الأسواق الشعبية، حيث ينبعث صوت فهد بلان من مذياع قديم يردد:"روح يا نسيم أرضها... خبرني عن أحوالها..."ليست هذه مجرد أغنيات، بل هي ذاكرة حيّة، تسكن وجدان الناس وتحمل في طياتها قصص الحب والانتظار، الفرح والحزن، التي عاشتها أجيال سابقة. إنها الألحان التي لا تهرم، بل تظل حاضرة كأنها جزء من روح المكان والزمان.
ذاكرة حية رغم تغير الزمن في الماضي، كانت الأغاني تصل إلى الناس عبر الإذاعة، أو في جلسات السمر، حيث يجتمع الأهل والجيران حول الراديو لسماع صوت أم كلثوم وهي تشدو:"على بلد المحبوب ودّيني...
يا ليل... يا عين..."أو يتمايلون مع ألحان عبد الوهاب وهو يغني:"كل ده كان ليه..؟
لما شُفت عينيه..."
كانت الأغاني تعبيرًا صادقًا عن نبض الحياة اليومية، سواء في الحب أو الفراق، في العمل أو السهر، في لحظات السعادة أو الألم. واليوم، رغم تغير وسائل الاستماع وانتشار الأغاني السريعة، إلا أن هذه الأعمال الخالدة ما زالت تجد طريقها إلى القلوب، ليس فقط لأنها تفوق في جودتها الكثير من الإنتاج الحديث، ولكن لأنها تحمل في طياتها حكايات الناس ومشاعرهم التي لم تتغير رغم تبدل الأحوال.
في الأسواق الشعبية، لا يزال البعض يدندن أغاني عبد المطلب وهو يغني:
"ساكن في حي السيدة...
وحبيبي ساكن في الحسين..."
وفي سيارات الأجرة، ربما تجد السائق يردد مع محمد رشدي:"عدوية... يا بنت السلطان..."
أما في القرى، فما زالت الأغاني التي تمجد الأرض والعمل تُغنّى أثناء موسم الحصاد، أو في ساعات الصباح الباكر، حيث يردد الفلاحون كلمات محمد قنديل:
"يا حلو صبح... يا حلو طل..."
لماذا تبقى هذه الأغاني...؟ ما يميز أغاني الزمن الجميل أنها لم تكن مجرد كلمات وألحان، بل كانت قصصًا قصيرة مغنّاة، تحكي عن الحب والحنين، عن الغربة والانتظار، عن الفرح والحزن. كانت تكتب بعناية، وتُلحن بعذوبة، وتؤدى بإحساس صادق من مطربين عاشوا الأغنية بكل تفاصيلها. اليوم، رغم موجة الأغاني السريعة التي قد لا تتجاوز بضع دقائق وتُنسى بعد أيام، فإن أغاني الماضي تبقى، لأنها خرجت من عمق التجربة الإنسانية، ومن بساطة الحياة وجمالها. ربما يمر الزمن، وتختلف الأذواق، لكن طالما بقيت هناك نافذة مفتوحة في ليل صيفي هادئ، أو قلب مُحب ينتظر، أو فلاح يمشي على الطريق الترابي بين الحقول، فستظل هذه الأغاني تتردد في الأفق، مثل أنفاس الزمن الجميل التي تأبى أن تموت!!
***
محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

تخمد إرادةُ الإنسان لأسبابٍ عدّة: تراكم الإحباطات، ضغوط الحياة، الفشل في العلاقات، وأحياناً بسبب إدراكه أن الشيء الذي كان شغوفًا بهِ، لم يعُد يعني له شيئًا؛ أي أن التحوّل نابع من وعيه أولاً بعدم جدوى الحلم الذي رسمه لنفسه أو نمط الحياة الذي توهّمهُ يومًا أنه الأمثل لعيشٍ كريم.
وعلى رأس هذه الأسباب: الحُبُّ! هو أكثر شعور يُشعل ويُضيء الإنسان من جهة، ويكسره وُيطفئ إرادته من جهةٍ أخرى حين يفشل.
الحُبُّ شكّل الثيمة الأكثر ديمومية في التراث الأدبي بجانب معاناة الحياة وتحدياتها، ويبرز كتوقٍ للنجاة وكمصدر للمعنى في عالمٍ متبعثر، يبعث على الإرهاق والاغتراب الوجودي.
حين تأملتُ تجربتي، تبيّن لي أن للحُبّ وجهين: الأول، «الحُبٌّ القَيديّ»، سمته علائقيّ، يقوم على الحاجة للآخر، ويمثّل افتقاراً وعجزًا في الروح. الثاني، «الحُبّ الإفساحيّ»، وهو الأنضج، يشبه حبّ مولانا جلال الدين الروحي لله وللوجود.. حبّ بطبيعته لا يطلب التملّك أو التعلّق، ويكتفي بالمؤانسة الروحية للمحبوب.
رغم قسوة الألم الناتج عن فشل الحب والانطفاء والشعور بغياب المعنى، تبقى هذه التجربة التربة الأخصب لتعلّم حبّ أعمق: حب غير مشروط، وإدراك أن الفراق مجرّد وهم نفترضه عندما لا نعرف من الحب إلا مثاله الأول: «الحب القَيديّ». أما الآخر، الأرقى، فيوقظ وعينا بأننا نتشارك ذات السماء مع محبوبنا، ونفس الوجود، أحياءً كنّا أم أمواتًا!
الفيلسوف الحقيقي هو من يعتق نفسه من آلام الحياة، بفسح المجال لطبيعة العالم أن تكون، دون قيد أو شرط؛ وعند هذا الإدراك، تتحدّد ملامحُ الحبّ في أنقى صوره.
***
خالد اليماني - باحث

صدر عن دار روافد في بيروت، كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» في طبعته الثانية، في (485) صفحة، وهي طبعة مزيدة ومنقحة.
جاء في كلمة الناشر: ((بعد صدور طبعته الأولى؛ حظي كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» للمفكر الإسلامي الدكتور علي المؤمن، باهتمام كبير جداً من قبل الأوساط الدينية والأكاديمية، ونُشر حوله عدد من الكتب والدراسات، وعقدت لمناقشته ندوات وحلقات بحثية، وتُرجم إلى اللغتين الفارسية والإنجليزية. وهذه الطبعة (الثانية) تتميز بإضافات نوعية مهمة.
إن المقاربات المنهجية التي يطرحها المؤلف في هذا الكتاب، هي الأولى في مجال التأسيس لعلم الاجتماع الديني الشيعي، وهي لا تتناول التشيع في أصوله العقدية وقواعده الفقهية؛ وإنما المجتمع الإنساني الذي يفرزه التشيع ومساراته التاريخية، وهوية هذا المجتمع وأنساقه ومكوناته، وهو ما يعبر عنه المؤلف بــ (النظام الاجتماعي الديني الشيعي)، وكذلك القواعد النظرية، العقدية والفقهية، والتراكمات التاريخية التي يستند اليها هذا النظام.

تقف الدراما المصرية اليوم عند مفترق طرق، إما أن تنزلق نحو الهاوية بفعل التكرار والاصطناع أو تعانق السماء بجناحي الموهبة والجدية، حديث الرئيس السيسي عن ضرورة إيجابية الدور الدرامي لم يأت من فراغ ، بل هو صرخة في واد تعصف به رياح التجارة والانتهازية، فالمشهد الحالي يشبه لوحة مرسومة بألوان باهتة، رغم أن التاريخ الفني لمصر يحتفظ في جعبته بلوحات خلدها الزمن، لكن العودة الحرفية للماضي ليست سوى هروب من مواجهة الحاضر، فالماضي جميل لأنه ماض، لكنك إن أعدت إنتاج ذات المشاعر بنفس الأدوات فستحصد دراما أشبه بمسلسلات الأبيض والأسود تعيش في عصر الألوان.
القضية ليست في "ماذا نروي" بل في "كيف نرويه"، العبرة ليست في بطولة النجم الذي يملأ الإعلانات ضجيجاً، بل في سيادة الفكرة التي تتنفس من خلال الممثل لا أن يختنق العمل تحت أضواء نجمه، النظام القديم الذي ينتج مسلسلات كالفقاعات، صعيدي هنا واجتماعي هناك وأكشن في الوسط، كلها تصب في بحر من النسيان لأنها تخلو من روح المبدع الحقيقي، المسلسل ليس سلعة تغلف بأسماء النجوم وتطرح في السوق، بل حكاية تحتاج إلى من يصوغها بيد أمينة، يد الكاتب الذي يعرف أن الحبكة ليست مجرد حواديت تخيط عشوائياً، والمخرج الذي يرى في كل مشهد لوحة يجب أن تنبض بالحياة.
أما الحديث عن "ورش الكتابة" التي تنتج نصوصا كالوجبات السريعة، فذلك أشبه بجريمة فنية ترتكب في وضح النهار، مسلسلات تكتب بين غمضة عين وانتباهتها، حوارات مبتذلة وشخصيات مسطحة، كل هذا تحت شعار "الشعب بيسيبها ويروح يشوف دراما المخدرات أو بير السلم"؛ لكن هل فكر أحد أن الجمهور لم يعد يخدع بسهولة؟ أن عينيه تتعطشان لعمق ما، لذكاء ما، لشيء يلمس وجدانه لا فقط بصره؟
الانتهازيون الذين يلوكون شعارات القيم والأخلاق كذبا، هم وباء ينهش جسد الدراما، يعيدون إنتاج الإسفاف تحت مسميات براقة، أعمال تتدثر بعباءة "الأسرة" أو "البطولات" بينما جوهرها فارغ كقشر البصل، مهمتهم ليست إثراء المشهد الثقافي، بل اصطياد الفرص لتحقيق مكاسب سريعة، لكن النجاح الحقيقي ليس في كم الأعمال، بل في كيفيتها، في ذلك الموسم برهان واضح، "قلبي ومفتاحه" و"ظلم المصطبة" وغيرها أثبتت أن النجاح له عنوان واحد، النص القوي، والإخراج المتقن، والموهبة التي تحترم ذكاء المشاهد.
الحل ببساطة: اقطعوا الطريق على النصابين، سلموا الراية للموهوبين أولئك الذين يعرفون أن الدراما ليست تسلية عابرة، بل مرآة تعكس هموم الناس أحلامهم تناقضاتهم دراما تلامس الواقع دون أن تسقط في فخ الواقعية البائسة تقدم الحلول دون وعظ مباشر تصنع الفرح دون تفاهة الحل أيضاً في إيقاف خط التجميع؛ فلماذا نُنتج عشرات الأعمال الهزيلة إن كنا نستطيع تقديم خمسة أعمال تخلد في الذاكرة؟
الدراما المصرية قادرة على العودة كـ"فينيق"؛ لكن ذلك يحتاج شجاعة في هدم الأصنام القديمة. الأصوات التي تقدس النجم على حساب الفكرة. ترفع شعارات التجديد وهو تكرر الماضي الدراما ليست مهرجاناً للوجوه المعروفة بل ساحة للإبداع الحقيقي. وهنا مربط الفرس فما قيمة أن نصنع دراما "إيجابية" إذا كانت إيجابيتها سطحية كالزبد؟ الأهم أن تكون إنسانية صادقة قادرة على هز المشاعر دون تكلف.
في النهاية المشاهد ليس مغفلاً. والعصر لم يعد يحتمل اللف والدوران؛ إما أن نصنع دراما تليق بتاريخ مصر الفني أو نقبل بأن نصبح مجرد ذكرى في ذاكرة الدراما العربية، الخيار بين أيدينا، والموهوبون موجودون، فهل نسمح لهم بالانطلاق؟.
***
عبد السلام فاروق

الشاعر يمكنه أن يصنع أمة، كما فعل الرئيس "ماو" (1893 - 1976) فهو – برغم ماله وما عليه – صنع أمة الصين، وكان يتفاعل مع مئات الملايين من المواطنين، وإستطاع بشعره وما ينحته من أفكار وتطلعات في قصائده أن يلم شملهم، وينطلق بهم إلى آفاق المجد الحضاري المعاصر، بإلهاماته المتواصلة للذبن من حوله وأعقبوه.
الصين اليوم تمثل خمس نفوس الأرض، وتتسيد على عرش الإقتصاد العالمي، وتمتلك طاقات صناعية لا تُضاهى.
الرئيس ماو وظف الشعر للتثوير الجماهيري والإستنهاض الشعبي والتعبير الوطني بالجد والإجتهاد، والعمل المتوثب نحو المستقبل الزاهر الرفيع.
أدهشتني قصائده وكتاباته التي تستدعي البحث والتقييم لكل قرار تتخذه القيادة، وبهذه الروح البحثية النقدية التفاعلية إستطاع أن يضع الشعب الصيني على سكة الإنطلاق المطلق في رحاب الزمان.
وكان شعره كلاسيكيا ويوظف الطبيعة كرمز ويعبر عن الإرادة والتحدي.
من قصيدة الثلج 1936
"الجبال مغطاة بثلج لا نهاية له
وأنهار الشمال تجمدت تماما
وفي داخل البلاد إنتصبت مئات الآلاف من التلال
لكن، من منهم كان بطلا حقيقيا"
ومن قصيدة إستراحة على جبل لوشان 1934
"الرياح تعصف والسحب تتجمع
الفتال يشتد في المضائق
يجب أن نشق طريقنا عبر الصخور
لأن النصر مرسوم أمامنا"
وهذه من قصائده المشهورة وكذلك قصائد: تشانغشا 1925، المسيرة الطويلة 1936، التاسعة المزدوجة 1929 وغيرها من القضائد الإلهامية الثورية المؤثرة في ترتيب آليات العقول، فقصائده وخطبه كانت أشبه بآليات تفكيك وإعادة تصنيع التفكير في المجتمع الصيني.
فهل لدينا قدرة ماوية شعرية على إعادة تصنيع حياتنا؟
و"الشعر مصباح أقوامٍ إذا التمسوا...نور الحياة وزند الأمة الواري"!!
***
د. صادق السامرائي

في مدينة الحلة، حيث تتعانق الحضارة مع الإبداع، وحيث كل حجر يروي قصة من مجد التاريخ، وُلد رجلٌ لم يكن مجرد خطاط، بل كان سيد الحرف وروح الفن المتجسدة. إنه الأستاذ الجليل، شيخ الخطاطين، السيد حسام الشلاه، الرجل الذي لم يكن قلمه مجرد أداة، بل امتدادًا لروحه، وسفينة تبحر في بحر الجمال والإتقان.
عرفته المجالس الثقافية رجلًا وقورًا، هادئًا في حضوره، عميقًا في فكره، يفيض بالحكمة التي لم تكن يومًا مجرد كلمات تُلقى، بل معانٍ تُجسد في لوحاتٍ تتراقص فيها الحروف، فتتمايل كأنها تنشد قصيدة خالدة. لا يكاد يغادر مكانًا إلا وقد ترك أثرًا، توقيعًا من روحه على جدران الذاكرة. كان يحمله الحرف حيثما حلّ، فلا يفارقه القلم أبدًا، وكأنه بعضٌ من يده، بل بعضٌ من كيانه.
كان مجلسه الثقافي قبلةً لذوي الفكر، ملتقى لعشاق الفن والأدب، حيث تجتمع العقول الراقية لتنهل من نبع المعرفة، وتنهض بالثقافة إلى آفاق أرحب. في هذا المجلس، حيث تمتزج الأصالة بالحداثة، تتجلى شخصيته الفريدة، رجلٌ يحمل في قلبه حبًّا لا ينضب للحرف العربي، يدافع عنه كمن يدافع عن هوية، وينقشه كما يُنقش الوشم على جلد الزمن.
من عادته أن يُخرج قلمه في أي مجلس، لا يقاوم إغراء الورق، فالحروف تناديه، وكأنها تستغيث أن تخرج من العدم إلى الوجود. رأيته ذات يوم وقد جلس بين جمعٍ من الأدباء والمثقفين، تأمل قليلاً، ثم أخرج ورقةً بيضاء، ومدّ يده إلى جيبه، حيث يقيم القلم مقام القلب. بحركةٍ رشيقة، وكأنه يستل سيفًا من غمده، شرع يرسم الحروف على الورقة، كمن ينسج ثوبًا من حرير. لم يكن يكتب وحسب، بل كان ينحت الجمال في فضاء الورق، حتى إذا اكتمل، رفع الورقة وأراها لي، فكان اسمي قد وُلد من جديد، لكن في أبهى صورة، كأنما انبعث من ألقٍ سماوي.
إنه حسام الشلاه، الرجل الذي لم يكن الخط بالنسبة له مجرد فن، بل رسالة، هوية، ونبض حياة. لم يكن الحرف تحت يده خطوطًا جامدة، بل كان حياةً تنبض، وروحًا تتنفس، وعشقًا يتجدد مع كل قطرة حبر تسري على الورق.
في زمنٍ بدأت فيه الحروف تفقد ألقها وسط موجة الحداثة الجامحة، ظلَّ حسام الشلاه صامدًا، كحارسٍ أمينٍ على بوابة الجمال، لا يساوم على مبادئه، ولا يُفرِّط في إرثه العريق. إنه من تلك الشخصيات التي لا يطويها الزمن، بل يُدوّنها في سجل الخالدين، حيث يبقى أثره شاهدًا على أن الحرف العربي لم يكن يومًا مجرد خط، بل هوية تنبض بالحياة، وروحٌ لا تموت.
سلامٌ عليك، أيها الخطاط العظيم، وسلامٌ على يديك التي كتبت الجمال، وعلى روحك التي صنعت مجد الحروف.
***
بقلم: د. علي الطائي
14-3-2025

في المثقف اليوم