أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

يشهد سوق الكتاب حاليا تراجعا ملحوظا في حجم مبيعاته وتسويقه وذلك بسبب التحولات الكبيرة والتكنولوجيا المتطورة التي أفضت الى ظهور الكتاب الالكتروني والمنصات الرقمية والتي أثرّت بشكل واضح على عزوف قطاع كبير من القراء على شراء الكتاب، كما ان حال الكتاب والى سنوات قريبة مختلفا عما عليه اليوم، فالكتاب في السابق كان محميا من آفة التزوير والقرصنة وكذللك حقوق المؤلفين هي الاخرى محمية من الانتهاك بموجب مواثيق موقعة من قبل دور النشر على عكس ما نراه اليوم من الفوضى وغياب المعايير في النشر والسطو على الملكية الفكرية، كما كان الكتاب يتمتع بأهمية وضرورة لدى القارئ وتتنافس دور النشر على اصدار الكتاب الاكثر رصانة والأجدر بالقراءة وهذا التوجه لا ينحصر في الساحة المحلية فحسب انما يتجلى بشكل واضح في الساحة العالمية، ففي كتابه الممتع (ماركيز.. لن أموت أبدا) يحكي مؤلفه " كونرادو زولواجا " عن الظروف التي كتب فيها ماركيز رواياته والظروف التي رافقته في رحلته لنشرها والمعوقات التي واجهته وتحديدا عند نشر روايته (مئة عام من العزلة) حيث يذكر كونرادو ان دار النشر التي قامت بنشر الرواية المذكورة أخبرت ماركيز ان الطبعة الأولى من الرواية سوف تكون في حدود ثمانمئة الف نسخة مما اثار تعجب ماركيز باعتبار الكتاب الجديد يحتاج الى معرفة بالكاتب في حين هو ما زال في بداية مشواره الأدبي، فجاء تعليقه: " أليس هذا كثيرا للغاية؟ " فأكدت له الدار انها ستبيع هذه النسخ في غضون عام، ولكن المفاجأة ان كل نسخ الرواية بيعت في اول  خمسة عشر يوما، وهناك شائعات في عالم النشر تذكر بأنه بعد أربعة اعوام من نشرها بيع منها ما يزيد على الخمسين مليون نسخة في الأربعين لغة التي صدرت بها، وهذا الاقبال و التهافت على اقتناء كتب ماركيز ليس بالأمر الغريب والمحصور في بيئة الكاتب التي تتكلم بلغته والقريبة من أجواء رواياته انما دول عديدة  شهدت هذا الاقبال على كتب ماركيز ومن بينها العراق، فأنا اتذكر في العام 1986 وهي السنة التي شهدت وصول روايته (الحب في زمن الكوليرا) الى مكتبات العراق كنت انتظرــ مع جمهرة واسعة من القراء ــ ساعات عند باب معرض بغداد الدولي الذي احتضن معرض الكتاب لتلك السنة من أجل الفوز بنسخة من تلك الرواية،  وعندما فشلتُ في المرة الاولى من الفوز بنسخة لسرعة نفادها من الجناح المخصص لبيعها لجأت الى الكلام الناعم والرجاء من الفتاة الحسناء المشرفة على الجناح ان تحجز لي نسخة وفعلا عدت في اليوم التالي وسلمتني الكتاب مع ابتسامة انستني بها مرارة ثمنه الباهض في حينه .

***

ثامر الحاج امين

يغلب على معظم حوارات ومذكرات الأدباء سؤالُ الكتابة، وهاجس الكشف عن عادات وطقوس، يعتمدها الروائي في حواره مع الكون بقوانينه الاجتماعية والتاريخية لإبداع نص مكتوب. لكن يظل سؤال القراءة غائبا، قلما يهتم المُحاوِر أو الروائي نفسه بالحديث عنه، وكشف مسارِبِه التي أفضت لاحقا إلى الامتلاء ثم الكتابة. والسبب أن الروائي هو بالمُحصلة إنسان تحكمه ظروف اجتماعية وسياسية قد تساعد، أولا تساعد، على تكوين عادة قرائية لها خصوصيتها.

كيف يقرأ الروائي؟

وما هي العادات التي كونها منذ طفولته في علاقته بالكتب والمكتبات؟

وماهي خصائص الزمان والمكان التي يعتبرها الأنسب للقراءة؟

إنها أسئلة تراودنا حين يتملكنا الانبهار أمام روائع أدبية كمئة عام من العزلة، ومدن الملح، والطبل والصفيح، وروايات نجيب محفوظ ورضوى عاشور وصنع الله إبراهيم وغيرها؛ من باب الفضول أولا، ثم لتتبع الخطوات القرائية التي قادت إلى إبداع من هذا القبيل.

أن أقرأ هو أن أخلق الصيغة السينمائية العقلية الخاصة بي من نص ما، يقول أورهان باموق الروائي التركي الحائز على نوبل 2006، لابد للإنسان أن يمنح خياله الخاص فرصة القيام بدوره. وما يجعل القراءة شديدة الإمتاع بالنسبة له هو الوعي بالذات، أي أن هناك جزءا من عقولنا يجب أن يقاوم الاستغراق الكامل في النص. هذا هو السبب في أن باموق يحمل معه الكتب كما لو كانت تمائم تجلب السعادة، ليقرأ أينما ذهب، ويفتح الكتاب كلما شعر بالملل ليسترد هدوءه وتقديره لنفسه ككاتب.

غير أن المتعة عند نجيب محفوظ تحولت إلى نَهمٍ حاد لم يخفف منه سوى إصابته بمرض السكري. فكان يقرأ أكثر من كتاب في وقت واحد، ولا يعيد قراءة كتاب إلا إذا كان عملا عزيزا على نفسه كالحرب والسلام لتولستوي، والبحث عن الزمن الضائع لمارسيل بروست.

ويدين محفوظ بشغفه القرائي للشيخ مصطفى عبد الرازق قائلا: "هو الذي علمنا أن نقرأ ونحن نقطع الطريق مشاة، بين بيتنا والجامع الأزهر في كل مطلع صباح قرابة ساعة، وفي مساء كل يوم كذلك".

ولا يكفي تمرير العين والعقل ببطء ليحصل المرء على متعة القراءة، بل ينبغي الشعور بالألفة مع محتوى الكتاب لبلوغ حالة من التواصل الفكري مع المؤلف. كتبت الروائية الأمريكية سوزان سونتاغ الملاحظة التالية بعد قراءة يوميات أندريه جِيد :" أنهيت قراءة هذا الكتاب في الساعة الثانية والنصف صباحا، في نفس اليوم الذي اقتنيته فيه. كان يجب أن أقرأ ببطء أكثر، ويجب إعادة قراءته مرات عدة. أنا وجيد وصلنا إلى المشاركة الفكرية التامة.. لأني لا أقرأ هذا الكتاب فقط بل أبدعه بنفسي أيضا."

والسر في البحث عن الألفة أن البراعة الفنية في بعض الكتب تترك انطباعا قويا يجذبك لأن تواصل القراءة لساعات طويلة.

بالمقابل تحتج فيرجينيا وولف على أية نصيحة يسديها شخص لآخر حول ماذا أو كيف نقرأ. كل ما عليك فعله هو أن تتبع حواسك وتستخدم عقلك من غير الحاجة لسلطة خارجية. أقحِم نفسك أكثر في عالم القراءة دون خطة مسبقة، وانتظر ريثما يستقر غبارها وتهدأ التساؤلات وتضارب الأفكار. بعدها فجأة وبدون إرادة منك، سينكشف الجانب المظلم من العقل لتبدأ بتمرين طاقاتك المبدعة.

ويبدي الروائي السوداني أمير تاج السر حساسية من هذه المسألة، على اعتبار أن المرء مهما كبر وتمدد في القراءة الإبداعية أو غير الإبداعية، لا يمكنه تحمل مسؤولية توجيه الآخرين إلى نهجه في القراءة. فقد يبدو الروائي المخضرم مؤهلا للإشراف على ورشة لتعليم الكتابة، والقاص المهم على ورش للقصص القصيرة، لكن من ذا الذي سيشرف على ورشة لتعليم الناس قراءة الكتب؟

إن الحالة المثالية برأي وليام فولكنر، الروائي الأمريكي الحائز على نوبل 1949، هي أن تجلس إلى طاولة مزدحمة بالكتب وتقرأ. لذا حرص على الاستيقاظ في الرابعة صباحا، والجلوس لساعات عديدة إلى طاولة أهدتها له والدته. ولما ضايقه الصحفيون والمعجبون، بعد نيله للجائزة العالمية، اضطر لبناء جدار عال حول منزله ليواصل القراءة والكتابة معلنا:

"سأستمر على هذه الحال إلى نهاية عمري؛ وأتمنى أن أتلاشى من حياة الآخرين، وأُحذَف من التاريخ من دون أثر ما عدا كتبي!".

وقد تفضي بك الحالة المثالية إلى أن تصبح سارق معرفة، تطيل الوقوف أمام المكتبات لتنفق ما في جيبك مقابل الكتب؛ وتحقق بعضا من حلم ظل يراود الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا: بناء دار مفتوحة ترتب على رفوفها التي لا تنتهي كتبك، وتدعو الجميع للقراءة والكتابة!

وحين يطرأ على جسمك الوهن واعتلال الصحة، وتبحث عن أعذار لترك مكتبتك فريسة للغبار والعناكب والنسيان، يدعوك مارسيل بروست أو ألكسندر دوما الأب لتجريب عادة القراءة على فراش المرض، أو ممددا على الأرض وتحتك وسائد عديدة. من يدري، فقد تلهمك القراءة على هذا النحو إبداعَ عملٍ شبيه ب"البحث عن الزمن الضائع" أو "غادة الكاميليا"!

على الضفة الأخرى من الكتاب، يُحذر الروائي الأمريكي هنري ميللر قراءه من الغرق في الكتب، لأن كل ما يبدو فيها حيويا وهاما ليس إلا مثقال ذرة من تجربة الحياة المباشرة. وسواء كان المرء يسعى خلف المعرفة أو المتعة، فعليه أن يتوجه إلى المنبع.. إلى الحياة نفسها.

ولأن إغراء القراءة لا يقاوَم، ومن شأنها أن تُبقي الكتاب حيا، عبر التوصية المُحبة التي يقدمها قارئ لآخر؛ يهب ميللر قراءه هذه النصيحة النفيسة:" عندما تصادف كتابا ترغب في قراءته، أو تعتقد أنك يجب أن تقرأه، دعه وشأنه بضعة أيام. ولكن فكّر فيه بأشدّ ما يمكنك من تركيز. دع العنوان واسم الكاتب يدوران في عقلك. فكر ماذا كان يمكن أن تكتب لو أتيحت لك الفرصة. اسأل نفسك بجدية إذا كان ضروريا أن تضيف هذا العمل إلى مخزونك من المعرفة أو إلى ذخيرتك من المتعة.. حينئذ إذا وجدت أنه لابد لك أن تقرأ الكتاب، فانتبه بأي فطنة استثنائية تتعامل معه!"

ولعل أجمل نصيحة تلخص سعيك لمحاكاة عادات القراءة عند الأدباء هي مقولة الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير:" لا تقرأ مثل الأطفال، من أجل المتعة، ولا مثل الطموحين، بغرض التعلم. لا، اقرأ كي تعيش!

***

حميد بن خيبش

هما بالفعل القارئان، فقد اشتهرا وارتبط كل منهما في فترة خاصة من عمره بالآخر، وكان لكل منهما فلسفته المتأثرة بالأخرى. نقول انهما القارئان مع ال التعريف، كونهما عُرفا بحبّهما الغامر للكتب وأمضى كل منهما سحابة عمره مرافقا لها، ورائيا فيها وفي قراءتها نشاطا إنسانيا لا بد منه لان تكتمل إنسانية الانسان ولأن يجدّد شبابه ويجعل من الحياة رحلة ممعتة مسلية ومفيدة.

المقصود بهذين القارئين، كما لا يغيب عمّن أحبّ الكتاب ورافقه متزاملًا معه، هما الكاتبان الارجنتينان، جورج لويس بورخس، والبرتو مانغويل، وقد ارتبط اسما هذين الكاتبين، بحيث انه بات من المُستغرب والمستهجن أن يُذكر أحدهما دون ان يذكر الآخر، اما سبب هذا كله فانه يعود إلى كون كل منهما اعتبر نفسه منذ البداية قارئا أكثر منه كاتبا، وان كلا منهما قدّم صورةً يمكن اعتبارها موئلا للرؤية التي تميز القارئ المعاصر.

بين هذين الكاتبين ربطت علاقة.. ابتدأت مصادفة، غير أنها تواصلت قصدًا، وقد تمّ اللقاء الأول بينهما في مكتبة بجماليون، وكان بورخس في حينها في الخامسة والستين من عمره، في حين كان مانجويل في السادسة والعشرين، وكان يعمل حينها امينا للمكتبة الوطنية في العاصمة الأرجنتينية بوينس ايرس، وهو المنصب ذاته الذي سيتولّاه فيما بعد روبرت مانجويل. أعجب بورخس في ذلك اللقاء بمانجويل الشاب القارئ المحب للكتاب، فاقترح عليه ان يقوم بزيارته لقراءة ما أراد ان يطلع عليه من مؤلفات، هكذا تمّت الزيارت الأولى لتتواصل مدة أربعة أعوام من 1964 حتى 68، بواقع ثلاث او اربع زيارات أسبوعية، يستمتع الاثنان فيها بما بالقراءة المشتركة، ويغرقان في البحر المحبب لكل منهما.. بحر الكتاب ولجُجه المبهرة الساحرة. عندما كان مانغويل يعود إلى بيته كان اهل البيت يقترحون عليه ان يسجل يومياته او مذكراته مع بورخس، غير ان مانجويل كان يعيش مع بورخس بكل ما في روحه من محبة للكتاب، وقد وثق مانجويل هذه اللقاءات في كتاب حمّله عنوان " مع بورخس"، وبإمكان من يود قراءة هذا الكتاب والاطلاع على ما أورده فيه مانجويل عن بورخس ان يقرأه بالعديد من اللغات التي تمت ترجمته اليها. الترجمة العربية لهذا الكتاب تمت بهمة المترجم العربي المبدع صالح علماني وصدرت قبل سنوات عن دار المدى العراقية السورية المتألقة.

القراءة للمتعة

بالعودة الى بورخس قارئا، يمكننا القول إنه رأى في الكتاب مصدرا مركزيا للمتعة والفائدة، وعادة ما كان بورخس يشطح في العوالم الرحيبة التي يرتادها مَن يقرأ لهم من الكتاب، أمثال الكاتب الاسباني سرفانتس في روايته الخالدة دون كيخوته، ويتجول مُقلعًا في افاقها، وكان يُفضّل قراءة الروايات البوليسية، علما أنه عُرف بنظرته الثاقبة وذاكرته الحية وغير العادية، ومما يذكر عن بورخس انه اطلع على افضل ما انتجبته البشرية من كتب، وانه توقف عند الكتاب العربي العظيم الف ليلة وليلة وتأثر به ايما تأثر، وكان بورخس كما عُرف عنه أيضًا، لا يصبر على كتاب مملّ او يدخل السام اليه، فيلقي به بعيدا ويبحث فيما يتلو من وقت عن كتاب آخر يُدخل البهجة إلى روحة والمتعة الى حياته. وكان بورخس يعتبر نفسه قارئًا أكثر منه كاتبًا، ويُخيّل لي أنه رُغم اصابته بالعمى التدريجي في أواخر العشرينيات حتى الثلاثينيات من عمره، الا انه اصرّ على مواصلة القراءة، فبعد ان بلغت جدته وقارئته الكريمة التسعين من عمرها، ها هو يلتقي بمانجويل، قارئه الذي سيمثل استمرارًا عمليًا له في رحلته العظيمة مع الكتاب، وسوف يُكرّس جانبًا مركزيا في حياته لتحفيز الناس في العالم على القراءة ناقلًا رغبته في الكتاب عبر عدوى رائعة الى الكثيرين في مختلف ربوع العالم واصقاعه.

قراءة واحدة لا تكفي

اما فيما يتعلّق بهذا الأخير، مانجويل، فقد اعتبر القراءة النافذة الأجلّ للإطلال منها على العالم السري الخفي للروح الإنسانية الشاملة، واعتبر ان إعادة قراءة الكتب الجادة، وبذل ما تحتاج إليه من مجهود، مهمة مقدسة تُغني وتُثري كل من يتصادق مع الكتاب، ووفق رؤيته هذه يمكننا القول إن مانجويل اعتبر الكتاب صديقا متجددا ودائم الحيوية فنحن في كل مرحلة من مراحل الحياة يمكننا ان نكتشف العميق والفاتن من الكتب، غير اننا قد نجد انفسنا في فترات تالية من العمر وقد شدتنا رغبة عارمة لان نعود لقراءة هذا الكتاب او ذاك مما سبق وقرأناه في الماضي. ذلك ان مفهومنا للكتاب وما يتضمنه قابل للتغير والاكتشاف المتجدد أيضا. تناغما مع بورخس، قام مانجول باعتبار القراءة رسالة إنسانية يُفترض فيه نقلها الى الاخرين من اخوانه في البشرية، وقام من اجل تنفيذ مهمته هذه بوضع العديد من المؤلفات التي تحضّ على القراءة وتساهم في تفكيك شفراتها المشجّعة على ممارستها. من الكتب التي وضعها مانجويل عن القراءة نشير الى كتابيه تاريخ القراءة ومكتبة اخر الليل، وقد تمت ترجمة هذين الكتابين الى العديد من اللغات من بينها لغتنا العربية. مع كل ما تقدم ورغمه يرى مانجويل أنه لا توجد مفاتيح سحرية لممارسة القراءة ذلك انه كما يرى توجد هناك لكل قارئ راغب طريقة خاصة تعتبر أفضل من كل ما عداها للقراءة.

هكذا نلاحظ ان هذين القارئين المعروفين في مختلف انحاء العالم، قدّما بحياتهما، كلّ على حدة وبُعد، نموذجًا يمكن احتذاؤه او الاستفادة من تجربته ورؤيته للقراءة على اعتبار انها نشاط إنساني لا بدّ منه استعدًادا وتمهيدًا لان تكتمل إنسانية الواحد منا ولان تندمج روحه في الكل الإنساني الشامل.

***

ناجي ظاهر

الأدب في زمن الدم والخذلان

إنّ ما يجري الآن حولنا، بل ما يتفجّر أحيانًا تحت أقدامنا من مآسٍ وحروب ومجازر، يعيد إلى أذهاننا ذلك النداء الأخلاقي العميق الذي أطلقه الشاعر الألماني برتولت برخت، حين عبّر عن رغبته في الكتابة عن العشاق، والطيور، وغروب الشمس، لكنه لم يستطع، لأن الدم الجاري في الشوارع جعله يشعر بالخجل من أي كتابة لا تشهد على الجريمة، ولا تُصغي لأنين الضحايا.

هكذا تضعنا الكارثة وجهاً لوجه أمام مسؤولية الكلمة. فحين يصبح العالم غارقاً في العنف، يصبح الصمتُ عن القتل تواطؤاً، وتتحول الكتابة إلى محكمة أخلاقية: إمّا أن تكون شهادة حقيقية على الألم الإنساني، أو تكون محاولة للهرب من مرآة الواقع نحو وهم الجمال المعزول. وبهذا المعنى، لا يمكن للكاتب ـ في خضم الخراب ـ أن يُعفى من سؤال الانتماء الأخلاقي، لأن الكلمة إما أن تكون خنجراً في خاصرة الجلاد أو ضماداً على جراح الضحايا.

يقول سارتر في كتابه الأدب هو الحرية: "الكاتب مسؤول عن عصره، ومهمته أن يُحرّض، أن يكشف، أن يشهد"، وهذا ما يجعل الأدب أكثر من فن، بل شراكة وجودية في المعاناة الجماعية. فحين تنفجر البيوت على رؤوس الأطفال، لا يحق للشاعر أن يكتب عن الزهور ما لم يزرعها في المقابر أولاً.

كذلك رأى إدوارد سعيد أنّ "المثقف الحقيقي هو من يختار أن يكون في موقع المساءلة والرفض"، وهو من يتجاوز البلاغة إلى الفعل النقدي، ومن يرفض أن يكون صوتاً في جوقة الحاكم أو صدىً لصوت المنتصر.

إنّ ما تشهده الجغرافيا العربية ـ من فلسطين المشتعلة إلى العراق المجزّأ، ومن السودان النازف إلى سوريا المتعبة ـ لم يعد مجرد مادة إخبارية، بل صار اختباراً لكل ضمير حر. فكلّ قصيدة تُكتب، وكل مقال يُنشر، وكل كلمة تُقال، تُصبح فعلاً أخلاقيًّا يُحدّد الموقع الحقيقي لصاحبه: أهو مع القتيل، أم مع صمت القاتل؟

ولعلّ المفارقة التي أشار إليها ثيودور أدورنو حين قال: "إن كتابة الشعر بعد أوشفيتز أمر همجي"، لم تكن رفضاً للأدب بعد المجازر، بل دعوةً لتغيير وظيفة الأدب. فالشعر الذي لا يُسائل البُنى القاتلة، ولا يهتك القناع عن الوحشية المغلّفة بالشعارات، لا يختلف عن الصمت. والأدب الذي لا يُقلق السائد، ولا يُحرّض على التفكير، يفقد جوهره بوصفه فعلاً إنسانياً يُقاوم النسيان.

لقد حاول البعض، باسم "الفن للفن"، أن يعزل الجمال عن الأخلاق، وأن يجعل من الأدب ساحة ترفٍ روحيّ، لا منبرَ مقاومة. لكن حتى أرسطو، الذي وضع الجمال في صلب التجربة التراجيدية، ربط الشعر بالتطهير، أي بالتحريض على الوعي والشفاء من الوهم.

في هذا السياق، لا بدّ أن نتذكر تحذير فريديك نيتشه من "الشعر الذي ينام على الأرائك"، على حدّ تعبيره، لأن الألم البشري لا يليق به إلا القلق الإبداعي، لا الترف اللغوي. إن ما يكتبه المبدع في زمن المذبحة لا يجوز أن يكون معزولاً عن صرخة، أو منفصلاً عن سياق.

إنّ الخجل الذي عبّر عنه برخت ليس ضعفاً، بل هو ذروة الحس الإنساني: إنه صوت الضمير حين يرفض تحويل القتل إلى خلفية تجميلية، أو معادلة سياسية. إنه خجل الكلمة من أن تصبح تواطؤاً. خجل القصيدة من أن تغني بينما يموت طفل تحت الأنقاض. خجل الثقافة من أن تكون ملاذاً للهرب من جحيم الواقع.

فليست الكتابة في زمن الدم ترفاً، بل هي خيار حاسم بين أن نكون "شهوداً على المجزرة" أو "سماسرة للزخرفة".

وإذا كانت الطيور ما زالت تحلق، والشمس ما تزال تغرب، فإن دم الضحايا يظل أقوى من كل تشبيه، وأسبق من كل مجاز. لأن اللغة حين لا تكون في صفّ الحياة، تتحوّل إلى قناعٍ للموت.

- خاتمة:

ليست القصيدة بيتاً من الورق، بل هي بيتٌ يأوي إليه المظلوم.

وليست الرواية لحظة هروب، بل وثيقة اتهام. وليس الكاتب خبير أساليب، بل شاهدٌ يُستدعى إلى محكمة الوجود. وحين تخجل الكلمات من الجمال، فذلك لأن الدم فضح كلّ ما هو مزيف.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

أحلام السبعينات من القرن الماضي تتسم بحب متوهج لعمل كبير وجدنا أنفسنا فيه نحن مجموعة من الشباب، يجرفنا التفاؤل والحيوية، لا مجال فيه للحزن والاحساس بالكآبة، ومن دون شعور بلحظة (الصدمة) القادمة. كنا مستغرقين بسر العمل والتغلب على المصاعب، نكتشف معاني جديدة رحبة في أداء رعيل من الصحفيين والمثقفين والسياسيين بظل وارف ينتشر في موقعين، يطلّ أحدهما على شارع السعدون قريباً من سينما بابل، يتسع أمامه في الصوب الآخر شارع يؤدي إلى فضاء أبي نواس المزدان بالخضرة والماء والمقاهي والناس إلى ساعات متأخرة من الليل. هذا الموقع تشغله جريدة " طريق الشعب" التي عاودت الصدور العلني في 17 أيلول 1973.

أمّا الموقع الثاني فهو (مطبعة الرواد)، في الشارع المقابل للقصر الأبيض، بعيداً عن الزحام وضجيج السيارات والمارة، لا توحي أشجار الكالبتوس التي تظللها من جهة اليمين والمساحات الخضراء أمامها سوى مشاعر القلق والخوف والترقب، فنحن على بعد خطوات من مديرية الأمن العامة، التي (استقبلت) في زنزاناتها بعد سنوات معدودة (رفاق الأمس الحلفاء) ليتعرضوا فيها إلى الموت بجرعات السم والتعذيب بكل صنوفه. كانت أبنية الأمن تبدو لنا مظلمة معتمة كسواد شاغليها، ورعب أقبيتها السرية، إن مجرد التفكير بهذه (الجورة) كان يسمم حياتنا.

في هذا المكان شيّد أحد رواد الصحافة العراقية (جوزيف ملكون) مبنى لجريدته " الأخبار" التي صدرت في العهد الملكي، ثم واصلت الصدور بعد اسقاطه، كان المبنى مصمماً بطراز معماري وظيفي، جديد آنذاك.

لقد شهدت الجريدة والمطبعة جمعاً لا نظير في الصحافة العراقية، ووجد بعض هذا الجمع شهرة منحته التفوق والامتياز في سنوات لاحقة. لست بصدد الحديث عن هذه التجربة بكل تفاصيلها وأسمائها، فقد سبقني زملاء كثيرون في الكتابة عنها، كما انني تناولتها في مناسبات عدّة، كتبت عن ذاك الجيل الصاخب والمتحمس، عن مفاتيح الأحلام حيناً، وعن الأوهام حيناً آخر. عن التجربة بومضاتها العابرة، وبمضمونها وجوهرها الإنساني.

هذه المرة يقتضي الموقف الأخلاقي ضرورة الكتابة عن أولئك (الشغيلة) الذين يقفون في الظل، وفاءً لهم، وللنكهة الخاصة في تجربة كل واحد منهم، لكنهم متشابهون، انهم جميعاَ لا يملكون وقتاً للشكوى، لم يتناولهم الرواة، ولم يكتب عنهم الشعراء. أحدهم كان (أبو شمخي) حارس المطبعة، هذه كنيته، وحدها كانت تحيلنا إلى الشموخ، لكن لا أحد في ذلك الزمان تجرأ على المزاح معه، وسأله عن اسمه الحقيقي، ربما هو اسمه الحزبي.

أبو شمخي فلاح قدم من ريف الكوت، باعتقاد ان الكاتب شمران الياسري (أبو كاطع) اختاره لهذه المهمة، بعد أن أقنعه ترك مهنة الفلاحة والتوجه إلى العاصمة لأن الحزب يحتاجه لمهمة يصعب على ابن المدينة القيام بها، كان أبو شمخي رجلاً أمياً، لم يدخل المدرسة، ولم يتعلم القراءة والكتابة، لكنه تشبّع بتعاليم الحزب وحفظ عن ظهر قلب ما كان يسمعه في الاجتماعات السرية، وما يردده مسؤوله الحزبي: البرجوازية (غذرة)، الاقطاع (غذر)! الحزب ملح الخبز.

كان أبو شمخي يقف كل ليلة عند باب المطبعة، صامتاً كأنه حجر، مثل شجرة سدر نبتت في أرض عطشى، صامدة بالرغم من الجفاف، كان نحيل الجذع، سمرته لا تشبه غبار المدينة، بل تشبه طين نهر الدجيل، عيناه غائرتان تنوءان بحمل تعب قديم. يقف أبو شمخي في الباب الرئيس للمطبعة كما يقف على باب مقام مقدّس، عليه تقع مهمة عظمى: حراسة (الحلم) بما يملكه من صبر وثبات. تتدلى من كتفه بندقيته الكلاشنكوف وهي تلمع تحت ضوء المصابيح الخافتة، يرتدي زيّه القروي بعقال يميز أهل الكوت، بيشماغ يطوي أطرافة بعناية فائقة، كأنما يتهيأ لمعركة. دشداشته تلتصق بجسده النحيف، يدخّن بشراهة، سيجارة تلو الأخرى، يقرصها بين شفتيه وينفث دخانها بتنهيدة طويلة..

حين يطل القادم من آخر الزقاق، يضع يده على الزناد، ينظر بعين واحدة نصف مطمئنة، نصف متوجسة، وعلى الرغم من ضآلة جسده كان صوته غليظاً أجش: تفضل رفيق! منو أنت؟

ـ أنا فلان.

ـ نعم، أنت فلان، أعرفك، لكن سمّعني (سر الليل).

حصل هذا أكثر من مرة مع العاملين في المطبعة أو الجريدة.  حصل مع رئيس التحرير عبد الرزاق الصافي نفسه حين طلب منه أبو شمخي التوقف عند الباب ريثما يتأكد انه لم ينس (سر الليل)، كان الصافي يضحك بصمت ينتظر الإذن منه بالدخول!

ـ دقيقة رفيق، شنهي السالفة؟ هيه فالتوه !

دخل ابو شمخي إلى استعلامات المطبعة، ثم عاد ليسمح للرفيق بالدخول!

حقيقة الأمر لا وجود لوهم اسمه (سر الليل) في مؤسسة كانت ضاجّة بالحركة ليل نهار، مفتوحة للعاملين والزائرين. كان وهماً ابتدعه أبو شمخي خلق هذا الوهم لنفسه، معتقداً أن مطبعة صغيرة قادرة أن تهزّ عرشاً كاملاً، وبندقيته القديمة الصدئة كافية لردع من يتجرأ لاقتحام المبنى حتى وإن حصل في ساعة غادرة. نصّب نفسه وصياً على المطبعة ومن فيها، كان يظن أنه وحده المؤتمن على حياة العمال والعاملين فيها، وهكذا صار سر الليل عندهم نكتة ناعمة يتداولونها.

ابو شمخي كان حارساً للمعنى، وسطراً لا يمحى من تجربة عنفوان العمل وايقاعها الخاص. هو وأمثاله في المطبعة والجريدة لا يليق بهم النسيان، ولا ينصفهم إلا الحرف النظيف المضمّخ بالصدق.

أين أنت يا أبا شمخي؟ أي قفر هذا الذي ابتلع ظلك، وأية ريح عصفت بك؟ بعد أن سقطت الرايات التي رفعتها بيد متشققة من حرث الأرض، أتذكرك بوجهك النحيل، وجبهتك العالية، وعينيك اللتين كانتا تبرقان كلما جرى الحديث عن الاشتراكية القادمة من (شاخة 8) في ريف الدجيلة، كأنها آيات يقين لا تقبل الجدل. لكن الغد لم يأت يا أبا شمخي، بل جاء الخراب، وانهارت الشعارات!

هل نجوت بنفسك؟ أم دفعت ثمن إيمانك، كما يدفع الحالمون الثمن حين توقظهم مطارق الخيبة؟

سلام عليك يا أبا شمخي أينما كنت روحاً أم جسداً، ها نحن من بعدك، ما زلنا نرتّق الخيبات بخيوط الذكرى، نم بطمأنينة أيها الفلاح الحالم. تركت وراءك حقلاً ظل عطشاناً لوقع خطاك.

***

د. جمال العتابي

تمهيد: التعريف بالشاعر بدر شاكر السياب

يُعدّ بدر شاكر السياب (1926–1964) أحد أبرز رواد حركة الشعر الحر في الأدب العربي الحديث. وُلد في قرية جيكور بمحافظة البصرة في العراق، وعُرف بشعره الثائر على الشكل التقليدي للقصيدة العربية، حيث دمج بين الحداثة الفنية والهموم السياسية والوجدانية. امتاز شعره باستخدام الرموز والأساطير والتعبير عن أوجاع الذات والإنسان العربي. تُعدّ قصيدته "أنشودة المطر" (1954) من أبرز أعماله، وتجمع بين الرمزية الغنية واللغة الموسيقية، وتُعدّ مرآة لآلامه الشخصية وآلام وطنه.

أولًا: التماسك اللفظي في "أنشودة المطر"

1. التكرار

يُكثر السياب من تكرار كلمة "مطر":

"مطر... مطر... مطر..."

(أنشودة المطر، ص: 26)

هذا التكرار لا يُستخدم فقط لتأكيد الكلمة، بل يُشكّل نغمة صوتية داخلية تُشبه وقع قطرات المطر، وتُضفي على النص بُعدًا موسيقيًا وتجريديًا. كما يُوظف المطر رمزًا متعدّد الأبعاد: للألم، للتجدد، وللخلاص.

2. الضمائر

يتنقل السياب بين ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب، مما يعكس الانقسام بين الذاتي والجمعي:

"أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعث المطر؟

وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟"

(أنشودة المطر، ص: 27)

تُظهر هذه الضمائر تفاعل الشاعر مع "الآخر" (المرأة، الوطن، الذات المزدوجة)، وتعكس تجربة وجدانية شاملة.

3. الروابط النحوية

كثافة استخدام أدوات الربط مثل: "و"، "أو"، "لكن"، "إذا"، "حين" تُمنح القصيدة تماسكًا لغويًا واضحًا:

"وفي العراق جوعُ

وينثر الغلالَ فيه موسمُ الحصادِ..."

(أنشودة المطر، ص: 28)

تُساعد هذه الروابط في تنظيم الأفكار وتوجيه السياقات الشعورية داخل النص.

ثانيًا: سمات المعنى في القصيدة

1. التجربة الوجودية

تعكس القصيدة معاناة الشاعر النفسية والوجودية من خلال صورة المطر التي لا ترمز للخصوبة فحسب، بل للغربة والانكسار:

"كأنَّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام

بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عام

فلم يجدْها – ثم حين لجَّ في السؤال

قالوا له: 'بعد غدٍ تعود'..."

(أنشودة المطر، ص: 27)

الطفل هنا صورة للإنسان العراقي الفاقد للحنان والأمن، والمطر يبعث هذا الإحساس بالأمل الزائف.

2. البنية الرمزية

يرتكز النص على عدد من الرموز المركزية:

المطر: رمز مركب يحمل دلالات الحياة، الموت، الثورة، الخلاص.

العينان، الطفل، الأم: رموز للبراءة، الحنين، والرغبة في الطمأنينة.

المزاريب، الضوء، القبور: رموز للامتداد بين الحياة والموت.

3. التحولات الدلالية

يتميز النص بحركته بين المستويات الشعورية والدلالية:

من الذات إلى الجماعة: من حزن الشاعر إلى جوع العراق.

من الماضي إلى الحاضر: عبر استدعاء الذاكرة والرموز الطفولية.

من اليأس إلى الرجاء: رغم الحزن، يظل المطر إشارة للبعث والخصب.

"أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعث المطر؟

وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟"

(أنشودة المطر، ص: 27)

ثالثًا: جماليات المعنى

1. الصور الشعرية الحسية

يُبدع السياب في تشكيل صور شعرية مشهدية نابضة، ذات بُعد بصري وسمعي:

"تكاد، حين تبسم، تنبثق البروق

ويهطل المطر..."

(أنشودة المطر، ص: 26)

تمتزج صورة المرأة بالطبيعة، وتُصبح جزءًا من نظام كوني شعري شامل.

2. الإيقاع الداخلي والخارجي

القصيدة مكتوبة على بحر الكامل بتفعيلات حرة، مما يتيح للشاعر حرية تعبير موسيقية تتناسب مع انهمار المطر:

"وفي العراق جوعُ...

وينثر الغلالَ فيه موسمُ الحصادِ..."

(أنشودة المطر، ص: 28)

الإيقاع يتماهى مع الحالة النفسية والسياسية والاجتماعية التي يُصورها النص.

3. المفارقة الشعرية

يُبرز السياب مفارقات شعورية عميقة:

الجمال وسط الحزن.

النور في قلب الظلمة.

الحياة التي تولد من صُلب الموت:

"والموت، والميلاد، والظلام، والضياء

فكيف ننسى؟!"

(أنشودة المطر، ص: 28)

هذه المفارقة تُمثل جوهر الوعي الوجودي في القصيدة.

خاتمة

في "أنشودة المطر"، يصل بدر شاكر السياب إلى ذروة الإبداع الشعري من خلال تماسك لغوي محكم يعتمد على التكرار، التنويع في الضمائر، والروابط النحوية، إلى جانب ثراء دلالي وجمالي عميق. لقد جعل من المطر معادلًا موضوعيًا يعكس حالة العراق والإنسان العربي عمومًا في صراعه بين اليأس والرجاء، الموت والميلاد، الظلمة والنور. هذه القصيدة تمثل لحظة تحول مفصلية في الشعر العربي الحديث، من حيث المضمون والشكل والرمزية.

***

ربى رباعي - الأردن

.......................

المصادر والمراجع

1. السياب، بدر شاكر. أنشودة المطر. دار العودة، بيروت، 1968.

2. عز الدين، كمال. الرمز في الشعر العربي الحديث. دار الفكر العربي، 1995.

3. جبرا، إبراهيم جبرا. الشعر العراقي الحديث: دراسة وتحليل. منشورات وزارة الثقافة العراقية، 1971.

4. العلوي، عبد العزيز. "أنشودة المطر والسياب والحداثة"، مجلة الآداب، العدد 4، 2005.

5. أدونيس. زمن الشعر. دار العودة، بيروت، 1972.

احلّق الان بأجنحة الذاكرة عائدا الى أيام خالية ماضية، من أواخر الثمانينات والتسعينيات وحتى ما بعدها، لأتذكر كم مارت حياتنا بالثقافة والكتب، وكم أحب الناس في تلك الفترة المباركة الكتاب واخباره، واقبلوا على قراءته واقتنائه اما ليقرأوه هم واما ليضعوه في بيوتهم لعل واحدا من أهالي البيوت يهتدي اليه في لحظة ملل فيروق له، وليدخل بالتالي الى ملكوت الكتاب قارئا نهما ومحبا مدنفا بالكتاب. كانت المكتبات في تلك الفترة قليلة في مدينتي الناصرة وكانت الأنظار تتركز على مكتبة تقوم في مركز البلدة، هي مكتبة الصديق سمير الصفدي، وكان القراء يتوافدون اليها زرافات ووحدانا، وكان ان لفت نظري في تلك الفترة عدد من القراء النهمين، الذين كانوا يتردّدون على المكتبة، في فترتيها، الفترة الأولى بإدارة الصديق المذكور، بعدها بادرة نجله عامر، وقد برز من أولئك القراء عدد ما زلت احتفظ بذكريات دافئة لكل منهم. فيما يلي اعود الى أولئك القراء النهمين، متحدثا عنهم ومذكرا بهم، ضمن محاولة لاستفزاز من احبوا الكتاب وما زالوا لمزيد من المحبة واستفزازا لآخرين لعلهم يواصلون ما ابتدأ به أولئك وما خلفوه وراءهم من اثر يشبه اثر الفراشة الذي لا يُرى.. ذلك الأثر الذي لا يزول، وفق تعبير الشاعر.

قارئ الكتب من كفر كما

ابتدأت علاقتي به عيانًا فطالما التقت عينا كل منا، متسائلة عن هذا الكتاب او ذاك وطالما رأيته يحمل سلته الزرقاء المصنوع من مادة النايلون، مرتفقا إياها بيده، وواضعا بها ما تيسّر له من الكتب. عرفت فيما بعد أنه من عائلة ابرك الشركسية المقيمة في بلدة كفر كما، وقد اكبرت فيه زياراته الى الناصرة وتجشمه متاعب السفر ليشتري هذا الكتاب او ذاك، مما سمع عنه أو قرأ عن صدوره. كان ذلك الرجل دائم الابتسامة، لهذا كان من السهل عليك ان تتحدث اليه وان تتبادل معه الأحاديث عن الكتب، موطن المحبة المشترك بينكما. رويدا رويدا نشأت بيننا علاقة تأسست في بنيتها التحتية على الكتاب، وكان عندما يُعييه الحصول على كتاب أحب قراءته، يتوجّه الي سائلا اياي، حدث هذا مع أكثر من كتاب، واذكر انه أراد ان يحصل على كتاب/ رواية، عنوانها الام الثانية تأليف حكيم تيونوف ترجمة وديع بشكور، تتحدث عن الوطن الشركسي العريق، وانني اخبرته ان الكتاب بحوزتي، فهزّ رأسه وهو يقول لقد تمنيت أن اقرأ هذا الكتاب، وانبعث من عينيه شعاع غريب رأبت فيه واحدة من اجلى صور الوطن. لم اعطه ذلك الكتاب ولم أعره إياه لأنه على ما بدا خجل ان يطلبه مني، وربما كان ذلك لسبب لا ادريه، لكن ما ادريه انني أتمنى لو ان الزمان يعود وأقدم له هذا الكتاب هدية عزيزة غالية تشبه السماء والأرض والوطن عامة. وحدث في موقف آخر انه أحب الحصول على كتاب الهلال عن رامبو وملارميه، وهما شاعران فرنسيان عظيمان، امتلأت حياتهما الاسرار الغريبة والمثيرة، كان هذا الكتاب من تأليف الكاتب المصري رمسيس يونان، شقيق الكاتب المشهور جدا لويس عوض، وقد صدر ضمن سلسلة كتب الهلال الشهرية التي كانت تصل الى بلادنا بانتظام تقريبا. أيضا تكرر المواقف السابق. وبقي ذلك القارئ النهم يتردّد على ناصرتي ومكتباتها، الى ان اختفى وانقطعت أخباره، وقد سألت أصدقاء لي يهمهم امر الثقافة والادب عنه وعن اخباره، غير انني لم اخرج بطائل فلتطب ذكراه.

عامل البريد.. العاشق المتيم بالكتاب

هذا أيضا كنت ما إن ادخل الى المكتبة حتى اراه يتحدّث الى مديرها حول هذا الكتاب او ذاك، وعندما كان يشعر أنه بإمكانه الحصول على بُغيته من الكتب، كانت الابتسامة تفترش محياه الوضاح، اما عندما يشعر أنه لن يحصل على مُراده فقد كان يواصل الامل ويقول: أعرف أن الحصول على هذا الكتاب، وعادة ما كان في موضوع الفلسفة، الدين، او الادب والسياسية، صعب.. غير انني أريدك أن تبذل كلّ مجهود لإحضاره لي. كان ذلك القارئ النهم يدعى سمير بشوتي، وقد أمضي سحابة عمره عاملا في مصلحة البريد، الفرع الرئيسي في بلدتي، ولم يتزوج، كما علمت، وبقي أعزب حتى الأيام الأخيرة من حياته. كان سمير دمث الخلق لطيف المعشر، وقد حدث أكثر من مرة ان دار الحديث بيننا عن الكتب واذكر ان الحديث بيننا دار ذات لقاء لنا في المكتبة حول كتاب الهلال الشهري وكنت معنيا بكلّ ما يصل الى بلادنا من هذا الكتاب، وذكرت امامه انني أتمنى ان احصل على أحد الكتب الصادرة ضمن تلك السلسلة فسألني أي الكتب تعني. فأخبرته انه عبارة عن رواية عنوانها هذه المرأة لي للكاتب الفرنسي جورج سيمنون الذي ناف عدد رواياته على الأربع مائة. واسترسلت في التحدث عن هذه الرواية منوها انها اهلت صاحبها للترشح ضمن قائمة مرشحي الحصول على جائزة نوبل العالمية في مجال الادب. يومها استوقفني بإشارة كريمة من يده وقال لي إن الرواية التي يدور الحديث عنها موجودة لديه وانه سيقوم بإهدائها لي عربون محبة وآصرة عشق مشترك. وبالفعل قام هذا القارئ الكريم في الوقت المحدد بإهدائي ذلك الكتاب. ويمضي الوقت. وتتعاقب السنوات وتجري مياه غزيرة في نهر الحياة لاستمع الى خبر رحيل هذا الانسان/ القارئ الرائع، ولتتحوّل مكتبته العامرة هدية لبعض من الأصدقاء ولمؤسسة كشفية، وتشاء الظروف ان اقتني عددًا كبيرًا منها.. على اعتبار انها من قارئ عشق الكتاب وأحبه وقدّم بحياته وعشقه هذا صورة لإنسان قارئ يمكن ان تكون قدوة ومثالا يُسار في طريقه ويهتدى بعشقه للكتاب.

الرجل الغريب الغامض من حارة الروم

عندما اقمت مع افراد عائلتي في حي الصفافرة القائم غربي الناصرة، واعتبر احدى ضواحي المدينة العامرة باهلها من مهجري قرية صفورية القريبة من الناصرة، كنت كثيرًا ما أتوجّه إلى الناصرة سيرًا على القدمين، وكنت ارى هناك خلال طلوعي "طلعة حارة الروم - انهلة"، او نزولي لها، شخصا طويل القامة رفيعها، وكان يلفت نظري فيه انه يضع في جيب بنطلونه الخلفية صحيفة تمّ طيها بصورة تظهرها وقد اختفى ثلثها في جيبه وبرز ثلثاها خارجه. وعندما حاولت التحدّث إليه، رحّب بي أيما ترحيب، غير انه بقي منطويا على نفسه وصحيفته تلك، في تلك الفترة كنت أرى إليه متردّدًا يوميًا على مكتبة الصفدي، يشتري منها الصحف. يطويها ويضعها في جيبه الخلفي ويمضي. عرفت في تلك الفترة انه يقيم وحيدا في غرفة صغيرة تقوم في أحد اركان حارة الروم، وانه يدعى إبراهيم زيود. للحقيقة اعتقدت انه كان يقرأ الصف فقط، أسوة بآخرين من أبناء بلدتي، قد اتي على ذكرهم فيما يلي، غير ان ما تبيّن فيما بعد، انه شرع بعد ان رحبت به صحيفة الانباء، في اخريات ايامها، واخذت تنشر له المقال تلو المقال، واكاد أقول بصورة يومية، انه قارئ نهم ليس للصحف وانما للكتب أيضا، فقد كان يكتب في السياسة، المجتمع والادب، وبقي يكتب وينشر بغزارة، إلى أن توقّفت الصحيفة عن الصدور، بعدها رأيته عن قرب وعن بعد، وبقي يبتعد إلى أن اختفى وانقطعت اخباره. ولم أعد اراه لا في حارة الروم ولا في غيرها، فقد ولّى مخلفًا وراءه ظلا لقارئ مجيد أحب الصحفية وقرأ الكتاب في غرفته الصغيرة الوحيدة.. ومضى.

إذا كان لي من رغبة إضافية في العودة الى تلك الفترة، فقد تمثلت هذه الرغبة في الإشارة الى عدد من قراء الصحف باللغات الثلاث العربية العبرية والانجليزية، وقد لفت نظري عدد من الأشخاص، الذين كنت اراهم يوميا تقريبا، يقبلون على مكتبة الصفدي، لجمع عدد كبير من الصحف.. دفع ثمنها والمُضي بها، اذكر من هؤلاء: احمد جبيلي، أبا فيصل، ومحمود أبو عطا الحاج، وقد علمت فيما بعد ان هذا الأخير قارئ نهم ومحبّ مُتيّم بالكتاب، فقمت بإجراء مقابلة معه، نشرت ضمن زاوية كنت احرّرها واكتبها أسبوعيا وتنشر في صحيفة الصنارة النصراوية.

***

ناجي ظاهر

٢٤‏/٠٨‏/٢٠٢٤

 

اسمحوا لي أن أطلق اليوم صرخة جديدة من صرخات أوجاعي وكما اعتدت مع كل نوبة فكرية تطيح بي، لعلي أطمئن قليلًا، ولكم مطلق الحرية في الحكم على كلماتي..

أتساءل الآن، وبعد تلك المشاهد والأرواح التي اختبرت صبري على هذه الأرض، هل إحساسي صار يحتضر؟!

لن أخفي عليكم أسراري، لقد عشت بمرارة وأنا أبحث عن إجابة لسؤالي، أتغافل يوم، وأغضب وأواجه أيام، أغرق بالتفاصيل ليلًا، وفي الصباح لا أهتم إن رأيتني أنزف كل مشاعري دفعة واحدة، هكذا سارت الأمور، حتى اللحظة الفاصلة التي أعادتني لصراعي مع الألم مجددًا!

الحقيقة أنها لم تكن بحجم البشاعة التي وصفتها بها للتو، ولكن وقعها على روحي لم يقل عن معنى المأساة، بل وأكثر حتى!

إنها كلمة واحدة التي وضعتني أمام مُفترق طرق..

أعترف بأنها كانت مُغلفة بالمزاح وحس النكتة بطبيعة حال المصري الأصيل، ولكن نكتة عن نكتة تفرق، فلم تكن على مستوى الكوميديا المطلوب بالنسبة لي، إنها وبلا مبالغة المعنى الحرفي لــ "دس السم في العسل" وبمثابة طلقات شيطانية تستهدفني أنا بالذات!

تلك الكلمة التي نطقها أحدهم تعبيرًا منه عن مدى "شطارتي" في إنجاز عمل ما، ولن أنكر أني أتقنه بالفعل، وهو ما أشعل لهيب الحقد بداخله وطرح الكثير من التساؤلات عني في قرارة نفسه..

ما السر في مهارتها العالية؟

مبدعة؟

ملتزمة؟

ذكية؟

ربما، ولكن ليس لدرجة خطف الأضواء من الجميع!

لمَ هي دون غيرها؟

لمَ لا يكون أنا مثلًا؟

الكل يثني عليها.. الكل يمدح فيها.. آه يا محظوظة!!

كل هذا وأكثر سمعت غليانه في أعماقه السوداوية التي كنت أحسبها تنبض ببراءة الأطفال.. كنت!

لم أعرف بحق.. ما المشكلة وراء إبداعي؟!

هل هذه جريمتي الآن؟!

أرجو أن لا أُحاسب على موهبتي في الدنيا!

إنه وبلا شك لمصلحة البشرية كلها، أن أبرع في زاوية خاصة بي، وهو في زاوية أخرى وهكذا، لنتفق في النهاية ونكتمل باختلافنا، ولكن الإنسان لا يعجبه العجب، أو بمعنى أدق، "الأنا" عنده فوق الإنسانيات!

الاشكالية الآن ليست في تلك النكتة السخيفة على اجتهادي المبرر تمامًا، فما أزعجني هو رد الفعل وليس الفعل، أنا من أزعجني!

في ظروف عادية جدًا، يكون الرد السليم عليه بمزيج من التوبيخ والغلظة في التعامل، لكي لا يُكرر ألفاظه السامة أو يكسر الخطوط الحمراء معي على الأقل، تلك العملية التي نُعرفها بــ "التلقيح" كما في أبجدية الشباب، ولكنه هُنا مشروع مئة بالمئة، أي أنني أقف عند تلك اللحظة بعينها وأقتص منه بكلمات تحفظ كرامتي، حتى ولو وصلت بي الشجاعة أن أصعقه بسؤال الجولة الختامية من الصراع بيننا: "وانت مالك؟!"

أعتقد أن التصرف الطبيعي أمام الحقد وأصحابه أن نضربهم ضربة لغوية عنيفة تخرسهم، ومن ثم نعود لإبهارهم بالنجاح مرة أخرى، وهي ضربة في مقتل بالطبع، ولكني لم أفعل ذلك، لقد اكتفيت بابتسامة خفيفة ونظرة باردة وكلمة شكر فحسب!

كنت في بداية تعاملاتي مع البشر، أعرف متى أتحكم في انفعالي، ومتى "أقلب الطرابيزة" فوق رأس الجميع بلا تردد، وذلك بناءً على مكانتهم في قلبي، أو للخروج من جدال عقيم يضيع معه وقتي وصحتي، كنت كثيرًا ما أتفنن في مبارزتهم على الورق بفلسفتي، ومنهم من أشتبك معهم وجهًا لوجه دون أن تهتز لي شعرة، إنه أسلوبي حتى وقت قريب، ولكن ثمة تغيير طرأ على تكويني لا أفهمه، وهو ما يربكني وبشدة!

فهل أنا ضحية صدمة ما أفقدتني النطق؟

هل هي مرحلة متقدمة من النضج؟

هل رغبتي في العتاب تحللت؟

هل مرضت بـ اللامبالاة المزمنة؟

أم أنني غاضبة من الحياة للحد الذي يجبرني على الصمت؟!

لنضع النقط على الحروف الآن..

أنا اليوم لا أطمع في أي رفاهيات دنيوية، وإنما كل ما أريده أن أضع يدي على سبب صلابتي غير المعهودة، أو ربما أنا متماسكة لدرجة تثير غيظي!

ربما سنصل في السطور الأخيرة إلى إجابة واضحة.. ولكن دعوني الآن أصف لكم شعوري ببساطة وبلا تفلسف..

أشعر أن روحي على "وضع الطيران"، إنه ملاذنا من مكالمات ورسائل مملة، وهكذا أنا، صحيح أني بينكم، ولكني أشعر بهدوء غريب يكاد يقتلني، أسمعكم جيدًا، أستقبل حروفكم وأنصهر فيها، بينما أنا في مكان ما خارج الجغرافيا، على الهامش الآمن، ربما لم أتأقلم على الوضع بعد، ولكن فيه نجاتي.

إليكم باختصار ما أعيشه حتى اللحظة..

حين أشرع في رد الطعنة من باب دفع الأذية عني، أتنازل عن تلطيخ يدي بدماء ملوثة، وأخرج بشرف من أرض المعركة.. ليس ضعفًا مني، بل هي أعلى مراتب الشرف كما قرأتم.

"واحد.. اثنان.. ثلاثة.. هيا يا نورا.. انطقيها.. لكِ مكافئة لذيذة إن فعلتيها".. ولا حياة لمن تُنادي!

لقد أصبحت أتجاهل الأذى والثرثرة وكل الهراء الذي لا يُفيد، حتى الانتقام لحقي، من قال ومن فعل ومن يُخطط لهدمي، تركته لرب العالمين..

أدركت أنه سباق زائل، ولحُسن حظي أنني أدركت الحقيقة قبل فوات الأوان.

يا إنسان، ما دُمت تتنفس في هذه الدنيا، عليك أن تتساءل..

من يضرب ضربته قبل الآخر؟

من يُسدد السهم في صدر أخيه أولًا؟

ومن يدفع الثمن وحده؟

كلها استفهامات بطعم الخيبة، وأحمد الله أني من سأل وأجاب، لذا، لم أعد أكترث بالنظرات والهمسات والظنون، فإن الوجه القبيح لعالمنا في توحش مستمر، وأنا في النهاية لا أملك سوى الخير بداخلي، أخشى على هذا القلب أن يقع في الوحل، وأسعى دائمًا لحفظ نبضه والنور فيه من أنياب الظلم والظلام.

أنا على يقين تام بأني وإن دخلت الحرب مع أي مخلوق، فلن أعود منها كما كنت، أبدًا، سأقع ضحية المشاحنات والعداوات وفساد العلاقات، وكلما نظرت إلى الجروح التي خلفتها تلك الحرب على نفسي وعقلي وإيماني، لن أحترم إرادتي التي استسلمت للقسوة في غمضة عين بعدما أحسنت تربيتها في عالم مُختل كهذا.

فماذا عن الانسحاب النبيل؟

لقد انسحبت بكامل قواي النفسية والعقلية والإنسانية، بعيدًا عن مُستنقع القيل والقال، حتى وإن وجدت الجاني يحتفل بفعلته، فلن أنشغل به وبأوهامه تلك، لقد تمكن مني، صحيح، ليس لسواد لسانه أو نواياه القاتلة، وإنما لنسختي الجديدة التي ترفض ذلك العبث البشري من جذوره.. رحبوا بها.

أنا وإن تغيرت، يكفيني أني رأيت الحقيقة، نعم، أرى اليوم أكثر من أي وقت مضى، لقد نجوت بنفسي من بئر الشرور وتقلب الأهواء، وهي أعظم انتصاراتي لو تعلمون.

"من ذوقك".. هكذا انتصرت على جحيم النفوس و"وجع الدماغ"!.

***

بقلم: نورا حنفي - كاتبة مصرية

دهشة التعلم الأولى، دهشة اكتشاف عالم جديد من أنقى اللحظات الإنسانية، شعور بالخوف والفرح البريء مع إحساس خفي بأن الحياة ستبدأ من هنا، من لحظة تصفح الكتاب، حيث تبدأ الأسئلة عن الحروف والصور ورائحة الورق في صفحات كراسات الصفوف الأولى للدراسة الابتدائية،  من بينها مطبوع لا يشبه سواه: (الأطلس العراقي) بألوانه الزاهية وطباعته المحكمة الأنيقة، وإن أسعفتني الذاكرة، أنه مطبوع في أرقى المطابع الهولندية، عنوان الغلاف بخط الرقعة الجميل على شكل قوس، أشرف على إعداده أساتذة متخصصون في الجغرافية، نجم الاطرقچي وأحمد المهنا. كان الأطلس بوابة إلى عوالم بعيدة.. إلى أسماء تشبه الطلاسم، أرددها كتعاويذ مقدّسة، كلما أتصفح أوراقه يخيل إليّ أني أطوف العالم وحدي، صرت أرى في الخرائط أرواحاً لا خطوطاً صماء، كل خريطة كانت تحمل وجهاً مستتراً، استدرجها إلى خيالي، كلغزٍ مرسوم على الورق. كانت نافذتي الاولى نحو المجهول، لا أعرف (كراچي) وعواصم الدنيا، لكنني أحدّق فيها كلما تصفحت الأطلس، لا أعرف ماذا وراء جبال زاگروس، فألمسها بطرف أصبعي، فأشعر أنها تعرفني. كبرتُ وكبرت معي دهشتي بالألوان، لازمني الشغف بالأمكنة، وتأمل الخرائط وأشكال التقسيمات الحدودية، فتحول، كلما تقدمت السنين إلى منهج وتوجّه ودراسة لعلم الجغرافية في المراحل الجامعية الأولى، كانت محصّلتها، كتابان عن الأمكنة: (داخل المكان ..المكان روح ومعنى) و ( ضفاف المدن). يومها لم أقرأ قصة الحكّاء الأرجنتيني لويس بورخيس "امبراطورية الخرائط" بوصفها مفارقة ساخرة، وحكاية فلسفية تشير إلى عبثية المبالغة في التفاصيل.

أدركت لاحقاً أن خرائط الدول نتاج تاريخي وجغرافي وسياسي، تمنح الدول - أية دولة - حدودها وشكلها المختلف مع البلدان الأخرى، هذا الشكل يثير أسئلة عديدة، من بينها: هل توجد خرائط بلدان جميلة وأخرى مشوّهة؟ هل لها امتدادات غريبة أو نتوءات؟ بعض الأشكال تبدو أنيقة، متوازنة، متناغمة، في حين أن خرائط دول أخرى توصف بأنها مشوشة، غير متناسقة، أو مجزأة.

الحقيقة المؤكدة هي أن كل الحدود، لم ترسمها أيادي الشعوب، بل صنعتها إرادات استعمارية على وفق ما تشاء، على وفق مصالحها وقوة نفوذها، هي لا تعبّر على الأغلب عن الواقع الإثني أو الثقافي والاجتماعيّ بشكل دقيق، بل كانت سبباً وراء العديد من الصراعات والحروب الطويلة بين البلدان. في ظل ظروف معقدة واتفاقات ومؤامرات دولية لم تأخذ بنظر الاعتبار مصالح الشعوب. بينما تحمل الخريطة أبعادًا جمالية وثقافية ومعرفية بعيداً عن وظيفتها السياسية، يجعلها أكثر من مجرد أداة ترسيم، أو وسيلة لتحديد الأماكن وتراتبيتها، بل هي طريقة لرؤية العالم، العلاقات بين الأشياء، المساحات، فضلاً عن جمالياتها الخطية والهندسية وإشاراتها الرمزية.

هذه العناصر مجتمعة تجعل منها عملاً بصرياً، هناك من ينظر إليها كوسيلة لتأمل فكرة المكان والانتماء، وتصبح رمزاً للوحدة، تعلّق في الساحات والمكاتب وجدران المدارس، ويلجأ المصممون بإفراط إلى توظيفها كعنصر أساس في تصميم ( لوغوات)، الدوائر الرسمية والمنظمات والمؤسسات، ما يفقد قيمتها الجمالية والرمزية.

ثمة حوار نفسي وثقافي تخلقه الخريطة، وندوب تاريخية تعبّر عن تمزقات داخلية: إثنية، اجتماعية، ثقافية، سياسيّة، الخرائط ليست صامتة، كل خريطة تقول شيئاً: تلمّح، تهمس، تصرخ أحياناً، تبدو على الورق أكثر من خطوط مرسومة، هي أبعد من ذلك : مخلوقات، أجساد، هياكل، نرى وجوهاً من دون ملامح، وملامح بلا هوية. هذه التأويلات الرمزية لشكل الخرائط هي في جوهرها قراءة مجازية أكثر من ملاحظة جغرافية موضوعية. بعض الخرائط تشبه الطير، خريطة الصين تبدو كامرأة حبلى، وثالثة مثل سيف مكسور، أو دودة شريطية، أو كف ترتجف، خريطة العراق تثير شعوراً بالاتزان، جسد متناسق يخترقه نهران يتحدثان عن تاريخ وحضارات ودماء سالت على ضفافهما، وممالك انطوت.

ايران في خريطتها تذكرك ب (سنام) جمل تضخم خارج حدود المألوف، برأس قط يراقب بعيون نصف مغمضة، مستعد للوثوب، تركيا بخريطتها المستطيلة وامتدادها العرضي يوحي باسترخاء المحتل المتغطرس ، داخلها يخفي أشياءً متعرجة، خريطة سوريا جميلة متوازنة، لا نتوء نشاز فيها، سوى إبهام ممتد نحو الشمال، لكن الجمال فيها مهدد، خرائط دول عربية (مصر، ليبيا، الجزائر) تبدو كأشكال هندسية وخطوط مستقيمة، مرسومة بمسطرة على عَجٓل، لبنان صغيرة نحيلة، تشبه سبابة تشير إلى البحر، ليس بمقدورها صد العواصف والأمواج، بالكاد تُرى وسط العالم بنظر الجغرافيا، وفي عيون التاريخ لبنان أكبر من حجمها ألف مرة، لكنه لا يستطيع ان يوسع رقعته، بل مزّقه الغزاة وعبثوا في أمنه. خريطة فلسطين أكثر الخرائط تمثيلاً في الرسم، وظفها الفنانون كعنصر بصري مشحون بالعاطفة والاحتجاج، الشكل: إمرأة مقطوعة الرأس، تدير ظهرها إلى العرب والجسد متكىء على خط وهمي مستقيم، وجهته نحو الساحل، يقول عن نفسه: لست مثالياً لكنني حقيقة مجروحة في مواجهة التقسيم والتسويات المرحلية. الخرائط لغة صامتة لكنها تبوح بالكثير، وللبلدان لغة حوار مع خرائطها. قدر بعضها أن تكون أشبه بشريط ممدود على الأرض (تشيلي في امريكا اللاتينية، ارتيريا في أفريقيا)، وأخرى تزحف بدل أن تمشي، إيطاليا تشبه حذاءً بكعب عال يخوض مياه البحر المتوسط، الصومال ذراع تمتد، أو منقار نسر، الأردن تبدو كقبضة سلاح موجه نحو الشرق، وخارطة الهند كضرع بقرة حلوب يتدلّى نحو المحيط.

هنا في هذا التشبيه تتداخل المعاني بين الشكل الجغرافي. والواقع الإجتماعي والاقتصادي. لا يمكن لهذا التشبيهات بالطبع ان تستثمر كصور بلاغية تعكس توتراً أو موقفاً معيناً. وفي جغرافيا الأقدار لا تتساوى البلدان، ثمة من تشهق بالماء، تهبط على شواطئها السفن بلا استئذان، وأخرى محاصرة تسعى للنجاة من اليابسة، لا باب ولا كوّة صغيرة نحو الفضاء وأفق البحار. قدر البلدان أن تتناثر جزراً في المحيطات كالأحلام، منها ما يكتفي بعزلته أو ينام. ومنها ما يعاد رسمه كلّما شاء الأقوياء.

***

د. جمال العتابي

 

زياد الرحباني وداعا

في عالمنا العربي.. يبدو أن المبدع لا يحصل على بطاقة العضوية في "نادي العظماء" إلا بعد أن يغادرنا إلى عالم آخر! حينها فقط.. تفتح له الأبواب المغلقة، وترفع له الأعلام المنكسة، وتكتب عنه المقالات التي كان يستحقها وهو حي يرزق!

زياد الرحباني.. الرجل الذي حمل بيروت في قلبه وحملق في عيني الزمن بجرأة المتمردين، لم يكن بحاجة إلى شهادات تكريم بعد رحيله. هو عرف قيمته، وعرفنها نحن أيضاً.. لكننا اخترنا الصمت حتى صار رحيله صرخة نستخدمها لنقول: "كان عظيماً!".. والسؤال: ألم يكن عظيماً قبل أن يرحل؟

غريب في وطنه!

زياد.. مثل نجيب محفوظ، مثل عبد الحليم، مثل فيروز نفسها.. عاش بيننا جسدا، لكنه ظل روحاً غريبة! نسمع صوته لكننا لا نستمع إليه، نرى أعماله لكننا لا نقرأها، نحبه لكننا لا نفهمه!

في الغرب.. يتحول المبدع إلى "أسطورة" وهو على قيد الحياة. هنا.. نصنع الأساطير فقط بعد الرحيل! زياد عاش بيننا كـ"ابن بار" لفيروز، لكنه كان في الحقيقة "أباً" لموسيقى لم نعرف كيف نتعامل مع عمقها!

كم من مرة سمعنا أحدهم يقول: "زياد معقد.. زياد كئيب.. زياد يغرد خارج السرب!"؟ اليوم.. نفس الأصوات تذكره كـ"عبقري"! أليس هذا نفاقاً فنياً؟

الموت في عالمنا العربي هو "البرومو" الذي يجعل الجميع يشاهدون الفيلم كاملاً! زياد عاش يقدم تحفته تلو الأخرى.. "بخصوص الكرامة والحرية والشعب العنيد"، "هيدا لبنان"، "أنا مش كافر".. لكننا كنا مشغولين عنه!

اليوم.. نكتشف أن كل نوتة عزفها كانت رسالة، وكل كلمة كتبها كانت نبضاً! لكن.. لماذا نكتشف ذلك بعد فوات الأوان؟ لأننا - ببساطة - أمة تتعامل مع المبدعين كـ"أزمة" يجب تجنبها.. حتى تتحول إلى "تراث" نتباهى به!

الإبداع.. جريمة يعاقب عليها بالنسيان ثم يكرم عليها بعد الإعدام!

القاعدة تقول: "إذا أردت أن يحترم إبداعك في الوطن العربي.. مت!".. زياد ارتكب "جريمة" الإبداع الحقيقي.. فحُكم عليه بالعيش في زاوية اللامبالاة!

لكن.. هل كان وحده؟ أليست هذه هي قصة كل عظيم؟ عبد الوهاب اتهموه بالتقليد.. أم كلثوم قالوا عنها "مملة".. سيد درويش مات فقيراً!

الغريب.. أننا نتعلم الدرس ثم نكرره: نهمش المبدع في حياته.. ثم نبكيه بعد موته!

سيرة متمردة..

لم يكن زياد الرحباني (1956-2025) مجرد ابن لفيروز وعاصي، بل كان "حادثة فنية" بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ولد في كنف العائلة التي صنعت أسطورة الأغنية اللبنانية، لكنه اختط مساراً مختلفاً: مساراً يعبث بالمقدسات، يسخر من السياسة، ويصنع موسيقى تشبه طقطقة عظام الواقع اللبناني. كيف تحول هذا الصبي الذي كان يحكم على ألحان والده في السادسة من عمره إلى "فيلسوف السخرية الموسيقية"؟

في عمر السابعة عشرة، قدم زياد أول لحن لوالدته فيروز بعنوان "سألوني الناس" ، وهي أغنية حزينة عن الغياب كتبها أثناء وجود عاصي في المستشفى. اللحن كان ناضجاً لدرجة أن الجميع ظنوه من تأليف عاصي نفسه! هنا بدأت المفارقة: زياد الذي ورث الموهبة، رفض أن يرث التقليد.

أولى مسرحياته "سهرية" كانت محاكاة ساخرة لمسرحيات العائلة، لكنها كشفت عن رغبته في كسر القالب الرحباني المثالي، والغوص في الوحل اليومي للبنان.

مع اندلاع الحرب في لبنان، تحول زياد إلى "طبيب جراح" يشرح الواقع بأغانيه. قدم مسرحيات مثل "بخصوص الكرامة والحرية والشعب العنيد"، حيث مزج السخرية السوداء بالنقد السياسي الحاد . لم يعد المسرح مكاناً للهروب من الواقع، بل مرآة تكسرها ثم تعيد تركيبها أمام الجمهور.

أغنية "هيدا لبنان" كانت صرخة ضد الطائفية: "هيدا لبنان.. بلد الـ 18 طائفة ووزير!".

ثورة النوتة المتمردة

إذا كان الأخوان رحباني قدما الموسيقى كـ"حلم جميل"، فإن زياد قدمها كـ"كابوس جميل". في ألبوم "مونودوز"، مزج الجاز مع الموروث الشرقي، وكسر قاعدة الأغنية العربية التقليدية . أغنية "ولعت كتير" التي كتبها عن علاقته مع كارمن لبس، كانت أشبه بمذكرات عاطفية مكتوبة بنوتات موسيقية .

عرف زياد بـ"مزاجيته" ورفضه الانحياز. بعضهم اتهمه بالتعاطف مع النظام السوري، بينما رأى آخرون أنه كان يرفض الانخراط في الأجندات السياسية . في النهاية، ظل زياد وفياً لموقفه: الفن ليس أداة دعاية، بل ضمير .

اليوم، بعد رحيله، يتذكر الجميع أن زياد كان عبقرياً. لكن قليلون من تذكروا ذلك وهو على قيد الحياة. لقد عاش كـ"خطأ جميل" في نظام الفن العربي، ومات كي يصير "تحفة متحفية" يُحتفى بها بعد فوات الأوان.

الدرس الذي لن نتعلمه!

زياد الرحباني لم يمت.. هو فقط انتقل من عالمنا الصغير إلى عالمه الأكبر! نحن من كنا أمواتاً.. واليوم نبكي لأننا أدركنا أننا فوتنا فرصة الحوار معه!

السؤال الذي يبقى: هل سنتعلم أن المبدع يستحق الوجود.. وليس فقط الذكرى؟ هل سنفتح أعيننا على الأحياء قبل أن يتحولوا إلى صور على الجدران؟  الجواب.. كما كان يقول زياد نفسه: اسألوا الريح!

كلمة أخيرة:

في الوطن العربي.. المبدع يعيش كأنه خطأ.. ويموت كأنه معجزة!  والعيب.. ليس في من يغادر.. بل في من يبقى ولا يرى!.

***

د. عبد السلام فاروق

رحل زياد.. كما يرحل الحزن من دون وداع، وكما تنكسر موسيقى من غير أن يُسمع لها نشاز، وكما يتوقف البيانو عن العزف فجأة… لأن القلب خاف أن يخذلها.

زياد الذي لم يكن ابن فيروز وحدها، بل ابن كل من عرف أن الكلمة سلاح، وأن السخرية أنبل أنواع الصراخ.

زياد الذي علّمنا أن الجملة قد تكون رصاصة، والضحكة قد تكون وصمة، والبيانو وطن بديل، و"كيفك إنت؟" سؤال فلسفي يُطرح على دولة، لا على حبيب.

لم يمت زياد اليوم فقط، مات مرّات كثيرة، متشظيًا بين موت الحرب، وموت الصداقة، وموت الغدر، وموت الخيبة.

مات يوم وجد نفسه يُغنّي في مدينة مقسومة على الطوائف، ويكتب في جريدة مُحاصرة بالرقابة، ويحبّ امرأة تحب صمته أكثر من موسيقاه.

مات حين رأى جوزيف صقر يرحل من دون أن يأخذ معه أغنياته، ومات حين قرأ التعليقات على اسمه في "التيارات" التي حوّلها إلى نكتة، ومات أكثر حين احتاجوه مهرّجًا لمرحلة ولم يعرفوا أنه كان ينزف وهو يُضحكهم.

زياد لم يكن رجلًا، بل حالة. لم يكن فنانًا، بل حوارًا طويلًا بين وجع الناس وفوضى العقل. كان يشبه بيروت حين كانت تحلم، ويشبه الشام حين كانت تصغي إلى العود، ويشبه الخرطوم حين كانت تصنع من الحروف ثورة.

برحيله، لا يرحل نجم. بل تخفت الإضاءة في زاوية المقهى، تسكت آلة كاتبة كانت تكتب تاريخ البلد الهارب من حقيقته، تذبل شجرة على شرفة لا أحد يسقيها، ويُغلق باب مسرح لن يُفتح بهذه النبرة مرة أخرى.

سامحيه يا فيروز، لقد جرّب أن يكون ابنًا، فلم تسمح له العبقرية. جرّب أن يكون رجلًا عاديًا، فخانته الموسيقى. جرّب أن يكون مرتاحًا، فلم تعطه الحياة استراحة.

رحل زياد،

وترك على الطاولة نصف لحن، ونصف سطر، ونصف نكتة،

ورائحة عرق لم تجفّ من خشبة المسرح، وصوتًا يقول: "أنا مش كافر… بس الجوع كافر، والخذلان كافر، والوطن الحزين كافر".

وداعًا زياد…

يا آخر من عزف على أعصابنا دون أن نغضب، ويا أول من قال الحقيقة بطريقة تُضحكنا وتُبكينا في الوقت نفسه.

وداعًا أيها الغريب القريب، أيها الحاضر الغائب، يا من علمتنا أن نُحبّ من يقول لنا الحقيقة بمرارة… لا من يبيعنا أملًا بلا طعم.

 وداعًا حزينًا… دعوا البيانو يستريح قليلاً. فقد تعب القلب.

***

إبراهيم برسي

 

بقلم: ليلى موتلي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

لطالما كنتُ مهووسةً بخرائط جوجل، وخاصةً ميزة "عرض الشارع"، لكن هوسي زاد بعد أن أصبحتُ روائية. أمضيتُ ساعاتٍ لا تُعدّ وأنا أتجول افتراضيًا في الطرقات عبر مقاطع "القيادة الافتراضية" على يوتيوب، أستكشف زوايا الشوارع النائية على جوجل إيرث، أحفظ أسماء الأماكن بتفاصيلها الدقيقة، كأنني أعيش هناك، كل ذلك من أجل أن أنقل الأماكن بدقة إلى قصصي القصيرة، أو لأصف مسقط رأس شخصياتي بأمانة.

عندما قررتُ أن يكون مكان أحداث روايتي الثانية في فلوريدا، ظننتُ أن بحثي المكثف عبر خرائط جوجل وقراءة الكتب السياحية سيكفيانني. تصورت أنني قادرة على استحضار الأجواء والأماكن دون أن تطأ قدماي تلك الأرض. لكن ما إن شرعتُ في الكتابة، حتى اكتشفتُ أن الواقع أكثر تعقيدًا مما تخيلت، وأن الفجوة بين المشاهدة الافتراضية والمعايشة الحقيقية لا يمكن تجسيرها بمجرد الصور والقراءة.

كنتُ أعلم أن أحداث الكتاب يجب أن تدور في فلوريدا قبل أن أكتب الكلمة الأولى منه. كان المكان الوحيد في البلاد الذي يعكس تمامًا مواضيع الكتاب، وفي الوقت نفسه يُقدم أجواءً جنوبيةً نابضةً بالحياة وجميلةً في ولايةٍ تُقيّد فيها بشدة إمكانية الإجهاض. كان من المفترض أن يكون هذا كتابًا عن الأمهات الشابات اللواتي نادرًا ما يُنظر إليهن بتعقيداتهن، دون إصدار أحكام عليهن أو خجل منهنّ، وأن تدور أحداثه في منطقةٍ من فلوريدا مهملةٍ وغامضةٍ ومعقدة.

فلوريدا هي ولايةُ التناقضات بامتياز: من تاريخها الاستعماري وعلاقتها بالاستعباد، إلى مجتمعاتها المهاجرة وسياساتها المحافظة، ومن مياهها الفيروزية الساحرة إلى مستنقعاتها الكثيفة. وفي خضم هذه التناقضات، تعيش الأمهات الصغيرات في حالة من التمزق بين براءة مراهقتهنّ ومسؤوليات الأمومة، يواجهنّ بهجة التحدي وكآبته في آن، وغالباً ما يواجهنّ التهميش وسوء الفهم بسبب هذا الموقف الحرج.لكن المشكلة الأكبر كانت أنني لم أطأ قدماً يوماً ما على شمال غرب فلوريدا. لم أتنفس هواءها، ولم أشعر بحرارة شمسها اللاذعة، ولم أسمع همسات نسائمها بين أشجار الصنوبر الطويلة. كل ما عرفته عنها جاء عبر شاشة باردة وكتب جافة، وكأنني أحاول فهم نبض قلب من خلال رسم تخطيطي.

بمجرد أن قررتُ أن يكون مكان أحداث روايتي "الفتيات اللاتي كبرن سريعًا" في منطقة فلوريدا بان هاندل، انغمستُ في البحث. استكشفتُ "الساحل المنسي"، تلك المياه الزمردية الساحرة، البلدات الصغيرة الفقيرة المنتشرة كالجزر المنعزلة، ومنتجعات الشواطئ الفاخرة التي تزين الساحل. حاولتُ فهم الجغرافيا من خلال الكتب وخرائط جوجل والمدوّنات السياحية. حاولتُ تعلّم اللهجة المحلية بنبرتها الجنوبية المميزة عبر المنتديات والمقابلات وصفحات اليوتيوب. لكن مهما استعنتُ بكل هذه المصادر المتاحة لي من شقتي في أوكلاند، ظلّ هناك شيء ناقص. ظلّ المكان يقاومني، كسراب لا يمكن الإمساك به. كأنني أحاول التقاط أنفاس الهواء الرطب عبر نافذة مغلقة.

أؤمن بأن من مهام الكاتب أن يتخيّل ما يتجاوز ذاته. كما أؤمن بوجود حدود لما يمكننا معرفته من دون أن نعيشه، ولو على نحو غير مباشر. قالت توني موريسون في مقابلة مع المؤسسة الوطنية للفنون (NEA) إنها كانت تقول لطلابها في جامعة برينستون أن يتوقفوا عن الاكتفاء بكتابة ما يعرفونه، لأنهم، ببساطة، لا يعرفون شيئًا بعد. وأرادت منهم أن يتوقفوا عن "التسجيل والتعليق"، وأن يبدؤوا بدلًا من ذلك بـ"التخيّل والخلق".

إن نصيحة "اكتب ما تعرف" تتعارض مع جوهر الأدب الخيالي نفسه. فعندما نقيّد أنفسنا بما نعتقد أننا نعرفه فقط، فإننا نخنق مخيّلتنا، ونحرم أنفسنا من مشقة التشكّل والخلق والتصوّر لما هو أوسع بكثير من شريحة المعرفة الضئيلة التي نملكها.

لكنّنا ككُتّاب نتحمّل مسؤوليةَ القيام بواجبنا بأقصى درجات الجدية. ليس من المقبول أن نختار الطريق الأسهل، أو أن نزعم معرفتنا بشيء لمجرّد أننا اطّلعنا عليه، أو بحثنا عنه، أو سمعنا به. خاصةً عندما يتعلّق الأمر بالكتابة عن أماكن أخرى، أو ثقافات أخرى، أو مجتمعات أخرى، علينا أن نفترض مسبقًا أن هناك ثروةً من التجارب تفوق إدراكنا لدرجة أننا لا نعرف حتى ما هي الأسئلة التي يجب طرحها. علينا أن نسلّم بأننا لن نصل إلى الفهم الكامل، وأن نكون مستعدّين لتحمّل مسؤولية أوجه القصور في عملنا. وفي الوقت نفسه، يجب أن نبذل جهدًا مضنيًا للاقتراب قدر الإمكان من الحقيقة، وأن نكون مستعدّين للتخلّي عن المشروع إذا اكتشفنا أن الهوّة بيننا وبين الموضوع أكبر من أن تُجسّر.فإن كنا كسولين في تصوّراتنا، أو مقصّرين في سعينا نحو الأصالة، فقد نلحق ضررًا أكبر من النفع الذي نبتغيه.

لقد اكتشفتُ أنه من المستحيل أن أكتب بمهارة عن مكان لم أزرْه قط. كتبتُ النصف الأول من رواية "الفتيات اللاتي كبرن سريعًا" قبل أن أطأ أرض منطقة فلوريدا بان هاندل. ظننتُ أن زيارتي السابقة لميامي وجورجيا، وساعات البحث الطويلة، ستكفيني لتصوير المكان دون معايشته شخصيًا. لكن مسودة تلو الأخرى، كانت كتاباتي تفتقر للروح. ظلّت المياه مجرد لون أخضر باهت، والرمال مجرد رمال، والطرقات لا تختلف عن أي طريق عادي.

قررتْ أن أكتب عن مدينة خيالية في المنطقة، ظنًا مني أن هذا سيمنحني سلطة تشكيل الواقع وخلق معالم جغرافية جديدة. لكن مخيلتي عجزت عن استحضار التفاصيل: ما المحلات الموجودة في المركز التجاري الصغير؟ كيف يمشي الناس؟ ماذا يرتدون؟ ما الارتفاع الدقيق للكثبان الرملية وملمسها؟ فحجزتُ تذكرة سفر.

قضيتُ بضعة أيام في منطقة بان‌هاندل بفلوريدا، ومعي كاميرا، وسيارة مستأجرة، ودون أي خطة. ولم أكن مستعدة لمدى خطئي. ليس لأن الأوصاف في المسودات الأولى كانت غير دقيقة، بل لأنها كانت مجتزأة وغير محددة، غير قادرة على التقاط نغمة الأصوات المحلية،  ورائحة المحيط الممزوجة بواقي الشمس والبنزين المنبعث من عشرات الشاحنات الصغيرة في موقف سيارات الشاطئ، وكيف بدا المكان وكأنه عالق في أوائل الألفية الثانية من حيث خزائن الملابس وواجهات المتاجر وخدمة الواي فاي.

لم أكن لأفهم خشونة الأرض أو مخلوقاتها أو أو اتساع سمائها اللانهائي  دون أن أراها بنفسي. قضيت أيامًا أقود السيارة وأمشي، وأسمع الناس يتحدثون على الشواطئ والمطاعم، وحتى في قلب الغابة المستنقعية حيث صادفت رجلاً أسود يرتدي بنطال جينز، نصحني بالحذر من الثعابين، ثم واصل سيره في الغابة. دوّنت صفحات من الملاحظات، وسجلت صوت الأمواج، والتقطت مئات الصور، وعندما عدت إلى المنزل، أحييت المشهد.

فجأةً، أصبح للكتاب لونٌ وصوتٌ وطعم. لم يعد يخصني وحدي، لأنه لم يعد قائمًا فقط على ما لدي من مراجع ومعرفة مسبقة. كان عليّ أن أوسّع مخيلتي. وكان لا بد لي أن أرى هذا المكان، أن أشعر به، أن أسمعه، حتى أمتلك الإطار الذي يسمح لي بتخيّل حياة هذه الشخصيات. لم أكن لأعيش تجربة العيش من هناك، والعيش لسنوات بين من أكتب عنهم، لكنني كنت أعرف أنني أقرب ما يمكن إلى الواقع.

لقد خلقتُ بان هاندل فلوريدا الخاص بي: مكاناً حميماً، غنياً بالحياة، يسهل استشعاره، مفعماً بالتعاطف والإعجاب الصادق. بنيتُ عالماً قادراً على احتضان قصتي بدقة وإنسانية. في النهاية، تدور هذه الرواية حول الأمومة الشابة في منطقة صغيرة من فلوريدا، نادرًا ما نعتبرها مجرد وجهة لقضاء عطلة الربيع، لكنها تستحق أن تُكتب كفضاء ملموس، حيوي، متناقض - حيث تواجه هؤلاء الفتيات التحديات ويقررن إما أن يغرقن أو يسبحن.

(تمت)

***

...........................

ليلى موتلي / Leila Mottley مؤلفة رواية "الزحف الليلي"، التي اختارها نادي أوبرا للكتاب، وتصدرت قائمة نيويورك تايمز لأكثر الكتب مبيعًا، ولم تُثر مجموعتها الشعرية أي دهشة. وهي أيضًا حائزة على لقب شاعرة الشباب في أوكلاند لعام ٢٠١٨. وُلدت ونشأت في أوكلاند، حيث لا تزال تعيش.

 

والآن، لا بد من الالتفات إلى العلة الغائية، التي أدت إلى جنوح هذه السيدة، عن الطريق الذي رسمته لها أسرتها، "فمريومة" التي كانت قلب عائلتها يخفق بحبها، ولسانها يهتف بذكرها، من المفارقات اللافتة للانتباه، أنها أضحت تطلب جرعة ماء، فلا تجد من يقدمها إليها، أو كسرة خبز، فلا تجد من يجود بها عليها، لأنها فقط توخت تكفير عصبية عشيرتها، وانتقدت ولعها الزائد، بالطواف حول وثيقة نسبها الرفيع، شجرة العائلة التي يرجع رهطها، إلى نصوصها، كل ما حاولت جهة، أن تبخس حظهم منها، الفكرة الموروثة، التي سعت" مريومة"، أن تزعزع أسسها الفلسفية التي بنيت عليها، بالتشغيب، والتشويش، والهدم، والتشكيك، فمريم "الشجاعة" لم تكن تحتاج إلى المسايرة، والمداراة، والتملق، لدحض تلك الفكرة الراسخة عند آصرتها، التي كانت تنظر إلى محيطها، كما ينظر المرء إلى قلامة ظفره، فالقناعة التي لا يمكن أن ترجع عنها "كرشها وعيبتها"، أو يعتقد أنه يمكن أن يأتي عليها يوم، فتتراجع عنها، هي تباهيها بنقاء نسبها الباذخ، الذي يمضي بسرعة مطلقة، ليقترن بنسب الأنبياء، وقضية الصفاء العرقي، كانت من القضايا، التي طغت فيها الخلافات الضارية، والدعاوي المضللة، والسجالات الممجوجة، التي تصدت لها مريومة، وسفهت فيها أحلام شيعتها، كانت مريم، الأستاذة الجامعية، الواسعة المعرفة، التي تنحدر من أشهر قبائل الشمال، ترى أن القضية التي لا مجاملة فيها، ولا محاباة، هي بناء صرح المعرفة، الخالي من وهم "الأصالة" المتجذر من حواضر الحجاز، وبوادي نجد، وأودية تهامة، وأغوار اليمن،  فمريم التي حازت على أرقى الألقاب الأكاديمية، لم تكن فكرة النقاء الجيني، راسخة في نفسها، وانسجاماً مع انكارها لهذه الفكرة، تزوجت مريومة من الضابط التنفيذي الجسيم، الوسيم، وبقيت صلتها بعشيرتها، التي لفظتها، تتشظى وتتفسخ، حتى عادت إليها مضطرة، بعد عدة سنوات، فقد توفي زوجها "التوم" الحادب الحريص، في حادث حركة مروع، عادت مريومة "لبِطانة" صلتهم بها ضعيفة وواهية، لتعوق عودتها تلك، انتاجها الفكري الخصب، الذي يشجب انحطاط سياسات الهوية، ويبرهن أن مجتمعها "الهش" الذي تنتمي إليه، هو مجتمع "أثري"، مهووس باعتقادات "زائفة" تستحوذ عليه على مدار أيام السنة، كالتسلسل الجيني، وصراع الإثنيات، الذي خلف لمجتمعها، تركة ثقيلة، لا يزال إلى اليوم إرثها باقياً، لقد هيمنت عترتها على عقلها المنافح عن التنوير، ووفقت توفيقاً عظيماً لأن تدمغ صيغة حياتها بمعنى الشقاء.

سحر الرجال

هناك يقين رابض في دواخلها، بأن حياتها مملة، ومشحونة بالتكرار، رغم إنها أمست شخصية هامة ومستقلة، هي وحيدة لا شك في ذلك، لا تجد من يرّوح عن نفسها، ما يساورها من الكروب والأحزان، لقد تحملت ثريا مشاق الانفصال عن العلاقات الحميمية، التي كانت تربطها بقرابتها، لأنها وشائج منزوعة من سياقها التاريخي، فهي لقيطة،  هذه هي الحقيقة المرة، التي تجعلها ذاهلة مضطربة، متشبثة بعلبة الكوكايين، التي تأخذ منها جرعة وافية من حين إلى حين، أخبروها بها في قسوة، وفي غلظة، دون أن يخشوا عليها من العواقب، حتى تنتقل جموع من كانت تظن أنهم أهلها إلى منزل "الحاجة زينب" المشبلة العطوف، التي كانت تعتقد أنها أمها، ويضعوا أياديهم الشرهة على مملتكاتها، والمخدرات التي لا تترك قيماً إلا أفسدتها، ولا نفساً إلا أهلكتها، كانت تستبقيها ثريا الضاوية الهزيلة، وتتمسك بها، لأنها هي الأنيس الذي يعينها في وعثاء الحياة، فروتين رئيسة الإدارة المركزية لإدارة القروض بوزارة المالية، طابعه هو ما يبعث في نفسها هذا الحزن والانقباض، لأنه يخلو من الصخب والضجيج، فحياتها الخاصة، التي تنفق فيها مالها في غير موضعه، لا تظهر أنها لاهية عابثة، فمخدعها الذي كانت تستأنف فيه الجد والعمل، لم يسبق أن ولج إليه رجل، ففي الحق أن عينيها الواسعتين، لم يسبق لها أن ابتدرتهما صاعدة، متفحصة، في وجوه الرجال، فهي تمقت الرجال كما لا تمقت شيئاً آخر، لأن الرجال هم مصدر معاناتها، هي تنفق بياض يومها وهي هادئة، ساكنة، تطالع الأوارق والملفات، التي تتكدس في مكتبها الأنيق، أو مرتاعة، متولهة، من حجم الأرقام التي يتعين على وزارتها سداد أعبائها، أما  أول ليلها، فهي تقضيه في الاجتماعات الدورية، وفي جوف ليلها البهيم، يتردد رتم الموسيقى الحزينة، التي تحفزها أن تتهافت على هذا العناء، وتتردى في هذه المهالك، إذن حقا لا يوجد ما يجلو عن قلبها، أصداء حياتها الرتيبة، غير هذه البودرة البيضاء، التي لم تكن تتعاطاها بشكل قليل أو عرضي، لقد كانت ثريا تأخذ نفسها بأشد أنواع العقوبة، فتظل عاكفة على علبتها الفضية المترعة بهذه السموم، علبتها التي لا تستطيع أن تظهر حيالها الزهد والتقشف، كانت آثار النظرة السلبية لمجتمعها وأشباحها، هي التي تجعلها تقدم على شوط جديد، وتمعن في إدمان هذه السموم، وتنقاد لها، دون وعي وبصيرة، حتى حدث ذات يوم أن دخل عليها خادمها المتراصف البنية، وهي شبه غائبة عن الوعي، فأدهشها بجرأته المثيرة، وفجوره المروع اللذيذ، وقسوته التي باتت تنجذب لها، وتظهر لها الرضى والخضوع، لقد تشجعت ثريا، وأدارت ظهرها لمسحوقها الأبيض، و غدت حياتها متسقة اجتماعياً، ومنسجمة في جميع عناصرها، لم تعد ثريا تبغض معشر الرجال.

***

د.الطيب النقر

الاثنين 21/7/2025

 

ودائما في دوائر وجهة النظر القابلة للصواب وللخطأ أقول: وأنا أكتب، لا تحضرُني البتّةُ فكرة أنني أبدعُ الخارقَ وآتي المدهشَ وأنجزُ اللاممكن. فهذه حالة نرجسية تؤطر فعل الكتابة في سياق السيكولوجية المرضية القابلة للتحول من فعلٍ سويٍّ إلى فعلٍ منحرف ومتغوّلٍ يقضي على إشراقةِ الكتابة الملتفتة للغير، ويفتك بالفعل القيمي المشهود في شفراتِ القيمِ المراد نشرُها أو نثرُها، ويقدّم المشروع الفني كيفما كان جنسه تقديماً أعرجَ وأعوج لا يستوي فيه الخطوُ مادامَ يرُومُ تأكيداً معيباً لسلطة الذات وسلطانها.

بعضنا يكتبُ وفي يده شيءٌ من حتّى، لا يستطيع منها خلاصاً، ولا يقدر على توجيه بوصلة الإبحار إلى مقاصد الجزرِ حيثُ الخضرة والضوء والمغامرة والمباغتة والعجائبيّ...

يكتبُ ولا يسافر إلا بقدر المسافة التي يُتيحها بصره إلى أرنبة أنفه، وهي الأرنبة التي لو وُسِمتْ بشيءٍ من الحجمِ لظنّ صاحبنا نفسهُ تنقّلَ بعيداً بعيداً، ونأى شديداً شديدا، وكأنه رحّالَةُ عصرِهِ، وفريدُ دهرِهِ، ووحيدُ زمانِهِ. وأنّه الفلتةُ المُبْهِرَة التي لمْ يأتِ بها دهْرٌ من قبلُ ولا من بعدُ... فلا نستطيعُ معهُ حواراً ولا خُوارا، لأنه صنع من ذاتِهِ ذاتاً فوقَ الذواتِ، واعتلى عرشاً أدبياً موهوما لن نقدرَ على إقناعِهِ بأنه مجرد كرسيٍّ من خشب، أو حتّى من قشٍّ، فيما هو لم يُراوِحْ مكانَهُ ولمْ يتزحزحْ عن محيطِ أرنبته.

إنّ ما يلفتُ البصرَ والبصيرة في مثل هؤلاء شرْذِمَةٌ من الكتَبَة المشبّهين بملفوظنا الشعبي (الشّنّاقَة) والفاتحين حوانيتهم لاستقبالِ مثل صاحبنا. يقدّمون له السّاحة الثقافية خاويةً إلا منهُ وبالتالي، يكتبون عنهُ ويصنعون منه فقّاعَةً عجيبة المظهرِ خاويةَ المخبَرِ. فيصدّق المسكين انتفاخَهُ ويؤمن به ويقتنع أنه المبدعُ الذي لا يشقّ له غبار.

أن أكتبَ معناهُ أنني أمّحي، أنا وأندثر وأنقرض لأثبت غيري. 

أن أكتُبَ، معناهُ أنني أصل رحم الكتابة بوصْلي لا بقطعي لحمتها اللاحمة بيني وبين الآخر. ففي هذه الصلة أكونُ وفي عدمها لا أكون.

والنتيجةُ أننا إذا عكسنا الصورةَ، يصبح من يكتُبُ ويمّحي مبدِعاً يكتبنِي ويُثبِتني ويدعمني. هكذا تتحول الكتابة إلى فعل تبادلي تذوب فيه الأنواتُ وتموتُ لِتُبْعثَ من جديد داخل سديم المفاعلة والتفاعل لا داخل الدوائر الضيقة.

أنْ أكتبَ، معناهُ أنني أمارس فعلا حضارِياً يلغيني كفكرة مفردة يتيمة ويثبتني كإنجاز حضاري مشترك، لا يهمّ أن يكونَ توقيعي ناراً على جبل بقدر ما يهمّني توقِيعُنا ووسمُنا وأثَرُنا. والحضارةُ في آخر المطاف ليست إنجازَ فلان أو فلان، ولا إنجاز ثقافة دون أخرى، ولا إنجاز جيل دون جيل بل هي فعل تراكمي لا نعرف فيهِ من بدأ ولكننا نعرف أنه بدأ. ومن ثمّة فلا قِبلَ لنا بالقول إنّ فعل الكتابَةِ فعل شخصيٌّ محض مئة في المئة، وعلى الاقلّ هي كتابة لا تخلو من حضور الآخر ولو على مستوى التناص. والكتابة الوحيدة التي يمتلكها صاحبها امتلاكاً صِرفاً هي كتابةُ (آدم عليه السلام) لأنه الكائن الوحيدُ الذي لم يتناصّ مع أحد.

ما نرجوه من هذه المقالة العابرة هو إثبات أن فعل الكتابة ليس ذاتاً محضة، وأن المحضَ منها هو البصمةُ فقط... وبالتالي أدندنُ في أذنك أيها الواهمُ بالكتابة العصماء المُعجزة، أنكَ لا تكتبُ إلا إذا تواضعتَ وركبْتَ مطايا الْقِيَم، وعلمتَ أنّكَ كاتبٌ لا مصداقية لك إلا إذا آمنتَ أنك حلقةٌ في مشروعٍ كبير هو كتابةُ هذا الوطن السعيد. غير ذلك فأنت طائر مهيض الجناحين تغرّد خارج السّرب، وتحلق تحليقا نازلاً لا معنى له ولا جمال.

***

بقلم: نورالدين حنيف

أفقد القدرة على النطق أحيانًا وأتبخر، تتجمد كلماتي، صرخاتي وضحكاتي، كل الانفعالات يسيطر عليها صمت أنيق كهدوء الفجر، بعيدًا عن صخب الجدال الذي لا يُقدم ولا يُؤخر، حينها أتخذ مقعدًا على حافة الكوكب، وأتأمل الخلق بنظراتي المتأففة من فقر حروفهم وعبث منطقهم!

أحدهم يحاول إضحاك البشر بنكتة من موضة السبعينات، لم أهضمها حتى الآن ولن تستقبلها أحشائي أبدًا، والمضحك بحق أنه لم يكف عنها بأسلوبه الهزلي على الرغم من فوران دمي، وغيره يسرد تفاصيل الحلقة الأخيرة من مسلسل حضره مئات المرات، وكل مرة بتحليل مختلف كما لو كان المؤلف والمخرج والمنتج في آن واحد، وسيدة تؤكد لأخرى أن كيلو البطاطس زاد جنيهات فوق سعره هذا الصباح، فيشتعل النقاش حول استفهام حاسم: ما الطبخة الاقتصادية البديلة في ظرف كهذا؟

كلام كلام كلام.... صداع!

وأما عني، فأنسحب بكرامة عقلي والوحدة التي تبتلعه وسط الحشود!.. فهل هُناك انسحاب أكثر نبلًا من الخروج بك من حفرة الثرثرة وجفاف المعاني؟

الحقيقة أن في وضع مثله يصبح حديث النفس هو الملاذ والمأوى، والنجاة كما تردد في خاطرك للتو.. إضافتك في محلها.

لقد أدركت أني أُحب أن أتبادل الأفكار مع نفسي أكثر من الفضفضة مع البشر، أنقل لها آخر أخباري من الأزمات التي عصفت بي مؤخرًا، وكل مخاوفي الوهمية التي تُقيدني عن الحياة، لعلها تأتي بالحلول، وتُسكن الأوجاع..

ولمَ لا؟

فإنني أثق بها لهذه الدرجة، وهي تؤكد لي أنها تستحق الثقة كلما عرفتها عن قرب أكثر.

لعلك تتساءل الآن: كيف يكون حواري مع نفسي؟

تنصت باهتمام، تسبق عمرها بأعمار من الفصاحة، لا تمل من بعثرتي ولغتي المضطربة، متواضعة بحق، لا تشغلها بساطتي الأقل من هيبة اللقاء، ولا تغضب من دموع مزاجي المتقلب.. باختصار، يأسرني صدقها وفيها تكمن إنسانيتي.

كم أتلذذ بالرجوع إليها في أموري الخاصة جدًا!

أتذكر أنني أسألها كثيرًا عن رأيها بحميمية الأصدقاء:

نفعل كذا؟

هل أحسنت اختيار فستاني الجديد؟

ماذا عن سهرة الليلة؟

وبصراحة، أهتم بالإجابة كل مرة ولو خالفت المعقول!

إن الحوار مع النفس فيه متعة لا تُقارن بالتسوق بميزانية مفتوحة أو بتذكرة سينما "ميد نايت"، حتى وإن لم أخرج منه بنصيحة أو فائدة ملموسة، يكفي أنها تقبلني في كل الأحوال، وإنه لشرف كبير أن تنتشلني بنعومة في أيام أبغض فيها سماع اسمي!

لقد لجأت إليها اليوم بشأن أمر يخطف النوم من عيني، تشتت قراري بين الكلام والسكوت، بين أن أتحرر منه لأرتاح من ثقله، وهُنا مجازفة، فقد لا أتمكن من صياغة غلياني كما يجب، أو أن أنشغل عنه باللاشيء، وهو أيضًا إنذار خطر، فربما لا أطيق الكتمان أكثر.. وأنفجر!

بعد تفكير طويل، اخترتها، اخترت "نورا" للمهمة الصعبة، أو "نوارة" كما تُحب أن يُقال عنها، سألتها بألم:

كيف وصلنا لهذا الحد؟!

هل أنا بحاجة إلى استراحة أبدية، أم أنها مرحلة مؤقتة وسأعود بعدها إلى رشدي؟

ما العمل؟!

أنا على المنعطف الآن، أتوسل إليكِ افعلي أي شيء!

واستجابت كالعادة.

المدهش أنها عملية تواصل توحي بالهذيان في نظر البعض.. "مجنونة!".. هكذا تقول، أليس كذلك؟

ولكنها عين العقل..

فأنا قبلها ثائرة وبعدها مطمئنة، وأصبحت لا أشعر بالتحسن إلا بتلك الأوقات الملهمة، أو بتعبير أدق فلا أظلم أوقاتي الهانئة الأخرى، إنها واحدة من أكثر اللحظات تأثيرًا بالإيجاب على حالتي الفكرية، وإليكم الدليل، فأنا أكتب الآن بمفعولها السحري، بعد أسابيع من عقوق الورقة والقلم.

غريب أن تواجه نفسك بكامل إرادتك!

أنت أمامك، تخيل!

مخلوق يسعى ويحزن ويعشق ويُقاوم أمام مرآة لا تُجمل الواقع، إنها محاكمة طارئة أقف أمامها عارية من المجاملات الاجتماعية وآفة النفاق التي يتلون بها أهل الأرض.. أنا فحسب.

والجميل أنني أُرحب بأحكام العدالة، لا إنكار، لا هروب من المسؤولية، الجاني مصيره قفص الاتهام، والبريء يغتسل بشعاع الحرية.. هكذا أكون..

لحظة.. لعلك تتساءل من جديد من ملاحظة صائبة: "أنا، هي، عني، معها".. لماذا تصفها كأنها إنسان آخر غيرها وهي ونفسها واحد؟!

اطمئنوا، ليس انفصام حاد بالشخصية، إنما هي طريقتي للإبحار في الأعماق، أعاملني بهذه الطريقة وأجدها فعالة حقًا، أنشق عني ليتجسد كياني أمامي، فأراني بوضوح وأتمكن من إجراء حوار ناجح معي، أعمل على متطلبات الأيام القادمة، وأبحث عن إجابة لو عرفتها يموت الجهل..

من "أنا"؟

ما هي احتياجاتي؟

هل مشاعري على ما يرام؟

وأفكاري تسير على الطريق الصحيح؟

وأخيرًا.. هل نبضي حي يُرزق؟

إنه وببساطة امتحان مفاجئ للوعي، وكما يُعلم الأب ابنه، وتُهذب الأم صغارها، أُطبق المبدأ معي ولا أشعر بأي حرج، بالعكس، أحمد الله على صداقتنا الاستثنائية، نعم، أنا صديقة نفسي، ألا تراه الوفاء بعينه؟

يا صاحبة النص..

لقد تنازعنا مرارًا، والسبب أفعال غير محسوبة ندمت عليها أشد الندم، وطال الخصام بيننا انتقامًا وتأديبًا حتى خمدت نيراني وعطفت عليكِ مجددًا، وفي النهاية أتأملني بكل المنحنيات: الجنون، العصبية، الشجاعة، طقوس الكتابة، الانسجام مع الموسيقى الهندية وقراءة الكتب على ضوء القمر، فأجدني أُحبكِ كثيرًا يا مشاغبة!

إن غلظتي ليست من طباعي وتعرفين مدى رقة إحساسي، والمعضلة تكمن في شخصيتي المتمردة، آهٍ وكم متمردة!

وعليه فيلزمني ممارسة الحزم كي لا أحيد عن المنطق.. وإلا فهي المصيبة!

لا تحزني من قسوتي، والحرمان من آن لآخر هو ببساطة تربية وتقويم في زمن يحتضر، وللحفاظ على الخير فينا لا بد من دفع ضريبة، فلا مفر من إعادة النظر يا نفسي، تأملي أكثر، فالعالم يتوحش كل يوم، والإنسانية على المحك، والتغيير يبدأ أولًا من الداخل، صحيح؟

لذا ساعديني على الثبات، أنتِ أمانة تُكلفني الكثير.

عزيزتي "آخر العنقود"..

هذه قُبلة امتنان وتقدير على الصبر والكرم حتى الأخطاء التي هي أساس وجودي.. أرجو أن تسامحيني.. وسأنفذ ما اتفقنا عليه.

***

بقلم: نورا حنفي

(لا تقتل نفسا ولو كانت حشرة)... بوذا

هذه هي عظمة بوذا، هذا هو مجده، هذه هي تعاليمه لتلاميذه، بوذا ليس اسما وانما هو لقب يعني (المتنور)

ولد بوذا عام 563 قبل الميلاد كان والده حاكما على احدى مقاطعات الهند وكان بوذا يعيش حياة الترف في قصر والده تزوج وأنجب ولدا، ولكنه سئم من حياة الترف فاخذ يتجول في غابات الهند لمشاهدة العالم الخارجي وباحثا عن الحقيقة، كان يجلس تحت شجرة تين يتأمل الطبيعة والانسان واثناء جولاته شاهد رجلا عجوزا لا يستطيع الوقوف بسبب المرض فادرك بوذا انها الشيخوخة والمرض والموت فاقلقه ان هذه المظاهر ليس باستطاعة أحد شفاء الناس من شرورها فقرر ان يكون هو الانسان المخلص الذي يستطيع انقاذ الناس.

رجع الى قصره وحلق لحيته وابدل ثيابه الجميلة بملابس شحاذ وعاد الى التجوال في الغابات تبعه عدد كبير من التلاميذ حيث اخذ يلقي مواعظه عليهم بان يبتعدوا عن ملذات الحياة من الطعام والشراب والنساء فقد ترك هو قصره وزوجته وابنه وهام باحثا عن الحقيقة وقد زاد عدد اتباعه حتى اصبحوا الوفا مألفه .وهكذا أسس بوذا دينا قائما على الرأفة والشفقة والتواضع والتسامح وهذه المبادئ جعلت هذا الدين ينتشر انتشارا واسعا وسريعا في دول جنوب شرق اسيا مثل الهند والصين واليابان وغيرها حتى بلغ عدد اتباع الديانة البوذية اليوم اكثر من (550) مليون نسمة كما انتشرت في هذه البلدان وغيرها المعابد البوذية التي يتنصب فيها تمثال بوذا الذي يقدسه البوذيون باعتباره رمزا من رموز الانسانية والخير والتسامح ليس للبوذيين وحدهم بل لجميع شعوب الأرض لأنه انتشر بالكلمة الطيبة والمواعظ المفيدة ولم ينتشر بالسيف والاكراه.

تميز بوذا بأخلاق عالية وبساطة متناهية فقد كان يتكلم مع الكبير والصغير، الفقير والأمير. كان صبورا الى ابعد حدود الصبر وقد كان نبيا اصلاحيا أراد ان يصلح ما أفسده الدهر لم يبالي بالملذات الحسية لأنه كان صاحب مهمة عليه ان يؤديها بكل اخلاق ووفاء.

تقول عنه كتب التاريخ وهي توجز اخلاقه بالنقاط التالية:

انه لم يحارب أحد وانه لم يكن يحمل سيفا.

انه لم يقتل امرأة او طفلا.

لم ينهب او يسلب أحدا.

لم يسبي النساء ويتزوج من الجواري.

بوذا لم يتخذ الخدم والعبيد.

لم يدعي ان كلامه منزل من السماء.

كان بسيطا في مأكله ومشربه.

عندما سئل من الذي خلق هذا الوجود؟ أجاب انني مؤمن بأن هذا الوجود سيبقى للأبد وكل مالانهاية له ... لا بداية له.

وصايا بوذا (1)

* لا تقتل.

* لا تسرق.

* لا تزن.

* لا تكذب.

* لا تتناول مسكرا.

* لا تحضر حفلات الرقص والغناء والتمثيل.

* لا تتزين بأي نوع من الزينة ولا تستخدم أي نوع من الطيب.

* لا تنم على فراش وثير.

* لا تقبل من أحد ذهبا ولا فضة.

* لا تتناول طعاما يابسا بعد الظهر.

ان خمسا من هذه الوصايا (الأولى)عامة والخمس الثانية خاصة بالرهبان.

عندما مات بوذا قال اتباعه (صعد الى السماء بجسده بعد ان أكمل مهمته على الأرض).

***

غريب دوحي ناصر

..................

(1) تاريخ الأديان القديم -د. رؤوف سبهاني ص262

ديانا مكولي والعثور على قصتك في قصة أسلافك

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

"كانت المرأة في ذهني تتمتع بيقين بشأن الجذور التي لم أحققها أبدًا.".. "ولكنك لست جامايكيًة، أليس كذلك؟"

لاحقني هذا السؤال طوال حياتي. وعادةً ما يُطرح علي مباشرة بعد أن أتكلم، لأن لون بشرتي—فاتح، أبيض، مختلط العرق، أصفر فاتح، أحمر، أبيض، "هي فقط تظن نفسها بيضاء"—يعتمد على عين الناظر ويتناقض مع لهجتي. حتى أواخر منتصف حياتي، كان ردي المتعب قليلًا: "جميع أجدادي الأربعة وُلدوا هنا. كان جدي الأكبر مُرسَلًا معمدانيًا." كانت هذه القصة العائلية مدعاة للارتياح. ليس مالك مزرعة.

صحيح أن الشخص الوحيد من أجدادي الذي تحدث عنه والداي كان المُرسَل المعمداني، الذي غرق في البحر عام 1905 أثناء محاولته العودة إلى أطفاله الأربعة في جامايكا بعد وفاة زوجته بمرض السل. تربى هؤلاء الأطفال اليتامى على يد عمتهم في بلدة بلاك ريفر على الساحل الجنوبي لجامايكا، في منزل متواضع لا يزال قائمًا حتى اليوم. كان أحدهم جدي من جهة الأب، جيرالد. لم أكن أعرف شيئًا عن عائلة والدتي، سوى أن والدها توفي شابًا وترك والدتها غارقة في الديون.

في عام 2014، تواصلت معي بشكل غير متوقع شركة تلفزيونية نيوزيلندية كانت تُجري بحثًا في علم الأنساب لصالح برنامج يُدعى DNA Detectives. أخبروني أنني على صلة بطاهٍ نيوزيلندي شهير يُدعى راي مكفيني، وسألوني إن كنتُ على استعداد للقائه والتصوير ضمن البرنامج. التقينا برفقة إحدى أخواتي وابنة عمي في نادي ليجوانيا في كينجستون، وهو مكان استعماري للغاية. وهناك علمت أنني من ناحية والدتي أنحدر من يهودي سفاردي برتغالي يُدعى هانانيل داغيلار، وامرأة مستعبدة تدعى نانسي ماكلين، كانت تعيش وتعمل في مزرعة في مكان لم أسمع به قط بصفتي ابنة جامايكية: ميسون هول.

حاول منتجو البرنامج دفعنا نحن الثلاثة للتعبير عن مشاعرنا تجاه هذا الاكتشاف أمام الكاميرا، لكنه كان لا يزال جديدًا ومربكًا للغاية. بالنسبة لي، ككاتبة قصص، كان الأمر مشوقًا. أما كامرأة جامايكية ذات بشرة فاتحة، فكان الأمر مربكًا، غير مريح، وربما غير مرحّب به. أو هل كان كذلك حقًا؟ أليس من المؤكد أن الأصول الإفريقية، مهما تلاشت عبر العقود، تؤكد جذوري الجامايكية التي شعرتُ بها بعمق؟ أليس من المؤكد أن معظمنا يشترك في تلك الجذور نفسها، وإن اختلفت الدرجة فقط؟

على الرغم من أنني أعلنتُ رغبتي في أن أصبح كاتبة عندما كنت في الثالثة عشرة، فإن أول محاولة جادة لي لكتابة رواية، وصقلها، وإرسالها إلى الناشرين، وتلقي الرفض مرارًا وتكرارًا، بدأت حوالي عام 2002، في ورشة للكتابة عُقدت—نعم—في قصر مزرعة استعماري. كنت هناك لأن صديقة قديمة قدمت لي عرضًا مخفضًا للتكلفة—إذ كانت تعرف طموحاتي الأدبية المؤجلة منذ زمن طويل. كانت غرفتي الصغيرة تقع تحت الدرج الأمامي، وتساءلت عن وظيفتها الأصلية: هل كانت مخزنًا؟ مكانًا لاستراحة امرأة مستعبدة؟ خلال وجودي هناك، سكنت تلك المرأة ذهني؛ رغم أنني حينها لم أكن أعلم أننا قد نشترك في الدم. أو أنني سأكتب يومًا رواية عنها.

إذا كان هناك ما يمكن اعتباره قصة واحدة للبشرية، فهي بلا شك قصة التنقل، مهما كان الدافع.

خلال سنوات نشاطي في مجال البيئة، أخذني صديق قديم إلى أطلال بيت كبير آخر في المنطقة نفسها، كان قد انهار معظمه وغمرته النباتات المتسلقة والشجيرات، ويبدو أنه بُني فوق حفرة طبيعية. وقفت هناك تحت الشمس الحارقة، وأنا ألوّح بيدي لطرد البعوض، ونظرت إلى الأسفل في تلك العتمة، متخيّلة المياه الجارية تحتها—كنت أعلم أن هذا الجزء من جامايكا يقع فوق خزان مياه جوفية كبير. لماذا بنوه هناك؟ هل كانت الحفرة حمامًا أم مصدرًا للمياه العذبة؟ كنت واثقة من أن المرأة في ذهني تعرف الإجابة.

نحن الجامايكيين المعاصرين طهونا الآكي والسمك المملح لابن عمّنا الشهير، الطاهي النيوزيلندي (الذي لم يُخفِ ازدراءه لسكاكيننا وطريقتنا في التقطيع)، وكذلك لفريق التصوير. وبعد ذلك، ناولتني المنتجة مجموعة فحص الحمض النووي. وباستخدام العديد من الأدوات المتاحة اليوم، قمتُ ببناء شجرة عائلية تضم أكثر من ألف ومئتي اسم لأشخاص يعيشون في نحو عشرين بلدًا. إن كان هناك ما يمكن اعتباره قصة واحدة للبشرية، فهي بلا شك قصة التنقل، مهما كان الدافع.

ثم علمتُ بمشروع إرث مُلّاك العبيد البريطانيين، فبحثتُ عن اسم أحد أسلافي المباشرين، ديفيد مكلين، ابن هنائيل داجيلار ونانسي مكلين. وبينما كنتُ جالسةً في غرفتي أمام حاسوبي المحمول، وجدتُ اسمه—واكتشفتُ أنه تلقى مبلغ ٩٢٧ جنيهًا إسترلينيًا و١٩ شلنًا و٩ بنسات (ما يزيد قليلًا عن ألف دولار أمريكي) تعويضًا عن امتلاكه خمسةً وأربعين شخصا، في مكان لم أسمع به من قبل: ميدلتون في أبرشية سانت ديفيد (التي تُعرف الآن باسم سانت توماس). رجل وُلد في العبودية أصبح لاحقًا مالكًا للعبيد. كيف كانت المرأة في ذهني ستبرر ذلك؟

في مارس 2020- وقت الإغلاق- كان من المقرر أن تُنشر روايتي الرابعة وسط جائحة كوفيد-19. كنت في تلك الحالة التي تعقب النشر، حيث يسأم المرء من كل ما يتعلق بالكتابة . قررت أن أواصل الكتابة، لكن لنفسي فقط. أردت أن أحرر المرأة التي تسكن ذهني، أن أتركها تتحدث لترى ما لديها لتقوله. ثم سمعت عن رجلٍ أجنبي جمع حجارة قصر عظيم منهار ليبني بها منزله، فتساءلت المرأة في داخلي: لماذا يكون رجلاً أبيض؟ لماذا لا تكون امرأة سوداء؟ وماذا كانت ستفعل تلك المرأة لحماية تلك الحجارة والمأوى الذي شيدته لنفسها إذا ما تعرض للتهديد؟

أطلقت العنان لتلك المرأة على الورق. آنذاك، كانت قد بلغت من العمر عتياً، الآنسة بولين، تواجه خواتيم حياتها، وتمتلئ بالكلمات التي تنتظر أن تُقال. حتى الحجارة نفسها كان لها صوت. لم أحاول أن أصوغ ما أكتبه في شكل رواية، بل رأيته أشبه بشريط طويل من النسيج، يمتد بلا تخطيط أو هدف. لم أنوِ إرساله إلى أي مكان. كانت المرأة التي تسكن ذهني تمتلك يقينًا راسخًا بالجذور، يقينًا لم أبلغه قط. لعلها — وربما أنا أيضًا — لنا جذورٌ من حجر.

***

...................

الكاتبة: ديانا مكولي / Diana McCaulay ناشطة بيئية جامايكية مرموقة ومؤلفة حائزة على جوائز لخمس روايات. فازت بالميدالية الذهبية موسجريف، وهي أرفع جائزة جامايكية تُمنح لإنجازات العمر في الفنون والعلوم، كما نالت جائزة الكومنولث للقصة القصيرة عن منطقة الكاريبي مرتين (في عامي 2022 و2012). وُلدت ديانا وتعيش في كينجستون، جامايكا.

 

أتساءل هل الكتابة فعل قائم بحد ذاته، أم أنها مجرد رد فعل؟!

 الكاتب فيها سلبي متأثر أم فاعل ومؤثر؟

ترى هي نتاج تأثر الكاتب بتجاربه الشخصية، واستجابة لواقعه المعيش بكل متغيراته التي تؤثر على شخصيته.

أم أن الكتابة هي تأثير واضح المعالم، تصحبه نية مسبقة لإحداث تغيير ما وتحقيق نتائج معينة من خلالها، يستثمر فيها الكاتب عصارة فكره ووجدانه، ويوظف فيها خبراته الحياتية حتى الشخصية والخاصة منها توظيفا ذكيا، فيقوم بقولبتها، وإضفاء شيء من العمومية عليها، لتكون مصدر إلهام للقراء.

في وقتنا الحالي، ونظرا لما أتاحته منصات التواصل الاجتماعي، من سهولة نشر وانتشار الكلمة، صار متاحا  للجميع أن يصبح كاتبا، ويشارك كتاباته على أوسع نطاق، قد يكون عدد الكتاب في وطننا العربي قد فاق عدد القراء بكثير،

وللأسف غدى الاهتمام بالكم على حساب الكيف!

عدد هائل ومهول من النصوص التي كتبت والروايات والقصص، تشوبها ضحالة الفكر، وسطحية الأسلوب والطرح، بالإضافة للغة الركيكة المستعملة!

 برأيي ليس ذلك إلا استخفافا بعقل القارىء وذائقته الأدبية، وتعَدٍّ صارخ على جمال وأصالة اللغة العربية الفصحى، وجهل تام بماهية الأدب والإبداع.

حسب وجهة نظري ككاتبة، لو كانت كل كتاباتي أو جلها تدور في فلكي أنا لوحدي، وتتمحور أساسا حولي، وحول حياتي الشخصية كما يفعل الكثيرون، لاكتفيت بتدوينها على دفتري الشخصي كيوميات ، وما فكرت أبدا بنشرها أو مشاركتها، لأسباب عدة، منها الحفاظ على الخصوصية، وأيضا لا أرى جدوى من مشاركة الآخرين حالاتنا الشعورية المختلفة التي تعترينا، لا سيما الحزينة منها والسيئة، العالم فيه ما يكفي من الإحباط والسلبية، والكل لديه معاناته الخاصة في الحياة.

بالنسبة لي شخصيا، الكتابة من منظور تفعيل دور الكاتب فيها بين السلبية والإيجابية، وبين التأثر والانهزامية والريادة والتأثير، الموضوع متعلق أساسا وبصفة خاصة برسالتي من ورائها، وبرؤيتي في الحياة عموما،

لا أَعدُّ الكتابة ملاذا ومتنفسا مريحا وراقيا فقط، أو هواية وشغفا حقيقيا لي فحسب، بل هي رسالة سامية، وغاية نبيلة جدا، لم ولن تكون الكتابة يوما بالنسبة لي مجرد ترف فكري ورفاهية معنوية أبدا، بل هي مسؤولية ثقيلة للغاية، وطّنت نفسي على حملها وتحمل كل تبعاتها،

لا يمكن أن أرى الكتابة إلا أداة تأثير فعالة وإيجابية بيد الكاتب إن أحسن توجيهها وتوظيفها بشكل صحيح، رُّبّ كلمة ذات أثر تكتب قد يبلغ صداها وتأثيرها الآفاق!

***

الكاتبة زينة لعجيمي - الجزائر

 

على الرغم من العلاقات المتشابكة والمعقدة التي تسود مجتمع الأدباء والمثقفين بشكل عام، الا ان ذلك لم يمنع من وجود علاقات هادئة وطيبة بينهم مبنية على الاحترام المتبادل والتقدير لبعضهم البعض بعيدة عن التوتر والخلافات الفكرية والتنافس غير المشروع وقد تجسد ذلك في قيام بعض الادباء بكتابة الآراء الايجابية بحق زميله الذي يكتب في نفس المجال وتناول تجارب بعضهم البعض بالنقد البناء البعيد عن الغيرة او محاولة التقليل من شأن تجربته انما على العكس كانت هذه الكتابات تحمل في طياتها الكثير من الصدق والمشاعر الطيبة بحق الاخر حيث جاءت تعكس بوضوح صدق النوايا وجمال الاحساس والرقي في المشاعر.

احتفظ بوثيقة محبة بين شاعرين مهمين يدلي فيها الشاعر " كزار حنتوش " رأيه بالشاعر الشعبي " صاحب الضويري " تكشف المشاعر الدفينة التي يكنها الشاعر حنتوش لصديقه والتي تمثل انسانيته ونبله وصفاء قلبه تجاه صديقه الضويري.. يقول فيها:

(صاحب الضويري) الشاعر الذي أورثنا العصافير والطيب، المعجون بحنّاء عروس من سومر.. الذي يتكلم عصافيراً.. ومن تحت خطاه ينبت القرنفل، هذا الشاعر الصافي مثل بحيرة في الفردوس، هذا المضيء كصباحات آذار ( لن يصفو عليه الماء ابداً.. معتكرا ابدا، سيظل كبحيرة تمساح جائع ).كانت مصائبه كحلا للعاشقات.. وهواجسه نايات.. ومن هنا فأنه كان سفيرا للشعر فوق العادة لدى بلاط جده جلجامش.. وكانت الديوانية هذه المدينة التي أراقت عليه من الدمع ما يكفي لملء بحيرة قزوين.. الديوانية أمرت عشاقها وسكيريها ومتشرديها وشعراءها بأن يقيموا في القلوب نصبا تذكاريا للألم والأمل والشعر مجسدة بذلك خواص شاعرها الفريد من نوعه صاحب الضويري، وكان لإقدام الشعراء والفنانين من الشباب على تبني طبع مجموعته الشعرية كانت لهم قبلا خطوات ناجحة في هذا المجال، كان لإقدامهم ذاك طعم البرحي ورائحة الشاي الديواني الأحمر، ولولا جهدهم الخير هذا لضاع كل شيء ولكان هذا الناي وهذه الربابة قد ضاعا الى الأبد.

أما انت يا بن الديوانية الشرعي، أيها الأمير البعيد، نم في قبرك مرتاحا.. فالدنيا في خير، فلا تردد في الجنة:

للنايبات خيولهه مرسنّه

وللموج يبني مشرّعات السفن

ظلينه نلعب ما رجع حِلنّه

الناس ملسه جعابها شما نسن

***

ثامر الحاج امين

 

﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾... (البقرة: 281)

المقدمة: تعيش الكتابة في العصر الراهن تحوّلاً جذريًّا؛ ليس فقط في أدواتها، بل في مفهومها الجوهري. فلم تعد مجرّد فعلٍ إنساني يعبّر عن تجربة ذاتية أو موقف وجودي، بل أصبحت، عند كثيرين، سلعة رقمية يُعاد إنتاجها عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، ولا سيما برامج متطورة كـ(GPT)، تُكتب بها المقالات والقصائد والخطب وحتى الاعترافات.

وفي خضمّ هذا التغيّر، ينهض سؤال أخلاقي ملحّ: هل لا يزال من يُنتج نصًّا دون أن يتألم فيه، يُعدّ كاتبًا؟

الكتابة كفعل وجودي لا تقني

إنّ فعل الكتابة لم يكن يومًا ممارسة لغوية خالية من الألم، بل هو – في جوهره – عملية معرفية وجدانية تتطلّب من الكاتب أن ينزل إلى قاع ذاته، ويُفتّش في خزائن روحه، ويستخرج من مخزون الألم والأمل، ما يُعبّر به عن فكرة أو إحساس أو موقف.لكن في عصر الذكاء الاصطناعي، أصبح بالإمكان إنتاج نصوص كاملة في دقائق، وبجودة لغوية مبهرة. غير أن هذا التقدّم لا يطرح إشكالية تقنية بقدر ما يكشف عن أزمة في الضمير الأدبي:هل يجوز أن تُنسب نصوص لم تُكتب بتجربة شخصية إلى من لم يعشها؟

هل يُسمّى من ينسخ نصًّا كتبته خوارزمية كاتبًا؟

أليس في ذلك تزوير لهوية النص واغتيال لمعناه؟

خيانة الحبر باسم البرمجة الكتابة ليست مجرد سردٍ جميل، ولا تجميعًا بارعًا للمفردات، بل هي فعل مسؤولية تجاه الذات والآخر. ومن يكتب دون أن يتألم، دون أن يُراجع نصّه، دون أن يشتبك معه فكريًا وعاطفيًا، فإنما يُقدّم نصًّا خاليًا من الندبة، من الذاكرة، من الحياة. إنّ من يستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي في التحرير أو التنقيح دون أن يُخفي المصدر، قد يدخل في إطار الاستخدام التقني المشروع. أما من يتلقّى نصًّا كاملًا بلا جهد، ثم ينسبه إلى نفسه، وينشره للناس، فإنما يخون جوهر الكتابة قبل أن يخون القارئ. ليس المقصود من هذا النقد رفض التقنية أو التقدّم، بل الدعوة إلى صدق الكتابة ووعي الذات. فالنص الذي لا يُوجع صاحبه، ولا يُربكه، ولا يُقلقه، ليس شهادة حياة، بل شهادة زور. وفي زمنٍ يُصنع فيه الحرف في مصانع الذكاء الاصطناعي، يصبح على الكاتب أن يقرّر: هل يكون شاهدًا حقيقيًا على نفسه؟ أم شاهِد زورٍ على نص لا يعرفه؟

تسليع المعنى: حين تُباع المشاعر بضغط زر

في عالم تُختزل فيه الكتابة إلى محتوى، يُقاس بالأداء الرقمي لا بالأثر الوجودي، تبدأ الكلمات بفقدان قدسيتها.

لماذا نكتب إذًا؟ هل نكتب لنملأ الفراغ؟ أم لنُعمّقه ونفهمه؟ حين تُنتج المقالات بلا تجربة، والخواطر بلا لحظة انكسار، تصبح اللغة نفسها بضاعة استهلاكية، ويتحوّل الكاتب إلى مجرد موظف محتوى، يُقلّد صوتًا ليس صوته، ويوقّع على مشاعر ليست له.

في مثل هذه اللحظة، تصبح كل كتابة خيانة ناعمة، وكل نصّ يُنشر بلا إحساس،هو تزوير ناعم للمعنى. الكتابة.. شهادة حياة لا مهارة تقنيةلا يُطلب من الكاتب أن يكون فصيحًا فقط، بل أن يكون صادقًا مع نفسه أولًا.ولا يُسأل الكاتب: كيف كتبت؟

بل: لماذا كتبت؟ النصّ الذي لا يحوي نزفًا داخليًا، ليس أكثر من تمرين لغوي.وما أكثر من تمرّسوا في البلاغة، وقلّ من امتلكوا ضمير اللغة.لهذا، فإن ما يُصنع اليوم من نصوص عبر الذكاء الاصطناعي، وإن بدا بليغًا، إلا أنه يفتقر إلى أهمّ عنصر:الحضور الإنساني.

من لا يكتب ليُشفى، لا يكتب بل يُقلّد. ومن لا يكتب ليشهد، لا يُسجّل إلا حضورًا زائفًا. كل نصّ لم يُوجعك… ليس لك، ولا منك. وكل نصٍّ من هذا النوع… هو شهادة زورٍ تحملاسمك. الكتابة كنجاة... لا كصنعة ما من كاتبٍ حقيقي، إلا ويحمل في داخله شيئًا يرفض أن يموت بصمت. هو لا يكتب لأنه يتقن تركيب الجمل، بل لأنه لا يطيق ثقلها إن ظلّت عالقة في صدره. الكتابة، بالنسبة له، ليست قرارًا، بل ضرورة.

صناعة النص أم صدقه؟

كلما ازداد الاعتماد على الآلة، تراجعت مساحات الشكّ والتردّد والخوف…وكل كاتب حقيقي يعرف أن هذه الثلاثية ليست عيوبًا، بل أدوات كتابة.

الآلة تكتب من معجمٍ إحصائيّ، لكن الكاتب يكتب من ذاكرةٍ مشروخة، من طفولةٍ ناقصة، من خيانةٍ نائمة، من دمعةٍ لم تُذرف. الكتابة كأثر لا كعرض ثمة فرق بين من يكتب ليمتلك اللغة، ومن يكتب لتخلّصه اللغة منه. الأولُ يجعل من النص قفصًا، أما الثاني، فيجعل من النص باب نجاة. النصوص التي تبقى لا تُقاس ببلاغتها، بل بقدرتها على أن تُوقظ شيئًا نائمًا في وجدان القارئ. الكلمة التي لا تعنيك… لا تعنينا في زمنٍ يفيض بالنصوص، صار التحدّي الأكبر ليس في أن تكتب ما لم يُكتب،بل أن تعني ما تكتب. فما أكثر من يكتبون…وما أقلّ من يكتبون وهم خائفون من أن يكونوا كاذبين!

حين تصير الكتابة مرآة لا قناعًا

في النهاية، لا نملك نحن الكُتّاب سوى حروفنا. ولا نطلب من القارئ أن يُحبّنا، بل أن يشعر بصدق ما نقول. الكتابة ليست مهرجانًا، بل محرقةٌ شخصية، يدخلها الكاتب ليخرج أقلّ وزنًا، وأشدّ صدقًا، وربما… أنظف روحًا. في عصر تُنتَج فيه الكلمات كما تُنتَج السلع،يبقى الكاتب الحقيقي هو من يرفض أن يُجمّل جُرحًا لم يشعر به، أو يكتب نصًّا لا يُشبهه.

الكاتب الحقيقي…يكتب لأن قلبه ضاق، لأن الحياة خانته، لأن الصمت خذله. فإن لم تُوجعك الكتابة، فلا تُوجِع بها أحدًا. وإن لم تكن شاهِد صدقٍ على ألمك،فلا تكن شاهِد زورٍ باسمك. ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾.. (الإسراء: 36)

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

لاشك ان العنوان الأدبي ــ ولأي جنس ابداعي ــ يشكل أهمية كبرى في اجتذاب القارئ الى النص بحكم كونه بنية صغرى، على حد تعبير الكاتب الراحل محمود عبد الوهاب في إنّ: " العنوان ليس بنية نهائية انما هو بنية صغرى لا تعمل باستقلال تام عن البنية الكبرى التي تحتها، فالعنوان ــ بهذه الكينونة ــ بنية افتقار " ــ كتاب ثريا النص ص 9.

ومع تقدم وسائل الطباعة وتعدد طبعات الكتاب الواحد بحكم تعدد المترجمين، يجد المتلقي نفسه إزاء محصلة تتمثل بتعدد الترجمات واختلافها من مترجم الى آخر مما ينجم عن هذه الظاهرة حصول ردود أفعال من لدن ذلك القارئ المتلقي الذي قد يميز او لا يميز بين الترجمة الصائبة والترجمة الهزيلة من حيث جاذبيتها ودرجة الدقة فيها وهما الخصلتان اللتان تعكسان خبرة المترجم وتماسه مع الجوانب الإبداعية لكل من العنوان والنص.

صدرت رواية الكاتب الامريكي ارنست همنغواي The Old Man and the Sea) بأكثر من عنوان نذكر منهما (الشيخ والبحر) ترجمة منير البعلبكي و(العجوز والبحر) ترجمة محمود حسني وآخرين. لكن أي الترجمتين أفضل من الأخرى؟ أرى شخصيا ان الترجمة الاولى أكثر جزالة من الثانية واقرب الى مناخ الرواية الحافلة بالتحديات التي واجهها سانتياغو من اجل صيد ذكر سمكة (المارلين) والتي ليس بمقدور (عجوز) القيام بها ! ومع ذلك فقد حدثني صديق اديب انه لابأس بالترجمة الثانية بحكم طبيعة التحديت التي دعت سانتياغو لأن يتأخر في الخروج للبحر: التقدم في العمر، افتقاد الصبي (مانوليو) وعوامل مثبطة اخرى. ويبقى لكل من الرأيين حججه وبراهينه.

وفي بعض الاحيان قد لا تكون ترجمة العنوان منطبقة على شخصيات الرواية غير انها، في الوقت نفسه، تبدو اكثر سلاسة وهو ما ينطبق على رواية هوغو الاشهر (البؤساء) والتي تعني (الأقوياء) ولعل ترجمة العنوان ((Les Miserables  الى (البائسون) اقرب للدقة بيد ان مفردة البؤساء اكثر سلاسة منها ومن (اهل البؤس) التي اقترحتها شخصيا واجدها أصوب صياغة ؛ من واقع ادراك الفرق بين مفردتي (البأس أي القوة والبؤس بمعنى الشقاء). بينما نجد عنواني رواية ماركيز القصيرة (ليس لدى الكولونيل من يراسله) و(ليس لدى الكولونيل من يكاتبه) كليهما متقاربتين في تجسيد المفهوم نفسه بحكم ترادف مفردتي المكاتبة والمراسلة على صعيد الدلالة.

جبرا ابراهيم جبرا.. مترجما

اضافة الى كونه كاتبا روائيا مجيدا، فقد تميزت سيرته من خلال ترجماته المقتدرة لمسرحيات شكسبير ونصوص سردية تراوحت بين الرواية والقصة. ما زلت اذكر ترجمته لنص فولكنر السردي (ايلول بلا مطر) وهو النص الذي نشر في احد اعداد مجلة (الأقلام) ولو تتبعنا عنوان القصة الأصلي لوجدنا انه (Dry September) ومعناها الحرفي والمتوفر حاليا في الفيسبوك هو (ايلول الجاف او الناشف) غير انه آثر اختيار الترجمة الأولى لاعتبارات شتى فمن المؤكد انه اعتمد آلية السهل الممتنع الدال في اختيار العنوان الأول، اضافة الى ان اطالة العنوان بواقع ثلاث مفردات جاءت متساوقة مع طبيعة اسلوب فوكنر الذي دأب على كتابة نصوص شديدة الاسهاب. وقد اشار الناقد كونراد ايكن الى اسلوب فوكنر قائلا: " اسلوب فوكنر غابة مملوءة بالمتسلقات والازهار البرية الوحشية التي تبدو لعين المرء متداخلة بجلال لا نهائي ". عالم فوكنر الخاص ـ روبرت كوغلان ص 118 ــ 119.

ويمثل عنوان رواية فوكنر (The Sound and the Fury) المقدرة الفائقة التي تمتع بها كاتب ومترجم كبير مثل جبرا.نجد مبدئيا ان اللغة الانجليزية ــ لغة رواية فوكنر الصخب والعنف ــ تعتمد في بنائها القاموسي على مبدأ تعدد المعاني polysemy حيث تضخ كل مفردة عددا كبيرا من المعاني. وهنا تتضح طبيعة التحدي الذي وجد الراحل جبرا نفسه أمامه ابان ترجمة رواية فوكنر (الصخب والعنف) وهو العنوان الذي اختاره جبرا للترجمة العربية للرواية وجاء اختيارا ذكيا لعنوان باعث على الحيرة كعنوان الرواية ذلك ان المترجم سيجد عددا كبيرا من المعاني والدلالات التي تشع بها مفردة sound : الصوت، الضجيج، الصخب، المضيق، اللسان البحري. أما اذا جاءت هذه الكلمة مفردة سنجد انها تعني : القويم، السوي عقلا او أداء، الراسخ.اما كلمة fury فتعني الروح، المرأة الحقود، العنف، الغضب الشديد. ومعروف ان اللغة العربية ــ على العكس من اللغة الانجليزية ــ تتصف بغزارة المرادفات synonyms فالمطر غير الغيث وغير الوابل وللأسد عدد كبير من المسميات فهو ضرغام واسامة وليث وحيدرة وغيرها في حيت تكاد التسمية نفسها في اللغة الانجليزية بكلمة lion.

ولو جئنا الى رواية همنغواي (لمن تقرع الأجراس) نلاحظ ان العنوان اصلا هو (To Whom the Bell Tolls ) وترجمته الحرفية

هي (لمن يقرع الجرس) مما يشير الى ان المترجم تصرف بالصياغة تصرفا جماليا دون ان يمسخ دلالات العنوان.

ترجمة العنوان ترقى لأن تعد مسعى فنيا لتوفير المعنى المقصود وهي مهمة أي مترجم خبير باللغة الأصلية للنص واللغة التي سيترجم اليها ذلك النص.

***

محمد سهيل احمد

 

كتب ناجي ظاهر، ابن مدينة الناصرة التي تضرب جذوره في اعماق قرية سيرين المهجرة، حتى الآن ست روايات، صدرت الأولى "الشمس فوق المدينة" عام 1981 عن منشورات الأسوار، بإدارة الكاتب الصديق يعقوب حجازي، وصدرت أخراها قبل اعوام عن منشورات "راية" الحيفاوية، بإدارة الشاعر بشير شلش.

أقدم فيما يلي مختصرا أرجو أن يكون واضحا ووافيا لكل من هذه الروايات، واتبعه بشيء عن مميزات الكتابة الروائية لدى صاحبها.

الشمس فوق المدينة.. وهي تتحدث عن شاب فلسطيني مثقف يبحث عن ذاته في خضم الصراعات الخارجية والداخلية القائمة والمفروضة عليه يوميا في بلادنا..تبدأ بصراع مع الذات وتنتهي بصراع اعنف.. تدور أحداثها بين الناصرة والقدس.

هل تريد ان تكتب رواية.. تدور أحداثها حول كاتب شرقي تمنى أن يكتب روايته الخاصة المنشودة دون أن يتحقق له ما يبغيه.. وبعد ثلاثين عاما من المعاناة. تظهر صبية عمرها اقل من نصف عمره.. تقترح عليه أن تكون هي روايته..بعد غيابها المضني عنه.. يكتشف أنها وعدت كاتبا آخر متأوربا بان يكتبها على طريقته الخاصة.. فيخوض معه صراعا عنيفا ينتهي بانتصاره.. وبشروعه في كتابة روايته على طريقته الشرقية الأصيلة.. الصبية الغضة الاهاب.1674 najee

نزف الفراشة.. تدور حول امرأة مطلقة في الأربعينيات من العمر.. تقيم علاقة مع صحفي معروف.. وتعتقد أنها عثرت على ضالة بحثت عنها فترة مديدة.. إلا أنها تصطدم بواقع مر.. يوقفها أمام خيبة أمل صادمة.. تتصف الرواية برؤية نقدية.. توجه أصابع الاتهام إلى ما يتصف به العديدون من مكر للحصول على مأربهم الدنيئة.. تدور أحداثها في الناصرة وتتمركز في عالم الصحافة.. وما يمور فيه من أحداث ترمي إلى تحقيق الذات بأي طريقة وبأي شكل.. بمعنى .. ما يهمني هو أن احصل على ما أريد وابغي وليدمر العالم بعدي.

صلد.. تدور حول حادث عائلي بسيط.. سرعان ما يكشف عما يمور به مرجل واقعنا المر من سخونة وتوتر.. جراء ما يعيشه مجتمعنا من تحولات درامية.. تساهم في تجسيدها قوانين غريبة عن عاداتنا وتقاليدنا.. وتفرض علينا بالتالي حالة من المرارة عبر الرضوخ لها واحناء الهامة أمامها.

حارة البومة.. تتحدث عن كاتب مثقف مات مقتولا بيد زوجته.. يمنحه زملاؤه الموتى فرصة للعودة إلى الحياة بهدف جلب المزيد من القصص والحكايات التي أتحفهم بها.. هذا الكاتب يصطدم مجددا بواقعه المر وتنتهي الرواية بعودته إلى مقبرته.. بعد صدمته المريعة هذه بما آلت إليه أحوال بيته ومجتمعه عامة. رواية معتمة تدور أحداثها في الظلام.. وتقرع ناقوس الخطر بشدة..1675 najee

محاق..وتعني فترة تآكل القمر.. تدور أحداثها أيضا حول التحولات المفاجئة التي يمر بها مجتمعنا العربي الفلسطيني في دولة اليهود.. مسلطة الضوء على معاناة فنان أماته الواقع وأعاده إلى الحياة الحلم ليجد نفسه في مواجهة عنيفة جدا مع واقعه.. تختتم الرواية بنهاية مفتوحة تقدم الزوجة وهي تطعن زوجها الفنان مجددا.. تطرح الرواية معاناة الفنان في فترة تحول مجتمعي غير واضحة المعالم.. وتقدم انموذجا سيئا لامراة سيئة تشبه زوجة سقراط في عنفها وفظاظتها..

مميزات روايات ناجي ظاهر

* أنها تدور حول مجتمعنا العربي في البلاد دون خطابية أو مباشرة يمجها الذوق الأدبي الروائي الرفيع. وبفنية راقية المستوى.

* أنها تتعرض لقضايا اجتماعية وسياسية حارقة.. مسكوت عنها ..بجرأة واقدام غير مسبوقين فيما تم إنتاجه من أعمال روائية في بلادنا.

*أنها اقرب إلى الرواية القصيرة. النوفيللا. منها إلى الرواية الطويلة. وهي مكتوبة بأسلوب روائي ناضج يتوسل التركيز والتكثيف لتحقيق ما يرمي إليه من متعة وفائدة.. الأمر الذي يدفعني للقول إنها تصلح لان تتحول إلى أفلام ومسرحيات شعبية.. ناجحة.

*أنها تنتهي نهايات مفتوحة.

***

توثيق الكاتب: محمد علي سعيد

حظي الكاتب السارد المبدع محمد نفاع (14 ايار من عام 1939- 15 تموز 2021) باهتمام واسع محليًا وعربيًا وحتى عالميًا، فاقبل القراء على مطالعة ما خلّفه من ارث قصصي غني، اقبال المدرك المحب لأهميته الادبية الثقافية، كما حظي باهتمام عربي واجنبي، تمثل في اعادة نشر قصصه وترجمتها إلى العديد من اللغات الحية، كما تمثل في الدراسات اللافتة التي كتبها عنه دارسون ذوو اهمية ومجلّون في مجال الدراسة الادبية السردية خاصة. تصادف هذه الأيام الذكرى السنوية الرابعة لرحيل هذا الكاتب الهام الذي ودعته بلدته يوم رحيله باكاليل الورد والرياحين.. التي طالما احبها وتغني بها فيما تركه من ارث ادبي قصصي لامس العديد منه حفاف الخلود وكرسه منذ سنوات بعيدة واحدا من رواد القصة القصيرة الفلسطينية بعد قيام الدولة.

محمد نفاع من مواليد قرية بيت جن الواقعة في منطقة الجليل الاعلى، وقد عُرفت قريته هذه بطبيعتها ذات المناظر الفتانة الخلّابة. تلقى تعلمه الاول في مدارس قريته بعدها تلقى تعلمه الثانوي في قرية الرامة. درس الادبين العربي والعبري في جامعة القدس العبرية. تنقل بين اعمال متنوعة ومتعددة مما اكسبه تجربة وخبرة حياتية واسعة، وجعله بالتالي ذا معرفة متعمقة في مواقع قريته وتضاريسها، وقد اغتنت قصصه بأدق التفاصيل المتعلقة بقريته، مما جعله كاتبًا مكانيًا، لا سيما في قصصه الاولى والمتوسطة، حتى انطبق عليه ما قيل عن الكثيرين من الكتاب في العالم، مثل العربي المصري نجيب محفوظ، وهو أنه لم يخرج من مدينته القاهرة الا ليعود اليها. مكانية نفاع هذه منحته عمقًا موغلًا في ارض قريته وما احتوته من نبات وامكنة تحمل الاسماء الفارقة، وما عاش فيها ودب على ارضها من كائنات مختلفة. زاد في هذا العمق اطلاع واسع على العديد من النماذج الادبية العالمية لا سيما الروسية. شغل نفاع خلال حياته المديدة العديد من المواقع السياسية والثقافية، وقف في مقدمتها منصبه عضو كنيست في البرلمان الاسرائيلي خلفًا للشاعر الراحل توفيق زياد، ورئاسته تحرير صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية العريقة، الا انني لن اتحدث عن هذا الجانب من حياته وآرائه السياسية وافضل ان اتحدث عن الجانب الادبي في حياته، هذا الجانب الباقي منه كما ارى.

الارض حبيبته

ابتدأ محمد نفاع الكتابة عام 1964، وكانت بدايته هذه مع الشعر إلا انه ما لبث ان انصرف عنه لفشله في كتابته كما صرح في احد الحوارات معه. انصرف عن الشعر ليتخصص في كتابة القصص القصيرة، وقد ترك في مجال السرد القصصي والروائي عددا من الاعمال الادبية منها:

1. العودة إلى الأرض (قصص)، 1964.

2. الأصيلة (قصص)، دار عربسك، 1975.

3. ودية (قصص)، الأسوار، عكا، 1976.

4. ريح الشمال (قصص)، الأسوار، 1878.

5. كوشان (قصص)، عكا، 1980، القاهرة، 1980.

6. الذئاب (قصص)، مرج الغزلان (رواية)، عكا، 1982.

7. وادي اليمام (قصص).

8. خفاش على اللون الأبيض.

9. أنفاس الجليل (قصص)، 1988.

 10. فاطمة (رواية)، منشورات راية. حيفا،2015.

بذور قصصه

البدايات القصصية الاولى لكاتبنا الراحل، تمت كما سبق في اواسط الستينيات، وقد تزامنت مع طلائع هامة في كتابة القصة القصيرة المحلية، في مقدمتها الكاتبان محمد علي طه وزكي درويش، وقد لفت نفاع النظر منذ البداية مع ان لكل من هؤلاء الكتاب الثلاثة طعمه، رائحته ولونه، وكانت الميزة التي ستتجلى فيما تركه محمد نفاع من انتاج قصصي، هو ذلك التعلق بالأرض والالتصاق بها عُمق التماهي معها، والفريد ان كاتبنا عاش قريته المعروفية بكل عمق وصدق منطلقًا من روح شعبية وتراث اسطوري خصب، وهو ما انتشر في قصصه حد المبالغة احيانًا، وقد دفعت خصوبة فقيدنا هذه الشاعر الصديق الراحل ايضًا سميح القاسم إلى أن يمتدحه وهو يستقبل عام 1968 احدى قصصه ابان عمله محررًا لمجلة "الجديد" الحيفاوية، بقوله لكاتب هذه السطور: هذا كاتب هام جدًا. انظر إليه كيف يصف عزف الراعي الفلسطيني على شبابته بانه راح "ينجر" عليها. هذه المواصفات التي ميّزت كاتبنا دفعت الشاعر القاسم لان يطبع ضمن منشورات "عربسك" الخاصة به، المجموعة القصصية الهامة لكاتبنا الرحل وهي "الاصيلة" . ولم يكن القاسم هو المفتون الاول بقصص فقيدنا وانما امتدت هذه الفتنة لتشمل قطاعات شعبية واكاديمية واسعة النطاق كما سلفت الاشارة.

اليوم وانا اعود بالذاكرة إلى النتاج الادبي القصصي لفقيدنا اتذكر قصصه: خفق السنديان، الاصيلة، ودية والداغ علاماتٍ فارقةً في قصتنا العربية المحلية، وارى فيها روحًا ادبية شعبية تستمد نسغ حياتها وكينونتها من اعماق بلادنا وانسانها المتطلع الى الحرية والمحبة، روحًا وصلت إلى آماد بعيدة الغور وذات اعماق سحيقة في اليومي والاسطوري ايضًا، وهو الامر الذي جعلني اعيد نشرها في اكثر من كتاب ومجلة ادبية على اعتبار انها من روائع قصصنا المحلية.

محمد نفاع.. باق في القلب والذاكرة.

***

ناجي ظاهر

 

بقلم: كيت دواير

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

منذ بضع سنوات، نشر أحدهم صورة لرجل يسير في بروكلين وعلى خصره نسخة من رواية محادثات مع الأصدقاء، يظهر فيها اسم "سالي روني" متسللًا فوق حزام سرواله. كانت بمثابة إكسسوار يكشف عن أسلوبه الشخصي بقدر ما تكشف عنه ملابسه. قبل أقل من شهر، نشرت الناقدة الأدبية كونستانس جريدي مقالة بعنوان "عبادة سالي روني"، وصفت فيها كونك من معجبيها بأنه أمر "طموح": "إذا قرأت سالي روني، يبدو التفكير وكأنك ذكي، لكنك أيضًا ممتع — كما أنك ممتع وذكي بما يكفي لتشكك في مفهومي 'الذكي' و'الممتع' من الأساس".

بفضل إشادات من مشاهير مثل تايلور سويفت، وسارة جيسيكا باركر، ولينا دنهام، وإميلي راتاجكوفسكي، أصبحت روني — الروائية الأيرلندية البالغة من العمر 33 عامًا والمعروفة بصورها الحادة والبارعة لتشابكات العلاقات الرومانسية والجنسية بين شباب دبلن — واحدة من أبرز الأسماء الأدبية منذ أن صدرت روايتها الأولى عام 2017. سرعان ما أصبح اسمها مرادفًا لحساسية ثقافية بعينها — الطريقة التي حول بها الشباب في أواخر العقد الثاني من الألفية عدم اليقين الشديد لديهم إلى أداء لمعاداة الرأسمالية وتجنب الارتباط العاطفي.

في محادثات مع الأصدقاء، استكشفت روني غموض الصداقات والعلاقات، بينما تناولت روايتها الثانية أشخاص عاديون، التي نُشرت في الولايات المتحدة عام 2019، كيف يمكن للطبقة الاجتماعية وسوء الفهم أن يعرقل علاقة حب. من خلال الروايتين، التقطت روني مزاجًا عامًّا. وقد باعت ملايين النسخ من رواياتها، بما في ذلك عالم جميل، أين أنت الصادرة عام 2021، وذلك في عصر لا تتجاوز فيه مبيعات معظم الكتب 5000 نسخة. وتم تحويل روايتي أشخاص عاديون ومحادثات مع الأصدقاء إلى مسلسلات تلفزيونية ناجحة. وقبل صدور روايتها الرابعة إنترميزو في 24 سبتمبر، ستنظم 140 مكتبة في أنحاء الولايات المتحدة حفلات إطلاق — وهو تكريم غالبًا ما يُخصص لسلاسل الكتب الأكثر مبيعا التي تتناول السحرة والجنيات ومصاصي الدماء.

بيع الأدب الروائي الجاد مهمة شاقة — أحد الناشرين قال لمجلة جرانتا إنه يقدّر أن لهذا النوع من الكتب حوالي 20,000 قارئ "جاد وثابت" في الولايات المتحدة — ومع ذلك، نجحت روني في اجتذاب معجبين نادرًا ما يقرؤون للمتعة. لم يتوقع أحد هذا النجاح، ولا حتى روني نفسها. كانت محادثات مع الأصدقاء نجاحًا بطيئًا، اكتسبت زخمًا في العام التالي لنشرها بفضل الضجة الشفهية فقط. وقد تساءل كثيرون: من أجل مستقبل الأدب، هل يمكن تكرار تأثير سالي روني؟

يرى العديد من المعجبين أن كتب روني تنتمي إلى فئة خاصة بها. ميتزي أنجل، رئيسة دار النشر الأميركية فَرَر، ستراوس وغيرو التي تنشر أعمال روني، كانت قد اقتنت محادثات مع الأصدقاء عندما كانت تعمل سابقًا في فابر آند فابر في المملكة المتحدة. وعندما قرأت المخطوطة للمرة الأولى عام 2016، شعرت "بصدمة من التعرف"، كما لو أن الكتاب "كُتب بالفعل" أو أنه كان موجودًا منذ الأزل. داخل العلاقة المتأرجحة بين الطالبة فرانسيس (21 عامًا) والممثل المتزوج نيك (32 عامًا)، كانت هناك أيضًا أسئلة أخلاقية. تقول أنجيل: "روني بارعة في الاستماع إلى الثقافة وتأويلها. أعمالها دائمًا تدور حول الروابط الخفية  بين الناس. ما هي تلك الخيوط غير المرئية التي تربط شخصاً بآخر؟ قد يبدو السؤال أخلاقياً في ظاهره، لكنه في جوهره سؤال سياسي بامتياز.

بوصفها المصنفة الأولى سابقًا في مناظرات الجامعات على مستوى أوروبا، كانت روني في موقع مثالي لمخاطبة الشباب الذين يعطون الأهمية ذاتها للشخصي والسياسي. وفي عصر أصبحت فيه شهرة المؤلفين الجدد ضرورية أكثر من أي وقت مضى، أتاحت خلفيتها الأكاديمية، ووكالتها الأدبية المرموقة، واتفاقها مع محرر مؤثر، لها بداية مهنية بدرجة من الجدية نادرًا ما تُمنح للكاتبات الشابات. وقد وُصفت بأنها "سالينجر جيل السناب شات"، وهي عبارة لاحقتها لسنوات (وتسعى جاهدة للتخلص منها).

وحين وصلت أعمال روني إلى المثقفين، بدأت تتسرب إلى الطبقة الإبداعية العالمية — تلك التي تستطيع أن تمنح الشرعية، وتستهلك جماهيريًا، "الشيء الكبير التالي" في الأفلام والمسلسلات وأعمال الثقافة الأخرى. هذه الفئة ليست بالضرورة من القُرّاء الشغوفين، لكنها قرأت عامي من الراحة والاسترخاء لأوتيسا موشفيج، والتحول الجنسي، حبيبتي لتوري بيترز، والبريق لرافن لييلاني، ومؤخرًا "الأربعة" لميراندا جولي.. وحين اكتشف هؤلاء المستهلكون الثقافيون الشغوفون بالإنترنت أعمال روني، أُعجبوا بها. تقول الوكيلة الأدبية أنجيلين رودريجيز: "كانت واحدة من القلائل اللواتي أُخذن على محمل الجد عند الكتابة عن العلاقات والجنس وقلق المرأة وسياسة الجسد الأنثوي". "ومع ذلك، كانت ما تزال تُهمَّش من قبل المحافظين بشدة  — وبصراحة، الرجال. حتى أصبحت مشهورة إلى درجة لا يمكن تجاهلها".

ظلت روني نفسها تتجنب الأضواء، وتُبرز بساطتها في كل مقابلاتها (وهي قليلة). كتبت بيكا روثفيلد في مجلة ذا بوينت عن تواضع روني: "هذه الشخصية، أو هذا القناع، يسعى جاهدًا لإقناعنا بأنها شخص يمكن لأي منا أن يصبحه". بالنسبة للكثيرين، فإن النجاح اليوم يعني أن تصبح مشهورًا؛ وكون روني لا تسعى إلى الشهرة، بل ولا تبدو مرتاحة لها، أكسب اسمها جاذبية ذكية ومتحفظة.

تظهر هذه الجودة “الباردة” لدى روني في شخصياتها أيضًا. بالنسبة للشباب الذين نشأوا على خيالات هوليوود المصقولة، وصور إنستغرام المُرشّحة، ونصوص الإباحية المُتقنة، فإن البساطة التي تكتب بها روني عن الجنس تجعل هذه اللحظات تبدو عادية بشكل ثوري، على غرار تأثير مشاهد الجنس الفوضوي في مسلسل فتيات للينا دنهام قبل عقد من الزمن. تقول رودريجيز: "من الواضح أن الشخصيات تستمتع". وتضيف أن روني تكتب عن "الجنس بوصفه شيئًا يحدث بين الناس، بشكل طبيعي وإيجابي".

كانت روني صوتًا رائدًا في حقبة أدبية تُؤخذ فيها الرغبة وسياسات الجسد على محمل الجد، وقد تبنّى جزء من جمهورها أعمالًا أخرى تناولت هذه الموضوعات، من كتاب ليزا تاديو ثلاث نساء الذي نُشر عام 2019 إلى سرديات آني إيرنو عن حياتها الجنسية والخاصة عبر العقود. هؤلاء الكاتبات، جنبًا إلى جنب مع روني، يمثلن نظيرًا أخويًا لطفرة أكبر في الرواية المعاصرة، مع أعمال مؤلفات مثل إميلي هنري، وكولين هوفر، وكايسي مكويستون التي تتصدر قوائم الكتب الأكثر مبيعًا وعلى مواقع التواصل. تُصنّف رواية أشخاص عاديون تحت فئة الرومانسية في متاجر "تارغجت" — لكنها العنوان الوحيد في هذا القسم الذي يمكن أن تراه محشورًا في حزام رجل يسير في شوارع بروكلين.

منذ أن حققت رواية "محادثات مع الأصدقاء" نجاحًا واسع الانتشار عن طريق التوصية الشفهية، يحاول الناشرون استغلال "جمهور سالي روني" لصالح مؤلفين آخرين. تقول إحدى الوكيلات الأدبيات، التي طلبت عدم الكشف عن هويتها خوفًا من انتقام جهة عملها: "كان هناك حماس كبير للعثور على أشخاص يفعلون ما كانت تفعله، وقد شجّع ذلك، من نواحٍ عديدة، على لحظة أدبية أعمق". بدأ المحررون بشراء "كتب داخلية تكتبها نساء جافات يتمتعن بوعي ذاتي"، وتسويقها بوصفها مشابهة لكتب روني. وجرّب ناشرون آخرون، وحقق بعضهم نجاحًا، بإثارة  دعاية مشابهة؛ على سبيل المثال، حظيت رواية  ثلاث نساء بحملة "ضد التجاهل" حيث طلبت النساء من الناشر إرسال نسخ مجانية منها إلى رجال "يحتاجون" إلى قراءتها. وعند تصميم الهوية البصرية لدار النشر الجديدة 831 Stories، المتخصصة في الروايات الرومانسية، تقول المؤسسة المشاركة كلير مازور: "كنا نفكر بالتأكيد في قارئ سالي روني، وفي قارئ الأدب الجاد الذي نأمل في جذبه إلى نوع الرومانس إن لم يكن قد وصل إليه بعد".

في مقال بمجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس، أشارت الروائية ناموالي سيربيل إلى ما لا يقل عن تسعة كتب نُشرت بين عامي 2020 و2023، من بينها رواية "أوقات مثيرة" لناويسي دولان و"فتاة لطيفة جدًا" لإيموجين كريمب ، والتي بدت وكأنها تُذكرنا بروايتيّ روني الأوليين، وتضمنت حبكات وتوترات متشابهة. بعض تلك الكتب كان قيد الإنجاز قبل أن تترك روني بصمتها، حيث كانت تستجيب بشكل مستقل للتوجهات الثقافية ذاتها. ومع ذلك، فقد تمت مقارنتها بشكل متكرر ومتواصل، مما كرّسها بوصفها "أسلوب فترة"، كما كتبت سيربيل. أطلقت عليها اسم روايات " مُعاد صياغتها" وهي حكايات عن نساء شابات في علاقات تتسم بعدم توازن في القوة، يصنعن من خلالها مأزقًا مزدوجًا يميل بكفة القوة لصالحهن. وعلى الرغم من نجاح بعض تلك الكتب، إلا أن أياً منها لم يقترب من التأثير الثقافي لرواية محادثات مع الأصدقاء.

تقول الوكيلة التي طلبت عدم الكشف عن هويتها: "المثير للاهتمام بالنسبة لي هو كيف كان القطاع الأدبي لبعض الوقت يبحث عن نجمة جديدة على غرار سالي روني، لكن هذا التوجه خفت إلى حد كبير. لقد أثبتت أنها علامة أدبية قوية بذاتها، لكنها لم تكن مؤشراً على تحول جذري في الصناعة". ففي حين استطاع كتاب مثل كولين هوفر وإيميلي هنري ترسيخ قاعدة جماهيرية واسعة من القرّاء المتعطشين في مجال الروايات الرومانسية، وأطلقت سلسلة "توايلايت" موجة من روايات مصاصي الدماء، وأحدثت رواية "الخطأ في نجومنا" اتجاه "أدب المرضى"، إلا أن مبيعات روني الاستثنائية لم تنعكس على الكتب الأدبية المعاصرة الأخرى بأي شكل ملحوظ. فإلى أين اتجه جمهورها بعد ذلك؟ توضح وكيلة الأدب مونيكا وودز أن هؤلاء القراء يتجهون نحو أعمال جين أوستن أو غيرهن من الكاتبات الكلاسيكيات. وتقول وودز: "إنهم يعودون إلى الأدب الكلاسيكي لأن أسلوب سالي روني يحمل صفة الخلود الأدبي. فهي لا تسعى بجهد لمواكبة المعاصرة، بل يأتي أسلوبها كلاسيكياً بشكل طبيعي".

وبقطع النظر عن الوجهات التي قد توجهوا إليها مؤقتًا، فإن غياب كاتبة أخرى "تشبه روني" جعل جمهورها أكثر توقًا لروايتها القادمة. رواية إنترمتزو المرتقبة بشدة من القراء وأيضًا من العاملين في الصناعة الذين تعتمد أرزاقهم على مبيعات الكتب. تقول ميكيلا ديري، مديرة البرامج في سلسلة مكتبات مكالي جاكسون في نيويورك، والتي ستستضيف حفل إطلاق للرواية يتضمن ورشة شطرنج وساعة كوكتيل بعنوان "أحاديث مع أصدقاء جدد": "من النادر أن يثير كتاب ما حماسة بائعي الكتب بقدر ما يثيرها لدى الجمهور العام".

حتى وإن لم يكن بالإمكان تكرار تجربة روني، فإن نجاحها يدل على ضرورة استثمار الناشرين بشكل حقيقي في الأصوات الجديدة، تمامًا كما فعلت ميتزي أنجل. تقول وودز: "بطريقة ما، كانت روني وموشفيغ مجازفة من نوع خاص"، "وقد آتت تلك المجازفة ثمارها بشكل كبير لأن القراء أحبوا حقًا ما كتبنه وما كانت لديهنّ من أفكار لطرحها".

لذا، إذا كان من الممكن لكاتب آخر أن يستثمر الطاقة التي رافقت روني منذ بدايتها، فإن الاحتمال الأكبر أن يكون ذلك الكاتب شخصًا لا يشبه روني في شيء. تقول رودريجيز: "الشخص الذي سيرث ذلك – الذي سيكون 'روني التالية' – لا بد أن يلتقط لحظته الخاصة".

(تمت)

***

...........................

https://time.com/7022497/sally-rooney-intermezzo-essay

مضت أيام وأيام، والقلم كالح يشبه جَوّنا يتلكّأ عن الانصياع للكتابة. يتعنّت في كبرياء العذراء التي تعتز بحسنها وجمالها، أُغازله وأُداعبه علّه يلين بين يديَّ ويُرخي العنان، فاسحاً المجال للكلمة أن تنعتق من عقال الذاكرة بعدما شكلتها حادثات الزمان، إلى عقال الورق والقرطاس حيث مقبرة المكتوب؛ حين أرفعه بين أناملي وأغمسه في الدواة لأُبلّل رأسه في الليقة، يحمل معه ما قدَر عليه راسماً أسطراً في كتاب. أمام هذا التلكُّؤِ، تحضر صورة الجبل الأخضر؛ ذلك الذي يجثو رابضاً، وضوء الإشراق يتسلّل إلى منازلنا كل صباح من جهته مع تغيير زاوية الشروق حسب الفصول فهو في حركة دائمة يسير ونحن نعدّه هامداً. تحت أنظاره غرباً وعلى أطرافه شمالاً وجنوباً، وعلى امتدادٍ شريطيٍّ، يفصل بين قبائل الرحامنة ودكالة، تقع مضارب قبيلة العونات. في هذا الصقع، تكتب قبيلة العونات بعضاً من تاريخ وجودها وتجتهد في صياغة جغرافية المنطقة، تكتب قصّة حوار وتفاعل بين الأرض والإنسان. تتحدث الروايات أن سكان العونات أُنزلوا بهذه البقعة تخفيفاً من تطاحن قبائل دكالة وقبائل الرحامنة على المراعي الخصبة المترامية الأطراف، حيث جال بصرك لا ترى سوى تلال ومرتفعات تتخلّلها شعاب، كلّ التضاريس مغطاة بشجيرات تقاوم الجفاف من قبيل الدوم التي تثمر الغاز والسدر الذي يعطي النبق، أما شجيرات الرطم والدفلة فتخرجان زهرات طيبة الرائحة، ناهيك عن أعشاب وحشائش تطفح وتزين المراعي كلما جادت السماء بأمطارها.

يختلط في قبائل دكالة الأمازيغي والعربي، وقد جمع بينهما تآخ قوي يعمّ كل أقطار المغرب، تدلّ عليه العبارة: "من أين أنتَ في الإخوة؟" حين يلتقي مغربيان ويسأل أحدهما الآخر. يعود الوجود العربي في المنطقة إلى العصر الموحدي. وأنا هنا لست حكماً بين من يرجع كلمة دكالة إلى أصل أمازيغي اعتماداً على الدلالة اللغوية للكلمة؛ فهي تتكون من لفظين: "دو" وتعني الأسفل والمنخفض، ثم "اكال" وهي الأرض، بمعنى أن دكالة هي الأرض السفلى أو المنخفضة قياساً على أرض الجبال "أدرار". في حين، يرى آخرون أنّ الكلمة أصلها عربي من "الدَّكَلة" وهم الذين لا يجيبون السلطان من عزّة وأنفة. وبين هذا وذاك، فإنّ دكالة تدل على الأرض كما تدل على الساكنة، تجمع التاريخ والجغرافية، ويصعب الجزم في أصول الساكنة إلاّ أنهم اليوم خليط متجانس من الأمازيغ والعرب.

يعزو بعض الباحثين أنّ قبيلة العونات تنسب إلى عون بن يحيى بن طالب من بني هلال، وهؤلاء نزلوا بأرض دكالة منذ العصر الموحدي مع القبائل العربية، بني هلال وبني سليم، التي وفدت من الشرق واستقرت بأرض المغرب لأسباب سياسية أولاً ثم طبيعية ثانياً. يجعل بعض النسابين العونات ضمن القبائل العربية ذات النسب الإدريسي الشريف، وإن كان لابن خلدون رأي في عراقة الأنساب، حيث ينفي الشرف عن الجميع مع طول الزمن؛ لكن أهل الرحامنة ودكالة يرون عكس ما يراه صاحب كتاب العبر؛ فهم يقدّرون العونات ويحترمونهم ويقرون لهم بالنسب الشريف ويتحاكمون إليهم. وقد أُنزلوا بهذه المنطقة من طرف السلطان العلوي، إسماعيل حين تسلطن، لحل النزاع وإيقاف الاحتراب والصراع بين الرحامنة ودكالة على المراعي. 

 في وصف إفريقيا لحسن الوزان، أخبر عن نزول السلطان الناصر، سلطان بني وطاس بالجبل الأخضر، في القرن السادس عشر الميلادي خلال حملته العسكرية لمعاقبة قبائل بلاد دكالة التي هادنت الاستعمار البرتغالي ووالته. في وصفه للجبل الأخضر، تحدث عن بحيرة مائية كبيرة كثيرة الأسماك؛ الأمر نفسه أكده مارمول بالقول: «تولّدت عن عيون الجبل الأخضر بحيرة كبيرة عند سفحه كانت دائمة، قبل أن تصبح اليوم مؤقتة (ورار)». لقد اكتسب الجبل الأخضر تسميته من خضرة الأشجار التي تكسوه، ومن المروج الغناء التي تترامى عند قدمه. الأرض تنبت كل ما يبهج النفس ويشرح الصدر؛ الخمائل والأزهار العطرية يفوح شداها، والوحيش يكثر ويتنوع بشعاب هذه التضاريس؛ فقد اجتمع في المكان كل ما يؤنس الناظر ويريح المُقل ويشرح الخاطر، مما يساعد على دفع الكلّ والعياء أو صدأ الأحاسيس. براري شاسعة تزج برعاة الغنم والماعز إلى ملاعبة اليراعة والمزمار أو القتار والكمنجة التي ينحتونها ويصنعونها مما تجود به الأرض. والحال اليوم يختلف، فأرض العونات كما أرض دكالة حصباء، أرض حجر وحزونة، أرض قراح، لكنّها معطاء ساخنة حين تجود السماء بخيراتها بعد السنوات العجاف وشبح الجفاف الذي يهدد بلاد دكالة عموماً ومنازل العونات خصوصاً. تظلّ الأرض هامدة؛ بيد أنه إذا جادت السماء بالأمطار فإنّ الأرض تهتزّ وتؤتي من الأكل ما الناس به يغاثون، حيث يملؤون المطامر قمحاً وشعيراً ودرة وغيرها، ويجمعون إبّان الإمطار مياهاً عذبة بخزانات يحفرونها بباطن الأرض تسمى بالنطافي، يقع بها أمنهم ويجوزون بها إلى زمن الإمطار، كما يجفّفون العنب والتين، ويذخرون السمن والعسل وكل ما قدروا على جمعه احترازاً مما تخبئه السنوات القادمة؛ هذه الطبيعة غير القارة والثابتة طبعت سلوك الناس في أخذ الحيطة والحذر من دوائر الزمان الطبيعية.

أذكر أيام الطفولة، حين كنت أمتطي صهوة فرس بيضاء جميلة، اجتمعت فيها رشاقة الأنثى في مشيتها وتثنيها تثني الخيزران مع هبات النسيم. حين كنت أرفع يدي هاشّاً عليها تتحرك بلطف ناعم أجده في خصلات شعر ناصيتها الذي ينسحب في اتجاهي دليلاً على سرعة الاستجابة. نشوة ما بعدها نشوة تلك التي كانت تغمرني وأنا على صهوة الفرس أعدو خلف قطيع الغنم كي لا يخرج عن حمى المرعى، أحوشه وأحُول من دون أن يتخطّى أراضي الجوار التي صرت أعلم حدودها من خيالات تفصل بين المراعي. قبيل الغروب بقليل، يعود الرعاة إلى مضاربهم تحت ثغاء الغنم وشقشقة الطيور ونباح كلاب تسمع من بعيد، نورد القطيع قبل إدخاله للزريبة حيث يقضي الليل تحت حراسة الكلاب مما يمكن أن يفزعه. أما نحن فكنا نتحلّق جالسين القرفصاء قرب البيدر أو داخل خيمة مفتوحة من كل جانب كلما كانت الحرارة مرتفعة، أو مسدولة الجوانب إذا كان لذلك ضرورة. نتحلّق على ضوء فانوس يعكس على وجوهنا شعاعاً دافئاً خفيفاً، يمكننا من رؤية الحشرات الزاحفة أو الطائرة حتى نتفاداها متى ما سقطت في الطعام. في انتظار أن ينضج الطعام، يدور بيننا كشكول من الأحاديث يحكي فيها كلّ منّا عن طرائف حصلت له في المرعى أو يروي عن بعض ما شاهده. نظل محرنجمين نتبادل الحكي ريثما تضع الخالة بيننا صحناً من الحساء أو العصيدة لنتناولها بمغارف خشبية أو بالأيدي في حال غياب المغارف أو نقصها. وفي وسط الصحن تضع الخالة حفنة من الزبدة الطرية التي أتتبع سيلانها وهي تذوب على الجنبات من سخونة الطعام. لا تخلو حلقة الطعام هذه من دردشة وقصص؛ لكن السمر يحلو مع جلسة الشاي تحكي لنا الخالة عن التجربة التي قضتها بعين عائشة إقليم تاونات رفقة زوجها ومعهم والدتي؛ أو يحكي لنا زوجها عن مغامراته وهو مجند مع الفرنسيين في مواجهة الغزاة النازيين بجزيرة كورسيكا إلى أن أصيب في ساقه وعاد إلى وطنه يعرج برجله اليسرى لا يلوي سوى على إتاوة شهرية مع عكاز وحذاء طبي كل سنة. عدا تيْنك الروايتيْن، كنا نتبادل النكت والحجايات والفوازير مع رشف الشاي حتى يحل بنا النوم، نلتفّ وسط البيدر نفترش أكوام التبن والهيشر ونتدثر بقبة السماء المزينة بالكواكب السيارة والنجوم المتلألئة، وما إن يبصر أحدنا نجماً ساقطاً حتى يطفو إلى السطح تفسيراً لتلك الظاهرة أن أحد الأشخاص قد مات أو أنّ ذلك شهابٌ رُجِم به شيطان أراد أن يسترق السمع. أما البنات فكن يبتن داخل الخيمة في كل الأحوال ويأخذن الركن الموالي لأوني الطبخ على قلتها. لم نكن، نحن الذكور، نبيت بالخيمة إلا في المشتاة حين تنخفض الحرارة وتمطر السماء. ما علق بذاكرتي، في كل صباح، كنا نعاين تلك البراغيث التي كانت تشاركنا الفراش ليلا فتترك لباسنا مزركشاً بنقط الدم علامة على مرورها، كما نعاين خدوشاً من شدة الحكّ لطرد البرغوث أو القمل أو غيرها وهي تهيم فوق أجسادنا.     

غير بعيد عن الجبل الأخضر، تقع جماعة "مطران" التي ينحدر منها والديّ. تجتمع الدواوير التي تتشكّل منها هذه الجماعة كل يوم أحد حيث يعقد سوقهم الأسبوعي. أسواق العونات أربعة: الأربعاء والخميس والسبت ثم الأحد. في السوق الأسبوعي، تتوزع خيام الباعة حسب البضاعة التي يتم عرضها على المتسوقين، وكأنك في قيسارية متعددة التخصص، بحيث يجد الوافد إلى السوق كل ما يحتاجه؛ يكفيه أن يتجه إلى الرحبة المتخصصة في ما يطلبه. يبدأ التجار في نصب خيامهم ليلا؛ أصحاب المقاهي أول من يقيم «قيطونه»، عبارة عن خيمة واسعة من الثوب السميك ذي اللون الأبيض تسع لعدد كبير ممن يفد عليها لتناول وجبة الفطور. فطور يتشكل من حساء «حريرة» مصحوب ببرّاد من الشاي يقوم الزبون بإعداده بنفسه بعدما يقدم له صاحب المحل ما يلزم من إبريق به شاي مغلي مع ربطة من النعناع الأخضر والسكر، وغالباً ما يتناول مع الشاي الإسفنج أو الخبز مع البيض. أول رحبة يبدأ رواجها رحبة البهائم: الأبقار والأغنام والماعز وكذا الحمير والبغال والخيل. في الطرقات الواصلة إلى أبواب السوق الأربعة، تجد من يعترض المتسوقات الحاملات معهن الدواجن والبيض. يعرف السوق ذروة الرواج في الفترة الصباحية، فكل الأزقة تعج بالزبناء الذين يتبضعون حاجتهم الأسبوعية، ولا يؤخرهم عن مغادرة السوق سوى خروج اللحم من المجزرة لينقلبوا إلى بيوتاتهم. وما إخال أحداً منهم لا يشتري الفول والحمص والذي يصطلحون عليه من باب المزحة بالجوز الدكالي. ينفض السوق وتطوى الخيام ظهرا لتشد الرحال إلى سوق آخر لا يبعد كثيراً. عموماً، عشية يوم السوق يتم إعداد وجبة العشاء باللحم والخضر وبعض فواكه الموسم؛ الناس يأكلون اللحم مرة في الأسبوع أو كلما حل عندهم ضيف، ويجتمع على الماعون كل أفراد العائلة، وأحياناً أفراد من القرابة في الدوار.

***

د. محمد رزيق مبارك

الكتابة تجربة إنسانية تجعل الكاتب يدنو من ذاته فيسبر أغوارها ليستكشفها ويكتشفها من جديد.

 ثمة من الكتّاب من يسكب عبراته عبارات مجازية قد تبدو مبالغا فيها، لكن ما كل مجاز مجاز! يدرك ذلك من شفت روحه ورَقّ فؤاده، فيهتز للحروف وجدانه ليرتد صداها القوي بخلده حينما يلامس شيئا ما بأعماقه، ومنهم من يخط بأحرف من نور حكايا الأمل ليتناثر أريج حبره عبقا زكيا بنكهة البهجة والسعادة، وهنالك من يجود بعصارة فكره وخبراته الحياتية والإنسانية لتكون منارة يهتدي بها غيره، تنير دروبهم باستقاء العبر والحكم منها.

 الفصاحة والبلاغة ليست شرطا لازما دائما في الكتابة، على عكس مصداقية الكاتب في حرفه وطرحه، فما نبع من القلب وقر في القلب دونما إذن، ويحدث أن يذهب بالألباب أحيانا جمال وسحر الأسلوب وسموّ الفكر.

قد يكون أسوء ما يحدث للكاتب أن يجف حبره ويتوقف نبضه، فيكبت ولا يكتب، تكمن أحيانا مأساتك ككاتب كونك ضليعا في ترجمة وصياغة مشاعر الآخرين وما يدور حولك في قالب أدبي ماتع وساحر، بينما حينما يتعلق الأمر بالكتابة عنك شخصيا تقف كالمسمار متخشبا بين محبرتك والدفاتر تتأملها في صمت وحسرة!

للكاتب صولات وجولات مع الواقع بين التماهي تارة والتسامي تارة أخرى، بَيْد أنه حينما يتعلق الأمر بالكتابة عن ذاته في أحايين كثيرة يقبع بعالم مواز، مستسلما عاجزا عن الإفصاح! رغم فصاحته يصعب جدا عليه التعبير والإيضاح حين تضج دواخله بما أهمه وألم به وحين تبلغ به فوضى أعماقه مداها وحدًّا لا يطاق يتولد عنده النفور من قلمه بل ربما القطيعة، لتصبح الكتابة غير مستساغة لديه بل صعبة للغاية وحملا يزيد من ثقل كاهله بدل التخفيف من وطأته.

كثيرا ما يتفنّن الكاتب في تصوير الواقع بنظرة ثاقبة وإبداعية، سيما حين يكون هذا الأخير مُريعا فيُضفي عليه مسحة من الإيجابية وشيئا من التفاؤل، وقد يشطح بعيدا بخياله الأفلاطوني، فيحيطه بسياج محكم جاعلا من واقعه المدينة الفاضلة! لكن شتان بين هذه وذاك! كون المثالية ضربا من وهم، تقبع ضمن أحلام وطموحات المصلحين وخيالات الأدباء والشعراء الحالمة البعيدة عن الواقعية، والتي للأسف قد لا تمتّ للواقع بصلة.

صحيح أن الكتابة الإبداعية تعتمد كثيرا على الموهبة، إلا أنه يتوجب لزاما صقل هذه الأخيرة بالمُكنة اللغوية والدُّرْبة المستمرة عليها، فالكاتب المبدع ليس وليد لحظة أو نتاج صدفة (رغم وجود الاستثناءات) فلكل قاعدة شواذ والشاذ لا يقاس عليه.

الكتابة إعادة أَنْسَنةِ الإنسان في عالم طغت عليه المادية، فكادت تصيّره أقرب للبهيمية منه للإنسانية.

للكتابة مخاض عسير أحيانا، كونها عصارة الفكر والفؤاد، تنقيب حثيث بين ثنايا الروح وترميم لشغاف القلب وإماطة للأذى عنه مما لحق به ولملمة لأشلاء وشتات الذات وإعادة هيكلتها مجددا.

***

زينة لعجيمي - الجزائر

 

انتهيتُ من قراءة الرواية الجديدة للكاتب سلمان رشدي "السكين: تأملات بعد محاولة قتل"، فوجدت نفسي أمام عمل لا يشبه شيئًا مما قرأته له سابقًا. هذه ليست رواية بالمعنى التقليدي، ولا هي سيرة مكتملة، بل هي نصٌّ هجين، مرقّط بالوجع، مسكون بجسدٍ لم يعد كما كان، ومحمول على ذاكرةٍ حاولت أن تتماسك رغم الدم.

 الرواية تبدأ من تلك اللحظة التي كادت أن تكون الأخيرة: الطعنات الإحدى عشرة التي تلقاها رشدي في صباح 12 أغسطس 2022، على منصة مركز تشوتوكوا الثقافي في ولاية نيويورك. رجل يحمل سكينًا يندفع من العتمة إلى الضوء، يقفز فوق كراسي القاعة، ليغرس نصل الحقد في جسد كاتبٍ ظنّ أنّ سنوات التهديد والاختباء قد ولّت. لكنّ القدر، أو التاريخ، أو الفتوى القديمة، كان له رأي آخر.

 في "السكين"، لا يتحدّث رشدي كثيرًا عن "العدو". لا نكاد نعرف شيئًا عن هادي مطر، منفّذ الاعتداء، لأنّ رشدي اختار ألّا يمنحه سلطة السرد. هو يتحدث عن الجرح، لا عن الجارح. عن الألم، لا عن الانتقام. النص مشبع بتفاصيل موجعة عن أيامه الأولى بعد العملية، عن الأجهزة الطبية، عن فقده لإحدى عينيه، عن يده المشلولة، عن خواء الجسد الذي تحوّل إلى ساحة حرب.

 لكن وسط كلّ ذلك، ينهض الحب. إليزا. زوجته السمراء، الفنانة، التي صارت صوته حين خرس، وعينه حين عمِي، ويده حين شلّ. في كلّ صفحة من الرواية، هناك اعترافٌ نادر لرشدي: بالضعف، بالحاجة، وبالامتنان. لقد كان دومًا كاتبًا مثقفًا، ساخرًا، عقلانيًا. لكن في "السكين" نرى رجلًا ينهار ويُعاد تركيبه بالكلمات، لا بالمبادئ.

 الرواية لا تنفصل عن عالم رشدي الروائي الأوسع. هو يستعيد بعض ظلال "آيات شيطانية"، لكنه لا يعيد الدفاع عنها. لا حاجة لذلك. ما يفعله في "السكين" أبلغ من أيّ دفاع: يقدّم جسده كحجة. لقد حاولوا قتله من أجل كتاب، فكتب عن الموت كتابًا. هكذا يُخضِع الكاتب النصل للكلمة، ويجعل الألم حبرًا.

يكتب رشدي ما يشبه الصلاة: "الكتابة هي طريقتي في البقاء، وهي انتقامي الوحيد من السكين". هنا يتحول النص إلى فعل مقاومة، لا ضدّ فرد، بل ضدّ فكرة: أن يُكمّم الكاتب، أن يُطعن المفكر، أن يُخرَس العقل.

 "السكين" ليست رواية عادية، ولا سيرة شاملة، بل هي بيان وجودي، يكتبه رجل نجا من موت مؤجل، ليذكّرنا أنّ الكلمة، حين تُؤمن بها، قد تصبح أكثر فتكًا من أيّ سكين… أو أكثر حياة.

***

فؤاد الجشي

 

لو التفت إلينا حنظلة لرمانا بالنّار والحجارة..

إلى حنظلة..

حنظلة، أيّها الصّادُّ الغاضبُ عنّا..

أيّها الصّامتُ السّاخطُ الحامل أوْجاع العُرْب الدّامية..

أيها الواقف العاقد يديه حلف ظهره منذ نصف قرن ويزيد..

لعلّ رأسك تعُجُّ بالصُّور، التي تحمل مآسينا والخنوع، كما أبدعتها بغضبٍ وقهرٍ أنامل المقتول غدراً «ناجي»..

أيّها الشّاهد الذي يُذكّرنا عجْزنا وتقاعسنا وتخاذلنا، ورُبّما سيشهدُ اندثارنا.

لا تخطئُه العين، طفلٌ في العاشرة من عمره، حافي القدمين، مرقّع الثّياب، عاقدٌ يديه خلف ظهره، لا أحد يعرف تفاصيل وجهه الطفولي، يحمل كلّ الجنسيات كما يُقدّمه مبدعه ناجي العلي، «أنا مش فلسطيني، مش كويتي، مش لبناني، مش مصري.. محسوبك إنسان عربي وبس» . واقفٌ موَلّي وجهه شطر الأفق العربي الغامض الملوّن بالسّواد، احتجاجا على خنوع العربي ورُخص كرامته.

حنظلة، يحمل مُرَّ الحنظل في حلقه، والألم الدّامي في قلبه، وحده في وقفته، غير منعزل، صامد في رفضه. حين سُئل ناجي متى نرى وجه حنظلة؟ قال: «عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يستردّ الانسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته»، فهل سنرى وجهه وقد استشهد مبدعه؟ ليظل السؤال معلّقا إلى الأبد.

لماذا أخفى حنظلة عنّا وجهه؟ لعله أربأ بنفسه إن التفتَ إلينا أن يرمينا بالنّار والحجارة، أو يسب الزّمن الذي وضعه بيننا، بين أناس لا يسعون إلى الكرامة والحرية الإنسانية، ولا يدركون أو تغافلوا عن مصير يدفعهم إلى الحضيض والاندثار رغم ما يملكون من قوة مالٍ ما لا تحصيه الأرقام والحسابات والسّجلّات.

حنظلة، رغم أنه يدير لنا ظهره، إلاّ أنه يعرف ما نحن فيه من خيبات وانتكاسات وإقصاء وخنوع وصمت، ليته تكلّم أو التفت، ليته رمانا بالحَجَر لنستفيق وننتبه. في وضعه ذاك يؤلمنا، صمته القاتل، يحرجنا ويُعرّينا ويفضحنا، لو استدار نحونا وأرانا وجهه، وقال ما يؤلمه فينا، ونحن أعلم به، لكنّنا نسكت عنه ونتغافل، وننتظر من يبادر، فلعلّه يبادر، لعلّه الشرارة حين يلتفت، لعلّه، وهو الطفل ذو العشر سنوات، يعطينا المثل فنقوم من سباتٍ طال أمده.

كأني به، لو التفت إليها لقرأنا في وجهه الغامض أسئلة تكوي الجباه والقلوب، هل يفهم العربي معنى الكرامة؟ وهل يدرك معنى الغضب؟ وهل يعي ما الحرية؟ وهل نسي العربي أن يبحث عن معنى الكرامة، أم انطمس منّا العقل وعميت علينا القواميس والمعاجم؟ لو التفت إلينا الطفل الغاضب لسأل سؤالا بألف سؤال، ما حالُ غزّة الجريحة؟ ما حال الحال والمآل؟ من منّا سيتكلّف بالجواب؟

عذراً حنظلة، لم نجد من ينبري لك بالجواب، ولا كيف سيكون الجواب، وحال العُرب يُغنيك عن السؤال وعن الجواب.

أنت في ركنك مكشوفٌ، ونحن هنا، بكل العُري العربي المفضوح، نمضغ سؤال المسرحي الفرنسي، جان جونيه حين زار مخيميْ صبرا وشاتيلا، «لماذا العرب عراة إلى هذا الحد؟» أيُّ حدّ هذا الذي يقصد هذا المسرحي الفرنسي؟ هل بعد هذا الحدّ الذي وصلناه حدّ؟

اُنظر إلينا أيها الطفل الضّاجّ بالألم والغضب، كيف وقد وعيْت ما نحن فيه، قل شيئاً، صمتك هذا عذاب، أيها الطفل المترع بالمآسي والخيبات، هل سنظلّ نبحث عنك رغم قُرْبك منّا؟ وهل قدرُنا الانتظار، انتظار من يبادر، من يسأل، هل سننتظرك يا حنظلة لتبادر؟

عذراً حنظلة، عذراً لغزّة أيها الشاهد بعيون بريئة على الخراب واليأس والضياع الذي ضرب ويضرب غزّة، هل سيبقى وجهك مُختفيا ما بقي هذا الواقع المؤلم؟ إلى متى ستبقى مُشيحا بوجهك عنّا؟ اصرخ فينا عسى أن تمتدّ منك إلينا قناطر العبور إلى الحلم العربي، إلى الأرض التي باركها الله والأنبياء، إلى الإنسان العامر والدّافق بالحب والخير.

حنظلة، يُخزّن في ذاكرته الشّتات وهول الفواجع، وتزايد النكبات والتراجعات والانكسارات، كما يُخزّن من الحُزن ما يهدُّ الجبال، شاهدٌ، وهو في كامل وعيه، على المسوخ التي ينظر إليها، يراقبنا عن بعد، يسمع همس من يسيرون فوق أرض غزّة يُرتّقون ما انقطع منها بخيوط من دمهم الزّكي، لا تنازل، لا مساومة، حنظلة يواصل حلمه، يجمع الشتات الفلسطيني، يصله بالعزيمة والاصرار والصبر وكثير من العناد، لأنّه الحد الفاصل بين العتمة والنّور، بين الغضب والثورة، بين الخوف والإيمان والحياة والموت.

لو التفتَ إلينا حنظلة لقال كلام موجعا، هو الآن يدير لنا ظهره، وقد آلمنا ذلك، فكيف إن بادر والتفت، ونظر إلينا، نحن المتسولون سلام الضُّعفاء، نحن الّذين تشاركنا اقتسام «كعكة فلسطين»، نحن الذين وقفنا نتفرّج بغباء على الأحذية الهمجية تجوب أرض الأنبياء، فأنت أكثر منّا ذكاء وجرأة، واجهتَ أكثر من هزّة، تتمنّى الأمهات الأحرار أن يلدن مثلك يحملون همّ العُرب، ثقلا تنوء به الجبال، ويعيا بحمله «سيزيف» الأسطورة. أنت في هدوءك الغاضب، ووقفتك الثّابتة، في هيئتك وأنت تعقد يديك خلف ظهرك كهرم يحمل هموم الزّمان القديم، غير آبهٍ بالزّمن وتحولاته، همّك أن ترى فلسطين حرة، وغزّة توزّع على العاشقين والمؤمنين العزّة.

رجوته أن يلتفت إلينا، لكنّه ولعلّه بنظراته الشّزر يقول «أعرف كثيرا ممّا تعرفون أيها المنغمسون في الأحلام العابرة»، ظل واقفا وقفته في انتظار أن نبادر.

حنظلة، أيها الحامل وصايا الأمهات اللواتي، رغم القهر غرسن أزهار الإصرار، لينبت خبزاً للأطفال الجائعين، واللائي أرضعن الصغار حليب الكرامة والعزة، أيها الواقف على تخوم المواجهة، متى نفهم الوصايا وتخرج من صمتك الأبدي.

***

عبد الهادي عبد المطلب

المغرب/الدار البيضاء يونيو/حزيران 2025

هات حفنة من ترابك كي أمسح عيني

يتبعني الضباب

ومن أعالي الحزن، أترقب صوتك

وأعود لأنفض أرق الليل

مازال صدأ الانتظار يلوّن ملامحي

ومازلت أحتفظ بتذكرة مسرح في دولابي

ما رأيك أن نعدّ أنفسنا للذهاب؟

الشاعرة خديجة كربوب.

***

في هذا النص الشفيف، تفتح الشاعرة خديجة كربوب كوة على عالم متخم بالحنين، محكوم بالانتظار، ومشبع بعبق الرموز المضمخة بألم الغياب. قصيدة مكثفة، يهمس فيها الحزن ولا يصرخ، ويتحول فيها الزمن إلى بطء داخلي ينعكس على الملامح والذاكرة معًا.

العبارة الافتتاحية "هات حفنة من ترابك كي أمسح عيني" لا تُقرأ بمعناها الظاهري، بل بوصفها استعارة ممتدة لطلب الانتماء، للتطهّر من الغربة، لرؤية الأشياء من جديد عبر تراب يشبه العطر الأول أو اللمسة الأولى للوطن/للحبيب/للذات.

"يتبعني الضباب"، ليس ضبابًا في الأفق، بل ضبابٌ في الروح. ضباب يُغيّب الملامح، يربك الطريق، ويترك الذات نهبًا للتيه.

ثم يأتي الترقب من "أعالي الحزن"، حيث يرتقي الحزن مرتبة الارتفاع، ويصير أعلى من الجسد، أعلى من اللحظة. ترقُّب الصوت في هذه الذروة الشعورية يكشف حاجة إلى المعنى، إلى التماسك، إلى الخروج من الشرنقة الثقيلة للصمت.

"أعود لأنفض أرق الليل"، وكأن الأرق صار غبارًا يلتصق بجسد الشاعرة، بذاكرتها، بعينيها. الليل هنا كائن مُتعِب، لا يمنح العزاء بل يضيف وجعًا آخر.

"مازال صدأ الانتظار يلوّن ملامحي"، وهي من أجمل صور النص، فهنا يتحوّل الانتظار إلى عنصر زمني مؤذٍ، لا يكتفي بالسكون، بل يترك أثرًا بصريًا على الوجه، على الملامح، كأنه الصدأ الذي يعلو المعادن المنسية.

ثم تكشف الشاعرة عن احتفاظها بتذكرة مسرح في دولابها، وهذه الصورة وحدها تحمل سردًا كاملاً. إنها لحظة مؤجّلة، عرضٌ لم يُعرض، موعد لم يُكتمل، وحياة تنتظر أن تُستأنف.

وتنتهي القصيدة بدعوةٍ خافتة، هادئة، مليئة بالرجاء: "ما رأيك أن نعدّ أنفسنا للذهاب؟"، ليست مجرد دعوة للذهاب إلى المسرح، بل ذهاب إلى الحياة، إلى ما بعد الغياب، إلى إكمال المشهد.

قصيدة خديجة كربوب تنتمي إلى طراز الكتابة النقية، حيث لا كلمة في غير موضعها، ولا شعور يُقال إلا في لحظته الحقة. نصّ يسكُن القارئ ولا يمرّ به مرور العابرين.

***

قراءة: عبد العزيز الناصري

وُلِد الكاتب الاسباني ميغيل دي سيرفانتس في ألكالا دي إيناريس حوالي 29 سبتمبر 1547. كان والده جراحا و حلاقا، أي أنه عاش حياة متجولة بين المدن القشتالية المختلفة. استقرت عائلة ثيربانتس في مدريد عام 1566، وظهر اسمهم في عام 1568 في نهاية بعض المؤلفات حول وفاة إيزابيل دي فالوا، الزوجة الثالثة لفيليب الثاني. كان في إيطاليا عام 1569، وشارك هناك في معركة ليبانتو الشهيرة عام 1571، حيث هزم انذاك التحالف المقدس العثمانيين الأتراك، وفي هذه المعركة فقد الكاتب يده اليسرى. ومنذ ذلك الحين بات يُعرف بلقب "الرجل ذو اليد المبتورة من ليبانتو". يذكر ان عند عودته إلى وطنه، إسبانيا، تعرضت السفينة التي كانت تقله ويسافر على متنها لهجوم من قبل بعض القراصنة من البربر، وتم أسره ونقله إلى الجزائر العاصمة. حيث طالب الخاطفون فدية كبيرة، لم تحصل عليها الأسرة إلا بعد خمس سنوات. وحين عاد دي سيرفانتس إلى إسبانيا تزوج من الانسة (كاتالينا سالازار إي بالاسيوس)، والتي كانت تبلغ انذاك من العمر ثمانية عشر عامًا.

بحلول سن السادسة والثلاثين كان قد انتهى من كتابة رواية "لا جالاتيا"، وهي رواية جلبت له بعض المال. قرر في البدا أن يكرس نفسه لكتابة الكوميديا، وهو ما بدا أكثر ربحا في ذلك الوقت، ولكن على الرغم من أنه كتب عددًا لا بأس به من الكتب (حوالي ثلاثين)، إلا أنه لم يكتب سوى القليل منها للبحث والحصول على عمل وكسب قوته. لكن تم تعيينه جامعاً للضرائب، ولكن المصرفي الذي أعطاه بعض المال أفلس، وتم إرساله إلى السجن، حيث بقى في السجن لمدة خمسة اشهر حيث يعتقد أنه بدأ كتابة روايته الشهيرة عن دون كيخوت هناك.

الرواية دون كيخوت يحكي قصة رجل يمكن اعتباره عبقريا او مجنونا يدعي دون كيخوت من لامانشا بدأ بكتابتها 1605في مدريد. لقد حقق نجاحًا بعد نشره مباشرة ، ولكن دون اي ريع مالي لصاحبه، الذي واصل كتابة أعمال أخرى دون توقف. أربعة عشر عاما. تحكي قصة هذاً الرجل النبيل الذي أصيب بشىء من الجنون من كثرة قراءة روايات الفروسية. بدا يعتقد أنه فارس، فخرج مع حصانه القديم وصديقه (سانشو بانزا) السمين لحل مشاكل الأشخاص الذين التقى بهم، والأهم من ذلك، محاربة الظلم. أهدى نجاحاته إلى حبيبته زوجته دولسينيا ديل توبوسو. خلال رحلته، يواجه العديد من المغامرات والعديد من المصائب. وينتهي به الأمر دائمًا إلى ان يضرب ويجرح بشديد، كما حدث في مغامراته مع طواحين الهواء، والتي كان يعتقد أنها من العمالقة ويواجه الاعداء . وطبعا هناك حبيته زوجته التي يعشقها في صورة عاطفيةً وخياله كذلك. بعد العديد من المغامرات، يعود دون ألونسو كيجانو إلى منزله ليموت مع عائلته.

في عام 1614 ظهر الجزء الثاني من الرواية، كتبه شخص يدعى أفيلانيدا، الذي ادعى أنه استمرار للجزء الأول. انذاك أُجبر الكاتب ميغيل دي سيرفانتس ، الذي كان مريضًا بالفعل، على كتابة جزء ثانٍ من روايته دون كيخوت ليطلق عليه النسخة غير القانونية. صدر الجزء الثاني من الرواية الأصلية في عام 1615. وظل دي سيرفانتس يمارس الكتابة عملياً حتى يوم وفاته في 23 إبريل/نيسان 1616م في بيته بمدريد. يعتبر دي سيرفانتس الاسم الأكثر شهرة في عالم الأدب الكلاسيكي الإسباني وهناك معاهد تعليمية ومؤسسات باسمه كما يطلق اسمه على الشوارع والابنية وحتى على الفنادق.

***

د. توفيق رفيق التونچي

 

تزخر الصين بكثير من الآثار والمعالم الثقافية والتراثية المؤثرة في خارطة البلاد السياحية الواسعة (قبور مينج المقدسة، مومياوات تاريم، ضريح الإمبراطور كين شيهوانج، مباني فوجين تولو، تمثال ليشان بوذا العملاق.. الخ)، خصوصا في بكين (بيجين) وجيايوقوان ودانون وتيانجين وتشينهايقوان وينتسوان وووي وتشانغيه وداتونغ وغيرها. وقد صدر في عام 1982 قانون حماية التراث من أجل حماية وادامة وصيانة الآثار والأعمال التراثية، وتم اصدار (30) لائحة من أجل تسهيل تنفيذ هذا القانون. مع وجود أكثر من (2300) متحف تضم ملايين القطع والأعمال الاثرية المختلفة من مختلف الأزمنة، بالإضافة إلى عدة ملايين موجودة لدى هواة التحف والانتيكات، و(1،670) مليون قطعة مسروقة ومهربة إلى خارج البلاد ومعروضة في (200) متحف من (47) دولة تقريبا، وفقا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو). وتم استعادة (20000) منها سنويا وذلك بفضل الجهود الحثيثة التي تبذلها الحكومة الصينية في هذا المجال منذ سنوات. بالإضافة إلى (1271) موقع أثري خاضع للحماية المركزية على نطاق المقاطعات ونحو (7) آلاف موقع على نطاق المحافظات. ومن أهم هذه الآثار (سور الصين العظيم) (تشانغ تشينغ) موضوع مقالتنا هذه والذي يعد أبرز وأهم معلم سياحي في جمهورية الصين الشعبية على الاطلاق. وقد أدرجته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) في عام 1987 في قائمة التراث الثقافي العالمي، وأختير بتاريخ 7 تموز 2007 كأحد عجائب الدنيا السبع إلى جانب تمثال السيد المسيح في البرازيل ومعبد تاج محل في الهند ومدينة البتراء في الأردن وآثار ماتشوبيتشو في بيرو وهرم تشتشين ايترا في المكسيك والمدرج الدائري في إيطاليا. ويعد الاستفتاء عليها وعلى غيرها من المعالم العجيبة في العالم من قبل (100) مليون شخص تقريبا على نطاق العالم ومن مختلف البلدان وعبر الشبكة العنكبوتية (الانترنيت) والهواتف بمختلف أنواعها. ويعود تاريخ المباشرة ببناء (سور الصين العظيم) (تشانغ تشينغ) إلى بدايات القرن ال (4) قبل الميلاد بحسب بعض المصادر الموثوقة، ولدوافع عسكرية بحتة وفقا لحاجة البلاد وأيضا ليكون رمزا للقوة والهيبة ولهدف اقتصادي أيضا يتمثل في تنظيم التجارة والتبادل التجاري بين الصين والجيران مع تعزيز التصدير والاستيراد على امتداد طريق الحرير وإيجاد فرص عمل كثيرة لسكان المناطق الواقع فيها. واستمر العمل فيه حتى أوائل القرن (17) الميلادي، وبمشاركة ملايين من العمال (500 الف شخص منهم قضى نحبه أثناء العمل فيه لاسباب عديدة كالمرض والحوادث)، ليمتد نحو (6400) كلم تقريبا، ومن (تشنهو انغتار) على خليج بحر (بوهاي) شرقا إلى (غاوتاي) في (غانسو) غربا. وهناك اكتشاف حديث بخصوص هذا السور أعلن عنه مؤخرا الباحث البريطاني (وليام ليندسي) وأشارت إليه صحيفة (دايلي تلغراف) البريطانية، والمتضمن عثور الباحث المذكور على جزء لهذا السور في صحراء (غوبي) عبر الأراضي المنغولية وبطول (100) كلم تقريبا، ويعود تاريخه إلى (120) سنة قبل الميلاد، وهو غير موضوع على الخرائط الجغرافية الحديثة، بعد أن أكب على دراسته منذ عام 1986. وقد نالت من هذا الصرح المعماري العظيم براثن الدهر العسوف، وأثرت فيه عواقب الزمن الظلوم وأضرت به أعمال التنقيب الكثيرة غير المشروعة المجراة في المناجم القريبة منه، وبصورة متكررة وعلى نحو عشوائي وغير مدروس وجائر إلى أبعد الحدود، وذلك خلال فترات زمنية مختلفة، وذلك بحثا عن النيكل والنحاس والحديد وغيرها من المعادن التي ازداد الطلب عليها بمرور الزمن لاكثر من سبب ولعدة أغراض، الأمر الذي أضر به كثيرا وبمستويات مختلفة وفقا للحالات المتوزعة على امتداد السور المذكور. وكانت النتيجة تضرر نحو (70 – 80) بالمائة منه على نحو واضح وبدرجات مختلفة. الأمر الذي  دفع السلطات المعنية إلى تبني خطة ترميم وصيانة مستعجلة وطويلة الأمد وشاملة لهذا الصرح وبكلف عالية جدا، مع التركيز على الأجزاء المتداعية والأكثر تضررا لتدارك الخسائر والأضرار الواقعة بقدر الإمكان، وتلك الواقعة في المناطق النشطة سياحيا، أي تلك التي يرتادها السياح على نحو واسع وكثيف خلال الموسم السياحي وخارجه، ومنها جزء من (بادالينغ) (80 كلم شمال غرب بكين) من (يانتشينغ) في (باين) الذي فتح أمام الزوار والسياح اعتبارا من عام 1975، ويستقبل نحو (60000) زائر في اليوم الواحج كمعدل، ولقاء رسوم دخول رمزية (45 يوان)، وتتوفر في محيطه مرافق ومنشآت إيواء واطعام وشراب وتلفريك وغيرها كثيرة. وأيضا الجزء الواقع في حدود بكين، ويمثل (20) بالمائة تقريبا، وجزء (جيتشاتلينغ) على الحدود بين (مييون) و(خبي) بطول (10،5) كلم، والمدرج من قبل مجلس الدولة ضمن قائمة (المواقع الأثرية المحمية مركزيا) اعتبارا من عام 1988. وقد أعلنت (مصلحة بكين لتخضير البساتين والغابات) في 21 تشرين الثاني 2007 عن مخطط عام لمنطقة السور شاملة المعالم والمناظر الممتدة من (باداكينغ) على (شيسانلينغ) من أجل تنظيم والسيطرة على الحركة السياحية الكثيفة المتوجهة للمنطقة، دون الاخلال بأعمال الترميم والصيانة الجارية فيها على قدم وساق. وتشير الاحصائيات الوطنية إلى استقطاب سور الصين العظيم ل (5) ملايين زائر سنويا في عام 2001، أنفقوا (150) مليون يوان على شراء التذاكر الخاصة بدخول بعض المعالم الجاذبة والمشوقة فيه، أي ما يعادل (18) مليون دولار أمريكي، و(10) ملايين زائر في عام 2007، فكان بحق أهم معلم سياحي في البلاد التي جاءت كثالث مقصد سياحي على نطاق العالم في عام 2010، وذلك باستقبال (56) مليون سائح دولي تقريبا من أصل (935) مليون سائح على مستوى العالم، ويمثل الرقم الأخير حجم الحركة السياحية الدولية في العام المذكور. وقد استحق بذلك ليكون من أهم المواقع السياحية على خارطة السياحة الوطنية والدولية. علما كان هذا السور موضوعا حيويا للعديد من الأعمال الأدبية والفنية الصينية الخالدة منذ القدم، وقد منح عدة ألقاب اعتزازا وتفاخرا به ومنها (التنين الطائر)، كما وصفه الرحالة الإيطالي المعروف (ماركو بولو) ب (أعجوبة الشرق)، وتم الإشارة إليه بقوة في النشيد الوطني الصيني (مسيرة المتطوعين) المكتوب في عام 1935 من قبل الكاتب المسرحي (تيان هان) وتلحين الموسيقار (نيه أر) وجاء فيه (انهضوا، يا من ترفضون العبودية، لنبن بلحمنا ودمنا سورنا العظيم الجديد..).

***

بنيامين يوخنا دانيال 

.........................

* عن (مقالات في السياحة) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2012.

 

في اكثر من لقاء طلاب وادبي ايضًا طرح عدد من المشاركين السؤال: كيف يضع الكاتب الفنان قصته. من أين يبدأ وكيف يشرع في الكتابة ويواصلها إلى النهاية المقنعة المنشودة، بحيث تأتي قصته مقبولة من جمهرة القراء وصالحة لاطلاعهم عليها وربما تأثرهم بها.

سبق وطُرح هذا السؤال وامثاله على العديد من الكتاب العرب والاجانب، وقد تعددت الاجوبة عليه، وتنوعت فمن قائل ان القصة قد تولد من جملة عابرة او مشهد لافت/ يوسف ادريس وجابرييل ماركيز مثلًا، إلى قائل ان القصة قد تولد دون كبير اعداد وتحضير وانها قد تبدا ، تنمو وتتطور وفق نسقها وسياقها الخاص بها/ نجيب محفوظ، إلى قائل إن القصة تحتاج إلى ترتيب وتنسيق مسبقين، وفق ايحاء من حادثة متخيلة عابرة قد لا تلفت احدًا اخر غير كاتب القصة/ حسين القباني. إلى قائل إن القصة ما هي إلا عملية حفر في معنى ما او احساس ما وتهدف في كل ما ترمي اليه إلى تجسيد ما يريد ان يوصله كاتب القصة الى قرائه/ ادجار الان بو.

على هذا ومن منطلقة اتفق الكتاب واقروا بالمجمل على ان كاتب القصة المبدع لا ينقل عن الواقع وانما هو يعيد تشكيله في قصة ذات معنى وتمثل وجهة نظر، وقد اتفق الدارسون وكتاب القصة في هذا السياق على ان القصة يفترض ان تعتمد المخيال الادبي وتتوسل به لتوصيل ما تود ان توصله إلى قارئها، كما اتفقوا وهذه نقطة هامة جدًا، على ان هناك فرقًا كبيرًا بين القصة الصحفية التي تعتمد الواقع الصرف عمودًا فقريًا لها وبين القصة الفنية التي تُبحر في عالم التخييل مقتنصة من الواقع بعضًا من تفاصيله ومعيدة بنائه في الآن ذاته.

القصة بهذا المعنى لا تختلف كثيرًا عن اللوحة الفنية والقطعة الموسييقية، وانما هي تتشابه معها وتتقاطع لا سيما فيما يتعلق بأهمية التخييل الابداعي في تكوين صاحبها لها وفي تشكيله لما يراه من وقائع سيقوم بتوظيفها في قصته، هذا التشكيل قد يتم منطلقًا من واقعة حقيقية إلا أنه لا يعيد سردها بما زخرت به من وقائع، وانما يسعى لإعادة تشكيل ما ضمته من وقائع بحيث تتحول إلى قصة فنية .. قصة اخرى تشبه تلك التي حدثت إلا أنها لا تنسخها، وإلا باتت قصة صحفية لا تحتاج إلا الى نوع من المهارة ليقوم بكتابتها كاتب صحفي ما ويقدمها وجبة مفيدة ومسلية لقرائه. ان عملية التخييل في كتابتنا للقصة تمحنها حياة اخرى وبُعدًا آخر حتى لو قامت هذه القصة على واقعة حقيقية او اعادت بناء هذه الواقعة. يزيد في هذا انه يفترض ان يكون لكل قصة راويها، إضافة لكاتبها، لتوضيح هذا اقول ان الكاتب هو من يكتب القصة اما الراوي فهو شخصيتها المركزية، الشخصية التي يقدمها كاتبها من وجهة نظر راويها وعلى لسانه. ان دور الراوي في القصة يعتبر دورًا اساسيًا، ذلك ان ما تقدمه القصة وتحفل به من وجهة نظر، انما يأتي ضمن عملية تخييل صرفة.. تفترض الرؤية العيانية/ وجهة النظر الخاصة بالراوي وتعبر بلغته.. وفق الحالة.. حزنًا، سخرية او فرحا.

هنا يبرز السؤال ما هو دور كاتب القصة في تشكيلها؟ اجتهادًا في الاجابة على هذا السؤال اقول ان دوره كبير فهو مَن يتخيل ومن يخلق شخصية راوي قصته، غير انه يفترض أن يقوم بهذا كله بعيدًا عن الظهور وابعد ما يكون عن المباشرة، انه يقدم راويه معتمدًا على خبراته وتجاربه التي اكتسبها طوال سنوات عمره الماضية، لهذا يفترض ان تأتي قصته متضمنة تجربة نمطية شاملة تتجاوز ما هو شخصي في محاولة للوصول إلى ما هو انساني ويخاطب المشاعر البشرية في عمقها الموحِّد لكل ابناء البشرية. إن كاتب القصة الفنية الجديرة بهذه الصفة انما يغترف ما يكتبه ويقدمه للناس من قصص.. من خزان تجاربه وليس بالضرورة من تفاصيل حياته الشخصية او تفاصيل ما حدث او قد يحدث لمحيطين به.

هكذا يكتب كاتب القصة الفنية قصته وهكذا يجعلها قادرة على تجاوز ما هو شخصي، مع اهمية التجربة الشخصية، الى ما هو عام وانساني.. جدير بالقراءة اولا وبالبقاء ثانيا.

***

هواجس: ناجي ظاهر

لم أكتب هذه النصوص لأُعلّم، بل لأتذكّر. لأجعل من لحظاتي المتناثرة خيطًا يشدّني نحو ذاتي، ويمنحني توازنًا وأنا أرقص بين أدوار كثيرة.

العِلم بالنسبة لي لم يكن رفاهية، بل كان مرآتي الداخلية حين تغيب عني باقي المرايا. هو الهواء حين تخنقني المسؤوليات، والماء حين تجفّ الروح، والطعام حين يكون التعب أقوى من الشهية.

كل حرف ليس إنجازًا، بل وقفة. وربما وجدتِ فيه نفسك، أو تذكرتِ صوتًا داخليًا خافتًا حاول أن يتكلم يومًا... فأرجوكِ، دعيه يتكلم.

دفتر لا يعرف النوم

في كل مساء، حين يخلد الجميع للنوم، أفتحه كما تُفتح نافذة سرّية على ذاتي. لا أنوي أن أدوّن شيئًا عظيمًا، فقط أسجّل صوت الحياة بداخلي. أحيانًا أكتب: اليوم تعبت. لكنّي قرأت ثلاث صفحات من كتاب المنطق... وما زلتُ هنا.

وأحيانًا أكتب: شعرتُ أنني هامش في قصة الجميع... لكنّي صنعتُ هامشًا لي وحدي، وأضأت فيه شمعة من فِكر.

ذلك الدفتر لا يعرف النوم، تمامًا مثلي. نحن الاثنان نتقاسم العناء، ونستتر بالحبر.

مِن صمتِ الجدران

 ثمة جُدران تشهد أكثر مما نُدرك. لا تتكلم، لكنها تحفظ. تحفظ نبرة صوتي حين أقرأ، وتحفظ تنهيدتي حين أفشل في الفهم، وتحفظ ضحكتي المباغتة حين أكتشف شيئا جديدا.

كنت أظن أني وحدي من تسمعني الكتب، لكنّني بدأت أسمع الجدران أيضًا. كأنها تقول: “هذه الجملة ناقصة... أتمِّيها، اللغة لا تتكلّم فقط في الفصول والمفردات، بل في الفُسح بين الأصوات، في صمت المساء، في انحناءة الضوء على ورقة مفتوحة.

ماذا بعد ...؟

حين تلقيتُ الخبر: تم نشر البحث في العدد الجديد...، لم أحتفل، لم أقفز، لم أصرخ، لم أبكِ. فقط وضعتُ الحاسوب جانبًا، وفتحت النافذة، الهواء ذاته، السماء كما هي...شعرت كأن شيئًا داخلي قد هدأ، لا لأنه وصل، بل لأنه أدرك أن الوصول ليس نهاية الطريق، بل بدايته.

ما كنتُ أبحث عنه لم يكن النشر... بل تصديقٌ داخلي أن جهدي ليس وهمًا، وأن ذاتي الموزعة بين العمل والمسؤوليات... ليست متناقضة، بل متكاملة.

ثم جاء السؤال الأكبر... ماذا بعد؟ هل أواصل لأثبت شيئًا للعالم؟ أم لأثبت لنفسي أن المعرفة لا تكتمل أبدًا، وأن كل إجابة تفتح ألف سؤال؟

جلستُ أكتب: إيماني الآن ليس بأنني وصلت، بل بأنني وُجدتُ لأطلب، لأفكّر، لأتساءل... وأن العلم ليس منزلًا أسكنه، بل طريقًا أمشيه، حتى آخر الحرف، وآخر النَفَس.

ضدّ الجاذبية...

بعض الأيام، تكون الأرض أثقل من المعتاد. الوقت بطيء، والأفكار مثقلة، والإنجازات السابقة تبدو بعيدة، كأنها إنجازات امرأة أخرى لستُ أنا.

يقولون إن لكل شيء جاذبية: الأرض، الحزن، وحتى التعب... لكنهم لا يتحدثون عن جاذبية المعرفة، هذه التي تجعلني أقوم من فراشي رغم السهر، رغم المرض، لأفتح كتابًا بينما الجميع نيام.

أن أستمر لا يعني أنني لا أتعب، بل يعني أنني لا أُسلّم نفسي لما يُريد أن يُسكت صوتي الداخلي.

أحيانًا، لا أكون طموحةً بقدر ما أكون مُتمرّدة على حدود رسمها لي غيري: سنّي، دوري، مكاني، طاقتي، أشخاص حولي ... كلّها محاولات لربطي بالأرض، لكن العلم يمنحني أجنحة تجعلني أحلق هاربة من كل شيء.

أنا لا أطير، لا أتسلق جبالًا، ولا أقف تحت الأضواء. أنا فقط أُكمل جملةً بدأتها بالأمس، وأراها اليوم تكتمل.

 بين الجُمَل...

كثيرًا ما يُخيَّل للناس أن الحياة تكمن في العبارات الصريحة، في الجُمل المكتملة التي تنتهي بنقطة أو علامة تعجّب. لكنني وجدتُ نفسي بين الفواصل، في تلك الوقفات الخفيفة التي لا يلتفت إليها أحد.

أُحبّ ما بين الجُمل، لأنني هناك لا أكون ملزَمة بأن أُثبت شيئًا. ليس مطلوبٌ مني حُجّة، ولا ينتظر أحدٌ نتيجة. إنها اللحظات التي تُقال فيها أعمق الأفكار على استحياء، حين يصمت العالم وتتكلم الذات.

أحلم أحيانًا بأن أكتب نصًّا كلّه فواصل... بلا بداية ولا نهاية، فقط تتابع لما لا يمكنني قوله.

وبينما أراجع مقالةً أكاديمية، كثيرًا ما أتوقف، ليس عند الادّعاء أو البرهان أو نظرية، بل عند تلك اللحظة التي يسكت فيها الكاتب ليلتقط أنفاسه... هناك، أنتمي.

أن أعيش بين الجُمل لا يعني أنني ضائعة، بل أنني أقيم في المساحات التي تُترك لتتنفّس. الهوامش هي طريقتي لأقول: أنا هنا...

أتنفّس علمًا...

حين بدأتُ، لم أكن أبحث عن منصة أرتقيها، ولا عن لقبٍ يتقدّم اسمي. كنتُ فقط أبحث عن هواء أتنفّسه في زحمة الواجبات، بين الجدران الصامتة، وتحت سقفٍ كثير الانشغالات كتبتُ قرأتُ لأنّ الحروف كانت ماء قلبي. ودرستُ لأنّ الجهل كان يخنقني.

وحين تنُشر أعمالي، ويتلألأ اسمي على صفحاتٍ...لا أشعر بالظَفَر… بل بالتصالح. كأنني عدتُ إلى ذاتي الأولى، تلك التي كتبت في دفتري: لأعرف، لأفهم، لأكون، ذاتي التي ولدت معي قبل أن تسرق مني...

العِلم، يا رفيقتي، لم يكن سُلّمًا أعلو به على غيري. بل سلّمًا أستعيد به نفسي، شيئا فشيئا. وأعلمُ الآن أنني سأُكمل، لا لأصل، بل لأُبقى حية.

***

بقلم: غزلان زينون

رحم الله سنوات الستينيات والسبعينيات، إلى ما قبل فاتحة القرن الجاري، ايامها كان صدور رواية يتسبّب في تحريك الحياة الثقافة فكانت الصحافة تبادر الى الكتابة عنها، كما كان النقاد يبادرون للترويج لها لافتين القراء الى اهميتها اذا كان فيها ما يستحق وما يوحي بولادة عبقرية روائية جديدة، كما حدث مع الكاتب السوداني الطيب صالح، عندما اصدر روايته "موسم الهجرة الى الشمال"، في سنوات السبعينيات الاولى، فقام الناقد رجاء النقاش باللفت اليها، ليشعل جذوة اهتمام بها ما زالت متوهجةً.. بشكل او بآخر.. حتى ايامنا هذه.

اليوم في هذه الفترة المُسربلة بضباب الغموض وسديمه الممتد، اختلف الامر، فها نحن نشاهد سيلًا عرمرمًا من الروايات يصدر بصورة يومية او شبه يومية في عالمنا العربي خاصة، حتى اننا بتنا لا نستهجن ان يقوم كاتب واحد.. فرد.. بإصدار اربع روايات دفعة واحدة، صحيح ان ذلك الكاتب قد يكون كتب هذه الروايات خلال سنوات، غير ان اصدارها بهذه الصورة.. دفعة واحدة.. ان دل فانه يدل على حالة مستجدة في حياتنا الثقافية والروائية بصورة خاصة.. حالة تستوجب النظر والمعاينة.

اعرف انني لا اتي جديدًا بملاحظتي هذه فقد لفت اليها وكتب مثلها آخرون، ومن المؤكد انه سيكتب عنها آخرون وآخرون غيرهم، غير ان السؤال الجدير بالطرح في رأيي هو لماذا وصلنا الى مثل هكذا وضع، لا مبالاة من الكتاب بين قوسين، تقابلها لامبالاة من النقاد والمهتمين، ومع هذا يتابع سيل الروايات جريانه، فيما يتابع كتبتها اصدار الرواية تلو الاخرى غير عابئين بانهم انما يكتبون ما قد لا يستأهل القراءة والاهتمام، ومقتحمين ملكوتًا لا يمكن للمرء اقتحامه الا بعد التسلح بالاطلاع والتجربة الصادقة العميقة. يعود السبب في هكذا وضع.. الى اكثر من سبب وسوف اجتهد فيما يلي في ايراد اهم ما اراه من اسباب، اورد بعدها مجمل ما اود قوله. فيما يلي عدد من اسباب الاقبال الجنوني على كتابة الروايات واصدارها.

* التغيرات الحاصلة في حياتنا المعاصرة، في تفصيل هذا اقول، اننا كنا قبل سنوات قليلة نردد ان عالمنا سيتحول في المستقبل القريب الى قرية صغيرة، غير ان الوقت مضى بسرعة هائلة.. اسرع مما توقعنا وترقبنا، لنجد انفسنا نعيش تحولًا اسرع بما لا يقاس.. ولننتقل بالتالي متخطين الحديث عن "العالم قرية صغيرة"، إلى "العالم غرفة صغيرة"، وقد تمثل هذا التغير المتسارع المحموم في التطورات التكنولوجية الفلكية، وفي امتلاك معظم سكان العالم اجهزة خلوية، يمكن الواحد منها صاحبه الدخول إلى غرفته بصحبته.. خلويه.. ليدخل تاليًا وتابعا له .. العالم كله مرافقا اياه. لقد تسبب هذا الوضع المستجد، في شخصنة الوجود وفي بروز الانوية كما لم يحدث في السابق، وعليه بات كل من يعلم ومن لا يعلم يريد ان يكون وان ينوجد، ساهم في هذا الوضع ظهور وسائل الاتصال الاجتماعي والانتقال العام من ثقافة النخبة الى الثقافة الشعبية. لتوضح هذا اقول ان الناس المعنيين لم يعودا بحاجة الى من يأخذ بأيديهم، فقد فتحت كل الدروب المغلقة في وجوههم، وبات بإمكان الواحد منهم اخذ زمامه بيده، فاذا ما اراد ان ينشر كتابة كلمة او كلمتين، لا تفرق كثيرا، بادر الى نشرهما دون حسيب او رقيب، وتحفيز من حوله لقراءتهما والتعليق عليهما.. اما على مستوى اجتماعي فقد جرت تحولات جذرية.. سنشير اليها في النقطة التالية.

* التغيرات المتسارعة في حياتنا المعاصرة كما هو واضح، تسببت في المقابل بمتسارعات موازية، لا سيما في مجال نشر الكتب والروايات بصورة خاصة، ففي حين كانت دار النشر في الماضي تعتبر قوة وتمتلك السلطان والصولجان، فتقرر ما تنشره من كتب وروايات، او ترفضه، باتت هذه الدور راضخة لمن يملك المال، وتحولت بالتالي من دور نشر للثقافة، الى دكاكين تجارية تطبع لمن يدفع لها، هكذا بات بإمكانك ان تطبع ما تيسر لك من روايات قد لا يقرأها احد، وتوزيعها مجانا، فالرواية ابقى من الثوب كما قالت لي احدى الروائيات المحدثات. واذكر انها فسرت قولها هذا سائلة اياي: ثمن الثوب الف وخمسمائة دولار وفي المقابل طباعة رواية يتكلف مثل هذا المبلغ، لو سالتك ايهما افضل أيهما تفضل؟ شراء الثوب ام طباعة الرواية؟.. في العودة الى هذه النقطة اقول ان هذا التحول في اداء دور النشر بصورة عامة، ادى الى ما نتحدث عنه وهو ظهور الروايات بالكيلو.

* يبدو ان هكذا واقع لفت انظار طامعين كبارًا .. صيادين ومترقبين متنظرين.. يريدون الهيمنة عبر توسيع دوائر نفوذهم، كما لفت انظار جهات معنية بتكريس ذاتها قوة ضاربة، وذات سلطان وهيلمان، فبادرت الى تأسيس هذه الجائزة او تلك، مخصصة الميزانيات الطائلة والشروط المسيلة للعاب صاحب الرواية الفائزة، وذلك من عدة نواح سواء من ناحية المقابل المالي للرواية الفائزة، او من ناحية نشرها والترويج لها وحتى ترجمتها في بعض الجوائز. اذا عدنا الى السبب الاول وهو انوية العالم للشخص الفرد وتكريسه عالمًا قائمًا بذاته في غرفته الوحيدة، بات الوضع والحالة هذه على النحو التالي، سأكتب رواية وسوف اقدمها الى هذه الجائزة او تلك فاذا ما فازت ربحت حياة اخرى واذا خسرت لن اخسر شيئا.

ماذا اريد ان اقول من هذا كله؟ ربما اردت ان ادلي بدلوي في توضيح ما قد يكون غامضا للبعض فيما يتعلق بهذه الظاهرة، علما ان احدا لا يستطيع ان يقف في وجه التغيرات والتبدلات الجارية في عالمنا، كما لا يحق لاحد ان يمنع احدا من التعبير عن ذاته.. ربما اردت ان اتساءل الى اين تتجه سفينة الرواية.. ربما..

***

ناجي ظاهر

تعيدنا رواية "شجرتي.. شجرة البرتقال الرائعة"، الى طفولتنا الرائعة بكل ما فيها من افراح صغيرة واحزان كبيرة، وتدفعنا بيدٍ من شوق إلى ايامها العذبة الدافئة الحنون.. التي لا تتكرّر ولا يمكن لها ان تفعل ذلك، بحكم التقدّم في العمر والمضي في دروب العمر المتعرجة، المنطلقة في الان ذاته عبر غاية محدّدة هي.. الحياة الراسخة.

مؤلف هذه الرواية هو الكاتب البرازيلي ورجل السياسة البارز خوسيه ماورو دي فاسكونسيلوس، وهو من مواليد ريو دي جانيرو عام 1920، وقد توفي في ساو باولو عام 1984. عاش مؤلف الرواية طفولة قاسية، صعبة اذ كان مولده في عائلة فقيرة، وهو ما انعكس في كتاباته الروائية والسينمائية، وقد تخصص في الكتابة للأطفال، وانتج في مجالها العديد من الروايات اللافتة، وقفت في مقدمتها روايته هذه "شجرتي.."، واحدة من ابرزها علما انه وضعها عام 1967. وقد ترجمت هذه الرواية الى العديد من اللغات ولاقت الكثير من الحفاوة لما اتصفت به من عودة ذكية، شاعرية وإنسانية، إلى الطفولة وافاقها المسربلة بالغموض حينا وبالوضوح أحيانا.

هذه الرواية حافلة بالمشاعر والاحاسيس وتعيدنا الى أيام عزيزة غالية مذكرة ايانا بما اعتور تلك الأيام من شقاوات بريئة وغير مقصودة.. وعادة ما احتاجت لمن يخلصنا منها ويأخذ بيدنا كي نحافظ على ما حفلت به وجوهنا من ماء الحياة والمحبة لكل ما هو لافت وجميل في مغائرنا واشجارنا العظيمة.

تدور احداث الرواية حول الطفل "زيزا" وهو طفل ذكي وشقي في الان، فطالما أوقع بعضا ممن دفعتهم اقدارهم لان يمضوا في طريقه في هذا المقلب او ذاك، ويبرز مقلب تخويف امرأة تمر من طريقه وايهامه لها بانها تتعرض لهجوم افعى عليها، واحدا من المقالب اللطيفة الطريفة التي لا تنسى. اما قصة الطفل زيزا مع "سرقته"، للزهور من اجل تقديمها لمعلمته المحبوبة وردعها له عن سرقتها بعد مصارحته لها، فإنها تبلغ ذروة عالية من العذوبة التعبيرية لا سيما عندما تقول له معلمته المحبوبة انه من الأفضل ان تبقى الزهور في اماكنها العامة لتمتع الجميع، موضحة ان سرقته لها لا تعدو كونها عملا غير أخلاقي. اما رده عليها وهو: الم يخلق الله الزهور لكل الناس.. فانه يدخل في لب الطفولة ويرتقي الى اعلى ما يمكن ان تصل اليه من ذرى عالية.

بطل الرواية ابن الخامسة، يتعلّم القراءة مبكرا جدا.. في الرابعة ودون معلم، ويلفت انظار المحيطين به بالعديد من الصفات والميزات، فهو فقير جدا، وهو ما يذكّر بمبتكره، صاحب الرواية، كما انه ذكي جدا ما يذكر بالعديد من الشخصيات الأدبية المعروفة عالما مثل الطفل هكلبرى فن في رواية مارك  توين المشهورة، او الطفل في رواية مديح الخالة لماريو فارغاس يوسا. هذا الطفل الذي يناديه الجميع بالشيطان الصغير ويصفونه بقط المزاريب، يروي لنا، نحن قراء الروية، تفاصيل ما واجهه من احداث ومغامرات، ابتداء من احاديثه الطلية الى شجرته.. شجرة البرتقال الرائعة، انتهاء بتفتح تلك الشجرة، مرورا بما واجهته من مخاطر الازالة بيد التغير والتبدل. هو طفل يحمل في قلبه عصفورا وفي راسه شيطانا يهمس له بأفكار مربكة عادة ما توقعه في متاعب الكبار ومشاكلهم المعقدة.

هذا الطفل، كما تذكر مترجمة الرواية الى العربية ايناس العباسي، لا يروي حكاية خرافية ولا أحلام الصغار في البرازيل فحسب بل يروي مغامرات الكاتب صاحب الرواية ذاته في طفولته، وهو ما يمسّ طفولة الكثيرين ممن كبروا في عالمنا هذا.

يلفت الاهتمام ان الرواية انها تروى على لسان الطفل "زيزا" ابن الخامسة، وذلك عبر ما يراه هذا الطفل ومِن وجهة نظره، وفق تعبير الناقد بيرسي لبوك في كتابه الشهير " صنعة الرواية"، الامر الذي يجعل منها/ الرواية، اشبه بمسرحية تتسلل احداثها الى اعماقنا دون طلب او استئذان.

لقد حظيت رواية شجرتي- شجرة البرتقال الرائعة باهتمام عالمي كبير، لما حفلت به من عذوبة تذكر بعذوبة ثمرة برتقال حلوة المذاق، ولما حفلت به من مشاعر إنسانية تصرّ على تذكير قارئها بها وبما انطوت عليه من براءة طفولية. انها رواية الطفولة الخالدة.. رواية شاعرية تحمل دماء أهالي البرازيل الأصليين.. وقد دأبت مدارس برازيلية عديدة منذ سنوات صدورها الأولى على تعليمها لطلابها، كما حض مربون في انحاء مختلفة من العالم، فرنسا مثلا، على قراءتها.. بهدف معايشة تفاصيلها الإنسانية الشاعرية الثرية والمؤثرة.

***

ناجي ظاهر

ثلاثة شعراء من بيئات مختلفة وازمان متباعدة اعلنوا عن توبتهم وطلبوا الرحمة والاستغفار بعد صولات وجولات مع الخمرة ومعاشرة النساء والشعر الماجن، فهل كانت توبتهم حقيقية ام انها مجرد ديكور لتجميل ايامهم الأخيرة؟ فالظاهر ان الخوف من المجهول أي الخوف من الموت وما بعد الموت هو الدافع وراء هذه التوبة وقد وصفهم القران (بأنهم يقولون ما لا يفعلون الا الذين امنوا). سورة الشعراء،224، وهذا يعني ان القران استثنى المؤمنين من الشعراء، في صدق اقوالهم اما الباقين فانهم غير جديرين بهذه الثقة التي اولاها القران للصادقين من الشعراء.

الشعراء الثلاثة هم: عمر ابن ابي ربيعة، الحسن بن هانئ (أبو نؤاس) وعمر الخيام

عمر ابن ابي ربيعة: 23-93 هـ

كلمـا قلــــــت متـى ميعــــادنا

ضحكت هند وقالت بعد غد

ولد عمر عام 23 هـ في نفس الليلة التي توفي فيها الخليفة عمر ابن الخطاب لذلك سمي بهذا الاسم تيمناً باسم الخليفة الراحل نشأ في مكة في كنف عائلة امتازت بالثراء لذلك اصبح فتى قريش المدلل، كانت جميل الوجه بهي الطلعة نرجسي النزعة أي انه كان مغرورا بجماله وعاش معشوقا وعاشقا في نفس الوقت في صباه كان يتردد على المدينة واليمن والشام والعراق، يعتبر موسم الحج بالنسبة له موسم الحب والغزل شاعرا لا يمدح ولا يهجو فهو شاعر غزل من الطراز الأول تفوق على استاذه في شعر الغزل (امرؤ القيس) .. ولكن السنين بدأت تؤثر فيه فاشتعل رأسه شيباً وتجعد وجهه وانحنى ظهره وتكحلت عينيه بكآبة جليلة ولكنه لم يفقد مرحه وضحكاته ولكنه بدأ يخشى العقاب على ما ارتكب من أفعال  واقوال فلجأ الى القوة الغيبية يتوسل اليها وفكر في ان يتوب على يديها واخذ يسكب امامها دموع الندم، تاب عمر الى الله وتاب عن قول الشعر الماجن وعاهد الله على انه لو قال شعرا فسوف يعتق عبدا عن كل بيت واستبدا حياة اللهو والغزل بحياة العبادة وزار الكعبة وطاف حولها طوافا بريئا هذه المرة،ولم يؤثر عنه انه تاب شعراً فلا يوجد في ديوانه قصيدة او بيت من الشعر ينم عن توبته لقد تاب نثرا واقسم ان لا يعود الى المجون مرة أخرى .

أبو نؤاس: 756-814 م.

حامل الهوى تعب     يستخفه الطــــرب

ان بكى يحق لـــــه      ليس ما به لعـــب

أبو نؤاس

ولد الحسن بن هانئ في الاهواز عام ٧٥٦م وقدم إلى البصرة وعمره ست سنوات مع والدته (جلبان) ثم غادرها إلى الكوفة ومنها إلى بغداد في عهد الرشيد وقربه الرشيد إلى بلاطه، عرف عنه انه كان شاعر الخمرة والغزل بالمذكر، تعلق بجارية تدعى (جنات) فعندما خرجت جنات الى الحج خرج وراءها لعله يحظى منها بلقاء وهناك وقف امام الكعبة فراح يبكي كأشد المؤمنين ايماناً وقد هزه منظر الحجاج وهم يطوفون حول الكعبة فانشد يقول:

الهنا ما اعدلك      مليك كل من ملك

الى آخر هذه التلبية ... وبعد ذلك قال قصيدته التي اعترف فيها بكثرة ذنوبه فقال:

ولقد تلوت مع الغواة بدلوهم

وأسمت صرح اللهو حيث اساموا

*

وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه

فاذا عصارة كل ذاك آثام

وتعد هذه القصيدة اعترافاً منه بذنوبه ثم كتب وصيته قبل وفاته التي طلب فيها من النبي محمد الشفاعة له يوم القيامة وبعد وفاته دفن في مقبرة الصالحين

عمر الخيام 1048-1131 م.

أولى بهذا القلب ان يخفقا

وفي ضرام الحب ان يعشقا

عمر الخيام

وُلد عمر الخيّام في مدينة (نيسابور)، ومات فيها. وقد اشتهر برباعياته التي جُمعت بعد وفاته بـ(250) عاماً. وذهب النقاد في شأنه مذاهب شتى فمنهم من قال إنه كافرٌ وزنديق، وإنه كان يؤمن بتناسخ الأرواح، وأن بينه وبين أبي العلاء المعري صلة قرابة. وقال غيرهم إنه كان مؤمناً بالله واليوم الآخر، وإنه كان متصوفاً. أما المؤرخ هارولد لامب فقد وصفه بقوله (ان الخيّام كان يسكر، فيكفر، ثم يفيق، فيندم).

تُرجمت رباعياته إلى مختلف لغات العالم، فقد تُرجمت إلى الإنكليزية عام 1809م.وفي العراق، ترجمها الشاعر أحمد الصافي النجفي أما في مصر، فقد ترجمها أحمد رامي، وتُعد من أروع الترجمات. ثم تُرجمت إلى اللغة العبرية...

لم تذكر كتب التاريخ أن الخيّام قد تزوج لكنه كان يتُغزَل بفتاة تُدعى (عائشة). قضى الخيام حياته باحثاً عن أسرار الحياة. وقد تاب أخيرا كما تاب قبله أبو نواس، وقد ذهب الخيّام إلى الكعبة حاجاً. وقد قال أشعاراً في التوبة، من رباعياته:

يامن يحار الفهم في قدرتك

وتطلب النفس حمى طاعتك

*

اسكرني الاثم، ولكننـــــــي

صحوت بالآمال في رحمتك

وقال:

يا عالم الاسرار علم اليقين

وكاشف الضر عن البائسين

*

يا قابل الاعذار فئــنا الى

ظلك فاقبل توبة التائبين

***

غريب دوحي

 

إنه يوم جديد في قصتي مع الحياة ومغامراتي مع الألم.. يوم عادي جدًا، شروق وغروب وشمس وقمر، لا جديد، أو ربما أنا من لا يتذكر أبسط التفاصيل فيه، كل ما أتذكره بوضوح هي عملية الكتابة، كتبت في ساعة من ساعات النهار، وبينما كنت أشهد على ولادة الكلمات، ضاع المعنى، ومات جنين الفكر في رحم الوعي!

كان الضياع من نصيب كلمة ما، ولا أستطيع تحديد سبب ضياعها حتى الآن.

قلة نوم؟

قلة تركيز؟

لا أظن، الفكرة نضجت وكل عوامل النجاح توفرت، فما المبرر وراء غيابها إن كانت البيئة الأدبية مناسبة للإبداع؟!

استمرت محاولات البحث حتى عن أقرب المرادفات لها، ليس بالضرورة الكلمة ذاتها، أعرف أنه في أزمات مثلها مسموح ببعض المرونة، أي شيء يُخرجني من المأزق والسلام، ولكن عقلي بقسوة الصخر، رفض الفرصة وضعت أنا!

ساد الصمت وقتلتني الحيرة.. فهل تستحق كلمة واحدة إشعال كل هذه الفوضى؟!

كلمة بسيطة للغاية، تُعبر في مضمونها عن الخير والشر والمعرفة والجهل والحب والكره وكل الحقائق والتناقضات، ورغم بساطتها فهي نبع الحياة، وأصل العدم!

يبدو أنها فوازير رمضان ولكن على طريقتي الخاصة!

حاولت مرارًا وما باليد حيلة، عُدت بالزمن لعهد الطفولة وأيام "الحضانة" وحصص القراءة والنحو.

ألف.. باء.. تاء.. ثاء

زرع.. حصد

فعل وفاعل ومفعول به

لكم أن تتخيلوا كم كلفني ذلك الموقف المهيب أمام ذاكرتي المُشتتة!

إنها تحتضر!

بعد أن كانت في أقصى درجات الانتعاش، صارت تتأرجح بين مغالبة النسيان والخضوع إليه، ثمة خلل في التواصل بيني وبينها، وللمرة الأولى أشعر بمعنى "إيرور 404" في رأسي، لقد كانت تمدني بالمفردات والمشاهد بكرم العطاء، وأصبحت فجأة في سن الشيخوخة، ضعيفة، تأبى حتى مساعدتي من أجل النجاة!

لا بأس، ربما أحتاج إلى قسط من الراحة أو أن ذاكرتي تتلهف ذلك الهدوء اللذيذ بعيدًا عن صخب الأحداث وشد الأعصاب، حسنًا، إنها المحاولة الأخيرة.

وبالفعل، اعتزلت أوراق الكتابة وكل الأحلام لعلها بداية حل اللغز، ولا جدوى، لم تمر أمام شريط الإدراك ولو مرورًا خاطفًا، وكأنها في الأبجدية مجرد أوهام!

ولكن كيف؟!

إنها كلمة ذات شأن عظيم في الأدب، ومقالي المسكين هذا، أخشى عليه من الانهيار بعدما رأيت فيه القيمة.

يا ذاكرتي العشرينية، لمَ أصبح التفاعل معك شاقًا لهذه الدرجة؟!

كل شيء توقف!

اضطررت إلى الضغط على "فرامل" أفكاري خشية الهلاك في سبيلها، وأما عن عقلي، فهو يتألم من فرط المحاولات، أحسست بصداع فكري هائل يتصاعد كلما حاولت استدعاء الكلمة من عالمها الغامض، ومن المؤسف أنها ترفضني تمامًا وكأني من أعداء اللغة مثلًا.. إنها القطيعة!

لا يهم.. لن أتهاون في البحث عنها في كل حروف العربية.

السين مع الراء، الباء بجانب الفاء.. عبث!

كلها تركيبات لغوية لا معنى لها على الإطلاق، لقد كانت المخرجات أشد هذيانًا من حالي وقتها!

ثم ماذا بعد؟

لجأت لمن حولي بعدما فقدت القدرة على اللحاق بها وحدي..

ارتميت في أحضان قوة ملاحظة غيري، وأخذت أصف معناها لأي عابر سبيل ربما تنقذني ذاكرته، لن أنكر أني رأيت شعاع أمل حين سمعت كلمات تقترب منها إلى حد التطابق، ولكنها ليست الكلمة المطلوبة، وفي تلك الأثناء تبين لي أنها ضاعت منهم كذلك.

لقد جُننت.. ماذا أصاب ذاكرة البشرية يا سادة؟!

في كل الأحوال، دعكم منها.. نحن الآن أمام استفهام صريح وحاسم.

ماذا لو فقد المرء نفسه؟!

إنها لحظة التي فصلت بين الإدراك والضياع، تبدل فيها الوعي إلى فقدان ذاكرة مؤقت، كل التفاصيل فقدت معناها، اللمسة باردة، النظرة عمياء، النطق أخرس، كل الحواس على حافة النهاية، وأنا.. لست أنا!

لقد ألهمني الهذيان بحق، رغم قسوته وغياب “كتالوج” التعامل معه، فقد جعلني أتساءل بعد أن تمكنت بصعوبة بالغة من اقتناص الكلمة وإتمام المقال على خير.. ماذا لو خسرت ذاكرة وجودي؟!

لو أصابني الزهايمر في جرح نازف، كل الذكريات تتطاير، كل الأرواح يدفنها الزمن في قبور النسيان، ولكن في رأيي المتواضع أن كل النسيان في كفة، ونسيان المرء منا لحقيقته في كفة أخرى!

من يكون؟

ماذا يفعل في الأرض؟

ما اسمه، عمره، هدفه، وفكرته الأبدية؟

لقد ضاعت كلمة واحدة عن بالي، كلمة واحدة فقط، وفعلت بي الأفاعيل، فكيف عن ضياع الروح من الروح؟!

ماذا لو وقفت الآن أمام نفسك فلم تجد أي شيء؟!

صورة ضبابية، لا تعرف ملامحك، أسرارك، مشاعرك وأفكارك.. لا تعرفك بكل بساطة.

أتساءل كذلك.. كيف يكون إحساس من فقد إحساسه بذاته؟!

من يُقاوم من أجل أن يفهم تكوينه.

يتساءل عن ماهية الحياة من وجهة نظره، وهل له وجهة نظر أصلًا أم هو تكرار ممل للقطيع؟

أجبني بصراحة، أي كلمات يُمكنها إسعافك في وقت مصيري كهذا؟!

إنها مهزلة كبرى أن نتذكر ماركة الساعة وسعر القميص وآخر أكلة مهضومة.. وننسى أنفسنا!

أليس كذلك؟

بالمناسبة.

"إنسان"..

هي الكلمة الضائعة التي خضت من أجلها معارك نفسية وفكرية ضارية، ليتني عرفت أن الحل بين يدي، أن أتأملني فحسب، لقد كانت الإجابة هُنا، بينما كنت أبحث عنها هُناك!

***

بقلم: نورا حنفي

من ضمن النشاطات الابداعية السنوية التي كانت تنظمها مديريات التربية لمدارسها في المدن العراقية والتي للأسف توقفت مؤخرا هي اقامة الاستعراضات الرياضية لألعاب الساحة والميدان وكذلك معارض الرسم والنحت التي من خلالها يتم التعرف على المواهب الواعدة للطلاب في هذه المجالات ، كما كانت هذه الفعاليات حافزا للاجتهاد والمثابرة وأفرزت عددا من المواهب الكبيرة التي واصلت التطور حتى وصل بعضها الى العالمية.

في العام 1968 شهدت الديوانية معرضا سنوياً لفن الرسم والنحت واحتضنت صفوف متوسطة الديوانية ــ دائرة الكهرباء حاليا ــ لوحاته وأعمال النحت التي كانت من تنفيذ طلاب المدارس المشاركة ، وكان الأبرز في ذلك المعرض لوحة حملت عنوان (العاصفة) تمكنت من استقطاب جمهورا واسعا من متذوقي فن التشكيل لما فيها من الدقة في تنظيم الدرجات اللونية وكذلك في ابراز قيم الضوء والظل والاحاطة بباقي مكونات اللوحة على الرغم من ان اللوحة كانت تقليدا للوحة عالمية معروفة بـإسم ــ غرق ميدوزا ــ للفنان الفرنسي " تيودور جيريكو " الا ان جمهور الزائرين للمعرض أغفل ذلك ووقف مذهولا امام اللوحة وكأنه ينصت لصراخ الحيوات المتشبثة بأركان المركب الذي يوشك على الغرق وسط البحر ، ولم يخيل لأحد ان الطالب الصغير النحيف الذي نفذ تلك اللوحة ستقوده هذه البداية المذهلة وما تلاها من اجتهاد ومثابرة الى العالمية ويصبح واحدا من الفنانين الذين يحظون بمكانة عالمية ذلك هو العراقي الديواني المقيم في هولندا الفنان التشكيلي " بشير مهدي" .

واختيار " بشير مهدي " لتلك اللوحة يشير الى انه فنان مجتهد ومثقف وكان مطلعّا على انجازات الفنانين العالميين وتأثر فيما بعد بعصر النهضة مما دفعة للهجرة الى ايطاليا ليعمل في فلورنسا رساما ويوقع لوحاته باسم ايطالي بسبب القوانين التي تمنع بيع لوحات الاجانب ويستقر أخيرا في هولندا التي كرمته بوضع احدى لوحاته الى جانب اللوحات المميزة في متحفها الشهير .

حظيت تجربة الفنان بشير مهدي باهتمام عراقي وعربي وعالمي ، فقد كتب عنها عدد كبير من كبار النقاد والشعراء والأدباء والفنانين العراقيين حيث جاء في شهادة الناقد الكبير ياسين النصير (ان الفنان بشير يجسد في أعماله انفعالات الأشياء وحركاتها الذاتية، وطيات الأقمشة وتناسقها وتوزيع الضوء، ويعكس حساسية شعرية تفصيلية للأشياء)، اما عالميا فقد خصها الناقد الهولندي " خريت لادونخا " بكتاب تناول بالتفصيل ابعادها الفلسفية والفنية ومن ضمن ما قاله في تجربته (بشير مهدي واحد من الرسامين الكبار ولديه خيال واسع ومميز من الحرفية والتكنيك ، عوالم هذا الفنان تشترك بطريقة لم نألفها من قبل ، انه يمزج بين أعماق الانسان والحقيقة) وفعلا تجربة بشير مهدي مميزة وفريدة ولوحاته تنطوي على ابعاد فلسفية تجسد الوجود والعدم والحضور والغياب اضافة الى الفنية العالية التي تظهر بها ، فالدهشة التي تعيشها وانت تجول بنظرك بين لوحاته وترى الدقة في تجسيده لمساقط الضوء وانكسارات الظلال تشعر انك امام صورة فوتوغرافية وليس لوحة من الزيت والقماش .

من حقنا ان نفخر بالفنان العراقي المجتهد " بشير مهدي " فهو ثروة وطنية رفع اسم العراق عاليا في أهم المحافل الفنية العالمية ومعارضه الشخصية طافت بلدان اوربية عدة ونالت جوائز كبيرة ومهمة .

***

ثامر الحاج امين

(فليتباهى غيري بما وُضع من كتب، أنا لي أن أتباهى بالكتب التي قرأتها).. خورخي لويس بورخيس

لا توجد طريقة واحدة لقراءة الكتب التي تشعر انها مملة، لكن هناك سبب رئيسي يجعلنا نسعى للحصول على هذه الكتب وضمها إلى مكتبتنا الشخصية، وتصفحها أو قراءة صفحات منها بين الحين والآخر.. وبالتاكيد لا توجد نصيحة واحدة تعلمنا كيفية قراءة مثل هذه النوعية من الكتب، وسبق للروائية الانكليزية فرجينيا وولف ان حذرتنا قائلة:" فيما يتعلق بالقراءة فان النصيحة الوحيدة حقا التي يمكن أن يسديها شخص لآخر هي إياك أن تأخذ نصيحة احد "، لكن رغم ذلك تجدنا دائما نسأل هل هذا الكتاب ممتع، وما الفائدة من شراء هذا المجلد ؟. في النهاية نحن نقرأ وغايتنا كما شرحها لنا فرانسيس بيكون تقوية النفس والقراءة تجعلنا نعيش لذة المتعة. فيما كان الناقد الانكليزي الشهير صمويل جونسون يصر على ان القراءة تمارس فعل " تطهير العقل من اللغو ".

لا يزال حبي للقراءة يدفعني الى اقتناء الكتب، ابحث في المكتبات عن كل ما هو جديد. فانا اؤمن ان الكتب توسع رقعة الحياة.. نحن نقرأ لاننا نحتاج الى المعرفة. لا معرفة انفسنا والآخرين فقط. بل لكي نعرف الحالة التي تكون عليها الاشياء التي حولنا.

كان بورخيس قد وصف الكون بالمكتبة، واعترف أنه تخيل الجنة على شكل مكتبة، كانت مكتبته بالنسبه لزواره مخيبة للآمال، كان الجميع يتوقعون مكاناً مكسواً بالكتب، يردد على زواره مقولة شوبنهاور " ان كثيرين يخلطون بين شراء كتاب وشراء مضمون الكتاب "،  ويصف بورخيس نفسه بأنه قارئ أولاً قبل أن يكون كاتباً، ويرى أن " العالم الفيزيائي هو استحضار لقراءاته "، فالقارئ هو الأساس، وكل قراءة لنص تفترض معنى خاصا بالقارئ وهذا في حدِّ ذاته مغامرة.

عام 1985 طلبت أحدى المجلات من بورخيس أن يختار مجموعة من الكتب التي سيضمها لمكتبته الخاصة على أن لا تتجاوز مئة كتاب. وصل بورخيس إلى خمسٍ وسبعين عمل فقط قبل وفاته بسرطان الكبدعام 1988.

المثير في اختيارات بورخيس انها خلت من كتابات شكسبير وتولستوي وجين اوستن، فقد اختار دستويفسكي وهرمان ميلفل واوسكار وايلد وكان ابرز الكتب في قائمته الذهبية: قصص خوليو كورتاثار. وامريكا لفرانز كافكا. صحراء التتار للروائي الإيطالي دينو بوزاتي. بعض مسرحيات موريس ميترلنك. المزيفون لاندريه جيد. آلة الزمن لويلز، الشياطين دستويفسكي. مسرحيات يوجين اونيل. قلب الظلام جوزيف كونراد. مقالات اوسكار وايلد.لعبة الكريات الزجاجية هرمان هيسه. أسفار ماركو بولو. نظرية الطبقة المترفة ثورستين فيبلين. الف ليلة وليلة. كتابات آرنولد بينيت. الميجور بربارة جورج برنادشو. الخوف والرعشة كيركغارد. درس المعلم هنري جيمس. كتب هيردوت عن التاريخ، مول فلاندرز دانييل ديفو. حكايات روديارد كيبلينغ. نصوص جان كوكتو، الأيام الاخيرة لعمانؤيل كانط توماس دي كوينسي. الليالي العربية الجديدة روبرت لويس ستيفنسون. ملحمة كلكامش. رحلات جليفر جوناثان سويفت. الأشعار الكاملة ويليم بليك. قصص إدغار آلن بو. قصص فولتير. تنوع التجربة الدينية ويليام جيمس. كتاب الموتى الفرعوني.

مع تدهور بصره، اعتمد بورخيس بشكل متزايد على مساعدة والدته. عندما لم يعد قادرا على القراءة والكتابة، لم يتعلم أبدا القراءة بطريقة برايل:" للاسف كان هذا سيغير حياتي كلها، لكني كبرت على هذا، شاخت يداي ".أصبحت والدته، التي كان دائما قريببة منه سكرتيرته الشخصية.

في كتابه " هوامش السيرة " يكتب بورخيس:" لو طُلِب منّي أن أذكر أهم حدث في حياتي لقلت إنه وجود مكتبة أبي. "

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

لا يمكن للمرء أن يعايش لحظة فنية بهية كتلك التي وفقت إليها في مسرح الطليعة، حيث استقبلتنا تحفة مسرحية تذكرنا بأن الفن الحقيقي، ذلك الفن الذي يخترق الأزمان ويعبر الحدود، ما زال ينبت في أرض مصر الخصبة، كالنخلة الشامخة التي تصمد أمام رياح التغيير العاتية. "كارمن"، الرواية الفرنسية التي أبدعها بروسبير ميريميه، عادت إلينا بلغة عربية فصيحة، وكأنها ولدت من جديد في حلة شرقية تليق بعراقة المسرح المصري. 

ما أشد حاجتنا اليوم إلى هذا الالتزام باللغة العربية الفصيحة، لغة الضاد التي كادت تذوي في زحام العاميات والألفاظ الدخيلة! فقد جاءت حوارات المسرحية مشكلة تشكيلا دقيقا، منطلقة من أفواه الممثلين بسلاسة تذهل السامع، وكأنها نقلت من بطون الكتب القديمة إلى خشبة المسرح حية نابضة. فلم نسمع لحنا في القول، ولا زلة في الإعراب، بل سمعنا لغة تغني كما تغني "كارمن" نفسها، لغة تصف العاطفة الجياشة والصراع الإنساني ببلاغة تذكرنا بأسلوب كبار الأدباء. 

أما الديكور والملابس، فحدث ولا حرج! لقد صاغ الفنان أحمد شربي عالما يجسد روح "كارمن" بكل ما فيها من نار وثورة، دون أن يهمل التفاصيل الصغيرة التي تكسب العمل مصداقيته. فكل قطعة في الديكور، وكل ثوب يرتديه الممثلون، كان شاهدا على إخلاص القائمين للعمل. والإضاءة، ذلك العنصر الذي يغفله الكثيرون، جاءت هنا لتكمل اللوحة، فكانت تارة خافتة كهمس العشاق، وتارة حادة كصرخة الغضب. 

ولا يمكن إغفال الاستعراضات التي أبدعتها سالي أحمد، فكانت حركات الممثلين على أنغام الموسيقى كالكلمات المنظومة في قصيدة، تعبر عن المشاعر دون حاجة إلى كلام. أما الممثلون، وعلى رأسهم ريم أحمد وميدو عبدالقادر، فقد أحيوا شخصيات الرواية ببراعة، فلم يكونوا ممثلين فحسب، بل أصبحوا أبطال القصة أنفسهم. 

 الفن الذي لا يموت 

بينما يتساءل الكثيرون اليوم عن مصير الفن الأصيل، تأتي "كارمن" لتجيب بأن مصر، رغم كل شيء، ما زالت تضم بين جنباتها فنانين يجددون التراث دون أن يخونوه، ويخوضون غمار التجديد دون أن يقطعوا جذور الأصالة. فتحية لناصر عبدالمنعم ومن معه، أولئك الذين يذكروننا بأن المسرح، كما قالوا، هو بيت الإبداع الأول، وأن مصر، ما دام فيها مثل هؤلاء، ستظل بخير. 

هكذا، أيها القارئ، يصبح المسرح مرآة تعيد إلينا ثقتنا بأن الجمال والحقيقة ما زالا يضيئان دروبنا، إذا نحن أردنا لهما ذلك. 

المسرح مرآة للهوية الثقافية 

لم تكن "كارمن" مجرد نقل حرفي لنص غربي إلى خشبة المسرح العربي، بل كانت حوارا جريئا مع الذات والآخر. فبينما يحتفظ العمل بالروح الثائرة للبطلة التي أبدعها ميريميه، فإنه يعيد تشكيلها في إطار شرقي يذكرنا بتلك الشخصيات النسوية المتمردة في تراثنا، كـ"ليلى العامرية" أو "عنترة بن شداد"، لكن بعين معاصرة. فـ"كارمن" هنا ليست مجرد امرأة غجرية، بل أصبحت رمزا للحرية التي تتحدى الأعراف دون أن تفقد أنوثتها أو كرامتها. 

أما المخرج ناصر عبدالمنعم، فقد قدم لنا عملا يعبر به المسرح المصري من المدرسة الواقعية التقليدية إلى فضاء أكثر تجريدا، دون أن يقع في فخ الغموض أو التكلف. لاحظنا كيف مزج بين العناصر السينمائية (كالإضاءة المظلمة في مشاهد الغيرة) والمسرحية الصرفة (كالحوار المباشر مع الجمهور في لحظات التهكم). هذا التنقل المتقن بين الأساليب يجسد رؤية فنية ناضجة، تدرك أن المسرح ليس وسيلة تسلية فحسب، بل أداة تفكيك للذات والمجتمع. 

لا يسع الناقد إلا أن يقف إجلالا أمام أداء ريم أحمد التي حولت "كارمن" من أيقونة غربية إلى امرأة شرقية بكل تناقضاتها: قوية لكنها هشة، متحررة لكنها أسيرة عواطفها. أما ميدو عبدالقادر (دون خوسيه)، فقد قدم شخصية معقدة، تجسد صراع الرجل الشرقي بين حبه المدمر وغروره الذكوري. والأكثر إدهاشا هو أداء ليديا سليمان في دور "ميكايلا"، التي حولت شخصية ثانوية إلى نموذج للإنسانية الهادئة، وكأنها تذكرنا بأن المسرح لا يبنى على الأصوات العالية وحدها. 

الموسيقى والاستعراض 

لعل أبرز ما يلفت النظر في هذا العمل هو تحويل الموسيقى الغربية الأصيلة لـ"كارمن" إلى لوحات استعراضية تحمل روح الفن الشعبي المصري. فلم تكن الرقصات تقليدية، بل مزجت بين الفلامنكو والرقص الشرقي، وكأنها تعلن أن الفنون لا تعرف حدودا. هذا التفاعل بين الثقافات لم يضع هوية العمل، بل عززها، كما فعل يوسف شاهين في فيلم "وداعا بونابارت" حين حول التاريخ الفرنسي إلى حكاية مصرية. 

 سؤال يظل معلقا: هل يمكن للمسرح أن يكون وطن المهمشين؟ 

رغم كل هذا الإبهار، فإن الناقد لا يمكن أن يتجاهل سؤالا جوهريا: إلى أي مدى استطاعت هذه المسرحية أن تمثل صوت المهمشين الحقيقيين في مجتمعنا؟ فـ"كارمن" في النهاية شخصية نخبوية، حتى في ثورتها. ألم يكن الأجدر بالمسرح، ذلك الصندوق الأسود للجماهير، أن يمنح صوتا للفئات الأكثر هشاشة؟ هذا لا يقلل من قيمة العمل، بل يفتح الباب أمام حوار أعمق عن دور الفن في زمن اللاانتماء. 

"كارمن" ليست عرضا مسرحيا عابرا، بل بيانا فنيا يعلن أن المسرح المصري، رغم كل التحديات، ما زال قادرا على أن ينتج أعمالا تحافظ على الجذور وتغرف من المعاصرة. فإذا كان الفن هو آخر ما يموت في الأمم، فإن هذا العمل يثبت أن مصر، برواد مسرحها، ستظل حاضنة للإبداع الذي يضاء كشمعة في عتمة الزمن العابث. 

فهل ندرك نحن، كمتلقين، قيمة هذه الشموع قبل أن تنطفئ؟!

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم