أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

مقدمة: تشكل رواية دعاء الكروان نصًا سرديًا مفتوحًا على العديد من التأويلات، وتكشف عن براعة طه حسين في توظيف الرموز والمعادلات الموضوعية لإيصال معانٍ عاطفية وفكرية عميقة. وتغدو جماليات التلقي أداة لفهم هذا النص، حيث يلعب القارئ دورًا محوريًا في إعادة إنتاج دلالاته.

أولًا: مفهوم المعادل الموضوعي

ظهر هذا المفهوم مع الناقد ت. س. إليوت، ويقصد به: التعبير عن العاطفة أو الفكرة من خلال مجموعة من الأشياء أو الأحداث أو الحالات التي تُفضي إلى المعنى نفسه.

في دعاء الكروان، تظهر عدة رموز تمثل معادلات موضوعية لمشاعر الكبت، التمرد، الانتقام، والحب.

ثانيًا: تطبيق المعادل الموضوعي في الرواية

1. الكروان:

يمثل رمزًا للحرية والصوت الداخلي الذي يرشد البطلة (آمنة).

صوته المتكرر يشكّل خلفية شعورية للنص، يُعبّر عن تحولات آمنة النفسية.

2. الجبل والوادي:

الجبل يرمز إلى التحدي والعزلة والسمو، في حين يُجسد الوادي التقهقر والانحدار.

3. الضوء والظل:

تتكرر مفردات الضوء والظلام للدلالة على التنوير والجهل، أو الصراع بين الحب والكراهية في داخل آمنة.

ثالثًا: جماليات التلقي

1. القارئ كمنتج للمعنى:

يُعيد القارئ تشكيل رمزية الكروان، وفقًا لخبرته الجمالية والثقافية. اختلاف الأجيال يؤدي إلى تعددية في التفسير: مثلًا، قارئ تقليدي قد يرى الانتقام فعلًا مبررًا، بينما قارئ معاصر قد يراه تعبيرًا عن تحرر داخلي.

2. التلقي من زاوية نسوية:

القارئة المعاصرة قد تستقبل الرواية كرحلة تحرر نسوية لبطلة سعت لإثبات ذاتها في عالم ذكوري.

3. التلقي التربوي أو القيمي:

الرواية تطرح أسئلة أخلاقية حول العدالة، الغفران، والتمرد، ما يجعلها خصبة لتحليلات تربوية وقيمية.

خاتمة:

تجمع دعاء الكروان بين الجمالية الرمزية والعمق الإنساني، ويُعدّ تحليلها من خلال المعادل الموضوعي وجماليات التلقي مدخلًا لفهم كيفية بناء النص لوعيه الجمالي، وكيفية تفاعل القارئ مع هذا البناء، لتغدو الرواية نصًا متجددًا عبر الزمن والقراءات.

***

ربى رباعي - الاردن

 

صناع أفلام عالميين"أوقفوا الساعات، أطفئوا النجوم". 

مقدمة: أطلقت مجموعة كبيرة من محترفي صناعة السينما، معظمهم من الإيطاليين، بمن فيهم المخرجون: ماركو بيلوتشيو وماتيو غاروني وأليس روهرواشر، نداءً لمهرجان البندقية السينمائي لاتخاذ موقف أكثر فعاليةً لمناصرةً للقضية الفلسطينية.

وكانت المجموعة، المنضوية تحت شعار موسوم "فينيسيا من أجل فلسطين" Venice4Palestine، قد نشرت يوم السبت 23 أغسطس / آب 2025 رسالةً مفتوحةً تحثّ فيها المنظمة الأم للمهرجان، بينالي البندقية، وأقسامه الموازية المستقلة "أيام البندقية" و"أسبوع النقاد الدولي"، على "أن يكونوا أكثر شجاعةً ووضوحًا في إدانة الإبادة الجماعية المستمرة في غزة والتطهير العرقي في جميع أنحاء فلسطين الذي تمارسه الحكومة والجيش الإسرائيلي". ينطلق مهرجان البندقية السينمائي يوم الثلاثاء. 26 آب 2025 .

في الرسالة، تُحثّ المؤسسات وقطاعات السينما والفن والثقافة والتعليم على التحلّي بمزيد من الشجاعة والوضوح في إدانة الإبادة الجماعية المستمرة في غزة والتطهير العرقي في جميع أنحاء فلسطين الذي ترتكبه الحكومة والجيش الإسرائيلي. كما تدعو الرسالة أيضا إلى توفير مساحات وفرص طوال فترة المهرجان للترويج للمبادرات المتعلقة بفلسطين، وذلك عقب حراك 30 أغسطس الذي دعمته أيضا شبكة "فنانون بلا بافاليو"، حتى لا يصبح المهرجان "معرضا فارغا حزينا"، كما ورد في رسالة V4P، "بل يغتنم الفرصة ليعود من جديد مكانا للحوار والمشاركة الفاعلة والمقاومة، كما كان في الماضي"، كما أوضح أعضاء المجموعة.

وفيما خاطبت الرسالة العديد من الجهات السينمائية والثقافية والإعلامية. ومنها: بينالي البندقية، مهرجان البندقية السينمائي، أيام البندقية، أسبوع النقاد الدولي، والعاملين في مجالات السينما والثقافة والإعلام. أيدت العديد من الشخصيات المرموقة في السينما والفن والموسيقى والثقافة ـ الإيطالية والدولية الرسالة التي حملت نصا قيميا في مغزاه التعبيري، وإنسانيا في مضمونه الأخلاقي ـ تحت عنوان"أوقفوا الساعات، أطفئوا النجوم". جاء فيه:

إنّ العبء ثقيلٌ جدًا على مواصلة العيش كما كان من قبل. منذ ما يقرب من عامين، تصلنا صورٌ جليةٌ لا تخطئها العين من قطاع غزة والضفة الغربية. في ذهولٍ وعجز، نواصل مشاهدة عذابات إبادة جماعية ترتكبها دولة إسرائيل في فلسطين. لن يستطيع أحدٌ أبدًا أن يقول: "لم أكن أعرف، لم أكن أتخيل، لم أكن أصدق".

لقد رأينا كل شيء.

ما زلنا نرى كل شيء.

لكن مع تسليط الأضواء على مهرجان البندقية السينمائي، نُواجه خطرَ المرور بحدثٍ كبيرٍ آخر لا يكترث بهذه المأساة الإنسانية والمدنية والسياسية. "يجب أن يستمر العرض"، يُقال لنا، بينما نُحثّ على صرف أنظارنا - كما لو أن "عالم السينما" لا علاقة له "بالعالم الحقيقي".

ومع ذلك، فمن خلال تلك الصور تحديدًا، التي التقطها زملاؤنا، وربما حتى أصدقاؤنا، علمنا بالإبادة الجماعية، وبالهجمات العنيفة، بل القاتلة، على مخرجي الأفلام وطواقمها في الضفة الغربية، وبالعقاب الجماعي الذي مورس على الشعب الفلسطيني، وبجميع الجرائم الأخرى ضد الإنسانية التي ارتكبتها الحكومة والجيش الإسرائيليان. لقد أودت هذه الصور بحياة ما يقرب من 250 إعلاميًا فلسطينيًا حتى الآن.

يُفترض أن يحتفي البينالي ومهرجان البندقية السينمائي الدولي بقوة الفن كوسيلة للتغيير، والشهادة، وتمثيل الإنسانية، وتنمية الوعي النقدي. وهذا تحديدًا ما يجعل الفن وسيلة استثنائية للتأمل والمشاركة الفاعلة والمقاومة.

ردًا على التصريحات الأخيرة الفاترة والغامضة، أو الأسوأ من ذلك، المريحة، الصادرة عن أجهزة السلطة والإعلام والثقافة، نتخذ موقفًا واضحًا لا لبس فيه: لقد حان الوقت ليس فقط للتعاطف، بل أيضًا للمسؤولية. الدلالات واللغات، والكلمات والصور، ليست مجرد أدوات ثانوية - وخاصةً لمن يؤمنون بالفن، بل هي شكل أساسي وضروري للمقاومة. لو لم يكن الأمر كذلك، لكان من الأفضل لنا أن نستسلم للدليل القاطع على أن كونك صانع أفلام أو صحفيًا اليوم لم يعد له معنى.

ولهذا السبب، نحن - ناشطون وعاملون في مجالات السينما والإعلام والأخبار - نؤمن بأنه يجب أن يتوقف هذا العرض ولو لمرة واحدة: يجب أن نكسر جمود اللامبالاة ونفتح طريقًا للوعي. لذلك، نطالب البينالي والمهرجان وأيام البندقية وأسبوع نقاد البندقية باتخاذ موقف واضح ودعم مطالبنا. كما نؤكد على ضرورة توفير مساحات لاستضافة سرديات متنوعة لفلسطين.

نناشد كل من يستطيع ويرغب في إحداث تغيير - على أي مستوى. في البندقية، ستكون الأضواء كلها موجهة نحو عالم السينما: علينا جميعًا واجب إبراز قصص وأصوات أولئك الذين يتعرضون للمجازر، حتى في ظل لامبالاة الغرب المتواطئة.

نحث جميع أعضاء عالم الثقافة والإعلام على استخدام شهرتهم وأي وسيلة أخرى متاحة خلال المهرجان لخلق خلفية دائمة للحوارات والمبادرات لدعم حقيقة التطهير العرقي والفصل العنصري والاحتلال غير الشرعي للأراضي الفلسطينية والاستعمار وجميع الجرائم الأخرى ضد الإنسانية التي ارتكبتها إسرائيل لعقود، وليس فقط منذ 7 أكتوبر.

ندعو العاملين في مجال السينما إلى تصور وتنسيق وتنفيذ أعمال معًا، خلال المهرجان، تُعطي صوتًا لانتقاد سياسات الحكومة المؤيدة للصهيونية: معارضة تُعبّر عنها من خلال الإبداع، بفضل مهاراتنا الفنية والتواصلية والتنظيمية.

بصفتنا فنانين ومحبي فن، ومحترفي صناعة سينمائية، ومنظمين ومراسلين صحفيين، نحن القلب النابض لهذا المهرجان، ونؤكد بحزم أننا لن نكون متواطئين، ولن نلتزم الصمت، ولن نتجاهل، ولن نستسلم للعجز أو لمنطق القوة.

هذا ما يفرضه علينا عصرنا ومسؤوليتنا كبشر. لا سينما بدون إنسانية.

فلنضمن أن يحمل هذا المهرجان قيمًا قيّمة، وألا يتحول مرة أخرى إلى معرض غرور حزين وسطحيّ.

لنفعل ذلك معًا - بشجاعة ونزاهة. فلسطين حرة!

***

عصام الياسري

جبران خليل جبران

مقدمة: يمثل جبران خليل جبران أحد أبرز رموز الفكر والأدب في العالم العربي الحديث، وقد شكّل برؤيته العميقة وفلسفته الإنسانية ظاهرة أدبية تجاوزت حدود الزمان والمكان. يتسم نتاجه الأدبي بتكثيف الرموز والدلالات التي تنفتح على تأويلات متعددة، وتنهل من ينابيع التصوف، والمسيحية الشرقية، والفكر الفلسفي، والرومانسي الغربي. وفي قلب هذا العالم المتشابك، تتجلّى الرمزية بوصفها أداة جمالية وفكرية، يتوسل بها جبران لإيصال رسائله الروحية والاجتماعية.

أولًا: مفهوم الرمزية عند جبران

الرمزية عند جبران ليست مجرد تقنية بلاغية أو زخرف لغوي، بل هي بنية فكرية وجمالية عميقة تعبّر عن رؤيته للعالم والوجود. فالرمز عنده يحمل طاقة دلالية تتجاوز ظاهر النص، ليفتح أفقًا تأويليًا يتفاعل فيه القارئ مع النص من موقع المشاركة الروحية لا الاستقبال السطحي.

ومن أبرز خصائص الرمزية الجبرانية:

التجريد والتكثيف: فالرمز يحمل دلالات متراكبة تتطلب التأمل العميق.

الازدواجية في المعنى: بين الدلالة الظاهرة والباطنة.

الامتزاج بين الروحي والحسي: حيث تتداخل العواطف بالمقدّس، والجمال بالحقيقة.

ثانيًا: فضاءات الرمزية في نصوص جبران

1. الطبيعة كرمز

الطبيعة لدى جبران ليست مجرد خلفية للأحداث، بل كائن حي يحمل معانيَ رمزية متعددة:

الشجرة ترمز إلى الحياة والخلود.

الريح تعبر عن التغيير والتحرر.

الماء يمثل النقاء والتجدد.

يقول في "النبي":

 "وكيف تسيرون إلا إذا انصهرتكم الريح التي تهب شمالًا وجنوبًا، وتسلخ عنكم أثوابكم البالية؟"

2. المرأة كرمز

تحتل المرأة مكانة محورية في فكر جبران، وتُمثّل غالبًا رمزًا للروح أو للحكمة أو للجمال الإلهي. "سلمى كرامة" في الأجنحة المتكسرة ليست فقط معشوقة، بل رمز للمرأة-الوطن، والمرأة-الحرية، والمرأة-القدَر.

3. الصورة المسيحية الصوفية

استخدم جبران الكثير من الصور الدينية المسيحية، ولكن بروح صوفية، تتجاوز الشكل الطقسي إلى جوهر روحي عميق. المسيح في نصوصه رمز للمُخلّص، وللتضحية الكونية، وللثائر على الظلم الاجتماعي والروحي.

في كتابه يسوع ابن الإنسان، لا يقدّم سيرة تقليدية للمسيح، بل يراه ككائن رمزي يتجاوز الزمان والمكان، يتجسد في كل من يسعى للحقيقة.

ثالثًا: جماليات التأويل في النص الرمزي الجبراني

1. تعددية القراءة

بسبب انفتاح الرمز، لا يقدّم جبران معنى واحدًا أو مباشرًا، بل يضع القارئ أمام شبكة من المعاني الممكنة، ويدعوه للمشاركة في خلق المعنى. فكل قارئ يُنتج تأويلًا خاصًا به، متأثرًا بخبرته وثقافته.

2. اللغة الشعرية والإيقاع الداخلي

نصوص جبران مشبعة بالبعد الموسيقي، مما يعزز البعد الرمزي للنص. الإيقاع هنا ليس مجرد تجميل، بل عنصر من عناصر الدلالة.

3. الغموض البنّاء

لا يهدف الغموض عند جبران إلى إرباك القارئ، بل إلى استفزازه فكريًا وروحيًا، ليتجاوز سطح النص إلى أعماقه.

رابعًا: تأويلات ممكنة لبعض الرموز الجبرانية

الرمز         المعنى الظاهري       التأويل الرمزي

النار          العذاب، الدمار         التطهير الروحي، الشغف

الجبل         الطبيعة المرتفعة      السمو، القرب من الله

الطفل           البراءة                النقاء الأول، الحقيقة الأصلية

الرحيل        الفراق، الموت      التحول، الخلاص

خاتمة:

في فضاء جبران خليل جبران الرمزي، لا يبقى القارئ متلقيًا سلبيًا، بل يتحول إلى متأوّل، إلى كائن يبحث عن المعنى بين السطور، وفي ظلال الكلمات. إن جمالية الرمز عند جبران تكمن في قدرته على تجاوز المألوف، وفتح نوافذ للروح، تُطل منها على المطلق واللانهائي. وهكذا، فإن قراءة جبران هي دائمًا رحلة لا إلى الخارج، بل إلى الأعماق.

***

ربى رباعي - الاردن

في مقدمة كتابه (مع الزمن) الصادر سنة 1964 يقول توفيق الحكيم ( ولقد أغراني هذا الفن الجديد في السنوات العشرين من هذا القرن وأنا في باريس بالشروع في المحاولة فكتبت قصائد شعرية نثرية من هذا النوع وهو لا يتقيّد أيضا بنظم ولا بقالب معروف) ويؤكد توفيق الحكيم أن نصوصه الشعرية هذه قد تأثر في صياغتها بالقرآن حيث يقول (إني لأذكر الآن من حيث» الشكل كيف كان القرآن يثير فينا الـتأمل بأسلوبه الفريد، لا هو بالشعر المنظوم ولا هو بالنثر المرسل لكنه طاقة شعرية وموسيقية معجزة) والقصائد التي جمعها توفيق الحكيم في هذا الكتاب جعل لها عنوانا خاصا هو ( رحلة الربيع) وقد كتب نصوصها بين سنتي 1926 و1927 ويمكن أن تُعتبر ديوانا شعريا صغيرا يحوي نحو إحدى وعشرين قصيدة.

القصيدة الأولى تحت عنوان (قبّة سمائنا) وهي من الأسلوب السردي ذي الأبعاد الرمزية:

غطاء محكم الإغلاق

أزرق زرقة الأبد

زرقة ضمير طفل في المهد

أغلق غلقا على جوهره

تلمع داخلها جمجمة

تحسب أنها وحيدة

تقول كلاما وتعيش غراما

و تنام طويلا بعيون غير موجودة (ص 15)

أما في قصيدة (حلمنا وواقعنا) فإن توفيق الحكيم يعمد إلى الجناس وإلى المقابلة من ناحية وإلى التكرار والعود على بدء من ناحية أخرى للتعبير عن حالة وجودية متشابكة العلاقات:

مخمور يطرق باب الحان

و يخرج يهذي بالألحان

يسرق حلي زوجته

و يهديها لعشيقته

و يسرق حلي عشيقته

و يهديها لزوجته (ص16)

 فما يمكن أن نلاحظه في نصوص قصائد توفيق الحكيم هذه أنها بقدر ما حاول فيها النسج على غير منوال الشعر العربي القديم من حيث المعنى والمبنى بقدر ما كان الشعر الفرنسي فيها واضح التأثير خاصة فيما يبدو من أبعاد رمزية وسريالية مثل قوله في قصيدة اللامتناهي في المتناهي) ص 36

هبطت بعيني في أعماق فنجاني

فرأيت الكون يخلق من جديد

هذا النقيع في القاع له غبار

يهيم طليقا في فضاء مديد

أدرت فيه المعلقة

و اذا بدوّامة تدور ثم تدور

و تجمّع الغبار

في كتلة دائرة معلّقة

و بدا في الأفق نجم وليد.

بل إن العبثية تبدو واضحة الحضور في بعض القصائد الأخرى وقد فرضت معناها في التلاعب بالكلمات المتوالية على غرار ما ورد في قصيدة (نسيج الخليقة)

عروق ذهب في جبل

جبل يسير على قدم

قدم تطير على عجل

عجل يمزّق في رخام

رخام جو من غيوم

غيوم حقل من نجوم

نجوم جوّ من سكون

سكون اصداف بحار

بحار كأس من ورق

ورق يفور ويحترق....(ص29)

و خلاصة القول تتمثل في ان توفيق الحكيم قد كتب الشعر انطلاقا من البحث عن شكل جديد حاول أن يجد له تأصيلا في النص القرآني كما استفاد من المدارس الغربية في الفن عند الثلث الأول من القرن العشرين مما أضفى على قصائده رغم قلة عددها لونا جديدا في مسيرة الشعر العربي الذي يظل التجديد فيها اِستثناء والتقليد هو القاعدة.

***

سُوف عبيد

دخل مكاتب الصحيفة دون أن يقرع بابها. دخل إليّ في غُرفة المحرّر الادبي. أطل مِن عينيه عتب كبير وهو يسألني عن سبب عدم نشري مادته الأدبية الأخيرة. كان هذا الداخل إليّ واحدًا من اصدقائي الباحثين عن ذواتهم، فقد حاول الموسيقى والغناء وبعده الفنّ التشكيلي، كما حاول الكتابة الأدبية. في البداية صوّبت مادته المقدّمة إلي ونشرنها. بعدها جاء إلي بمادة أخرى، فصوبتها ونشرتها. في الأسبوع الثالث، جاء وقدّم مادة أخرى وغادر. تناولت تلك المادة وشرعت في اجراء التعديلات اللازمة. وبينما انا أقوم بتلك المهمة الصعبة/ تصويب تلك المادة، اقترب منّي صاحب الصحيفة، وعندما تبيّن له أنني أُعد ما قدّمه إلي ذلك الصديق لنشره، قال لي دعنا منه.. هذا ليس كاتبًا. لقد قرأت ما نشرته له في العددين الماضيين، واختصر قائلًا دعنا منه. عندما لاحظ ذلك الصديق انني لم أقدّم له ردًا أيًا كان على عدم نشري مادته تلك، عاد يكرّر سؤاله عن عدم نشري لها، وعندما أصررت على صمتي، قال بعتب كبير.. لماذا لا تفتح لي المجال لتجريب الكتابة الأدبية.. وأرسل نظرة إلى البعيد.. ساعدني فهي قد تكون ضربة نرد رابحة. أردت أن أقول له إن الادب ليس ضربة نرد، قد تربح وقد تخسر، وإنما هو نتاج لجهد نفسي واجتماعي كبير، وإن الكاتب لا يُضحي كاتبًا بين ليلةٍ وضحاها، أو بالمصادفة وإنما هو يُحقّق ذاته بالتعب والجهد وسهر الليالي. غير أنني بقيت مُحافظًا على صمتي. أما ذلك الداخل إلي في مكتب المحرّر الادبي، فقد خرج مقطّبًا حانقًا، ولم يعد إلى محاولته تجريب ما اطلق عليه ضربة نرد أدبية.

حاليًا.. في هذه الفترة، لم يعد ذاك الداخل إليّ والكثيرون.. الكثيرون من أمثاله، بحاجة إلى صحيفة ورقية، يعمل فيها مُحرّر أدبي، ولا إلى صاحب صحيفة يقبل بنشر موادهم على مضض حينًا، ويرفض أحيانًا، فقد فتحت وسائل الاتصال الاجتماعي الأبواب على أوسع ما يمكن أن تُفتح، وبات بإمكان مَن يعرف ومَن لا يعرف، أن ينشر كلّ ما يعنُّ له ويخطر في باله من تُرّهات، وكلام فارغ، كما بات بإمكانه أن يجنّد عددًا مِن أصدقائه ومعارفه لأن يشيدوا به وبكتابته "الخارقة"، ناسيًا أو متناسيًا بالأحرى، أن طريق الابداع الادبي قد يكون من أصعب الطُرق التي يمكن للإنسان أن يسلك فيها، ذلك أن الابداع عامةً والابداع الادبي خاصةً يحتاج إلى الدراسة والاطلاع، ولا يمكن لأيٍّ مِن الناس التعاطي به ومعه بسهولة. فمن المعروف أن الكتابة لا تأتي عفو الخاطر، وإنما هي تقوم وتتأسس في ثقافة واطلاع عميقين، على التُراث الثقافي السابق، كون مَن يكتُب ليس نسيجَ وَحده وإنما هو استمرار لسابقين مُتفوّقين ومُجلّين في المجال.

لقد أظهرت السير الذاتية للمبدعين في كلّ المجالات الإبداعية، خاصة الأدبية، أن سُلّم الادب والشعر تحديدًا، صعب وطويل سُلّمه، كما قال شاعرنا العربي القديم الحطيئة، ومَن يطلع على سيَر معظم الكتّاب المبدعين في عالمنا القديم والمعاصر أيضا، لا بُدّ له من أن يلاحظ إلى تلك المُعانيات التي خاضها اولئك مِن أجل أن يكونوا كُتّابًا ومبدعين حقيقيين. لنأخذ مثالًا مِن الكاتب الأمريكي إرسيكن كالدول، صاحب رواية قطعة ارض الله الصغيرة، وصاحب القصص القصيرة الشهيرة، التي تحوّل العديد منها، إلى أفلام سينمائية شاهدها الملايين من الناس، في مختلف انحاء العالم. لنأخذ تجربة هذا الكاتب كما سجّلها في كتابه الموسوم بعنوان "كيف أصبحت كاتبًا؟"، بترجمة الكاتب الفلسطيني الراحل أحمد عمر شاهين أو بعنوان " اسمها خبرة"، بترجمة الكاتب العراقي علي القاسمي، لنتمعّن معًا في هذا الكتاب ولنلاحظ

إلى المعاناة التي عاشها هذا الكاتب كي يحقّق حُلمه في أن يكون كاتبًا معترفًا به، ومما يرد في هذا الكتاب/ السيري، نسبة إلى السيرة، أن صاحبه، ارسكين كالدول، كان يضطر للتنقّل من بيت مستأجر إلى بيت آخر، بعد أن يعافَه مؤجر هذا البيت أو ذاك له، لكثرة ما تتسبّب به آلته الكاتبة من ازعاج تواصل طوال الليل وآناء النهار. لنتمعّن في تلك المُعاناة التي دفعت صاحبها لأن يخصّص كلّ ما يملكه من نُقود قليلة لشراء طوابع الارسال البريدي، لأنه كان يحتاج إلى الكثير منها، فهو يرسل قصته إلى ست أو سبع مجلّات، فإذا رفضتها مُجتمعةً، قام بمحاكمتها وتقديمها إلى منصة الاعدام، أما إذا كانت تَرضى بنشرِها إحدى المجلات، فقد كان يعتبر تلك خطوة موفقة في طريقة الادبي الصعب. اقرأوا هذا الكتاب.

صحيح أن الدنيا تغيّرت وتبدّلت في العشرات الأخيرة من السنين الماضية، وصحيح ان أحدًا ليس مخوّلًا لمنع هذا أو ذاك من ممارسة حقّه في القول والتعبير، فلم يكن الامر كذلك، لا في الماضي ولا في الحاضر، بيد أنّ ما نُودُّ قولَه هو أن الحياة تتغير وأن مياهها دائمة السيولة، على حدّ تعبير عالِم الاجتماع البولندي المقروء عالميًا، في جُماع مؤلفاته التي تمّت ترجمتُها إلى العديد من اللغات منها العربية. كلّ هذا صحيح، لكن الاصح منه ألا يتحوّل الابداع بصورة خاصة، إلى حيّز لعبث العابثين، وللحمقى والتافهين، على حدّ تعبير الكاتب السيميائي الإيطالي اومبرتو ايكو، صاحب اسم الوردة. أؤكّد في النهاية أنه يوجد هناك فرقٌ كبيرٌ بينَ الحرية التي يتطلّبها الابداع في كلّ مجالاته، وبين الفوضى الهدّامة التي يتبنّاها البعض، لا أقول الكلّ.. عندما يرون أن الابداع الادبي، يمكن أن يكون ضربة نرد، قد تُخطئ وقد تُصبب، علمًا ان الابداع الادبي خاصة، كما أثبت التاريخ حتى هذه الأيام، لا يمكن أن يكون حقًا وحقيقةً، إلا وليدًا حقيقيًا وأصيلًا للإرادة والتصميم.

***

ناجي ظاهر

اختلف النقّاد والشعراء في تعريفهم للشعر، وتعدّدت مفاهيم هؤلاء، تقاربت حينًا وتباعدت آخر، غير أنهم لم يختلفوا في تعريف الادب في جوهره، وقد اتفق مَن قاموا بدراسة الادب وتعمّقوا فيها، على أربعة عوامل لا بدّ من توفرها في أي عمل أدبي حقيقي وجدير، هذه العوامل هي: الفكر، المشاعر، الخيال والأسلوب، أما فيما يتعلّق بأدبنا العربي القديم، فقد ذهب بعض من الباحثين، لا أقول النقاد، إلى ان الشعر هو الكلام الموزون المقفّى، وقد اختلف النقاد مع هؤلاء، ورأوا ان اشعر ابعد واعمق من الكلام الموزون المقفى، كما سنلاحظ فيما يلي، هكذا رأى بعض العالمين ببواطن الشعر ان له علاقة بالسحر، وانه عالم من الخلق، الدهشة والاغراب، ومن مثل هكذا رؤية، بات الشعر، إضافة الى أهمية الوزن والقافية في تكوينه، اشبه ما يكون بالكلام الطائر المجنح، الذي يتمكّن فيه صاحبه من أخذ قارئه الى عالم مجنح من يرفرف في مرافئ بعيدة، وجزر لا تغيب عنها الشمس. من هذا الراي انطلق في ابداء عدد من الملاحظات، دفاعًا عن هذا الكائن الفاتن الرائع/ الشعر، وذودًا عن حياضه المُنتهكة من اعداد هائلة من المتطفلين والمنتهكين المحترفين.

الشعر العمودي: ابادر أولا الى ما سبق وردده الكثير من النقاد قديما وحديثا، وهو ان الشعر ليس كل كلام موزون ومقفى، وضرب بعض هؤلاء مثالا صارخا في هذا المجال، بألفية ابن مالك التي يُعرّف بها قواعد اللغة العربية، بوساطة الشعر الموزون المقفى. فما هذه الالفية بإجماع الجميع، الا نظم متقن وخال من الحياة والروح. وقد ميّز الناقد المفكر العربي العريق عبد القاهر الجرجاني، صاحب دلائل الاعجاز واسرار اللغة، بين النظم والخلق، ورأى في الشعر زيادات واضافات من العاطفة والخيال، ضمن إشارة مفادها ان القصيدة العمودية ما هي الا عالم ضاج بالحركة والاثارة. اما ناقدنا العربي الكبير حازم القرطاجني صاحب منهاج البلغاء فقد رأى ان الشعر، ويقصد العمودي بالطبع، هو عالم من الاغراب والادهاش، وان الشاعر المبدع هو ذاك الذي يأخذ بيد قارئ قصيدته زاجا إياه في حالة شعرية فاتنة سبق له وان عاش فيها وعبر عنها، بكل ما في كينونته ووجوده من إغراب وإدهاش كما سبقت الإشارة. وقد تقاطع مع ناقدنا في مفهومه هذا للشعر ناقد معروف في كل المحافل الأدبية في العالم، هو جون كوهن صاحب اللغة العليا وبناء لغة الشعر، فقد رأى هذا الناقد في الشعر، نفس ما رآه حازم القرطاجني فيه. ماذا نُريد أن نقول من هذا؟.. نريد أن نقول إن معرفة العروض واتقان الاوزان لا تخلق شاعرًا مبدعا، وان الشاعر لا يولد بين ليلة وضحاها، وانما يحتاج الى ثقافة ومعرفة بالشعر، اسراره وخفاياه، لدى كباره وعظمائه خاصة. أقول هذا كله وانا أفكر في أولئك الذين يعتقدون انهم بتعلمّهم العَروض والاوزان، يمكنهم تعاطي الشعر والتعامل معه، وها انذا أتذكّر نادرة طريفة في هذا السياق، عندما نوى الحسن ابن هاني/ أبو نواس، ان يكون شاعرا اقترح عليه أحدهم، ان يستشير خلف ابن الأحمر، أحد اهم رواة العرب الشعريين في زمانه. ذهب أبو نواس الى خلف ووجه اليه سؤاله ذاك، فطلب منه ابن الأحمر ان يذهب الى البادية وان يحفظ هناك الفي بيت من الشعر. نفّذ أبو نواس ما طلبه منه ابن الأحمر وعاد اليه ليستظهر ما حفظه عليه. استمع ابن الأحمر الى ابي نواس وهو يهز راسه اعجابا وتقديرا، وقال له الان بإمكانك ان تكتب الشعر. هذه النادرة تؤكد ما قاله جرول ابن اوس/ الحطيئة، وهو ان الشعر صعب وطويل سُلّمه، فلا تستخفوا بالشعر يا اهلي واحبابي.

قصيدة النثر: اعتقد أن ما قيل عن بحر الرجز في شعرنا العربي القديم، وتردّد على اكثر من لسان وفي اكثر من مجلس، وهو ان الرجز هو حمار الشعراء، انطبق على قصيدة النثر او ما اطلقت عليها هذه التسمية. فكل مَن أراد ان يكون شاعرا، دون دراسة مُتعِبة ودراية تحتاج الى سهر الليالي الطوال، توجّه الى كتابة هذه القصيدة، وكل من اعجزته معرفة الموسيقى الشعرية، مكنوناتها ومكنوزاتها، تلك التي تعتبر من اساسيات العملية الشعرية، كما اقر بها العشرات من المنظّرين، النقّاد والباحثين، توجّهوا الى هذا النوع من الكتابة، التي لا تكلّف الواحد منهم سوى نثر الكلمات دون ترتيب منطقي مسبق، ليطلق على ما كتبه مصطلح قصيدة النثر. اما مَن فشل في قصة حب واراد ان يبعث رسالة مُغلّفة بكلمة شعر الساحرة، خاصة في الاذن العربية، حتى قام بكتابة تلك القصيدة الما تتسمى. اما النساء لا سيّما مَن ارادت ان تسجل تفوقا مشهودا على بنات جنسها، فقد دخلت السباق الشعري الموهوم، وراحت تدبّج الكلمات تلو الكلمات مطلقة عليها تلك الصفة، لا اريد ان اواصل ذكرها. اشير بالمناسبة الى ما سبق ونوّهت اليه في العديد من الكتابات واللقاءات، وهو انني عرفت الاخوة الذين كتبوا قصيدة النثر في بلادنا، وعرفت أيضا انهم حاولوا وبذلوا الكثير من الجهد والوقت لتعلّم البحور الشعرية غير انهم أخفقوا، الامر الذي دفعهم الى كتابة هذا النوع من الشعر، أولًا كي يقنعوا أنفسهم والمحيطين بهم انهم يستحقون تلك الصفة الباهرة الساحرة صفة الشاعر، وثانيا لأنهم اقنعوا أنفسهم بأوهام طالما اقتنع بمثلها أناس في الخارج وفي بلادنا أيضا، وفي مقدمتها انه توجد هناك قصيدة تسمى قصيدة النثر، ناسين او متناسين عمدا، ان غياب الموسيقى من الشعر هو اشبه ما يكون بغياب الروح من الجسد، واذكّر هنا بما قاله الناقد محمد النويهي، نقلا عن نقاد معروفين ومشهود لهم في العالم الشعري، وهو ان الموسيقى هي جانب هام من جوانب العملية الإبداعية. فالطفل عندما يفرح لأن اباه عاد بما أراده واحبه من فواكه يهتف راقصًا اجى ابوي.. اجى ابوي. اما الشاعر الفرنسي الكبير بول فالري فقد وصف الشعر بالرقص والنثر بالمشي. وشتان ما بين الاثنين. لا اعرف لماذا يصرّ الكثيرون على تسمية ما يكتبونه بقصيد النثر، مع اننا نعلم انه يوجد هناك تعبير حداثي جديد يقول بشعرية الكلام. وهنا اضم صوتي الى أصوات نقّاد آخرين، من بينهم الناقد الصديق نبيه القاسم، في احتجاجهم على إصرار البعض اطلاق اسم القصيدة على كلام قد يكون نثرا شعريا جميلا.. هل هو جنون التسمية؟ هل ابتعدنا عن الابداع الإنساني الى هكذا حدّ؟.. هل وصلنا الى جنون الشكل.. واهملنا عقلانية الجوهر؟. ما هذا الجنون.. ولماذا تصرفون عقلاءنا عن قراءة الشعر بنشركم ترهاتكم يا اصلحكم الله.

شعر فيسبوكي: بالعودة الى كتابة سابقة في هذا الموضوع، اكرّر، ما سبقة وطرحته حول هذا النوع الذي اخذ يطلّ علينا مشرئبا بعنقه هازا براسه، منذ ظهور وسائل الاتصال الاجتماعي، والفيس بوك تحديدا، فقد شرعنا نرى تحوّلا في مفهوم الشعر، يركّز على ما يطلبه القارئ او المستمع، مِن نقد، وأفكار لا تخلوا من جفاف، فيصوغ الكلمات بطرائق متعدّدة، كل ما تطلبه هو اثارة المستمع او المشاهد الى حدّ التفاعل والتصفيق، وعليه اخذنا نرى هذا الشاعر يتلّوى ويتقصّع، ويوجه انتقاداته اللاذعة الى هذه الظاهرة او تلك من الظواهر، التي يعرف تمام المعرفة انه يوجد هناك الكم الكبير من جمهوره يريد ان يسمعها، وان تفاعله معها بات في معتقده من الأمور المفروغ منها، أو راينا تلك المرأة الملآى رغبة في الظهور كونها حديثة عهد به، توجّه كلماتها الناقدة الى كل الزعماء العرب واضعة إياهم في كفة واحدة وكأنما لا يوجد بين احدهم والآخر أي فرق، كما هو الامر في الواقع. صحيح ان النقد والفكر هما من صفات الانسان المثقف المُطّلع، سواء كان كاتبا او شاعرا، وهذا ما شهد به التاريخ الادبي عامة والشعري خاصة، حتى ان شاعر العرب الأكبر أبو الطيب المتنبي، وجّه إليهم نقدا لاذعا وصفهم، او بالأحرى وصف قطاعا واسعا منهم قائلًا: يا امة ضحكت من جهلها الأمم. هذا وغيره صحيح ومعلوم، بل اننا نذهب الى ابعد منه فنرى ان الادب الحقيقي بعامّته، انما هو في أحد تعريفاته العميقة، ضد كل سلطة سواء كانت السلطة الحاكمة او السلطة النصّية السابقة والمُهيمنة. هذا كله صحيح، ولا يوجد لدينا خلاف كبير معه، الخلاف يبدأ عندما يتحوّل مَن يُمكننا أن نطلق عليهم شعراء الفيسبوك، الى مُهرجين او اشباه مهرجين كل همهم هو ان يثيروا جمهور مشاهديهم او مستمعيهم، وان يستجدوا تصفيقهم. فالشاعر الحقيقي لا يمكن ان يكون مهرجا كل همّه اثارة جمهوره، كما يحصل في الحالة التهريجية، وهو إضافة الى هذا لا يمكن ان يكون مستجديا يتسوّل المشاعر والتصفيق، بترداده ما يودّ الآخر ان يستمع اليه. الانسان الحقيقي، بما يشمل الشاعر الحقيقي، يُبدع في العُمق لذاته أولا وثانيا وثالثا، بمعنى انه انما يكتب لإنسان صغير في داخله، انسان يشبهه كل الناس المماثلين له على الأقل، وعندما يصل الى هذا الانسان، يصل الى الآخر، اما ان يقلب الآية ويبدا من الاخر، فهذه هي الطامة الكبرى التي قد يُفضي اليها هذا النوع من الكتابة الشعرية.. شعر الفيسبوك.

***

ناجي ظاهر

 

عندما ضربت النكبة ابي بيدها الحديدية الخالية من الحياة والروح، اضطر لمغادرة قريته سيرين الحبيبة الوادعة، مكرها لا بطلا، تصحبه والدتي واخي الاكبر جوهر واختي نجية وخالاي محمد وعوض، رحمهم الله جميعا واطال في عمر اختي نجية، ليتشردوا في طول البلاد وعرضها وليستقر بهم المقام بالتالي في مدينة الناصرة، لأولد بعد سنوات، ولتولد فيها ايضا اختي ليلى وبعدها بسنوات اخي الاصغر موفق او توفيق كما اعتدنا مناداته. في تلك السنوات الغبراء السوداء، كان ابي في نحو الخمسين من عمره. وقد اراد حينها ان يستعيد عافيته المُولّية المُدمرة، فسافر الى مدينة حيفا، ليضع رأسه هناك في قفة تراب، وليعود بعد نحو الثلاثة عقود الى الناصرة ليفارقنا في رحلته الابدية الاخيرة.. بعد سفرة عمر قد تكون الاقسى لكثرة ما رافقها من الآلام والمعانيات.. رحل ابي قبل اربعة عقود ونيف، وها انا اشعر بها وكأنما هي اربع دقائق.. فيهزني الشوق اليه والى ايامه العذبة، رغم ما حفلت به من مر يوحي برائحة الحنظل.

فارقنا ابي رحمه الله، في صباح احد الايام المغبرة المصفرة. بعد ان دعونا الدكتور عزيز سروجي لمعاينته كما افترضت الاعراف والعادات، تمنيت لو انه ينظر نحوي عبر نظارته الطبية العريقة ويقول لي وابتسامته المعروفة تبشرني بالأمل القائل بان ابي لم يرحل وان كل ما حدث في ذلك الصباح، ما هو الا مزحة ثقيلة اخرى ارسلها الينا القدر في محاولة منه لامتحان صبرنا المتجدد وغير المتناهي، سوى ان ما حدث بالفعل كان غير ذلك.. وما زلت ارى رأي العين والمس لمس الروح، شفتي ذلك الطبيب القريب من قلبي.. وهو يقول لنا البقية في حياتكم.. العمر الطويل لكم.. يرحمه الله.

توجهت بعد انتهاء حياة ابي ورحيله المؤسي، الى مقبرة الناصرة وسألت حارسها عما يُطلب منا، نحن ابناء العائلة المهجرة، ان نفعل، فرد علي بعينين لمست فيهما اسى شفافا ومعنى غامضًا، قال هذه المقبرة لأهل البلد، واقترح علي ان اتوجه الى مقبرة" الغرباء"، لدفن ابي هناك.. توجهت الى تلك المقبرة، عينت موقعا تحت شجرة صنوبر وارفة.. وهناك حفرنا في بطن الارض لندفن ابي بهدوء وصمت يليقان بلاجئ في الوطن. بعدها بعقود نافت على الثلاثة، دفنا والدتي في نفس القبر على منى ان تلتقي الآمال الهاربة بين احب الناس الي واقربهم الى قلبي وروحي.. امي وابي. اما اخي جوهر ، وبعده اخي توفيق، رحمهما الله فقد تم دفنهما بعد رحيلهما المبكر، بفارق سنوات بينهما بالتأكيد ، في مقبرة الناصرة الجديدة.

كان ابي يحلم ان يدفن في ارض قريته سيرين، وقد عبر عن هذا اكثر من مرة، واذكر انني رأيت عندما زرنا قريتنا بعد عام النكبة الثانية "نكبة 67"،.. رأيت في عينيه دمعة وسؤالا.. دمعة لإحساسه انه لن يدفن، على الاغلب الاعم، في قريته العزيزة الغالية مسقط رأسه سيرين.. وسؤالا مفاده: ترى هل سيضمني تراب قريتي بحنو كما ضم قدمي الحافيتين ايام كنت طفلا صغيرًا؟

كثيرا ما كان ابي ينقل الينا رغبته هذه مرفقة بأحزان من عرف ان ما كسرته الايام من زجاج لن يعاد له سبك، واذكر بكثير من الالم انه كان في لحظات شروده يردد كلمات.. يغنيها، هي:

"يا شجرةٍ في الدار حاميكِ اسد

وتخلعت الغصون من كثر الحسد

زرعت الزرع.. واجى غيري حصد

يا حسرتي.. راح الزرع لغيرنا".

رحم الله ابي ورحم جميع مهجرينا ولاجئنا.. في البلاد والخارج والشتات ايضا، واسبغ عليهم رحمته الواسعة.

***

بقلم: ناجي ظاهر

لا تكترث لزيادة تاء غير مألوفة..

ودعك مما يثيره الاسم من حنين إلى الشدو المنساب عبر الأثير العربي، متوسلا طير الوروار أو مناجيا زهرة المدائن. فيروزة هنا عنوان الشقاء في بلدتي، حيث كل شيء يباع ويشترى حتى الضمائر!

قد تجد فيروزة في كل بيت. أما أو أختا أو جدة ملقاة في أي ركن كالدمية البالية. لذا لن أحكي شيئا مما تعرفه، أو تعودت طبلة أذنك على اهتزازاته كل صباح في مقهى الناصية.

 لك وعد مني، أنا الراصد لبعض ألوان الشقاء، أن تكمل القصة وتنصرف. لأنك دُست مثلي على صور الحرمان دون اكتراث. ما العيب في ذلك إن كان العالم خطة فاشلة لاقتناص السعادة؟ 

هرولت العاملات إلى حيث سقطت فيروزة مضرجة بدمها القاني. شمس الظهيرة تلفح الوجوه بسياطها اللاذعة لتزيد المشهد تذمرا وسخطا، بينما صوت مالك الضيعة يقرع الآذان بشتائمه الغليظة متوعدا فيروزة بالمزيد.ولد الخيرية، صاحت إحداهن، لو كنت ابن أصل لما رفعت عصاك على ولية. تفو يلعن أب.." ركلت الأخرى علب الكرتون المرصوصة غيظا فتناثرت حبات الخوخ يمنة ويسرة على العشب المبلل.

فيروزة ممددة جنب الطريق ترسل أناتها الموجعة، بينما العاملات يتوسلن العربات المارة لنقلها إلى المركز الصحي. يقف أحدهم لالتقاط صورة، ويلوح آخرون معتذرين عن التصرف بإنسانية في بلد قوانينه لا ترحم !

لم يكن مالك الضيعة غير مُهرب سابق، أفلت من حملة التطهير التي شنتها الداخلية على رؤوس أينعت في الشمال وحان قطافها. حسابه البنكي لم يعد في مأمن من المساءلة أو المصادرة، فحمل مدخراته إلى سفوح الأطلس. يكفي شراء ضيعة بائسة، وحفر بئر تعيد لشجيرات الخوخ نضارتها حتى يسلم المرء من ملاحقة المخبرين. هنا كل شيء هادئ تقريبا. عوَز يضطر القرويين أن ينادوك: سيدي، ويتحينوا غفلة من الحارس لتأخذ علب الخوخ وجهة أخرى. ليسوا لصوصا لكنهم يمتحنون عدالة السماء. إن أمطرت ففي صدر الرب متسع لزلاتهم، أما حين تنضب الآبار الصغيرة، ويضطر أحدهم إلى بيع دجاجاته بثمن بخس فإن غريزة السلب تنبعث من رمادها كعنقاء مجنونة !

يبدأ يوم فيروزة قبيل الفجر بدقائق تكفي لحزم صرتها، وارتداء معطف زوجها الراحل. بين الدعابة والمرح على ظهر الشاحنة المتجهة صوب الضيعات الجنوبية، انكشفت لفيروزة هموم متلاحقة. ما الذي أصابكن يا حفيدات الوجع اليومي والتيه في دروب الأحلام الوعرة؟ نثرت كل بلهاء منهن ما لملمته طوال شهور بين يدي مالك الضيعة، لقاء ماذا؟

عقد للعمل بدولة خليجية..

أو زواج متعة برب مزرعة مجاورة، ينتهي غالبا بكسر مضاعف في لوح الكتف..

لكن ما هز الفؤاد حقا تأكيدهن بأن المرء لا يحتاج سوى كلية واحدة، أما الأخرى فكنز علي بابا الذي يطوي أيام العوز المريرة !

استأذنت بالدخول ثم شرعت تحكي سيرة زواجها المُرة:

- زوجي كان من أعيان البلدة. غرته أيام الباكور السبعة فتاجر في كل شيء. المال والشرف والسياسة. قبح الله الزلط الذي يجعل ابن الحرام قاضيا للحوائج.الله يهديك يا وليدي سـ...

ترنحت فيروزة قبل أن تهوي. صدى الكلمات يخفت شيئا فشيئا بينما ينساب خيط دم دافئ على السجاد. شيء ما يمرق إلى عظامها كوخز الإبر، ثم رائحة عشب مبلل تنفذ إلى الخياشيم.

قد تجد فيروزة في كل بيت، لذا لن أرش ملحا على جرحك المخبوء في فنجان قهوة. فأنت مثلي.. راصد لألوان الشقاء دون اكتراث !

***

حميد بن خيبش

تختلف اللغة الابداعية عن اللغة اليومية المباشرة بالعديد من الصفات والسمات، ففي حين يتمحور همُّ اللغة اليومية المتداولة بين الناس في عملية التوصيل، فإن اللغة الابداعية كما يرى دارسو الادب ونقاده، لا سيما الخبراء في علم الاسلوب، تتمحور في هموم أخرى مختلفة تمام الاختلاف، مع عدم تجاهل عملية التوصيل، ذلك أن الكتّاب والشعراء الجادين لا يتنازلون عن عملية نقاوة التوصيل اللغوي، ويصرّون في الآن ذاته على جماليات اللغة الابداعية، علمًا ان هذه  اللغة تختلف الى حد بعيد عن لغة الكتابات النثرية، اقول هذا وانا افكر في اللغة المخادعة التي تحدثت عنها في هاجس سابق، فهناك فرق بين اللغة الابداعية في الشعر والقصة وبينها في لغة المقالة التي يُفترض ان تكون واضحة كونها ترمي الى توصيل معنى او اكثر تم تحديده مسبقًا من قبل كاتبه المرسِل له. 

تتصف اللغة الابداعية، كما يظهر من اعمال ادبية راقية ومعروفة، بالعديد من الصفات، ذلك ان حمولتها تختلف عن حمولة اللغة اليومية المباشرة او حتى لغة الكتابة النثرية خاصة في المقالة الصحفية بالعديد من الامور، فيما يلي اشير إلى عدد من مُميزات اللغة الابداعية.

* الانزياح: تنزاح اللغة الادبية لا سيما في مجال الشعر، عن اللغة اليومية المباشرة، ضمن محاولتها رفد ذاتها بحمولة تتوزع على المتطلبات الادبية المتفق عليها بين الدارسين وهي: الفكرة، المشاعر الوجدانية، الخيال والاسلوب. لهذا تنحو هذه اللغة حينًا نحو الغموض وآخر نحو الوضوح، وتحاول في كلتا الحالتين أن تُحقق هدفها المقصود، وهو إثارة مشاعر قارئها بحيث تتماهى هذه المشاعر مع مشاعر صاحبها الشاعر، فتتداخل بذلك فيما بين المرسِل/ الشاعر او الكاتب وفيما بين المرسَل اليه/ القارئ، وقد تحدّث عن عملية التأثر هذه العديد من النقاد والباحثين الادبيين، اذكر منهم اثنين احدهما عربي والآخر أجنبي، أما العربي فهو حازم القرطاجني صاحب الكتاب الرائد في علم الشعر وصناعته واعني به كتاب "منهاج البلغاء وسراج الادباء". لمن يهمه الامر اقول إن طبعة محققة صدرت من هذا الكتاب الهام في نقدنا العربي القديم ضمن منشورات الغرب الاسلامي المُميزة، وان الباحث الدكتور المتخصص في دراسة ادبنا العربي القديم خاصة الشعرمحمد محمد أبو موسى وضع كتابا رائعًا حول هذا الكتاب-منهاج البلغاء- قرّب فيه مفاهيمه وما تضمنه من آراء ورؤى متعمقة. حمل هذا الكتاب عنوان" تقريب منهاج البلغاء". اما الاجنبي فهو جون كوين صاحب الكتابين اللافتين عن "اللغة العليا" و"بناء لغة الشعر"، وقد تمت ترجمة هذين الكتابين إلى العربية، وبإمكان من يود التوسع في الموضوع قراءتهما.

* الايحاء: وواضح من هذا ان اللغة الابداعية، تختلف عن اللغة اليومية المتداولة، في كونها لغة ايحائية تعتمد التلميح والاشارة من بعيد او قريب، وسيلةً لتوصيل ما تود توصيله، وهنا تؤدي براعة الانسان/ الكاتب المبدع، دورًا رئيسيًا في تشكيل هذه اللغة، فهو يتحدث إلى قارئه بلغة تكتسب كل صفات اللغة، غير انها تختلف عنها جوهريًا، ففي حين أن اللغة المتداولة يوميًا، وحتى لغة المقالة الصحفية، إلى حد بعيد، ترمي إلى توصيل معنى واحد محدد مسبقًا من قبل الكاتب، فان اللغة الايحائية ترمي إلى اكثر من معنى، يبرز من بين هذه المعاني، نقل الحالة التي يود الشاعر أو الكاتب السردي توصيلها إلى قارئه، لهذا فان بإمكاننا أن نقول إن ما وراء الكلمات أهم بكثير من الكلمات ذاتها في اللغة الايحائية، وينطبق على هذه اللغة ما اعتدنا على قوله في مثلنا السائر وهو " الحكي الك واسمعي يا جارة". من هكذا منطلق أعتقد أنه يتوجب علينا التعامل مع اللغة الابداعية ضمن اعتبار مختلف عن ذاك الذي نتعامل به مع اللغة اليومية المتداولة. من مواصفات هذه اللغة- الايحائية- انها تتحدث من داخل اللغة وليس من خارجها فهي لا تذكر ما تود ذكره بطرائق مباشرة، بقدر ما تذكره ضمن سياقاته الشعرية والقصصية ايضًا. ومن مواصفات هذه اللغة أيضًا تُجسّد الحالة التي يعيشها الراوي الشعري او القصصي وتروي ما ترمي إلى روايته من وجهة نظر هذا الراوي.. كما يتخيلها الكاتب مرهف الاحساس واسع التجربة وشديد الملاحظة. للتوسع في هذا الموضوع اقترح على من يريد أن يقرأ كتاب " عناصر القصة"، لمؤلفه روبرت شولز ترجمة محمد منقذ الهاشمي.

* الغائية: وتتمثل هذه في أن اللغة الابداعية تتحوّل في العمل الادبي الابداعي، من كونها اداة توصيل وحسب، الى لغة تتغيّا ذاتها، بمعنى أنها تضحي هدفًا جماليًا قائمًا بحد ذاته له استقلاليته وبُعده القائم بذاته، لكنه يستهدف اول ما يستهدف عملية التأثير عبر استعمال صاحبه الكاتب، قاصًا او شاعرًا، للجماليات اللغوية، وهو يفعل هذا كله، معتمدًا على التأثير اللغوي في قارئه. لهذا نلاحظ أن المبدعين الجُدد لا سيما في مجال كتابة القصة والرواية، يبتعدون عن الجماليات القديمة المتعارف عليها كلاسيكيًا وقديمًا، ويلجؤون إلى استعمال اللغة النابعة من أعماق الحالة الادبية المقصود توصيلها من مُرسِل إلى مُرسَل إليه. على هذا يمكننا أن نشير إلى أن المبدع الجديد والمُجدد يسمح لنفسه التلاعب في اللغة تقديمًا وتأخيرًا، وهو ما سبق وحدث في نماذج عديدة من شعرنا العربي ايضًا، ولعلّنا نشير هنا إلى مثال بارز مارسه الكثيرون من كُتّاب القصة المحدثين في مقدمتهم الكاتب العربي المصري اللامع يوسف ادريس، عندما قدموا مثلًا الفعل على الفاعل، على العكس مما تقول به الاسس اللغوية المتعارف او المتفق عليها.

صفوة الرأي، أن اللغة الابداعية تختلف عن اللغة المتداولة يوميًا بين الناس، وأنها تتصف بالعديد من المواصفات والصفات المختلفة، أهمها الانزياح، الايحاء والغائية. وعليه بإمكاننا القول إن الاختلاف بين هاتين اللغتين إنما يؤدي أمرين هامين جدًا احدهما في صميم اللغة الابداعية وهو تأثير المرسل/ الكاتب في المرسل إليه/ القارئ، والآخر أن اللغة الابداعية عادة ما تُجدد شباب اللغة كما قال الشاعر الفرنسي الهامّ جدًا بول فالري.

* * *  

هاجس: ناجي ظاهر

ليست مجرد محاكاة للماضي

بقلم: أندريا باريت

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كاتبة "الغبار والضوء" تشارك تأثيراتها التأسيسية في استخدام الحقائق داخل الرواية

س: ما الذي يحيط بالأرض؟

ج: الغلاف الجوي؛ وهو مكوّن من الهواء والبخار وغازات أخرى.

س: إلى أي مدى يمتد الغلاف الجوي عن الأرض؟

ج: حوالي 45 ميلًا.

س: ماذا يمكنك أن تقول عن الهواء؟

ج: يصبح أرقَّ أو أقل كثافة كلما ابتعد عن الأرض.

س: عندما يتبخر الماء، أين يذهب؟

ج: يرتفع إلى الهواء.

س: كيف يمكن للماء أن يرتفع إلى الهواء؟

ج: يتحول إلى بخار، وحينها يصبح أخف من الهواء.

س: عندما ترتفع الأبخرة وتتكاثف، ماذا يُطلق عليها؟

ج: الغيوم.

– من "الدرس التاسع عشر" في كتاب دليل جيمس مونتيث في الجغرافيا، المصحوب بالتاريخ وعلم الفلك (الطبعة المنقحة، 1868).

كتاب بني اللون، تملؤه البقع البنية وعلامات التآكل، وقد تهالك غلافه الجلدي حتى كاد يختفي. ربما استخدمه معلم، وربما تناقله بعض الطلاب. يشير الغلاف الخلفي إلى أنه جزء من السلسلة الجغرافية الوطنية، ويؤكد أن "هذه الكتب استُخدمت بنجاح كبير في مدارس كل ولاية في الاتحاد، وتزداد شعبيتها باستمرار."

إذا تأملت أي صفحة من هذا الكتاب بما فيه الكفاية—لنقل، الرسم الخشبي الصغير في الصفحة التاسعة والثلاثين، حيث تظهر سفينة شاهقة، وحوت ضخم، ورجال يتطايرون من قاربهم الضيق ليعلقوا فوق الأمواج، مع تعليق توضيحي: صيد الحيتان في البحار الشمالية—صائدو الحيتان في ماساتشوستس—مخاطر صيد الحيتان—جبال الجليد—فإن عالماً بأكمله ينفتح أمامك. تظهر شخصيات، وتلوح في الأفق حكايات لم تُروَ بعد.

كيف يحدث ذلك، لي ولغيري من الكُتّاب، هو ما أنوي الحديث عنه هنا. ليس تاريخ كاتب واحد (أنا)، بل بعض التأملات حول كيف ولماذا قد يحوّل أي كاتب (بما في ذلك أنا) شذرات من التاريخ، مثل ذلك الكتاب البني المهترئ، إلى عمل روائي.

غالبًا ما أكتب روايات تدور أحداثها في أزمنة وأماكن غير زماني ومكاني: روايات تستند إلى حقائق، تُشكّلها القصة والشخصيات. ويرجع ذلك جزئيًا إلى اهتمامي العلمي بالتاريخ والعلوم، دون امتلاك المثابرة والمهارات الفكرية اللازمة لممارستهما أكاديميًا؛ فقد التحقت لفترة وجيزة ببرنامج الدراسات العليا، أولًا في علم الحيوان ثم في التاريخ، لكنني شعرت سريعًا بالرهبة من حجم العمل المطلوب، وخيبة الأمل من أساليب البحث التي لم تروق لي.

يرجع ذلك إلى حد ما إلى طبيعتي الشخصية؛ لا أحب الكتابة عن نفسي. ورغم أن هناك كتبًا رائعة ألّفها كُتّاب استندوا بالكامل إلى تجاربهم الشخصية، إلا أن روايتي الأولى، التي تناولت قصصًا عائلية، جعلتني أدرك أن هذا ليس طريقي. إذن، أين يمكنني أن أبحث عن مادة للكتابة؟

لا أحب الكتابة عن نفسي. ورغم أن هناك كتبًا رائعة ألّفها كُتّاب استندوا بالكامل إلى تجاربهم الشخصية، إلا أن روايتي الأولى، التي تناولت قصصًا عائلية، جعلتني أدرك أن هذا ليس طريقي. إذن، أين يمكنني أن أبحث عن مادة للكتابة؟

في الربيع الماضي، راقبتُ طائر الـ فيبي وهو يحاول بناء عش على حافة ضيقة لا تتجاوز نصف بوصة فوق بابي الأمامي. في البداية، لم نلحظ أنا وزوجي سوى لطخة من الطين فوق الحافة وبقايا نباتات رطبة متناثرة على الشرفة. تخلصتُ من تلك البقايا مرتين.

وأخيرًا أدركنا أن طائرًا (عرفنا لاحقًا من صوته أنه فيبي) كان يجلب خيوط الطحالب والأشنيات، محاولًا لصقها بالبصاق والطين على مساحة صغيرة جدًا لا يمكنها حمل العش. عندما قام زوجي بتثبيت قطعة صغيرة من الخشب الرقيق على الحافة، ظهر في اليوم التالي عش متين من الطين، مبطّن بخيوط من العشب والطحالب والشعر والوبر والريش. ولم يمضِ وقت طويل حتى فقست فيه ثلاثة أفراخ.

لم يكن أي جزء من هذا المشهد، أو مما قرأته لفهم ما كان يحدث، ليبدو لي كمادة واعدة لكتابة الرواية عندما كنت صغيرة. لكنه أصبح كذلك لاحقًا—وهو التغيير الأكبر في مسيرتي الكتابية.

على مدى رواياتي الأولى، تعلمت أن أمدّ يدي إلى الخارج، إلى ذلك الثراء الهائل للعالم، وأيضًا إلى الخلف، نحو الماضي الذي يكمن تحت حاضرنا. ولحسن الحظ، فإن مواد التاريخ والفن والعلوم والطب وعالم الطبيعة—وهي أكثر الأشياء التي تثير اهتمامي—لا تنتهي، تمامًا كأكوام الكتب والوثائق المبعثرة في المكتبات المستعملة، والأقبية، والأرشيفات، وكل مكان. مثلًا، "دليل مونتيث للجغرافيا"، الذي أهداني إياه صديق عزيز، أو ذلك الكتاب الذي يحمل عنوانًا رائعًا، "أشكال الماء في السحب والأنهار والجليد والأنهار الجليدية"، والذي سقط عرضا من رف مكتبة بينما كنت أمد يدي لالتقاط شيء آخر، ثم أصبح لاحقًا مصدر إلهام لرواية.

ومع ذلك، حتى عندما تعمقت أكثر في الماضي وبدأت، مع حمى السفينة، في كتابة قصص تدور أحداثها بالكامل في أزمنة وأماكن لم أعشها، لم أفكر في نفسي ككاتبة "روايات تاريخية". كان هذا التصنيف، بالنسبة لي، مرتبطًا بتلك المجلدات الضخمة التي كنت أقرأها في صغري، منغمسة في حبكات درامية جامحة بينما كنت مقتنعة أيضًا بأنني أتعلم بعض التاريخ.

في صيف عامي الثالث عشر، كنت بحاجة ماسة إلى ذلك الهروب. إذ وجدت نفسي، بسبب سوء تصرفي وتغير أوضاع عائلتي، محبوسة في غرفة معتمة في منزل غير مألوف، أنتظر بدء دراستي الثانوية في مدينة جديدة، وليس لدي ما أفعله سوى القراءة.

لم تكن عائلتي من محبي القراءة، لكن لا بد أن ملاك المنزل السابقين كانوا كذلك،أى محبون للقراءة؛ إذ تركوا وراءهم مجموعة متنوعة من الكتب، معظمها روايات، وكثير منها من إصدارات "نادي كتاب الشهر" أو "النادي الأدبي". والأغرب، حين أنظر إلى الأمر الآن، أكتشف أن معظمها كان من الروايات التاريخية. من المحتمل أنني قرأتُها جميعًا.

على سبيل المثال، "ميلا 18" (1961) لليون أوريس، التي شكلت لعقود مصدر معرفتي شبه الوحيد عن انتفاضة جيتو وارسو، و**"الخروج"** (1958) له، التي تناولت تأسيس دولة إسرائيل، وبقيت لفترة طويلة مرجعي الأساسي حول هذا الموضوع. كذلك قرأت رواية "العذاب والنشوة" (1961) لإيرفينج ستون، عن مايكل أنجلو، ورواية "شغف الحياة" (1934) عن فان جوخ. وقرأت رواية "الأرض الطيبة" (1931) لبيرل باك، عن الحياة في قرية صينية؛ ورواية "كاثرين" (1954) لأنيا سيتون، التي استعرضت قصة عشيقة جون جونت، والتي كانت أيضًا شقيقة زوجة جيفري تشوسر. وغير ذلك الكثير من الروايات التي التهمتها بشغف.

ومع ذلك كان الكثير منها مجرد حشو لا قيمة له، لكن بعضها لم يكن كذلك—من بينها "كريستين لافرانسداتر" (1920-1922) لسيغريد أوندست، التي جسّدت الحياة في النرويج خلال العصور الوسطى. ومع ذلك، لست واثقة أنني كنت قادرة آنذاك على التمييز بين الجيد والرديء. ما أنا متأكدة منه هو أنني لم أدرك وقتها التحيزات السياسية، والانحيازات الثقافية، والأحكام المسبقة التي كنت أستوعبها دون وعي. لاحقًا، كان عليّ أن أتخلص من الكثير مما ظننته مسلّمات.

لكن ذلك الانغماس المبكر لا بد أنه منحني إحساسًا بإمكانية كتابة الرواية في سياقات تاريخية، حتى لو لم يوفر لي النماذج التي سأحتاجها بشدة بعد عقود. ربما ساعدني أيضًا في إدراك ما لا أرغب في كتابته؟ في أوائل تسعينيات القرن الماضي، عندما بدأتُ لأول مرة في كتابة الروايات التي تدور أحداثها في الماضي، لم أكن أجد الكثير من الأمثلة على ما يمكن أن أسميه، لعدم وجود مصطلح أفضل، "الرواية التاريخية الأدبية."

في الغالب، وجدت أكوامًا من الكتب المشابهة لتلك التي عثرت عليها على الرفوف ذات اللون الأخضر الباهت—روايات ضخمة مليئة بالأحداث تدور حول الحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الأهلية الأمريكية، والثورة الفرنسية، وحروب أخرى—ممتزجة مع دراما تاريخية وروايات رومانسية. لم يكن أي منها يوحي بما كنت أتوق إلى كتابته.

ارشدني الأصدقاء في النهاية إلى بعض المصادر الملهمة. كان من بينها بالطبع رواية "محبوبة" (1987) لتوني موريسون، إلى جانب مجموعة من الأعمال البريطانية مثل "ببغاء فلوبير" (1984) لجوليان بارنز، و**"فنان من العالم العائم"** (1986) لكازو إيشيغورو، و**"بداية الربيع"** (1988) و**"بوابة الملائكة"** (1990) لبينيلوب فيتزجيرالد، و**"التجدد"** (1991) لبات باركر، و**"الامتلاك"** (1990) لإيه. إس. بيات.

أذهلتني رواية "مذكرات هادريان" (1951) للكاتبة الفرنسية مارغريت يورسنار، وكذلك "حياة متخيلة" (1978) و**"تذكر بابل"** (1993) للأسترالي ديفيد مالوف. أما رواية "في جلد أسد" (1987) للكندي مايكل أونداتجي، فقد قادتني إلى "من بحيرة الحبر: قصص كندية" (1990)، وهي مجموعة قصصية اختارها أونداتجي، تضم حكايات تدور أحداثها في الماضي، كتبها أليستير ماكلاود، وأليس مونرو، ومارغريت أتوود، وتيموثي فيندلي، وغيرهم ممن لم أكن أعرفهم آنذاك. ومن هناك، وجدت نفسي أغوص أكثر في عوالم هؤلاء الكتّاب، حتى وصلت إلى المنارة التي أضاءت لي الطريق: "أسرار معلنة" (1994) لأليس مونرو.

وهكذا، بدأتُ مساري المتواضع، الذي—بعد ثلاثين عامًا—تداخل مع العديد من المسارات الأخرى ليشكّل نسيجًا ثريًا. باتت الروايات الرائعة التي تدور أحداثها في الماضي وفيرة اليوم؛ أعمال تختلف تمامًا، في الغاية والأسلوب، عن تلك التي كانت تملأ الرفوف ذات اللون الأخضر اليشمي.

وتلك عينة صغيرة من أرفف مكتبتي: رواية "الحريق العظيم" لشيرلي هازارد (2003)، و"العالم المعروف" لإدوارد بي جونز (2003)، و"السيد" لكولم توبين (2004)، و"دع العالم العظيم يدور" لكولم ماكان (2009)، و"بوذا في العلية" لجولي أوتسوكا (2011)، و"صائدو الثلوج" لبول يون (2013)، و"صيف القطب الشمالي" لديمون جالجوت (2014)، و"أولاد النيكل" لكولسون وايتهايد (2019)، و"ماتريكس" للورين جروف (2021)، و"كتاب الإوزة"  لييون لي. (2022).بالطبع  يمكنك عمل قائمة مختلفة ومتألقة بنفس القدر في غضون لحظات.

لماذا لا نشك في أنه إذا كان كل جيل يحتاج إلى إعادة كتابة التاريخ، فإننا نحتاج أيضًا إلى إعادة تصور خيالنا التاريخي؟

في عام 2023 وحده، كان بإمكانك التنقل بين رؤى "الخداع" لزيدي سميث، التي تدور أحداثها في إنجلترا وجامايكا في القرن التاسع عشر، و**"دعونا ننحدر"** لجيسمين وارد، التي تجري في جنوب الولايات المتحدة قبل الحرب الأهلية، و**"بيت الأبواب"** لتان توان إنغ، التي تدور في ماليزيا خلال عشرينيات القرن الماضي، و**"الصفح"** لأليس مكديرموت، التي تجري أحداثها في سايغون خلال حرب فيتنام—وليمة أدبية كان من الصعب تخيلها قبل بضعة عقود.

في مقالها المنشور في نيويوركر بعنوان "عن قتل تشارلز ديكنز"، كتبت زيدي سميث—وهي ناقدة بارعة بقدر ما هي روائية—أنها لطالما لم تحب الروايات التاريخية، واعترفت بأنها احتفظت لفترة طويلة بتحيز ضد هذا النوع الأدبي يعود إلى أيام دراستها، حيث كانت وزملاؤها يميلون إلى اعتبار الروايات التاريخية "محافظة جماليًا وسياسيًا بحكم التعريف". لكن لاحقًا، وبعد أن تأثرت بعدد من الأعمال العبقرية (بما في ذلك "مذكرات أدريان" التي أدهشتني شخصيًا)، أدركت أن الرواية التاريخية توفر إمكانيات غنية لمنظورات جديدة، وأنها يمكن أن تفعل أكثر من مجرد محاكاة شكلية لعصرها.

لماذا لا نفترض أنه إذا كانت كل حقبة بحاجة إلى إعادة كتابة التاريخ، فإننا أيضًا بحاجة إلى إعادة تصور رواياتنا التاريخية؟ فهناك أصوات منسية، ووثائق مفقودة أو مدمرة أو متجاهلة، وتجارب كاملة لم يتم تناولها، وشعوب وثقافات أُسيء تمثيلها أو لم تمثَّل على الإطلاق—كل هذا يشكّل مادة خصبة للكتابة والاستكشاف! وأمامنا العديد من الطرق للقيام بذلك. إن تقديم رؤية جديدة للماضي يمكن أن يكون جديدًا بقدر أكثر اللوحات الأدبية حداثة—ويمكن أن يكون راديكاليًا بنفس الدرجة من حيث النية، والشكل، واللغة، مما يحفز التفكير في جميع أشكال السرد التي تتعمق في مادة الماضي.

***

......................

* مقتطف من كتاب الغبار والضوء: حول فن الحقيقة في الخيال. 2025 لأندريا باريت.

الكاتبة: أندريا باريت / Andrea Barrett مؤلفة كتاب "حمى السفن" الحائز على جائزة الكتاب الوطني، بالإضافة إلى روايات "رحلة حريش البحر"، "خدم الخريطة"، "التاريخ الطبيعي"، وغيرها من الأعمال الأدبية. كما أنها مؤلفة كتاب "الغبار والنور: حول فن الحقائق في الخيال".حصلت باريت على زمالة ماك آرثر، وجائزة غوغنهايم، وجائزة الأدب من الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب، وزمالة من المؤسسة الوطنية للفنون (NEA)، وجائزة ريا للقصة القصيرة، كما كانت مرشحة لجائزة بوليتزر. تعيش في جبال أديرونداك.

حين نرتاح للسفر بين الأزمنة، فإننا نُكسر حواجز كثيرة من ذات ذواتنا المنغلقة داخل تفكير علبة الصندوق، والمتطفلة على الحاضر بالتوجس والحيطة، وقد نصبح مثل صائدي الأشباح الليلية، ومتصيدي أحاجي الأعاجيب في تلك الغابة اليتيمة !!! من شر السفر بين الأزمنة، والذي لا زال يَلْطمني بقوة الحركة والفزع، حين أصبح الماضي يُمثل ثُقبا أسودا متحجرا، ويتجلى أمامي في مشيتي المتأنية بالخوف كالشبح الماكر المتخفي، وكلما اقتربت منه أكثر كنت أُحس بأنه يسحق روحي بكل فظاظة ومُتعة.

في يوم ما، قررت اللَّعب مع الماضي باختراقه عبر آلة العودة بين الأزمنة الخلفية. في الأول شدتني الفكرة ونشوة اللعبة علوا، وقُلت لأكسر كل الصور الورقية العالقة بذهني، وأرمي بها أرضا لكي تعمل على تجسير معرفة حاضري، والذي ينتسب للماضي أكثر من الحاضر والمسقبل. في تلك الفكرة كانت المخاطرة بينة، لأن أزمنة الماضي الحي، لازالت يمارس الرقابة على احتضار الروح بالتمام، وينتظر مني رميه بقسط من الرحمة والعفو، وفي كل خطوة لي بالتراجع نحو ساعات وأيام وسنين من الماضي البعيد بالعد التراكمي الكمي، كنت أفقد حاضري العقلاني، وأحس باليقين بأنه  لم يولد بعد.

كانت تجربة شاقة في سفري بين الأزمنة المتحركة بالتموج، والتقلبات العمرية والأحداث، وقد شقت قلبي بالألم والوجع، وانفطرت دموعي غزارة من شدة رؤية حقيقة مسكوت عن ذكرها في ذاكرتي من الماضي، والتي كانت تُماثل المعرفة اليقينية. وجدت ذاتي منفصلة ومنقطعة عن التعامل مع واقع الحقيقة العقلانية، حيث بُدا رماني سفري الحدسي بين رقعة شطرنج الأزمنة المتنافرة، والتي زادت من استفحال أزمتي بالتعقيد لا بالحلول الممكنة.

أول خطوة في سفري عبر زمن الظل الخفي، وفي حجرة مفتوحة للعموم تُماثل أضرحة أولياء الله الصالحين، عثرت على شاهد أسماء قبور الفلاسفة القدماء والجدد، وقد كتب عليها: "الحجر الفلسفي يتحصن بتميمة وتعويذة ثورية، وكل من يقرؤها أو يلامسها يصاب بلعنة العقل واللاتعق !!!"  أفزعتني الكتابة الذهبية البارزة من كل قبور فلاسفة العقل، إلا شاهد قبر الفيلسوف أفلاطون حين طفت على مرقده المتواري، قرأت في أطرافه العلوية :" ذكرني بأن فمي وقلمي الثرثار في الفلسفة ! وبيانات العقل والمنطق ! وكشف الحقيقة ! وتعلم إبداء الرأي ! وطرح السؤال ! لم يدمر المعرفة من بعدي عند البشرية التي لا تقرأ ... "

هروبي من السؤال أفزع المعلم سقراط رائد مذهب التفكير الأخلاقي، وكأني لا أعرف شيئا من التفكير النقدي. حينها رماني بتعليق مستفز للتحفيز، حتى أنِّي لم أُدرك مغزاه إلا بعد خروجي من زمن سفري بين الأزمنة، حيث نبهني بالقول: "لا تجديف في الفراغ، فأنت لا تعرف حتى من تكنْ؟ هروبك أمامي بالفوضى والغضب يصنفك من المشائين ... دع الذي يريد أن يحرِّك العالم، أن يحرِّك نفسه أوّلا... انظر باليقين في داخلك..." لحظتها، كان كل السمك يتعفن في رأسي بوضوح وتمييز، وباتت الحقيقة تسير بالولاء من الماضي وتعمل على بناء وخلق سلسة تواصل طيعة مع الحاضر والمستقبل.

في قلب سفري بين الأزمنة تذكرت رواية "دفنا الماضي" للمغربي عبد الكريم غلاب، حينها توجست خيرا في الحاضر والمستقبل، وقُدرة على إدارة الصراع الثنائي العالق بين الحاضر والماضي. أدركت أن سفري بين الأزمنة، لم يكن نهارا مستنيرا بالعقلانية والحقيقة التناظرية، بل كان بوشاح الليل الحالك الذي يُغيب الحقيقة، وكأني "أبو الليل" خرج يتصيد ضحاياه والتي بالطبع هي ذاتي لا غيري.

آه في سفري الأعرج !!! لم أكن أرغب البتة في السيطرة المطلقة على معرفة الماضي بالاطلاع وكشف المستورات، بل كنت أبتغي فقط الحصول على تعويذة من الحقيقة العقلية لتبطل كل تعويذات الحاضر العالقة في التفاهة والسخافة. كنت أبحث عن العيش تحت الضوء المستنير بعيدا عن الظلمة وظل الأشباح. وفي مشارف رجوعي نحو الحاضر، كان القمر المستنير ينير ظلي كليا، والذي بدا يسكن من خلفي ويبدو حتى منفطر الروح  بالسحق ...

***

محسن الأكرمين

صفحة من تاريخ ثائر

واحدة من افضال السينما انها قدمت سيرة عدد كبير من الشخصيات التي لعبت دورا مؤثرا في تاريخنا البعيد والقريب وكان من بينها شخصية الثائر والمناضل الشيوعي " ارنستو تشي جيفارا " ، حيث حظيت سيرته بعشرات الأعمال الوثائقية والروائية التي جسدت قصة نضاله ضد الأنظمة الدكتاتورية في أمريكا اللاتينية والذي أصبح النموذج الثوري في عدد من دول العالم وايقونة للنضال والتمرد ، فبعد سنتين مقتله في 9 اكتوبر 1967 التفتت السينما الى قصة كفاح جيفارا حيث وجدت فيها مادة جديرة بالعمل السينمائي فكان اول فيلم تناول شخصيته وانتجته شركة فوكس للأفلام عام 1969 هو فيلم (تشي) الذي ادى فيه الممثل عمر الشريف شخصية الثائر جيفارا مرورا بأفلام اخرى تفاوتت في المستوى الفني وانتهاء بفيلم  (يوميات دراجة نارية)  انتاج امريكي ارجنتيني  2004 المستمدة مادته من مذكرات " جيفاارا " الشخصية الذي يحكي فيها قصة الرحلة المجنونة والشاقة التي قام بها عام 1952 ــ قبل انخراطه في العمل الثوري ــ وجاب فيها دول امريكا اللاتينية على دراجة نارية برفقة صديقه عالم الكيمياء البيرتو غرانادو وكان حينها طالب طب يبلغ من العمر 23 عامًا ، حيث تمثل هذه الرحلة انعطافه كبيرة في حياة جيفارا ففيها تشكلت بدايات وعيه الانساني والثوري من خلال اطلاعه على معاناة الطبقات الفقيرة والمسحوقة واكتشافه ان العالم مليء بالظلم ومنذ تلك اللحظة واثناء هذه الرحلة يأخذ دوره الانساني في التخفيف عن معاناتهم حيث يباشر عمله طبيبا لمعالجة مرضى الجذام في احدى مستشفيات بيرو التي تستضيفه كواحدة من محطات جولته التاريخية والتي منها تنطلق صرخته انه من الان لا يؤمن بالحدود بين دول امريكا اللاتينية .

 (يوميات دراجة نارية) فيلم ممتع حاز على عدد كبير من الجوائز ومن بينها جائزة لجنة التحكيم لمهرجان كان السينمائي السابع والخمسين، كما نال استحسان النقاد حيث جاء في اجماع لهم  ان (فيلم "مذكرات دراجة نارية"  مؤثر وعميق في سرده للتجارب التكوينية التي حوّلت إرنستو تشي" جيفارا إلى  ثوري مشهور) وهو ما نراه اليوم حيث لا تزال شخصيته التاريخية تحظى بالاحترام والتبجيل عند الشعوب التواقة للحرية .

***

ثامر الحاج امين

من الشعراء الشباب الذين برزوا في السنوات الأخيرة و تركوا بصمتهم الشعرية هو الشاعر عبد القادر بوشامة ابن ولاية تسمسيلت، ما فتئ هذا الشاعر المتالق العاشق للقصيدة العمودية والمنافح عنها يخوض المعارك من أجلها  و كثيرا ما فتح نقاشات و أثار جدلا برفضه لقصيدة النثر فهو يرى الشعر شعر والنثر نثر وهناك مسافة بينهما ولكل فن ميزاته و خصائصه...

قصائد الشاعر القدير عبد القادر بوشامة تتجلى فيها الصور الفنية البديعة فهو يرسم بالكلمات ويعبر عن أحاسيسه الملتهبة بلغة شاعرية شفافة مضمخة بعطر التجربة الشعورية التي تختلف حسب الحالة النفسية للشاعر

قد تأخذ هذه التجربة حالة صوفية روحية ففي قصيدة " كأنه هو البحر " نجد. هذا القانوس الروحي فكلمات " جبة، الرؤى، الصوء، اسجد، خلواني، القباب ، المعراج "..مما يدل على ارتواء الشاعر من التراث الإسلامي ومن قراءات عميقة لتاريخ التصوف وقصة الخلاج ظاهرة في هذه القصيدة العميقة..

يقول في هذه القصية وهو متجه إل البحر "كأنه هو.. البحر"، ولكنه ليس البحر الذي نعرفه بل هو بحر الشاعر الذي يلبسه رؤاه و أحاسيسه ويبث له أشجان القلب المعنى المسكون بالفقد والرحيل والسفر ...

"للبحر هدأته ولي أمواجي

متخفيا في جبة الحلاج

*

أسري بما تسع الجراح قصائدا

ملح الرؤى وأغيب في الأدراج

*

يا بحر كنت الضوء أسجد حاضرا

في الغيب رغم مشانق الحجاج

*

وأطوف ما صمت المساء ورهبة

بيضاء بين عمائم الحجاج

*

وأنا بإسم الله أنثر خلوتي

بين القباب لرحلة المعراج

*

وأنا و روح البحر كنا واحدا

نتلو المدائح أول الأفواج

*

قبل الوصول احمل إليك وصيتي

فيها و فيها عزة المحتاج "

اما في قصيدة "اعتراف" تتلبس الشاعر حالة نفسية أخرى حالة العاشق الولهان الذي تمزقه الاوجاع ويتعبه صد الحبيب الذي لا يأبه بزفرات النفس ومواجع الذات يقول:

"عانقت نبض الآه من لذاتى

ورميته إسما في حنايا الذات

كم تهت في دنياه حلما كلما

ناجيته أنقصت من يقضاتى

ورميتني نايا أزيد به غبار

الهم والأوجاع في سنواتى

القلب أعيته التى جفت دمى

عبثا لتحيى زلتى آهاتى

*

من عادتى أن أستمد مواجعى

من أعجب الرؤيا وقرب مماتى

من عادتي يصغى الهواء لحكمتى

فأرى تنهده انحنى لصفاتى

من عادتي زمن المساء يلمنى

وردا لينثرني على أناتى

والآن من وجع القصيدة أرتمى

أعجوبة في نكهة الحلمات

سيري عروسا فوق جسر أناملى

والتف ليلا حول صمت رفاتى"

إننا أمام تجربة شعرية متفردة مع ديوانين من الشعر آخره ديوان " اناشيد للموت والاتثى" وحصور إبداعي فاعل يرسم الشاعر عبد القادر بوشامة طريقه نحو مستقبل شعري متألق وبخطوات طموحة لا تعرف المستحيل يعانق القصيدة الحلم ااموشحة بصدق التجربة وبعمق المعنى..

***

الكاتب : شدري معمر علي

 

كان مؤمنًا شديدَ الايمان بأن الفكرة ينبغي أن تتحوّل إلى فعلٍ نُمارسه على أرض الواقع، وإلا فقدت الفكرة وجودها وكينونتها، وتحوّلت إلى ثرثرة تشبه نقيق الضفادع، لا تغني ولا تحمي من جوع، لهذا رفع لواء الأفكار اليسارية التقدمية وطبّقها في واقعه غير عابئ بما إذا كانت الظروف مواتية أو غير مواتية، وحاملًا الُسلم بالعرض، وهو ما جعله يُعتقل حينًا وتُفرض عليه الإقامة الجبرية حبنًا آخر، بل هو ما كاد يودي بحياته شنقًا..، أما في الحالة الأولى وما يتعلّق بالإقامة الجبرية، فقد كان ذلك، عندما فرضت عليه السلطات الإسرائيلية، في الستينيات وما بعدها بقليل، الإقامة الجبرية التي تقضي بلزومه بيته جُلّ ساعات النهار، لا يُغادره إلا ضمن منطقة محددة وفي ساعات قليلة، وأما فيما يتعلّق باعتقاله واقترابه من حبل المشنقة، فقد كان ذلك عندما تحمّس للبقاء الجمعي في البلاد بعد قيام إسرائيل، وآمن بما آمن به حزبه الشيوعي، بقرار تقسيم البلاد، حينها اتهمه جيشُ الإنقاذ بالخيانة العُظمى، وكاد يقوده إلى منصة الشنق، غير أن انسحاب هذا الجيش أدى لإنقاذه ليواصل بالتالي رحلته مع النضال بالقول والفعل أيضًا. لقد جسّد بهذا كلّه صورة لمثقف من بلادي، حمل سلمه على كتفه، كما فعل دعبل الخزاعي، ومضى في طريق الحقّ الذي استرشد بنوره وامن بهديه.

ربطتني بالكاتب المناضل، الشخصية الوطنية المرموقة حنا إبراهيم الياس، فيما بعد حنا إبراهيم، (1927-15-10-2020)، علاقة ودّية وأدبية منذ سنوات السبعينيات الأولى حتى نهايات حياته، وقد جمعتنا معًا العديد من الأماكن والمواقع، الامسيات والندوات، السياسية والأدبية، وكنت أرى إليه بقامته المُنتصبة، ووقفته العسكرية، شخصية مميزة قولًا وفعًلا، وكان أكثر ما لفتني فيه إيمانه العميق يما يقوله ويفعله، فهو يدعو إلى الحرية، العدل والمساوة، لهذا يرفض حين يُلحُّ أهالي قريته أن يواصل رئاسته لمجلس بلدته البعنة، مرة أخرى بالتزكية، بعد أن فاز بذلك المنصب في انتخابات عادية مُمثّلًا لحزبه الشيوعي، وها هو يوافق على تزويج ابنته لمن احبته وأرادته، رغم أنه من طائفة أخرى، بل ها هو يقنع قريبًا له بأن يفعل مثلما فعل هو، وطالما فاخر أمامي وأمام آخرين، بأنه حين ضاقت به سُبل العيش، خلال ثلاث عشرة سنة، من عام 1948 حتى 1951، عملَ في وُرش.. منها الزراعية ومنها الحجرية، نسبة للحجر، وقد كان يرفع رأسه معتزًّا، كما كان يقول، بأنه عمل حجًارا واتقن لغة الحجارة.

حنا إبراهيم يهذا كلّه وغيره كثير، جسد صورةً لمثقف مُناضل من طراز رفيع، وقد كان طوال الوقت مُستعدًا لدفع الثمن المطلوب لقاء مواقفه، ومما يُذكر في هذا السياق، أنه فُصل من حزبه الشيوعي عام 1989، على خلفية تصريحات تحذيرية وهادفة أطاقها في مهرجان جماهيري أقيم في عرابة البطوف، قبل فصله هذا بنصف عقد من الزمان، وحتى عندما انتقل فيما بعد، للانخراط في صفوق الحزب الديموقراطي العربي بقيادة عضو الكنيست، في حينها عبد الوهاب دراوشة، بقي مؤمنًا بالمبادئ الشيوعية، كما بقي مُصرًّا على أن تطبيق هذه المبادئ لم يتمّ كما يُفترض، وهو ما تبيّن فيما بعد أنه الحق والصدق، علمًا ان هذا التصريح أو مثله هو الذي أفضى إلى إقصائه مِن بين صفوف حزبه الشيوعي، وبإمكاني القول إنه بقي حتى يومه الأخير في الحياة مؤمنًا بمبادئه الشيوعية وفلسفتها الإنسانية.. فقد كنا معا.

إلى هذا كان حنا إبراهيم، يؤمن بأن الادب وسيلة وليس غاية، وسيلة لتثوير الجماهير وحضّها على التحرُّك والفعل، وقد أنتج وكتب في هذا الإطار كُلًا مِن: الشعر، القصة، الرواية، والسيرة الذاتية، إضافة الى المقالة السياسية الاجتماعية والأدبية. لقد أصدر حنا إبراهيم خلال عمره المديد، عاش 93 عامًا، أربعة عشر كتابًا توزّعت على الأنواع الأدبية المذكورة، غير أنه لم يحظَ إلا ببعض الاهتمامات البحثية الجامعية، فيما خلّفه مِن تُراث أدبي، لا سيّما في السيرة الذاتية التي أبلى فيها بلاءٍ حسنًا كما يقال، وقدّم ما يستحق العيش طويلًا. لذا أجد مِن واجبي وأنا أعيد ذكره إلى الاذهان، بعد حوالي الأربعة أعوام من رحيله، أن أقدم مدخلًا مُعتمًدا على رؤية خاصة ومتابعة حثيثة لإنتاجه الادبي، إنني أكتب هذا وأدعو في الوقت ذاته مَن يُمكنه ويود أن يقوم بإجراء دراسة أو اكثر حول هذا الكاتب الوطني الإنساني السياسي، إنصافًا وأثباتًا لإنتاج يستحق أن نلتفت إليه ونهتم به. من ناحيتي كما أسلفت، سأقدم هذه المدخل لانتاجه الادبي، في شتى مجالاته وانواعه الكتابية.

الشعر: كتب حنا إبراهيم في الشعر مجموعتين، حرص على أن يُضمّن عنوانيهما اسم المكان الذي عاش فيه وناضل منطلقًا منه وهو الشاغور وأهله، (انظر قائمة مؤلفاته في ذيل هذه المقالة)، وقد اتصف ما أنتجه حنا إبراهيم بأنه شعرٌ عموديٌّ كلاسيكي، ويدُل على أن صاحبه درس الاوزان الشعرية وأتقن استعمالها، كما أن القوافي جاءت في شعره  مُنسابةً لا افتعال ولا إقسار، ما أضفى على قصيدته نغمة مُحبّبة، بيد أن هذه القصيدة اتصفت بأمرين، غير مُحببين لدي نقاد الادب والشعر خاصة، أحداهما تمثّل في قصيدة المُناسبة، التي تُكتب وتنتهي بانتهاء المناسبة، إلا إذا توفر لها شاعر متمكّن يُمكنه أن يرفعها إلى مستوى قوليّ رفيع، كما فعل المتنبي وأحمد شوقي والجواهري، والامر الآخر هو تلك التقريرية والمُباشرة التي يمجُّها الذوق الشعري الرفيع، وعادة ما تكون مُحبّبة لدي جمهور مستمعيها، الذي يعرف الشاعر مسبقًا أنه ينتظر ما يُحفّزه على الفعل وما يدفعه إلى المواجهة.

القصة: كتب حنا إبراهيم ثلاث مجموعات قصصية، وبإمكان مَن يطّلع على عناوينها (انظر ذيل هذه المقالة)، أن يشمّ فيها رائجة الازهار البرية وأن يرى إلى الغربة في الوطن، ورائحة الوطن أيضًا، فماذا يقولُ لنا هذا؟ انه يقول ويؤكد بصريح العبارة ما سبق وصرح به كاتب هذه القصص، وهو أنه أراد أن يكتب الادب المُجنِّد للناس، وأنه اعتبر الادب وسيلةً وليس غاية، هذا من ناحية أما من ناحية أخرى، فقد كتب حنا إبراهيم القصة الواقعية، لكن التابعة للفترة التي كُتبت فيها، ففي تلك الفترة كان العشرات مِنَ الكتّاب، في طليعتهم الكاتب السوري الشهير سعيد حورانية، صاحب مجموعة شتاء قاس آخر، يؤمنون بأن القصة الواقعية، ‘نما تنقل الواقع مُرفقًا بشيء مِن الرتوش، بمعنى أن الكاتب يُفترض به أن يلتزم بنقل الواقع نقلًا قريبًا من النقل الفوتوغرافي، وهو ما دفع بعض النقاد العرب إلى أن يُميّزوا بين الواقع اليومي المعيش وبين الواقع الفني، هائبين بالكتاب من واقعيي تلك الفترة، بأن يخلقوا الأجواء الفنيّة المبنيّة على رؤية خاصة ومتخيّلة للقصة. مرةً أخرى نُلاحظ أن كاتبنا لم يَحد عن رؤيته للأدب على اعتبار أنه وسيلة نضالية وليس غاية تُقصد لذاتها وتقدّم خدمةً تغييريه-مِن تغيير-، تهدف إلى خلق إنسان أكثر وعيًا وأكثر إنسانية لكن دون تقصُّد، وبتلقائية مَن يُسلّي ويفيد في نفس الوقت.

الرواية: لحنا إبراهيم ثلاث روايات، لم تحظَ للأسف، فيما نعلم بالطبع، بالاهتمام اللائق، في رواياته هذه، كما يُشتمّ من عناوينها أيضًا، يواصل كاتبُنا إيمانه الراسخ بكون الادب وسيلة وليس غاية، وممّا يُلاحظُ على رواياته هذه، أنها تقوم بنفس ما قامت به انتاجاته الشعرية والقصصية، لا سيّما فيما يتعلّق بفتح باب الامل، الذي لا بُدّ من فتحه كي يدخل النور المُنعش والمُنّور إلى البت وكي يُدبّ فيه الحركة والحياة والرغبة بالتالي في التحرك والتغيير. وبإمكاننا القول إن كاتبنا انتهج في كاتباته الروائية، الخلفيات الاجتماعية السياسية، التي عاشها مازجًا إياها برؤية متفائلة، تستمدّ كينونتها وقوّتها من المادية التاريخية التي آمنت بالإرادة الإنسانية والتغيير الحتمي.

السيرة الذاتية: كان عام 1996 عامًا مباركًا في حياة الكاتب حنا إبراهيم، فقد حالفه الحظّ مدعومًا بإرادة جبّارة عرفناها عن قُرب، وأنتج وكتب ونشر أيضًا في هذا العام الجزأين الأول والثاني من سيرته الذاتية، وبإمكان مَن ينظُر في عنوان الجزء الأول خاصة من هذه السيرة، مُلاحظة أن صاحبها قلب المثل او القول الاتهامي الُمكذِّب وهو "شاب تغرّب وشيخ ذهبت أجياله"، إلى مثل إنقاذي مُفادُه والحالةُ هذه، القول بأننا إنما نقرأ لشاب لم يتغرّب وبقي في بلاده، وهو ما يعني أننا إنما سنقرأ سيرةً حافلةً بالبوح في المشاعر والشفافية في القول، وأن كاتبها سيوافينا بكلّ ما لديه بصدق وعمق، قد يصلان حد الصدمة أولًا، والرفض لما حدث في ماضي صاحبها ثانيًا. لقد كتب حنا إبراهيم سيرةً ذاتية ارتقت بهِ وبإنتاجه إلى مستويات عليين، في الادب والكتابة الابداعية، مستوىً لا يقلّ أهمية وعمقا عمّا كتبه من سيرة ذاتية كلٌّ من: طه حسين في الأيام، وما كتبه جبرا إبراهيم جبرا في البئر الأولى وشارع الاميرات، بل ما كتبه كاتبنا الجميل الراحل حنا أبو حنا في سيرته الذاتية الموسومة بعنوان ظل الغيمة. لذا أهيب بدارسين مُجدّين ودور نشر مُهتمة أن تتعامل مع هذه السيرة التي تكفي لإدخال صاحبها في عُمق ديوان النثر الفلسطيني، وتخليده أيضًا.

***

ناجي ظاهر

من كتاب شخصيات في الذاكرة الماثل للطباعة.

.........................

مؤلفات حنا إبراهيم:

- صوت من الشاغور (شعر) 1981.

- نشيد للناس (شعر) 1992.

- صرخة في واد (مختارات من أشعاره) 2007.

- أزهار برية. (قصص)1972.

- ريحة الوطن. (قصص) 2979.

- الغربة في الوطن. (قصص) 1980.

- أزهار برية. (مجلد لمجموعاته القصصية) 2000.

- أوجاع البلاد المقدسة. (رواية) 1997.

- 1موسى الفلسطيني. (رواية) 1998.

- عصفورة من المغرب. (رواية).

- ذكريات شاب لم يتغرب. (سيرة ذاتية) 1996.

- شجرة المعرفة. (سيرة ذاتية) 1996.

سجل حياته حافلة بالنجوم المضيئة، في دروب النضال السياسي والفكري، بجهد متواصل وعناد ثوري بلا كلل، هذا المناضل الاصيل، لم ترعبه أساليب نهج الإرهاب الفكري والبطش النظام الديكتاتوري البعثي، نجا من الاعتقال والسجن، واختار طريق الهجرة الى بلدان عديدة كطاقة علمية وفكرية مرموقة، فالشهيد هو خريج كلية الآداب في جامعة بغداد متخصص في القسم الانكليزي، ارتبطت حياته بالنضال السياسي والفكري، متواصل بجهد لا يعرف الوهن والتعب، لا ينحني هامته للارهاب الفكري والسياسي، ولم تثبط عزيمته الثورية في نهج الترهيب والترغيب، مما اكتسب مكانة مرموقة في الوسط الثقافي والفكري، وانخرط في مجال الإعلام والصحافة العربية التي تصدر في لندن، مثل جريدة الحياة. مجلة الوسط. المجلة الفصلية المواقف. وأكد حضوره الدائم في المجلة الشهرية (الثقافة الجديدة) الصادرة عن الحزب الشيوعي العراقي، لسنوات طويلة، برفدها بالمقالات الفكرية الهادفة والرصينة. وقف بقوة في معارضة حكم صدام حسين الديكتاتوري، وفضحه في الاوساط العالمية، ان انخراطه في مجال الفكر التنويري الاصيل، جعله هدفاً للاغتيال من الجماعات المتطرفة الارهابية، التي تمارس اسلوب الارهاب والعنف الدموي، والتي تتخذ زوراً الدين الاسلامي والشريعة الاسلامية، التي هي ضد الاغتيال، وقتل نفس بريئة بغير حق. كما جاء في القرآن الكريم في سورة المائدة، التي تنص (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32).)  وللشهيد عدة مؤلفات في مجال الفكر التنويري الحر، وفي مجال الأدب والفن الاصيل، يمكن تلخيص هذه الكتب القيمة والثمينة:

 1 - الكتاب الأول: تأملات في الشأن العراقي.

2 - الكتاب الثاني: قراءات في الفكر العربي والإسلامي.

3 - الكتاب الثالث جاء بعنوان: الفلسفة مفترق الطرق.

4 - الكتاب الرابع: في الرواية والشعر والفن.

5 - الكتاب الخامس: رسائل وأمكنة.

حتى أصبح من الرموز العراقية المتألقة في سماء الفكر التنويري الحر والأدب والفن العراقي.. وبعد سقوط نظام صدام حسين البغيض، رجع الى العراق، واحتل موقع مستشار وزارة الثقافة، لكي يواصل مشواره في دروب النضال الفكري والسياسي، في إحياء الفكر والادب العراقي، الذي يناصر الإنسان في كفاحه من أجل السلام والحرية والخبز، ومن اجل مستقبل افضل للعراق والعراقيين، لذلك كان هدفاً مرصوداً للقتل والاغتيال، وهذا ما يفسر الحقد الدفين في اغتياله بسبع رصاصات من كواتم الصوت، في اليوم المشؤوم في 23 آب عام 2008. ولكن مع الاسف تقاعس الجهات الرسمية الامنية والقضائية، في كشف اعلان التحقيقات، وتقديم القتلة المجرمين الى القانون والعدالة، مازالت طي الكتمان والغموض، ان هذا التأخير يشجع هذه الجماعات الإرهابية والسلفية على الاستمرار في نهجها الدموي، في فكرها الضيق لا تعرف سوى لغة القتل وكواتم الصوت، في الإيغال في اغتيال رموز الفكر والأدب والقائمة الطويلة من الاغتيالات التي حدثت وسوف تحدث بعد ذلك، إذا استمرت الحكومة والقضاء في نهج التجاهل والاهمال وغض الطرف، إن عدم تحرك هذه الجهات المسؤولة عن مصير الناس والبلاد، هي خيانة بمسؤولياتها، ان لا يمكن عدم إعلان نتائج  التحقيقات ان يبرر بأية ذريعة وحجة، باعتبار الشهيد مسؤول حكومي، وقامة فكرية بارزة، ولا يمكن رمي نتائج التحقيقات في سلة المهملات، اليوم مطالبة الحكومة والجهات القضائية ان تعلن نتائج التحقيقات، وإلا يدخل من باب السكوت من الرضى وخيانة المسؤولية. وترك الرموز العراقية المرموقة، هدفاً سهلاً للقتل والاغتيال والخطف كما يحدث الآن في العراق.... الى متى يستمر هذا الطريق الخطير ؟ بعدم حماية الفكر والأدب العراقي الأصيل؟ بعدم حماية الانسان العراقي ؟، ليس من باب الأخلاق ان يكونوا الاسماء البارزة في الفكر والادب في عطائتها الوطنية هدفاً مشروعاً لكواتم الصوت من المجرمين القتلة.

المجد والخلود للشهيد الفكر والأدب كامل شياع.

والخزي والعار للمجرمين القتلة، والى كل من يتستر عليهم، لكي يبقى القتلة احراراً، بعيدين عن القانون والعدالة، كأن هؤلاء القتلة فوق القانون والقضاء العراقي.

***

جمعة عبد الله

اختلف المؤرخون وعامة الناس في شأن (جابر بن حيان) وليس غريباً ان تختلف الناس في امر العظماء من رجال العلم والفكر والادب والسياسة، فالفترة الطويلة التي عاشها جابر والتي امتدت الى اكثر من ثمانين عاماً او كما قيل بلغت تسعين عاماً كانت عبارة عن محطات علمية نهل منها الغرب الشيء الكثير في العصور الوسطى وخاصة في ميدان الكيمياء التي اطلق عليها علماء الغرب لقب (علم جابر)

المحطة الاولى:- مولده ونشأته:

اختلف المؤرخون في مكان ولادته فمنهم من قال انه ولد في مدينة طوس بخراسان فهو خراساني الاصل كوفي المنشأ وقيل انه خراساني الأصل بغدادي المنشأ، اما مولده فقيل انه ولد عام ١٢٠ هجرية الموافق ٧٣٣ ميلادية . ومنهم من ذكر انه ولد عام ٧٢١ ميلادية وأن والده قتل على يد الأمويين لأنه كان مناصراً للدعوة العباسية وقد عاصر جابر الخليفة الرشيد ثم الامين والمأمون وقد كان على اتصال بالبرامكة .

المحطة الثانية: انتماء جابر بن حيان

لقد اختلفت فيه الاقوال وتباينت نيه الآراء: فالمتصوفة يعتبرونه احدهم ولقب (بالصوفي) وزعم الفلاسفة انه فيلسوف لأنه الف كتبات في الفلسفة، واهل الصناعة قالوا انه منهم لكونه اشتغل بصياغة الذهب، أما الشيعة فيرون انه من الشيعة وقد تتلمذ على يد الامام جعفر الصادق، وينفرد الدكتور عبد العزيز نوار في مقال له نشر في مجلة الهلال المصرية لشهر نوفمبر العام ١٩٦٥ بان (جابر كان من الصائبة أوانه تأثر بالصائبة وعرف افلاطون عنى طريقهم ..) اما الفيلسوف والطبيب (الرازي) (فيسمي جابر بأسم الاستاذ)

المحلة الثالثة: محاولة جابر (صنع) إنسان. لقد اسهب الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه (من تاريخ الالحاد في الاسلام) في هذه المسألة فذكر (.. وثمت ناحيه لها اكبر قيمة من الناحية الحضارية ومن الناحية الانسانية ونعني بها مسئلة (التكوين الصناعي) أي نخلق بالصناعة انواع من الكائنات تنتمي إلى الممالك الطبيعية الثلاث وخصوصاً المملكة الحيوانية..) ص ٢٢٦

ويستطرد قائلاً (... فاذا كان في وسع الكيمياء ان تستنبط مواد جديدة بتركيب الاجسام فلم لا تقوم بإنتاج النبات والحيوان بل وبخلق الانسان الصناعي ..) ص ٢٢٧.

ان فكرة تكوين انسان بالصناعة فكرة درسها علماء النهضة الأوربية وقد سبقهم فيها جابر بن حيان في نظرية سماها نظرية (الميزان) التي يقصد بها القوانين الكمية العددية التي تحكم كل شيء في الوجود الا ان جابر لم يتوصل الى نتائج حاسمة في زمانه واستمر هذا الموضوع كموضوع دراسة وبحث وتنظير حتى العصر الحديث وظهور كتاب (اصل الانواع) للعالم الانكليزي دارون في عام ١٨٥٩م الذي اكد فيه ان الكائنات من اصل واحد فأصبحت نظرية التطور التي جاء بها (دارون) بمثابة النجم الهادي لكافة الدراسات في علم الحياة .

المحطة الرابعة: جابر يمهد الطريق لإنتاج القنبلة الذرية.

هذه العبارة لم يقلها احد بل هي مجرد استنتاج لبعض العلماء المعاصرين الذين اخذوها من مؤلفات جابر في الكيمياء ذلك لأنه كان يعتمد على التجارب وقال (ان التجربة كمال العلم) كما انه اول من اشار الى قوة الربط الذرية التي كانت الاساس لعملية تفجير طاقة الذرة كقوله (في كل ذرة قوة لو امكن تحريرها لا حرقت بغداد) وقوله (ان جزء اصغر من المادة هو الذرة يحتوي على طاقة كثيفة يمكن ان تتجزأ وان الطاقة التي تنطلق من عملية التجزئة يمكن أن تقلب بغداد عاليها سافلها)

هذه العبارة التي وردت في مؤلفات جابر استنتج منها بعض العلماء المعاصرين انه كان له دور في فهم وتفسير بعض المفاهيم التي أدت إلى تطور القنبلة الذرية لاحقاً.

ومن المعروف أن أول من انتج القنبلة الذرية هو الامريكي (جولیوس روبرت اوبنهامر) خلال الحرب العالمية الثانية وقد استخدمتها الولايات المتحدة الامريكية ضد اليابان في عهد الرئيس الامريكي (ترومان) في قصف مدينتي (هيروشيما) و(نا كازاكي) وادت الى قتل الآلاف من اليابانيين واجبرت اليابان على الاستسلام .

***

غريب دوحي ناصر

 

تعتبر السينما واحدة من الفنون المهمة التي لم تهدف الى تحقيق المتعة للمشاهد فحسب انما ذهبت الى أبعد من ذلك، فهي فن متعدد الأهداف واداة مؤثرة في النهوض بالوعي والذائقة، ودورها لا يقل اهمية عن الكتاب والمسرح والصحافة في نشر الثقافة وتوجيه الجمهور صوب القضايا المصيرية حيث واكبت السينما أهم التحولات الاجتماعية والسياسية والمحن التي مرت بها الشعوب فكانت لها مواقف لنصرة المظلومين والوقوف الى جانب حركات التحرر في العالم حيث قدمت أفلاما مهمة عديدة تناولت احداثا سياسية لعبت دورا في مصائر الشعوب ، كما سلطت الضوء على مشكلات معقدة من بينها مشكلة الفقر والاضطهاد السياسي ومشكلة التطهير العرقي وجرائم الابادة البشرية، ويعد فيلم (فندق رواندا) ــ  انتاج ايطالي 2004 ــ من بين الافلام التي تصدت لجريمة التطهير العرقي حيث تناول الفيلم مشكلة الحرب الأهلية التي عاشتها جمهورية " رواندا " الافريقية في  منتصف تسعينيات القرن الماضي وتحديدا في الفترة من نيسان الى تموز 1994  التي شهدت حربا أهلية مروعة وصلت في وحشيتها الى مستوى الابادة الجماعية، فقد سقط خلال 100 يوم من عمر هذه الحرب ما يقارب 800 الف انسان غالبيتهم من المدنيين والاطفال الأبرياء الذين عادة ما يكونون ضحايا الحروب الطائفية والعرقية اضافة الى الدمار الهائل في البنى التحية الذي خلفتها هذه الحرب .

وفيلم (فندق رواندا) الذي تم ادراجه ضمن قائمة العشرة الأوائل للعديد من النقاد لعام  2004 كما رشح لجائزة الاوسكار لافضل ممثل (دون شيدل)، مأخوذ عن قصة حقيقية تناولت جانبا من هذه الحرب والصراع الدموي الذي قام بين الحكومة التي تشكل قبيلة الهوتو اغلبيتها الساحقة وذراعها الميليشيات المتطرفة وبين المعارضة التي تمثلها قبيلة التوتسي، ويكشف الفيلم وحشية الميليشيات في القتل والابادة العرقية كما يكشف حجم فسادها المتمثل بالرشاوى التي تفرضها على من يريد الفرار من قبضتها، كما يستعرض الفيلم جانبا من الصور الانسانية المضيئة في عتمة هذا الصراع فـ " بول " ــ مدير فندق رواندا ــ  الشخصية الرئيسية في الفيلم رغم انه من الهوتو فلا يتردد في انقاذ العديد من التوتسي المطاردين من قبل الميليشيات من خلال ايوائه مجموعة تضم أكثر من 1000 لاجيء، يحاولون الاختباء في الفندق خوفاً من بطش ميليشيا الهوتو وقتلهم جميعاً، وكذلك التضحية التي جسدتها موقف الفتاة عضو بعثة الامم المتحدة التي خاطرت بحياتها من اجل انقاذ الاطفال المحاصرين في ملجأ الايتام، كما ان الفيلم يجبر المشاهد على التعاطف مع ضحايا المذبحة التي تعرضت لها قبيلة التوتسي خصوصا في مشهد النداء المفجع لفتاة وهي تصرخ وتعد بالانسلاخ من انتمائها  (أرجوكم لا تدعهم يقتلونني. أعدكم أنني لن أكون توتسيًا بعد الآن) وكذلك في مشهد الطريق المظلم المرصوف بألاف الجثث من ضحيا التوتسي الذين لقوا حتفهم على ايدي ميليشيات الهوتو .

ينتهي الفيلم بمغادرة بول وزوجته تاتيانا والأطفال واللاجئين، الذين تمكنوا من البقاء على قيد الحياة في الفندق برفقة الأمم المتحدة إلى مخيم للاجئين وذلك بعد رشوة الجنرال بيزيمونغو، كما يشير الفيلم في شريط النهاية الى ان مرتكبي المجازر وزعماء الميليشيات الذين تورطوا بسفك الدماء قد أحيلوا الى محكمة جرائم الابادة الجماعية في الأمم المتحدة ولاقوا احكاما بالسجن المؤبد جراء ما اقترفوه من جرائم بحق الانسانية وهذه النهاية لا تخلوا من رسالة تحذير لكل الذين تورطوا بمثل هذه الجرائم في بلدان اخرى .

***

ثامر الحاج امين

تعرّفت عليه، أول مرّة، وقرأت له وأنا لمّا أزل في الصف الخامس أو السادس، كان ذلك عندما طلب مني بائع فلافل كنت مولعا بفلافله، أن أقترب منه ليفاجئني بكتاب دون غلاف قائلا ما مُفاده، اقرأ هذا الكتاب. أعرف أنك تُحبّ الكتب. انا مُتأكد من أنه سيعجبك. حملت الكتاب وطرت به إلى بيتنا في الحي الشرقي من مدينة الناصرة، ورحت اقرأ مُقلّبًا صفحاته برغبة هائلة ودهشة نادرة، كنت مُعجبًا بما أطالعه في ذلك الكتاب، مِن نقد لاذع لهذا الوزير العربي القديم أو ذاك، أما ما أعجبني في العُمق، فهو أن ذلك الكتاب سمّى الأشياء بأسمائها وكان صريحًا ومكشوفًا إلى اقصى ما يُمكن أن يصل إليه الكلام من الانكشاف والصراحة. وكان السؤال الذي أقلقني هو مَن هو مؤلف ذلك الكتاب؟، فانا أريد أن أتعرّف إليه وإلى بقية مؤلفاته اذا كانت له مثل تلك المؤلفات. لم يطل تساؤلي هذا، بعد أيام وضعت الكتاب في حقيبتي المدرسية وعندما حان وقت درس التاريخ، وقفت في مدخل غرفة الدرس انتظر مُدرّس التاريخ الأستاذ محمود كناعنة، فقد كنت أعرف أنه قارئ مُطّلع ونهم، وأنه سيعرف من هو مؤلف ذلك الكتاب.. بل ما هو عُنوانه.. تناول المُعلّم الكتاب مِن يدي.. قلب صفحاته وقدم لي الإجابة الوافية الشافية لكلّ ما أقلقني وأثار حُبّ استطلاعي، فيما يتعلّق بالكتاب ممزق الغلاف. قال هذا كتاب مثالب الوزيرين، أما مؤلفه فهو أبو حيان التوحيدي.

وتمضي الأيام، الشهور والسنين، ليبقى ذلك الاسم يرنّ في أذني، وكنت كلّما أعدت قراءته شعرت وكأنني اقرأه المرة الأولى. وكانت مؤلفات أبي حيّان التوحيدي وكلّ ما يتعلّق به، وُجهتي أنّى ترحّلت وتنقّلت، بعد عام النكبة الكبرى 67، انفتحتنا قليلًا على مناطق عربية، في طليعتها الضفة الغربية ، وكنت قد شببت عن الطوف قليلًا، وشرعت في شراء الكتب والمجلات من بسطة، كان يمتلكها شخصان من مدينتي، هما هاني السفاريني وعزيز أبو سنّة، طيّب الله ذكرهما، وكان كتاب " أبو حيان التوحيدي- أديب الفلاسفة وفيلسوف الادباء"، تأليف الدكتور فؤاد زكريا، من أوائل الكتب التي حصلت عليها آنذاك، بعدها أخذت أتردّد على المكتبة الحديثة لصاحبها الصديق الكاتب المرحوم ادمون شحادة، وكنت دائمَ الالحاح عليه في أن يُحضرَ لي مؤلفات أبي حيّان التوحيدي، خاصة كتابه " الامتاع والمؤانسة"، وبقيتُ أسأله فترةً ليست قصيرة مِن الزمن، إلى أن جاء اليوم الذي قدّم إلي فيه الكتاب الاخاذ، الساحر الضخم، الذي طالما قرعت رأسه وأقلقت راحته بطلبي إياه منه. في فترات تالية حصلت مِن هذه المكتبة أو تلك على كتب أبي حيّان فها أنذا أحصل على كتابهِ الآسر عن الصداقة والصديق، وبعده أحصل على كتاب المُقابسات، والاشارات الإلهية، والرسالة البغدادية، كما أحصل على كتابه الضخم البصائر والذخائر، وقد ضممتُ هذه الكتب وغيرها من مؤلفاته العزيزة الغالية، إلى مكتبتي البيتية، وهي ما زالت هناك، تنتظرني وانتظرها.

إضافة إلى ما تقدّم أحببت في أبي حيّان ثقافته الموسوعية الواسعة، تلك المعلومات التي عبّر عنها في كتابه الامتاع والمؤانسة، فأنا في كلّ واحدة من المسامرات التي ضمّها الكتاب أجد نفسي أمام وجبة أدبية ثقاقية وافية وكافية، أما لغته فهي قريبة من قلبي وعفلي، وتؤكد ما قيل عنه وقرأته فيما بعد وعن رصانة أسلوبه الادبي الذي أعاد إلى النثر العربي رونقه بعد أن شهد شيئًا من الترهل، وبعث الحياة في تلك الرصانة التي عُرف بها أديبا العربية الأكبران أبو عثمان ابن بحر الجاحظ وعبد الله ابن المُقفّع.

في فترات تالية لاحظت إلى تلك الشاعرية المتدفّقة في أسلوبه المُميّز، لا سيّما في كتابه الإشارات الإلهية، فهو يكتب في هذا الكتاب، ما يشبه قصيدة النثر، ويكاد الكلام فيه يطير بجناحين من تصوف ومشاعر سيالة متدفقة، تدُل فيما تدل على محبة غامرة بالتعبير الادبي الرصين وبالروح الشفافة المتشوّفة لكلّ ما هو رقيق وجميل في الحياة. عندما قرأت هذا الكتاب، بتحقيق الكاتب المفكر العربي المصري عبد الرحمن بدوي، شعرتُ أن ما ضمّنه إياه أبو حيان التوحيدي، يمكن اعتباره عابرًا للازمان وأنه كتب في القرن الرابع الهجري في الواقع غير انه مناسب للقراءة في كل العصور، وفي عصرنا الحالي بالتحديد، هل كان أبو حيان حداثيا الى ذلك الحد؟، هذا ما اعتقدت به وما أزال، لا سيّما وفق تعريف مُحرّر مجلة "شعر" الشاعر اللبناني يوسف الخال، عندما عرّف الحداثة بأنها مُلامسة الشاعر المبدع عامة للحسّ العصري، وأذكر في هذا السياق أن يوسف الخال، رفع مفهومَه للحداثة إلى مستوى عالٍ، عندما رأى فيه مفهومًا يتخطى الازمان ويُعبُر القرون، وهو ما يعني، وفق ما كتب، أننا قد نرى في شاعر عاش قبل ألف سنة وأكثر شاعرًا حداثيًا.. وأكثر حداثة من شعراء يعيشون بين ظهرانينا!!..

بهذا المفهوم تعاملت مع ما خلّفه أبو حيان التوحيدي من تراث أدبيّ ثمين، وطالما تذكّرت وأنا اقرأ ما ينشره الكثيرون مُدّعين أنه قصيدة النثر، ما كتبه أبو حيان في اشاراته الإلهية، ذلك الكتاب التصوفي، مُجنّح الكلمات، طائر العبارات، فرأيت الفرق بين العبث والجد، أو بين الهزل والجد وفق تعبير الجاحظ. في ذيل هذه المقالة سأنشر قطعة او قطعتين من هذا الكتاب مرتّبًا إياهما ترتيبًا شعريًا لإثارة مَن يحب أن يستثار.

أمر آخر جذبني إلى هذا الكاتب الذي أطلِق عليه لقب جاحظ القرن الرابع الهجري، ولمن لا يعرف، يُعتبر هذا القرن من أزهى فترات النثر الادبي العربي والادب العربي عامة. وما زاد في اعجابي به وتقديري لإبداعه الادبي، هو حساسيته وثقافته الموسوعية، كما ذكرت آنفًا، أمّا فيما يتعلّق بثقافته هذه، فيمكنني القول في إنها تمثّلت في فيض من المعلومات التي تمكّن صاحبُها مِن عرضِها بأبهي شكل وأروع صورة، وأما حساسيته، فهي ذلك الشعور بالأنفة والاعتزاز بالنفس، رغم ضيق ذات اليد الذي عاشه حتى أيامه الأخيرة في الحياة، ومما يُذكر في هذا المجال أنه عاش غريبًا ووصف الغربة في أشد أنواعها قسوة، بأنها إنما تكون في الوطن وبين الاهل، عندما لا يفهمنا هؤلاء متعمّدين قاصدين.

كلّ هذا التقدير والاحترام لهذا الكاتب، دفعني في أواخر السبعينيات (عام 1979 تحديدًا)، لأن أكتب مجموعة شعريةً كاملةً وضعتُ لها عُنوانًا يخصّه هو " قصائد إلى أبي حيان التوحيدي". وقد صدرت هذه المجموعة بالاشتراك فيما بين دار المشرق وجامعة حيفا، وأذكر أنني خاطبت نفسيني الشبيهة بنفسية أبي حيّان التوحيدي، في اكثر مِن وُجهةٍ وناحية، منها النقمة على واقع مكروه ومرّ، وغُربة المثقف في وطنه وبين أهله، ليعيش أقسى أنواع الغربة واشدّها وقعًا على النفس المُعذّبة، أقول خاطبته قائلّا: ضع يدكّ على خدِك أو فارحل أن الليلَ طويل.

***

ناجي ظاهر

.........................

*ذيل أو حاشية. نموذجان من نثر أبي حيّان التوحيدي منتزعان ومرتّبان بطريقة قصيدة النثر، أقدمهما فيما يلي:

* يا هذا أين أنت عن غريبٍ طالت غربته في وطنه،

وقلَّ حظّه ونصيبه من حبيبه وسكنه؟

قد عَلاهُ الشُّحوب وهو في كِنّْ،

وغلبه الحُزن حتى صار كأنه شِنّ.

إن نَطَقَ نطق حزنانَ منقطعاً، وإن سَكَتَ سكت حيرانَ مرتدعاً.

وإن قَرُبَ قربَ خاضعاً، وإن بَعُدَ بعدَ خاشعاً،

وإن ظَهَرَ ظهرَ ذليلاً، وإن توارى عليلاً،

وإن طَلَبَ طلبَ واليأسُ غالبٌ عليه، وإن أمسَكَ أمسك والبلاءُ قاصدٌ إليه.

وإن أصبَحَ أصبح حائل اللون من وساوس الفكر،

وإن أمسَى أمسى مُنْتَهَبَ السرِّ من هَواتِكْ السّتْر؛

وإن قالَ قال هائباً، وإن سكتَ سكتَ خائباً؛

* يا هذا!

دعْ سكران الهوى حتى يتهادى في سكره،

ودع مقلّد الحال حتى يتمادى في نكره،

ودع مدبّر الخلق حتى يوصف بذكره.

ودع المحتاج حتى يموت على حاجته،

والمريض حتى يتناهى في دنفه،

والتلف حتّى يفضي إلى تلفه.

عندما تجاوز ابو حيان التوحيدي التسعين عاما من العمر، قام بإحراق كتبه، مُعلّلًا فعله هذا بقوله.

* ثم اعلم، علّمكَ الله الخير، أنّ هذه الكتب حوت من أصناف العلم سرّه وعلانيته، فأما ما كان سرّاً فلم أجِد له من يتحلّى بحقيقته راغباً، وأما ما كان علانية، فلم أصب من يحرص عليه طالباً، على أنّي جمعت أكثرها للناس، ولطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة بينهم ولمدّ الجاه عندهم فحرمت ذلك كلّه، ولا شكّ في حسن ما اختاره الله لي وناطه بناصيتي، وربطه بأمري، وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجّة عليّ لا لي، وممّا شحذ العزم على ذلك ورفع الحجاب عنه، أنّي فقدت ولداً نجيباً، وصديقاً حبيباً، وصاحباً قريباً، وتابعاً أديباً، ورئيساً منيباً، فشقّ عليّ أن أدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنّسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفّحوها، ويتراءون نقضي وعيبي من أجلها فإن قلت: ولم تسمهم بسوء الظن، وتقرع جماعتهم بهذا العيب؟ فجوابي لك أن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لي من أحدهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ؟ ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم.

*لحُسن الحظ نجا مُعظم النتاج الادبي لأبي حيّان مِن الحرق.

النص أعلاه منقول عن معجم الادباء لياقوت الرومي الحموي.

*في الرسمة المرفقة أدناه. أبو حيان التوحيدي كما تخيّله الفنان

بكامل فتنتها جلست أمامي، تنظر إلي بغنج ودلال..

تتمَنَّع مرة، وتمنحني أسرارها مرات..

في حضرتها يحلو الكلام، لكن مزاجها المتقلب يسد منافذه فتصبح هلامية عصية على القبض، تصم آذانها وتشيح بوجهها العامر بالفتنة عني فينحبس القول في صدري، ويتجمد الحبر بين أناملي، وتعلو جسدي حمى إلى البرودة أقرب.

أفرش لها البياض، تخطو فوقه كملاك شفاف رهيف وقور كالحقيقة، تنشر أرديتها وعيونها لا تفارق عيوني وملمسها لا يفارق أناملي، فتنساب رهيفة، قوية، غاضبة.

يدي في يدها من أول الخطو إلى آخر الكلام. وأرتاح حين تغمض جفونها مطمئنة تتمدد مبتعدة وقد أخَذَتْ معها شيئا مني حبي، ودمي.

الليليات..

«ليليات»، حكيٌ ينفتح على الذات راسما لخطوطها مسارات تنسج الواقع بالخيال والحلم باليقظة والفلسفة بالأدب، بالشعر.

«ليليات»، حكيٌ ينحت كلماته من رحم لغة شفافة تصنع صورا تشد القارئ كأنها السحر.

«ليليات»، حكيٌ يبعث الدفء في الحروف، في الكلمات يُشعلها، في اللغة يسافر بها عبر مساراتها تتفتق من يد صانع خيوطا من ذهب تُطَرِّزُ الواقع شعرا مرة، تاريخا مرات، سيرةً وحوارات مرّات أخرى.

تطل علينا الليليات تحيك أسرار الليل تحيله بياضا يشع بجمال الحكي السلس والهادئ، فالليل بداية الحكي والنهار نهايته، وبين الليل والنهار والبداية والنهاية يغوص النص في فضاءات وشخوص تزيد الحكي جمالا ولذة وتُعَمِّق سر البوح وتفتح أبواب الكلام.

هكذا أطل الكاتب الدكتور «عبد الاله بلقزيز» رساماً، ساحراً، نحّاتاً، «صنايْعي»، فيلسوفاً، أديباً، يُرصّع الكلام، يحرث الحكي خطوطا عميقاً لتنضج الأسرار، حكيٌ شجيٌّ يجمع بين دفتيه لغة آسرة تشد قارئها، تغوص به في عالم خاص جداً، يفتح مغاليق أسراره ببطء لتنفتح كاملة وعلى مصراعيها بريئة، هادئة، قوية، صادقة وصافية عبر زمن يتداخل، ينفرج، ينعرج، يستقيم. تشتد سلطته حسب أنماط الحكي الذي تعتمده الليليات لتجعل منه منارا يقطع بنا ومعنا خطواته نحو فضاءات لا يعرف خباياها إلا من خبر أسرارها وعاش عشقها لحظة بلحظة.

من رحم الكلمات تخرج الكلمات كالأسرار، تنفرج عن لذة تنبلج كفلق الصبح البَيِّنِ صفاؤه حين يقطع بنا، معنا الحكي مسافات لا نكاد نشعر بها، بل نشعر بلذَّتها تحملنا على جناح رهيف من زهر، تؤثث جوانبه صدق وسحر الكلمات.

«ليليات»، حيكت بلغة حالمة، قوية، موصلة، متدفِّقة كشلاّل، مشاكسة كليلٍ طويلِ هادئ، توقِفُ الزمن لتتخذ لها لبوسا يمتح سره من جمال الحكي الذي يسبر أغوار الذات والواقع والحقيقة التي تنصهر، كلها، آخذة من الشعر والسياسة والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس تفاصيل تؤثث الليليات كتيمات قوية تتخذ لها فن السيرة الذاتية مرجعا لفن القول فاتحة أمام القارئ مغاليق الذات لينخرط في الحوار عبر الانصات والتأمل والتأثر الذي تفرضه اللغة الرصينة التي اعتمدها الحكي كأداة لفك رموز الأسرار.

بدايةُ الحكي..

بداية الحكي جاءت بأصابع تعرف كيف تختار لحن الوجود، أصابع خبرت سر الجمال كلمة ولحنا وإيقاعات. بداية الحكي عُزِفت على أوثار تنبعث منها ألحان الذكريات التي تتجدد دائما بتجدد العزف.

تنفتح الليليات على لحن قوي، حر يمتح جهوريته من أرض النضال والبطولات، من أرض التسامح والعطاء، إذ تنفتح على صوت الفنان مرسيل خليفة، كمقدمة، توحي بتناغم الأصوات والأحداث والفضاءات، كلحنٍ عذبٍ يمتح نغماته من أوثار قلب يحكي للماضي والآتي والمستثر في عالم الغيب عن أسرار فاضت بها الكلمة المشبعة بالحب والاحترام وتقاسم الأيام والليالي.

انفتاح الليالي على صوت الفنان الفلسطيني مرسيل خليفة يعني انفتاحها على العالم الفسيح، على جُرح الحكي الذي لا يكاد ينتهي ليبدا من جديد قويا صادقاً .

عندما يقدم الفنان العربي مرسيل خليفة لليليات فإنه يعزف لحنا خاصاً، لا يغني لليله فقط، بل للّيالي التي تمتح إيقاعاتها من ذكريات ولقاءات حميمية جمعته بالكاتب كأنه يعزف على عوده الذي يضمه إلى صدره ليخرج من قلبه ألحانا لا تمحوها الأيام بل تزيدها رسوخا في الذاكرة.

حين يحكي الفنان عن لقاءاته مع الكاتب، فإنه يحاول جمع شتات الذاكرة ليضع سمفونية تتناغم مقاطعها وتتآلف إيقاعاتها عبر حكي كأنه الغناء. بصوت خافت شجي تتلقفه الحواس بشغف ويُجبر الآذان أن ترهف سمعها لتعيش لحظات تشع بالحب والدفء..

بداية الحكي مفتتح لأغنية عذبة وُضعت بلحن شجي يتقاسمه الفنان والكاتب مع القارئ الذي، حين يُنصت، يقرأ، يَسْبَحُ في عوالم الجمال محمولا على جناح من كلمات تعرف مواقعها تاركة أثرها حين تمر منسابة مع النسيم، حين يمُر، يترك الاجساد والعقول مخمورة بفعل دغدغاته الحانية التي تبعث فيه الهدوء الراحة والاطمئنان.

مارسيل خليفة عزف مقدمته لحن ذكريات ولحن لقاءات جمعته بالكاتب، ذكريات صاغ لحنها كلمات أبدع في اختيارها كما يُبدع عادة حين يختار لحن أغانيه عن أم الدنيا فلسطين .

2 ـ مسالك الليليات..

الحكي في الليليات يتخذ له مسالك أربعة تتفرق تيماتها لتجتمع متآلفة تصنع ببراعة الكاتب، هذا الحكّاء المتمرّس، لوحة متراصة من الأحاسيس والحقائق والأسرار التي تقف بالمتلقي لتُمتعه، أمام لغة تمزج حين صناعتها بين الأدبي والفلسفي والواقعي والتخييلي، لغة تسير نحو ذروة اللذة التي ينشدها القارئ حين يندس بين السطور والكلمات ليفتح له مسلكا خاصا كالذي أفتحه أنا الآن أُدون فيه لحظات عشق قاطعا مسالك الليليات متتبعا لذة الحكي محاولا فك رموز الأسرار التي تتمنّع عن الظهور بين ثنايا الحكي اللذيذ.

التفسيرة.. مسلك أول..

الليل، الليل بداية التكوين، منه تبدأ مدارج النور إلى مسالك الحياة والوجود.

الليل خازن الأسرار والحكايا الملغزة.

الليل بداية الحكي ومنتهاه، أليس خريف العمر نهاية ومنتهى؟ وبين البداية والنهاية ينضج ويلذ حديث النهار الذي يزخر ببوح لا بداية له كأنه الزمن الأول، إذ «ليس للبداية تاريخ ميلاد»

الحكي في «ليليات»، يوقف الزمن لحظة ليترك المجال فسيحا أمام شجون الوحدة وقوتها. وشجون الطفولة وشقاوتها. الطفولة التي رصعت بخطاها منعرجات المدينة الحمراء .

الحكي في «ليليات» يمتطي صهوة الكلمات نحو البوح والشوق والتذكر، والوقوف على حافة مقامات البدايات والختام، مقامات الشك واليقين، مقامات الأنا والآخر .

صهيل الذاكرة.. مسلك ثان..

المرأة، سر الأسرار وخازنتها، كالليل في سكونه، في غموضه، في هدأته حين يرخي بظلاله على الكون مستمعا لسر اللقاءات الأولى، المحتشمة والغامضة، والتي تؤثث بسحرها فضاءات البوح والعشق، الفضاءات التي تنفتح صفحاتها لتنكتب عليها مغاليق الأسرار.

المرأة، سرٌّ لا يعطي مفاتيحه بنظرة، بل يُدخل العاشق في متاهات الغموض والشوق والأوهام.

كل سر مغامرة، تحدّ لا يسلم مفاتيحه إلا لمن خبر دهاليزه وسقط في شراكه عاشقا كان أو كاتبا أو حكّاءاً.

سفر التأوين.. مسلك ثالث..

بين السياسة والشعر يشتعل الحكي هادئا مطمئنا تاركا وراءه فتنة البوح والعشق تجوب دروب مدينة تزخر بالفضاءات التي رسمت مسارات من حياة الكاتب.

الرباط، تعبق بسر الخطوات التي رسمت هنا وهناك، كأن الخطو يحكي مزاراته متنقلا بين الدروب والأزقة تاركا بصماته التي حفظها الزمن لتسجلها الليليات حكاية حياة أو قطعة منها، حكاية تشكلت بداياتها حين كانت الكلمات الأولى شعرا، والحركات الأولى سياسة، والصيحات الأولى بدايات النضال داخل الكلية أو خلال جلسات الأصدقاء.

وكان الأمل رفيقا لهذه الكلمات والحركات والصيحات، الأمل الذي يصنع الغد، الأمل الذي يفتح أبواب الحلم واسعا على مصراعيه ليصبح عزيمة تدفع إلى تأكيد الذات عبر الكلمة التي يصنع منها أملا جديدا يوزعه بين الطلبة داخل مدرجات الكلية.

النهاية.. مسلك رابع..

خريف العمر يجرنا إلى النهاية، تلك سنة الحياة، لكل بداية نهاية، وليست كل نهاية موت. نهاية الحكي في ليليات ليست بداية الاستسلام ولكنها طرح السؤال وفتح حوار جريء وصادق مع الذات، ليس للمحاسبة، ولكن للوقوف أمام الكتاب الكبير المفتوح على البدايات لاستخلاص العبر التي رسمت كلمات ونضالا.

خريف العمر جلسات للتأمل، للنظر إلى الوراء دون توقف.

قد يسير بنا الزمن سريعا، لكن لحظات التأمل والحوار مع الذات تنشد الهدوء والتريث كما تنشد القوة والصبر لقول «من أنا ؟ من » كنت؟» وما الأثر الذي ترَكَتْهُ خطواتي وأنا أسير منذ بداية الخطو، الحكي؟

ليس سهلا أن يقف الإنسان أمام نفسه عاريا، صريحا، صادقا، سائلا ومتسائلا، وباب الخروج يلوح في الأفق، الخروج الذي يدفعك مرغما إلى دخول جديد.

لكل بداية نهاية، وليس للبداية تاريخ ميلاد.

تلك سنة الحياة، يبدأ الحكي مُتَّجها مُرْغماً نحو النهاية في بحث عن بداية جديدة، حاملا معه أسرارا أخرى قد تتضمنها عناوين جديدة نحن في انتظارها.

***

ذ. عبد المطلب عبد الهادي – المغرب

غشت/آب 2025

ما هو دور القارئ في تشكيل توجّه الكاتب الروائي نحو بناء رواياته وإقامة تقنياتها على أسس مُقنعة، ويمكنها أن تجتذب من يُقبل على قراءة هذه الرواية المفترضة او تلك التي، علما أن فكرتها ما زالت تدور في ذهن صاحبها أو مَن ينوي كتابتها وإخراجها للناس؟.. للإجابة على هذا السؤال المُحيّر والاشكالي كما سنلاحظ، وضعت الكاتبة الامريكية نانسي كريس كتابها التحفيزي" تقنيات كتابة الرواية"، مُركزةً على إرشاد مَن يود أن يكتب رواية ناجحة وتلقى القبول الشديد لدى قطاعات واسعة من القراء، ومَن يعلم ربّما تلقى مثل هكذا قبول لدى أعضاء لجنة منح جائزة من تلك الجوائز التي يسيل عند ذكرها الكثير من اللعاب.

قبل الدخول في عالم هذا الكتاب الارشادي المثير لا بُدّ لنا من تلمّس الطريقة الناجعة لقراءته، وعادة ما تكمن هذه الطريقة في عنوان الكتاب أي كتاب او في عنوانه الجانبي. العنوان الجانبي لهذا الكتاب يُخبرنا قبل الخوض في قراءته بأنه انما يقدّم تقنيات وتمارين لابتكار شخصيات دينامية ووجهات نظر ناجحة.

ما إن ندخل إلى حرم الكتاب قارئين متمعّنين، حتى نُفاجأ بعنوان مقدمته وهو "ماذا يريد القارئ"، وهذا يعني أنه على الكاتب أن يضع القارئ نُصب عينيه، عندما يُقبل على التخطيط لكتابة رواية أولًا والشروع في كتابتها ثانيًا، للإجابة على هذا السؤال ترى الكاتبة أنه من الطبيعي أن تكون هناك رغبة عارمة لدي مَن يُود أن يكتب الرواية، في إقناع جميع الناس أو القراء، بان يقرأوا روايته، وتضيف غير أن هذه الرغبة غير منطقية، كون القراء يختلفون فيما بينهم، فماذا يفعل الكاتب في مثل هكذا وضع، أن يكتب لإقناع قطاع معين من القراء؟.. هذا الأقرب الى الواقع والمنطق، هكذا نرى أن تحديد القارئ المُفترض يساهم كثيرًا في كتابة الرواية. تقول الكاتبة ضاربة مثلًا على ما تقصده:" إن المرأة التي تختار (قراءة) قصة رومانسية مثلًا إنما تُريد أشياء معينة من الشخصيات في الكتاب(الرواية)، الذي اشترته، ومعرفتك (تقصد الكاتب)، بهذه التوقّعات تُساعدك في ابتكار الشخصيات التي ترغب تلك القارئة – أو قارئ اللغز أو الخيال العلمي-(الرواية) قضاء اربعمائة صفحة معها".

لكن كيف يختار الكاتب الروائي العتيد شخصيات روايته؟.. تُجيب المؤلفة انه توجد هناك العديد من الطرائق، منها أن تختارها من الواقع اليومي المعيش المحيط بك، أو من الخيال أو من أي مصدر آخر متاح.. الأصدقاء مثلًا. بعد اختيار الروائي شخصيات روايته ماذا يُفترض به أن يفعل؟. تُجيب الكاتبة عليه أن يختار الشخصية المركزية التي يُريد أن يروي على لسانها ومن وجهة نظرها.

الآن وقد بات أمر شخصيات الرواية واضحًا وتمّ بالتالي تحديد من ستكون منها الشخصية المركزية، ماذا سيفعل الكاتب الروائي؟.. ها هو الوقت المناسب للبدء في الكتابة، وهنا ترى الكاتبة أن الشخصيات تنقسم إلى نوعين الشخصية المُتفاعلة أو النامية، وفي المقابل الشخصية الثابتة، والفرق بين هذين النوعين هو ان الشخصية المتفاعلة تتغير وتتبدّل وفق تفاعلها مع ما تحتويه الرواية وتقدمه من أحداث، في حين أن الشخصية الثابتة تبقى كما وصفها الكاتب، منذ بداية كتابة الرواية حتى نهايتها او الانتهاء منها. وهنا ينبُق السؤال أي من هذين النوعين أفضل؟ وتُجيب الكاتبة ان لكلّ منهما وضعيته وكينونته، وليس بإمكاننا أن نقول إن هذا النوع أفضل من ذاك.

فيما يتعلّق بهدين النوعين من الشخصيات الروائية، المتفاعلة والثابتة، حسب تعبير الكاتبة، والنامية والمسطحة، كما يرى أ.م فورستر في كتابه المشهور " اركان القصة"، تختلف الآراء وتتضارب، وأعتقد أنه لكلّ من أصحاب الآراء المتضاربة هذه حُجتُه واجتهاده، فمّن يرى ما تراه المؤلفة نانسي كريس، كما أرى، إنما يعتمد على القُدرات الإبداعية التي يتمتّع بها الكاتب وفي قدرته على عرضه أو ابتكاره الروائي المتخيّل، أما مَن يرى خلاف هذا الرأي فإنه يقيم رؤيته هذه على الديناميكية الداخلية للعمل الروائي بغضّ الطرف عن كاتبه، بمعنى أنه يتعامل مع الكتابة الروائية تفنيًا، احترافيًا ومهنيًا.

بعد تحديدها شخصيات الرواية أولًا وشخصيتها المركزية ثانيًا، تؤكد الكاتبة أن نمو وتطوّر الحَبكة الروائية (التصاعد المنطقي للأحداث - ن- ظ)، يتعمد أول ما يعتمد على الشخصية الروائية، فهي عمادُ الحَبكة الروائية وهي التي تحددّها وتُوجّه مسارَها، وذلك وفق رؤيتها ورأيها.. صورتِها وتصوّرها للواقع، فإذا كانت الشخصية إيجابية تطوّرت الحُبكةُ في هذا الاتجاه، وإذا كانت في المقابل، سلبية تطوّرت بهذا الاتجاه أيضًا.

لقد توصّلنا حاليًا إلى حالة مِنَ الوضوح، فقد فرغنا مِن تحديد الشخصيات، وتمكّنا مِن اختيار الشخصية المرّكزية مِن بينها، كما اتضح لنا دور الشخصيات في تطوّر الحَبكة الروائية، فماذا علينا أن نفعل.. إظهارًا وعرضًا للشخصّيات الروائية؟، إن ما يُطلب منّا هو أن نضعها في مسرح يكشف عن تصرفاتها وسلوكياتها، أما في وصفنا لهذه الشخصيات، فمن المفترض أن نصفها ضمن الاسترجاعات الكتابية أو ما شابه، كما يُفضّل أن نصف كلًّا ِمن الشخصيات، خاصة المركزية، عبرَ عينيّ شخصية أخرى من شخصيات الرواية.

هكذا بات واضحًا أن انتهاج التعبير المنطقة الداخلي للرواية، يُعتبرُ مِن أهم التقنيات، بل التقنية الأساسية لكتابتها. بالعودة إلى اهتمام الكاتبة بالشخصية الروائية، كما يتصوّرها قارئ الرواية المُحتمل، تُنهي المؤلفةُ كتابها بالقول: إن" أكبر مساعدة تُقدمّها لنفسك ككاتب، هي اعتبار الرواية قصة الشخصيات، وليست قصتك الخاصة".

***

ناجي ظاهر

....................

* مؤلفة الكتاب نانسي كريس، كاتبة من مواليد ولاية بوفالو الامريكية عام 1948 ابتدأت الكتابة عام 1976، وهي مؤلفة العديد من روايات الخيال العلمي، وقد فازت بأكثر من جائزة لقاء كتاباتها الروائية.

 

هل يعيش الفيلسوف المفكر أفكاره التي يدعو إليها فيما يبثه من أفكار واراء في كتاباته، كتبه ومحاضراته، أم أنه يعيش نوعًا من الحماقات الإنسانية غير عابئ بالفرق ما بين أفكاره وممارساته الحياتية؟. الدراسات المتعمّقة لما كتبه أصدقاء ومقرّبون من عدد وفير من فلاسفة العصر الحديث تحديدا، تقول إن هؤلاء الفلاسفة عاشوا الأفكار والمُثل العليا في كتاباتهم وفي افكارهم، لكنهم لم يحيوها في الحياة اليومية، التي عاشوها لحظةً إثر لحظة، ساعة تلو ساعة ويوما بعد يوم.

انطلاقا من هكذا رؤية، ظهر منذ فترة تُقّدر بالعشرات من السنين، عدد من الكتب التي كتبها مثقفون من ذوي القدرات المُميّزة عن هذه الناقضات التي اتصفت بها حيوات العديدين من الفلاسفة، بين ما دعوا اليه وبين ما عاشوه وعايشوه من احداث وممارسات يومية. وقد سبق وكتبنا مقالة عن ثلاثة من هذه الكتب تحت عنوان فضائح العصر في ثلاثة كتب، وها نحن نكتب عن كتاب رابع، هو كتاب (جنون الفلاسفة) تأليف الكاتبين نايجل رودجرز وميل ثومبتون.

صدر هذا الكتاب باللغة الإنجليزية عام 2005 وترجمه إلى العربية متيم الضايع وصدر عن دار الحوار السورية عام 2015. هذا العام أعيدت طباعته بصورة مقلّصة في بلادنا وبإمكان الاخوة المهتمين الحصول على نسخة منه من هذه المكتبة او تلك. يتعرض فيه مؤلفاه الى ثمانية من فلاسفة العصر الحديث، معرفين هذه الفلسفة انها منذ الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت حتى أيامنا الراهنة، وواضعين لكلّ من هؤلاء الفلاسفة عنوانا يدُل على ما قام به ونفّذه من حماقات في حياته، تتعارض ما دعا إليه من أفكار، مما يُقرّبه ويدنيه من الجنون، وينزع عنه صفة القداسة التي يبرع الكثيرون مِن القُرّاء العصريين، في اصباغها على هؤلاء الفلاسفة وغيرهم.

الفلاسفة الثمانية الذين يتعرّض لهم المؤلفان في كتابهما الطريف هذا، هم: جان جاك روسو وعنوان ما كتباه عنه الفيلسوف كضحية، آرثر شوبنهاور- المُخلّص البغيض، فردريك نيتشة السوبرمان السمج، بيرتراند راسل- رياضيات السلوك الإنساني، لودفيج فيتنجشتاين- الغضب والزهد، مارتن هايدجر- الساحر، المفترس، الفلاح، النازي، جان بول سارتر- الطغيان الفكري وسوء النية، وميشال فوكو- الجنون، الجنس والعقوبة.

هذه العناوين تحكي الكثير فيما يتعلّق بهؤلاء الفلاسفة والمفكرين، خاصة بحماقاتهم وتناقضاتهم بين القول الفكري والمعيشة اليومية، فواضح انهما يأخذان على هايدجر مثلا تماهيه مع الحكم النازي في بلاده، وواضح انهما يأخذان على فيتنجشتاين تكبّره وتنمره المُسيء على طلابه والمحيطين به، وأكثر من هذا انهما يأخذان على سارتر سوء نيته تجاه صديقة عمره ورفيقته حتى يومه الأخير، الكاتبة المفكّرة الوجودية سيمون دي بوفوار، صاحبة الكتاب الشهير عن " الجنس الاخر"، وخياناته لها بمحاولات، لا يهم ما إذا حالفها النجاح أو باءت بالفشل في إقامة علاقات جنسية مع تلميذاتها وصديقاتها، أما برتراند راسل الذي كتب عن الحب والزواج والحياة السعيدة بواقع الفي كلمة يوميا، فقد طلّق ثلاثًا من زوجاته، واقام علاقات مع نساء الآخرين، بمعنى انه كان زير نساء، لا يوفّر زوجة قريب أو بعيد. وأما الفيلسوف والمفكر الفرنسي الكبير ميشال فوكو صاحب كتاب تاريخ الجنون، فقد عاش حياةَ انسان مثلي تقوده غريزته الملتهبة من حضن مثلي إلى آخر.. حتى الاحتراق!!

ما يكشفه هذا الكتاب عن التناقضات المشينة بين القول والفكر لدى مَن يتحدّث عنهم الكتاب ويتناولهم بالدراسة، لا يتوقّف عند مثالبهم، وإنما هو يقدّم لهم، عبر دراسات شبه كاملة عن حيواتهم وعطاءاتهم الفكرية غير المنكورة، بل المؤكدة في تاريخ الفلسفة الحديثة، اما الهدف من الإشارات الى التناقضات، المشار اليها بين الاقوال والافعال، فإنها تهدف إلى عدد من الأمور، منها وربما أهمها عدم تقديس الأشخاص، وجعلهم رموزا وطواطم لا تخطئ، فلكلّ منّا نحن بني البشر، اخطاؤه التي أشار اليها السيد المسيح بمقولته الخالدة، من كان منكم بلا حطيئة فليرمها بحجر، وبقية القصة معروفة. ومما يريد ان يشير إليه مؤلفا الكتاب، كما يذكران في ثتاياه وصفحاته، هو التفريق بين حماقة من تحدّثا عنهما في كتابيهما، وبين تصرفاتهما السيئة، يقولان:" المهم اننا قاومنا اغواء كبيرا للتفريق بعناية ما بين حماقة التصرف السيء والسخافات الاجتماعية العادية، تفريق كهذا يكون ذا صلة فقط في التقييم الأخلاقي للتصرف، في حين ان اهتمامنا هو مُجرّد تقديم حماقات الحكماء، كي لا تقدس ذكراهم بشكل مُحرج". واضيف كي لا يتم التعامل معهم على اعتبار انهم إلهة لا تخطئ، وليسوا بشرًا.

***

ناجي ظاهر

.......................

*عن مؤلّفي الكتاب: نايجل رودجرز- كاتب ومؤرخ بريطاني وضع أحد عشر كتابًا في السيرة الذاتية، منها كتاب عن تشرشل وآخر عن هتلر، وهو صاحب كتاب عن " الغندور: طاووس أم لغز". ميل ثومبتون- مؤلف أكثر من عشرين كتابًا في الفلسفة والأديان، منها كتاب عن فن العيش وإخر عن القراءة السهلة للفيلسوف. ته

 

اتصف عصرنا الحديث بالعديد من الصفات فقد اختلف عن سابقيه اختلافًا كبيرًا جراء ما شهده من تسارع في التحولات والتبدلات، وفي حين كان الإيقاع الزمني بطيئا نوعا ما في الازمان والعصور السابقة، شهد عصرنا هذا تسارعا عير مسبوق في التطورات والتبدلات، وبإمكان مَن يود الاطلاع على ايقاعات هذه التسارعات، مراجعة صفحة من كتاب التفكير العلمي للكاتب المفكر العربي المصري الهام فؤاد زكريا، أرجو أن أتمكن من إرفاقها بهذه المقالة. لقد اثار ما شهده عصرنا من تطورات وتبدلات هامة وعامة، الكثير من الكُتّاب العرب أيضًا، واذكر في هذا السياق ان احد كُتّاب مجلة المجلة المصرية، وصف عصرنا بانه عصر اللامعقول، كون ما كان غير معقول في العصر السابق بات معقولا في عصرنا. هذا على المستوى العام للعصر، فماذا عن المستوى الخاص؟.. ماذا عن رجالات عصرنا، ماذا عن اعلامييه وماذا عن وسائل اتصاله الاجتماعية وما سجّلته مِن تغيّرات وتبدّلات وصلت حد الفضائح، والاستغلال العبثي وغير المبرر، واكاد أقول الجنوني من الانسان لأخيه المدعو.. انسانا؟

فيما يلي سأتعرض باختصار شديد الى ثلاثة كتب صدرت في العقود الماضي القليلة، وسجلت منذ صدورها حتى هذه الأيام، اهتماما ثقافيا عامًا ومتزايدًا، فقرأها الناس في بقاع واسعة من العالم، علما أنها تُرجمت إلى العشرات من اللغات، بما فيها لغتنا العربية، وصدرت طبعات منها في هذه البلاد او تلك، كما اعيد طبع بعض منها في بلادنا خاصة الكتاب الثالث الذي سأتعرض له بكثير من الاهتمام كونه سلّط الضوء على أعمق أعماق ما يعيشه الناس في عصرنا من تغريرات وأنظمة اقل ما يقال فيها إنها تستهدف التفاهة وتكرسها، لمن يعرف خبثا ولمن لا يعرف تبسيطا يصل حد السذاجة. فيما يلي أقوم بتقديم أهم ما أشار إليه أحد الكتب الثلاثة الملمح اليها، وذلك ضمن منهجية تهدف لاطلاع الأخ القارئ على الكتاب عنوانه، اهم ما ورد فيه وما ميّزه، ومَن يعلم قد يحفز ما أقدمه تاليًا على قراءة هذه الكتب او بعضًا منها عملا بالقول الكريم زدني علما.

المثقفون - تأليف بول جونسون- الكشف عن الوجه الآخر لمثقفي العصر

صدر هذا الكتاب في طبعته الإنجليزية الأولى عام 1989، وصدرت طبعته العربية الأولى، بترجمة الكاتب المصري المثقف طلعت الشايب عام 1997. وكانت مجلة اخبار الادب المصرية قد نشرت في حينها عددًا من فصوله، واطلع عليها قراء الصحيفة، وكاتب هذه السطور واحد منهم. الكتاب يُقدّم فحصًا مُدقّقًا وموسّعًا لأبرز مثقفي عصرنا، معتمدا في معلوماته هذه على مصادر كتبها مقرّبون منهم، من الأصدقاء وأبناء العائلة. نقرأ في صفحات الكتاب مثلا عن ماركس - نباح اللعنات الكبرى، ذلك المفكر الذي كتب عن الرأسمالية واستغلالها لأبناء الطبقة العاملة وعن حقوق العمال، ويُفاجأ قارئ الكتاب بأن ماركس لم يزر في حياته مصنعا ليتعرّف عن قرب على أحوال أبناء الطبقة العاملة. كما نقرأ فيه عن جان جاك روسو الذي احتقر الثروة في كتاباته وعاش حياة انسان جشع محب للمال. وعن جان بول سارتر الذي كان يخون خدينته ومحبوبته الفيلسوفة الوجودية سيمون دي بوفار ويستغلها في اغوائه تلميذاتها. اما الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل ذلك الداعي الأخلاقي الكبير فقد كان زئر نساء لا يوفر احداهن من غاراته. واما هنريك ابسن نصير المرأة في كتاباته ومسرحياته، فقد امتهن كرامتها في حياته، وفي الكتاب صورة أخرى للوجه الحقيقي للكاتب الألماني الانساني في مسرحياته، هذا الكاتب كان يستغل ما يتلقّاه من رسائل حبيباته لإدخالها في كتاباته!

المثقفون المزيفون- تاليف باسكال بونيفاس- كيف يصنع الاعلام خبراء في الكذب والتغرير بالناس

مؤلف الكتاب مفكر سياسي من أبرز المحللين الإستراتيجيين الفرنسيين وهو حاصل على دكتوراة في القانون الدولي العام. من مؤلفاته: فهم العالم (2010) ولماذا كلّ هذه الكراهية؟ (2010) ونحو الحرب العالمية الرابعة (2009) وهو كتاب ينتقد فيها أطروحة صدام الحضارات لصامويل هينتنغتون، وقد صدرت طبعته الأولى سنة 2005 وكتاب من يجرؤ على نقد إسرائيل؟ وغيرها من المؤلفات الهادفة. يفضح بونيفاس في كتابه هذا- "المثقفون المزيفون"- كيف يصنع الإعلام خبراء في الكذب، وإستحواذ فئة من الصحافيين والمعلقين والمثقفين مِنْ عديمي الضمير على الفضاء الإعلامي والثقافي الفرنسي، وقلّبهم الحقائق بهدف توجيه الرأي العام نحو قناعات أيديولوجية أُحادية البُعد، خاصةً برنار هنري ليفي اليهودي. الأصل" وجماعته.يؤكد بونيفاس في مقدمة الكتاب، الذي رفضت نشره أربع عشرة دار نشر من كبريات دور النشر الفرنسية، أن فكرة فضح المثقفين المزيفين، أو المرتزقة كما يسميهم، قد راودته منذ فترة طويلة مواكِبةً لمواقفهم المخزية التي تدمّر الديمقراطية وتُهدد الإعلام.

 كما يؤكد أنّ عدم النزاهة الفكرية لها اليوم نجومها في فرنسا، وهم يحظون بالتكريس الإعلامي ويشتركون في تغذيةٍ قدرٍ كبير من الخوف غير العقلاني من خطرٍ إسلامي مزعومٍ يُمثّل عدواً مشتركاً للعالم الحُرّ، أو تبرير غزو بلدٍ ما وتدميره كما حصل في العراق بحجة وجود أسلحة دمار شامل، أو كما يمكن أن يحصل الآن في بلداننا العربية الرازحة في ربيعها الأسود تحت ذرائع أسلحة كيميائية أو انتهاكات حقوق إنسان أو تطهيريات عرقية.

نظام التفاهة- تأليف الان دونو- التفاهة تبسط سبطتها على كل ارجاء العالم

مؤلف الكتاب فيلسوف كندي. محاضر في علم الاجتماع يعمل في جامعة كيبك. صدر كتابه هذا بالفرنسية عام 2015. يعرض فيه فكرة مُفادُها أننا نعيش فترة مختلفة عن فترات التاريخ البشري السابقة، حيث السلطة بعيدة عن يد من يستطيع التميز في القيادة، ومبسوطة في يد التافهين باختلاف درجاتهم ومستوياتهم. لقد تطوّر الأمر حتى صار يكتسح جميع المجالات، وصارت التفاهة نظاما يُحتفى به، واستطاع التافهون أن يبنوا عالما جديدا يقتل الإبداع والتميّز، ويشرّع التفاهة والتخلف، كما يجعل الخروج عن النظم التقليدية خطأ غير مقبول، مهما كانت الدوافع، وحتى لو كانت نتيجة التجديد حسنة وجيدة. مما قيل عن الكتاب: انه كرس صاحبه، آلان دونو، واحدًا من أهم المفكرين الكنديين الذين لم يسبق للعالم الناطق بالإنجليزية أن سمع بهم من قبل.. لقد وضعت الكتابة الجريئة دونو في قلب خارطة الجدل في كندا. بل في العالم أجمع.

***

ناجي ظاهر

 

اتخذ من الادب، شعرًا أولًا، نثرًا ثانيًا، مسرحًا، رواية وسيرة ذاتية ثالثًا، رسالة آمن بها منذ يفاعته الأولى، ولم يتردّد في دفع الثمن المُتطلّب، من ملاحقة ومطاردة، سجن وإقامة جبرية، بل دفع هذا كله وأكثر، مؤمنًا بأن على الانسان حين يحيق به وباهله العسف والظُلم، لا بد له من أن يردّه وبكل قوة، ورغم انه كان يعرف امكانياته وحدوده فعلًا وقوًلا، إلا أنه تمرّد على ذاته، ومضى منتصب القامة يمشي، في كفّه قَصفةُ زيتونٍ وعلى كتفه نعشه. وقد كان في هذا اشبه ما يكون بالشاعر العربي القديم دعبل الخزاعي الذي قال إنه حمل صليبه خمسين عامًا متحدّيًا كلَّ مَن يمسه بسوء، أو يدوس له على طرف.

الشاعر الصديق الراحل سميح القاسم ( 1939- 19-8-2014)، الذي نحيي ذكرى عقد ونيف من الزمان على رحيله، وقد صادفت هذه الذكرى أمس الثلاثاء، التاسع عشر من آب الجاري، باعثة فينا نحن أحباءه واصدقاءه ومقدّري شخصيته وابداعه الادبي عامة والشعري خاصة، هذا الشاعر الذي حظي بالكثير من الألقاب، منها شاعر العروبة، وشاعر القومية العربية، وطائر الرعد، عاش حياته متكرّسًا لرسالته الانسانية والوطنية معتمدًا على موهبة جزلة، معطاءة، وروح تعرف ما للكلمة من قوة وأثر، سواء كانت مكتوبة او مقولة/ مُنشدةً، فأعطى الكثير وقوبل بالوفير من الاحترام والتقدير، فحصل على العديد من الجوائز، العربية والعالمية وبإمكان مَن يُريد الاطلاع عليها، بإمكانه ان يفعل عبر محرّك البحث الالكتروني العالمي جوجل.

ربطت كاتب هذه السطور بالشاعر سميح القاسم علاقة ابتدأت وهو فتى غضّ الاهاب، يتلقّى علومه على مقاعد الدراسة، وكان ذلك عام 1968، عندما أرسل قصة قصيرة حمّلها عنوانَ الكلمة الأخيرة، إلى مجلة الجديد وفوجئ بنشرها في الشهر الذي أرسلها فيه ذاته، وعندما علم أن الشاعر سميح القاسم هو مُحرّر تلك المجلة، التي كانت تعتبر الأهم في بلادنا، سعى للقاء به، وكان سميح القاسم حينها في التاسعة والعشرين من عمره، سميح استقبله في غرفته الصغيرة المتواضعة، التي كانت تقوم آنذاك في احد بيوتات حي النسناس في مدينة حيفا، مشيدًا بموهبته الصاعدة ومشجّعًا إياه رغم صعر سنه، على المُضيّ في طريق الكتابة والابداع. وقد لمس منذ اللحظات الاولى لذاك اللقاء أمرين يُميّزان الشاعر المُحرّر، أحدهما دماثة الخُلق وطيب المعشر، والآخر الثقافة العميقة والمركزة، وقد رافقه منذ ذلك الحين في معظم الأماكن التي انتقل للعمل فيها، رافقه في صحيفة الاتحاد، وفي مؤسسة الفنون الشعبية، التي أقامها مع آخرين، بهدف دعم الحراك الثقافي والفني في البلاد، كما رافقه عندما أسس بالتعاون مع الكاتب اميل حبيبي منشورات عربسك، وعندما انتقل إلى الناصرة للعمل مُحرّرًا لصحيفة كل العرب، أخذ بالتردّد على الصحيفة برفقة الأصدقاء منهم الصديق المشترك الشاعر سيمون عيلوطي، الكاتب المرحوم عيسى لوباني والشاعر نمر سعدي. في كلّ هذه التنقلات تعاملنا معا، كتابة ونشرا. وكنت أتأكد أولًا بأول مما لمسته من صفات حميدة اتصف بها شاعرُنا المُبدع.

انطلاقًا مِن مَعرفة وثيقة بالشاعر سميح القاسم، بإمكاني تسجيل الملاحظات التالية، معتبرًا إياها شهادة من انسان عايشه وعرفه عن قُرب.

* الشاعر: كتب سميح القاسم العشرات من المجموعات الشعرية، علمًا أن مؤلفاته وقعت في ثلاثة وسبعين كتابُا وطبعت في سبعة مُجلّدات، وقد تميّز شاعرُنا عن الكثيرين مِن الشعراء في بلادنا خاصة، بأنه أخذ قضية الادب والشعر بكل جدّية، وتعامل معها على اعتبار انها قدر ومُبرِّر وجود، فكنت تراه دائم التطوير لعمله الشعري، وها هو لا يُصدر مجموعةً شعريةً جديدةً إلا ليُضيف إلى سابقتها، فهو شاعرٌ دائم التجدُّد، وقد أقام هذا كله على معرفة عميقة بالشعر العربي القديم، وبإمكاني القول إنه كان من أبرع مَن تعاملوا مع الاوزان الشعرية، إذ كان مُتمكّنًا فيها تمكنًا رصينًا، وأشهد أنه عادة ما كان يُقطّع القصيدة حرفًا.. حرفًا وبيتًا بيتًا، أما عمله في قصيدته فقد كان يمرُّ بمرحلتين إحداهما الكتابة الأولى، والأخرى النظر والمعاينة لكلّ واحد من جوانبها، إلى هذا كان شاعرُنا رُغم معرفته هذه بالأوزان والبحور الشعرية العربية، يُميّز بين النظم والابداع، او الخلق الفني، أو الإغراب، كما عند الناقد العربي الخالد عبد القاهر الجرجاني، صاحب دلائل الاعجاز واسرار البلاغة أولًا، ومثلما عند الناقد العظيم حازم القرطاجني صاحب الكتاب الفاتن منهاج الادباء وسراج البلغاء ثانيًا. فالقصيدة لدى شاعرنا عبارة عن عالم له قوانينه ودينامياته الداخلية المؤسسة على الوجدان أولًا والفكر ثانيًا والخيال ثالثًا والأسلوب رابعًا. بناء على هذا يُمكننا القول إن قصيدة شاعرنا تدُل عليه، فهو صاحب أسلوب خاص ليس من المُستحسن مقارنته بسواه، وإذا كانت لا بُدّ مِن المقارنة فبينه وبين ذاته. كان شاعرُنا دائمَ الاطّلاع على أسرار شعرنا العربي القديم وخفاياه، فهو مؤمنٌ تمام الايمان أن معرفة الذات يُفترض أن تكون أولًا، بعدها نتعرّف على الآخر، لذا تراه يتأثر بشعر الحماسة ويكرّس له بعضًا مِن نتاجه الإبداعي، وفي الآن ذاته لا يفوتُه الاطلاعُ على نماذجَ من الشعر الأجنبي، وذلك ضمن محاولة إثرائية، وتوسيعًا للدائرة الإنسانية التي شغفته وشعلت باله طوال أيام حياته بنهاراتها ولياليها. كلّ هذا يدفعُنا للقول إن سميح القاسم تأطر كشاعر مقاومة، لكن حان الوقت بعد عقد من الزمان على رحيله المؤسي، ان نخرجه من هذه الدائرة الضيّقة، ولعلنا لا نبتعد عن الموضوع إذا ما إذا ما أشرنا إلى بعض من قصيده للإشارة إلى أفقه الإنساني الجزل، وربّما يكفي أن نشير في هذا السياق إلى قصيدة عن لوركا، لنرى إلى أي مبدع كان. أما مسالة الانشاد الشعري، وهو أحد مظاهر شعرنا العربي القديم، لنتذكر سوق عكاظ وما كان يُنشد فيه من أشعار، فهي تقول لنا إن سميح القاسم انشد الشعر في الناصرة وفي عمان، دمشق والقاهرة فأبدع، مسجّلًا ذاته مًنشدًا متفرّدًا وذا شخصية إنشادية قلّما تكررت. بإمكان مَن يشُك في هذا أن يستمع إلى إنشاده او إلقائه قصيدتَه الغاضبة الفاتنة التي تهيب بأبناء شعبه مناشدة إياهم بأن يتقدموا، فكلُ نار فوقكم جهنم.

* الناثر: كما ذكرنا آنفًا، كتب سميح القاسم المقالةَ السياسية، الرواية السيرة الذاتية والمسرحية الشعرية. فيما يلي نتناول كلًّا من هذه الأنواع الأدبية، ببعض الكلمات، ففي مجال كتابة المقالات نُشير بكثير من الحنين إلى الماضي، إلى مقالات شاعرنا التي كان ينشرُها تباعًا في صحيفة الاتحاد الحيفاوية، تحت عنوان مِن فمكَ أدينك، فقد ابتكر في هذه المقالات طريقة خاصة، لا تعتمد على الهجوم على الآخر/ المحتل، بقدر ما تحاول أن تقرأ عقليته بعقلية أخرى واعية، تعرف كيف تقرأ وتدرك ما لزلّات اللسان من مخاطر في التعبير عمّا في النفوس من مشاعر وضغائن. أما عندما انتقل للعمل رئيسًا لتحرير صحيفة كل العرب، وكانت آخر الصحف التي عمل فيها، فقد كتب مقالة افتتاحية أسبوعية، وعادة ما كان يختتمها، بشعاع ليزر، مُسدّد، لاذع وكاشف، حدّ الفضيحة، حتى ان بعضًا مِن الكتّاب لجأ إلى تقليده، لكن هيهات له أن يتمكّن، فهناك فرقٌ شاسع واسع بين الأصل والنسخة. فيما يتعلّق بكتابة شاعرنا الرواية والسيرة الذاتية، هو لم يبتعد كثيرًا عن تجربته الذاتية، وعادة ما اغترف مِن هذه التجربة مُقدّمًا ما اغترفه بقالب فنيّ، موشى بشعرية شفّافة، وواصفًا واقعًا عاشه وعايشه عن قراب مع تحويرات تتمثّل في إعادة صياغة هذا الواقع من وُجهة نظر مُرهفة ورؤية خاصة ومميّزة. في هذا المجال نُشير الى روايتيه او حكايتيه كما وصفهما، الصورة الأخيرة في الالبوم الأخير وإلى الجحيم أيها الليلك. وأما في المسرح فقد ترجم سميح مسرحية من ابداع الألماني برتولد برخت وله مسرحية عنوانها قرقاش، وهو للحقيقة وسّع وأضاف في أعماله المسرحية هذه، ما يدُل تمام الدلالة على أنه أراد أن يكون صاحب رسالة، شاملة، لا تتنازل عن كينونتها الإنسانية السياسية المتكاملة، وتحاول أن تقدّمها بأفضل إطار ممكن. بقي أن أشير الرسائل بين شطري البرتقالة، بين سميح القاسم ومحمود درويش، التي صدرت بعد نشرها منجمة في صحيفة الاتحاد، في كتاب حمل العنوان ذاته، وفي هذا السياق أسجّل ملاحظتين إحداهما انني كنت شاهدًا على نشر هاته الرسائل، اذ كنت أعمل مُساعدًا لمحرّر الاتحاد الادبي آنذاك الكاتب الصديق محمد على طه، وللتاريخ أذكر أنه هو مَن اطلق عليها عنوان رسائل بين شقي البرتقالة، أما الملاحظة الاخرى فهي أنه بإمكان مَن يقرأ هاته الرسائل، أن يرى وربّما يلمس لمس العين والفكر، أنه إنما يقف أمام عالمين وتجربتين مختلفتين، لكلٍّ منهما رائحته، نكهته ولونه الخاص به.

في المجمل، بإمكاني القول إن شاعرّنا سميح القاسم، كان صاحب رسالة وإنه توسّل بكلّ ما ملكت يده، ايصالها إلى عناوينها الحقيقية، لهذا استحق أن يكتب عنه الشُعراء في ذكراه العاشرة، ومنهم عناد جابر، ناظم حسون وعبد الرحمن حوراني. أما الصديقة سهاد كبها فقد اجزلت العطاء، بمبادرتها المباركة إقامة معرض يُقدّم فيه مَن يريد من الفنانين التشكيليين لوحة تصوّر شاعرنا الكبير، أو تصوِّر جانبًا خاصًا، او معينًا من مجالات اهتماماته، ومنها غرامُه الدائم بالولّاعات، وجمعه إياها طوال أيام حياته.

***

ناجي ظاهر

 

أود التأكيد بدايةً أننا عندما نفتح صفحة قصيدة النثر في أدبنا العربي الحديث، وفي أدينا المحلي خاصة، إنما نفتح واحدة من أصعب صفحات هذا الادب، فقد اتاحت قصيدة النثر المجال واسعًا امام كلّ من تمنّى أن يحظى بلقب شاعر، دون أي مؤهلات ودون أي إمكانيات ثقافية، عادة ما بتطلبها الادب عامة والشعر خاصة، ودون أي معرفة بفن القول، فراح مَن يعرف ومن لا يعرف، يكتب ما يعنّ على باله من تُرّهات وكلام فارغ بل يُسمن ولا يُغني، واصفًا ما يكتبه بأنه شعر وواصفًا نفسه بصفة الشاعر، الامر الذي دفع بالكثيرين مِن مُحبي الشعر والادب عامة، وكاتب هذه السطور واحد منهم، للانصراف عن قراءة الشعر، لما يُقدّمه "رواد" قصيدة النثر من كلام مُنفر، لا يُرضي سوى من يكتبه وآخرين ممن لا معرفة لهم بالشعر والادب عامة، لقد اساءت قصيدة النثر إلى الشعر، صارفةً مُحبيه عنه وعن ابوابه المُستباحة للجميع وفي طليعتهم مَن لا علم لهم بفن القول الشعر.. ولو بالحدّ الادنى.

هكذا بقي ما قرأناه واطّلعنا عليه من قصيدة النثر، مُجرّد تهويمات في فراغ لا حدود له، وكلام يناطح ذاته ولا يُخاطب الذائقة الأدبية العامة، إلا في حدود ضيّقة جدًا كما سلف، وهو ما دفعنا للعودة إلى النظر في الأسباب والمسببات الكامنة وراء هذا الانصراف عن الشعر وعن متابعته وقراءته مِن قبل الكثيرين، حدّ أن الناشرين، شرعوا في رفض طباعة المجموعات الشعرية، شاملين ضمن رفضهم هذا كلّ ما يُقترح عليهم للطباعة في كتاب، حتى لو كان من الشعر الجميل. هناك بالطبع العديد من الأسباب والمسببات لانصراف الكثيرين عن قراءة الشعر، غير تُرّهات قصيدة النثر وتابعتها قصيدة الهايكو. من أسباب هذا الانصراف هيمنة النوع الادبي الروائي على الساحتين العربية والأجنبية، واقتصار الجوائز على الرواية، لكن هذا ليس موضوعنا حاليا، لذا نتجاوز عنه عائدين إلى موضوعنا.. 

كما لكلّ ظاهرة تتعلّق بالأدب طرفان، أحدهما ذاتي والآخر موضوعي، كما ترى اخي القارئ، من المؤكد ان الانصراف عن قراءة الشعر، في صميمه قصيدة النثر، لا يشذ عن هذه القاعدة، ممثلة في العاملين الذاتي والموضوعي، بما انه ليس بإمكاننا معالجة الجانب الموضوعي، ممثلا بالقراء أولًا والناشرين والأوضاع العامة ثانيا، فإننا سنقصر حديثنا فيما يلي على العامل الذاتي في هذه القضية، قضية قصيدة النثر، الشائكة والشائقة في الآن ذاته. فما هو وضع هذه القصيدة، ما هو موقعها من الابداع الادبي عامة، ولماذا أدت دورًا هدامًا، أرى انه دفع الكثيرين او ساهم في دفعهم للتخفي والابتعاد عن قراءة الشعر. فيما يلي أقدّم اجتهادي الخاص في هذه المشكلة العويصة.

* تعتبر قصيدة النثر، قصيدة غريبة في ادبنا العربي الحديث، وقد يفاجأ البعض إذا ما قلنا له إن وضعها هذا في الآداب الأجنبية، لا يختلف عن وضعها في ادبنا، ذلك انها ما زالت هنا وهناك، شأنها شأن موسيقى الجاز، غريبة وتبحث لها عن مكان بين غيرها من الأنواع الأدبية، ومع استثناءات قليلة ذكرنا منها الشاعر الإنجليزي والت ويتمان صاحب أوراق العشب، وعدد قليل من الشعراء، بهذه اللغة او تلك، فإنه لا يوجد شعراء حقيقيون يكتبون هذه القصيدة، يزيد في هذه المعضلة تعقيدًا، أن ما نقرأه من النماذج التي تُكتب وتُنشر من هذا النوع الشعري، لا يوجد له أي أساس أو أصل في تراثنا العربي القديم، وهو ما يعني أنه غريب وهجين على هذا التراث، فماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن قصيدة النثر ما هي الا بضاعة مستوردة، وليست أصيلة، وهنا قد يقول معترض، ولماذا نحرم أنفسنا ونمنعها من التأثر بثقافات اخرى، خاصة وأن العالم بات هذه الفترة أقل من قرية صغيرة، ربما عرفة صغيرة. فنرد عليه قائلين، إن ما تقوله صحيح إلى حدّ بعيد، لكن ألا تلاحظ معي أنه يوجد في العالم تعدديات ثقافية وأن كلًا مِن الثقافات العالمية تحاول أن تُحافظ على خصوصيتها في داخل الكلّ العالمي/ او العولمة؟.. ثم أليس مِن المُثير أن ما نقراه مُترجمًا من الشعر الأجنبي عادة ما يتفوّق على ما نقرأه من قصيدة النثر العربية؟.. أما فيما يتعلّق بقصيدة الهايكو** الأخت القريبة من قصيدة النثر، فإنها نوع شعري ياباني، تدفق إلى الساحة الأدبية الشعرية العربية بعد صدور كتاب ضمّ نماذج من الهايكو الياباني***، فاندفع مَن يعرف ومَن لا يعرف يكتب هذا النوع من الشعر، متناسيًا، في الاغلب عن جهل، أن لهذا النوع الشعري في لغته قواعد واسس، وكاتبًا فيه تُرّهات ما أنزل الله بها من سلطان، وكأنما تُراثنا العربي القديم، قد خلا مما يُمكننا أن نطوره، نضيف اليه ونقدمه من كتابات أدبية.

* يدّعي كتاب قصيدة النثر أنهم إنما يُريدون التجديد، وأن الاستسلام إلى طريقة واحدة ووحيدة في التعبير الشعري، يدُل في أبسط ما يدُل عليه، على محدودية تكاد تصل حدّ المُحاصرة الأدبية، وسؤالنا إلى هؤلاء هو: ألا توجد قيود وحدود وأسس لكلّ إنتاج أدبي في أي من اللغات؟.. ثم وهذا هو السؤال الأولى بالطرح، إذا أردت أن تُجدّد يا أخي، ألا يُفترض فيك أن تعرف ما تجدد فيه وتضيف إليه؟.. وهل انقلب مؤشر التجديد إلى مُجرّد اعتراضات لا معنى لها ولا مذاق، إن التجديد أيها السادة يحتاج الى معرفة مُتعمّقة لما نجدّد فيه وما نضيف إليه، وهنا اذكركم، بأن التجديد الذي أحدثته الموشحات الاندلسية في الشعر العربي، تطلّبت من أصحابها ان يكونوا على معرفة بالشعر العربي القديم، وهكذا ولد الموشح ابنا حقيقيًا وجديرًا للشعر العربي وليس مسخا هجينًا، كل ما يتطلّبه هو قِلةُ المعرفة ورصف الكلمات إلى جانب بعضها بعضًا وكفى الله المؤمنين شرّ القتال. لقد ذكرت في هذا السياق، في مقال سابق، أن كلّ من عرفتهم مِن أعلام قصيدة النثر، في بلادنا وفي الخارج، إنما توجّهوا إلى قصيدة النثر عن جهل وفلة معرفة، وأنا للحقيقة لم أكن أتحداهم ، وانما كنت اشير إلى ما هو أهم من التحدي، كنت أشير إلى أهمية أن يكون الإنتاج الادبي، شعرًا كان أو نثرًا، وليدًا حقيقيًا لثقافة ومعرفة، أما أن يكون الإنتاج الادبي، أيا كان نوعه، ناتجًا عن جهل وقلة معرفة، لا بالتراث ولا بالثقافة، فهذا ما لا يقبله الذوق السليم والعقل الفهيم. رحم الله زمانًا كان فيه مَن يُريد أن يكون شاعرًا أن يتبحّر في دنيا التراث والثقافة، حتى عُرف أن الشعراء هُم مَن يُجدّدون شباب اللغة واسسها، وهو ما جعلهم مراجع يُعتدّ بها وبما بدر عنها من قول رزين ومكين.

* الآن نصل إلى لُبّ الموضوع في مناقشتنا أسباب انصراف الناس عن قراءة الشعر، لا ريب في أن مُجمل الأسباب الواردة آنفًا، في مقدمتها السببان السابقان، كلّ هذه الأسباب أدت إلى تجرّؤ مَن يعرف ومَن لا يعرف إلى صعود سُلّم الشعر الصعب والطويل، وفق تعبير الشاعر العربي القديم الحُطيئة، هكذا شرع كلّ مَن وقع في مشكلة غرامية، أو اجتماعية أو أي نوع من المشاكل الكثيرة التي نعيشها جميعًا، في التوجّه إلى دفاتره وأقلامه، أو حاسوبه، والاخذ في تدبيج الكلام، غير آخذ في الحسبان ـن هناك من سيقرأه، ومن ينتظر كلمة مُعبرة ومؤثرة، وتقوم على أساس متين من المعرفة، التراثية والثقافية. وعندما يفرغ هذا المتوجه من كتابته، يسارع إلى نشرها في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي او المواقع الالكترونية، أو يجمعها في دفتر أو صفحة الكترونية، ويُرسل بها إلى ناشر ما، فلا يكون من هذا إلا أن يرفض نشرها، عندها يلح "الشاعر" على الناشر، طالبا منه طباعة مجموعته تلك، واعدًا إياه بأن يدفع له مُقابل الطباعة، وعادة ما يكون مبلغًا ضئيلًا نسبيًا، فالطباعة الديجتالية، الرقمية، سهّلت امر الطباعة، وخفّضت بالتالي مقابلها إلى أقل القليل، عندها بستجيب الناشر للشاعر ويقوم بطباعة مجموعته تلك. فماذا يفعل الشاعر الغضّ الطري وقد وجد بين يديه مئة أو مئتي نسخة من كتابه، أو مجموعته الشعرية النثرية؟.. ها هو يفعل ما يفعله الكثيرون في هذه الفترة، إنه يُبادر بالتعاون مع هذه الجهة أو تلك، مِن الجهات الأدبية وما أكثرها، وما أكثر اشغالها، إلى إقامة أمسية أدبية، يدعو ‘ليها مَن يَعرف تمام المعرفة، أنهم سيكيلون له كلّ ما أراده ورجاه من مديح وثناء، وفي نهاية الأمسية يوزّع مجموعته المطبوعة في كتاب على الحاضرين. أما البقية فقد باتت واضحة، كلٌّ مِنَ الحاضرين يأخذ نسحته مِن المجموعة الجديدة، وعادة ما يتركها على أحد المقاعد القليلة المنتشرة في القاعة، أو يأخذها إلى بيته حيث يقذف بها في مكان قصي، لعلمه أنها لن تضيف إليه جديدًا ولن تثيره.

موجز القول، ان هذا كلّه، من الأسباب التي تقف وراء كتابة قصيدة النثر، تُنفّر القارئ المُحبّ للشعر وتجعله من كارهيه والمنصرفين عنه وعن أصحابه البعيدين عن كلّ ما هو معرفة، تراث وثقافة.. ما اصعب هذا. الا يحق لنا بعد هذا كله أن نضع عنوانًا لمقالتنا هذه، كما ورد أعلاه؟.. بلى نعتقد.

***

ناجي ظاهر

......................

*الطامة في أحد تفسيراتها الداهية.

** الهايكو هو نوع من الشعر الياباني يتألف من بيات واحد فقط، وهو مكون من سبعة عشر مقطعًا صوتيًا – باليابانية- ويُكتب عادة في ثلاثة أسطر- خمسة ثم خمسة.

*** صدر كتاب الهايكو هذا قبل نحو ربع القرن ضمن سلسلة الكتب الكويتية الدورية الرائعة "ابداعات عالمية".

 

في التاسع عشر من آب مرت ذكرى استشهاد الشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا حينها كانت إسبانيا تشتعل بنار الحرب الأهلية، ففي إحدى صباحات شهر آب الشديد الحرارة تم أُعدامه على يد القوات الموالية للدكتاتور (فرانكو) كان ذلك في عام ١٩٣٦ حيث امتزج دم لوركا بعرقه.

بإعدامه انطفأ آخر مصباح قمر غجري في سماء إسبانيا حيث غنّاه القمر لحظة استشهاده لقد سكت اخر عندليب اندلسي يصفه معاصروه أنه كان شابا هادئا لا تفارقه الابتسامة حتى في أحلك الظروف.

هكذا كان شهيد غرناطة الذي وُلد فيها عام ١٨٨9، شاعرا ومسرحيا ورساما وعازف بيانو ومؤلفا موسيقيا، يعده البعض من أهم شعراء القرن العشرين. كان لوركا ثوريا جمهوريا النزعة لهذا قتل على يد الفاشست وكان استشهاده قد دفع بشهرته الى الامام.

لم يتزوج ولكنه كان في قلبه العديد من النساء ممن يعملن معه في المسرح، يدهشه قصر الحمراء بغرناطة فينظر إليه بدهشة الشاعر العبقري.

تخرج لوركا من جامعة غرناطة وكان متأثرا تأثرا بالغا بالشعر العربي الأندلسي حتى ظن كثير من النقاد والمؤرخين بأنه من أصل عربي أو ربما كان عربيا من جهة الوالد فقط.

كان في رسومه متأثرا بالفنان (بيكاسو) ١٨٨١ – ١٩٧٣، ومن أصدقائه الرسام سلفادور دالي وقد أنجز لوركا الكثير من اللوحات سمي بشاعر الغجر لأنه كان محبا لأعمالهم الشعبية التي كانوا يمارسونها في غرناطة، وكشاعر رومانسي كان القمر بالنسبة له مكان ساميه بالنسبة له وقد سماه البعض بشاعر القمر.

وتتمثل أعماله الأدبية بكتاب نثري سماه (انطباعات ومشاهد) ١٩1٨ ويعد (كتاب الأشعار) ١٩٢١ أولى دواوينه الشعرية تلاه ديوان (أناشيد) ١٩٢٧، وديوان ثالث (أغاني غجرية) ١٩٢٨ اما اشهر مسرحياته فهي مسرحية (عرس الدم) ١٩٣٤.

وله ديوان شعري آخر اسمه (ديوان التماريت) ١٩٢9 وكان واضحا في هذا الديوان تأثره بالشعر العربي.

لم يهرب ولم يدخل الخوف إلى قلبه عندما دخل الفاشيون غرفته فلم يجدوا فيها غير أوراق فيها قصائده، كانت التهمة الموجهة إليه (أنه اساء بقلمه اكثر مما اساء اخرون  بمسدساتهم) اقتاد الجنود المسلحون لوركا إلى منطقة (فينزار) وأعدموه رميا بالرصاص فجر يوم ١٩ /آب / ١٩٣٦.

رثاه العديد من شعراء العرب والأجانب، رثاه الشاعر بدر شاكر السياب شاعر النخيل والأنهار ورثاه من شعراء العرب محمود درويش شاعر الزيتون والبرتقال بقصائد رائعة عبّر فيها هؤلاء الشعراء عن حبهم وإعجابهم بشاعر القمر (لوركا). قال شاعرنا السياب في قصيدته المسماة (غارسيا لوركا):

في قلبه تنور

النار فيه تطعم الجياع

و الماء من جحيمه يفور

طوفانه يطهر الأرض من الشرور

و مقلتاه تنسجان من لظى شراع

تجمعان من مغازل المطر

خيوطه ومن عيون تقدح الشرر

و من ثدي الأمهات ساعة الرضاع

و من مدى تسيل مها لذة الثمر

ومن مدى للقابلات تقطع السرر

ومن مدى الغزاة وهي تمضغ الشعاع

شراعة الندي كالقمر

شراعه القوي كالحجر

شراعه السريع مثل لمحة البصر

شراعه الأخضر كالربيع

الأحمر الخضيب من نجيع

كأنه زورق طفل مزق الكتاب

يملا مما فيه بالزوارق النهر

كأنه شراع كولمبس في العباب

كأنه القدر

وهذه قصيدة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش بعنوان (لوركا) وهي رباعية رائعة:

عفو زهر الدم يا لوركا وشمس في يديك

و صليب يرتدي نار قصيدة

أجمل الفرسان في الليل يحجون إليك

بشهيد وشهيدة

هكذا الشاعر زلزال وإعصار مياه

و رياح ان زار

يهمس الشارع للشارع قد مرت خطاه

فتطاير ياحجر

هكذا الشاعر موسيقى وترتيل صلاة

و نسيم إن همس

يأخذ الحسناء في لين إليه

و له الأقمار عش إن جلس

عازف الجيتار في الليل يجوب الطرقات

و يغني في الخفاء

و بأشعارك يا لوركا يلم الصدقات

من عيون البؤساء

نسي النسيان أن يمشي على ضوء دمك

فاكتست بالدم أزهار القمر

أنبل الأسياف حرف من فمك

عن أناشيد الغجر.

المجد والخلود للشاعر الذي كانت حياته لغزا ومماته لغزا.

***

غريب دوحي

 

ايهما افضل، الرواية متشعبة الاحداث متعددة الابعاد، / أم الرواية المُركّزة المُكثفة ذات الاحداث القليلة لكن المُعمقة؟.. سؤال شغل العديدين من الكتاب والقراء على حدّ سواء، ما جعل هؤلاء وأولئك ينقسمون إلى قسمين، أحدهما يأخذ بهذا الرأي والآخر يأخذ بالرأي الآخر، بناء على هذا انقسم القراء إلى قسمين أو مجموعتين، احداهما تميل إلى رواية الاكشن والاثارة متعدّدة الاحداث، والأخرى تفضّل الرواية قليلة الاحداث مُركّزتها وذات القدرة الخاصة على الغوص في مجاهل النفس البشرية ومتاهاتها المُركّبة المعقدة.

بما أن هذا السؤال احتوى ما احتواه من خلافات بين الكتاب أولًا والقراء ثانيًا، فإنه لا بُدّ لنا من العودة إلى التساؤل الخالد عن الماهية، وهي هنا ماهية وجوهر الكتابة الروائية، فماذا يُريد الروائي حين يُقدم على كتابة الرواية؟.. وهل هو يريد ان يوصل رسالة ما تشغله وتحيّر باله؟.. هل تشعُّب الاحداث هو ما يُثير الكاتب وقارئ الرواية بصورة عامة؟.. فيما يلي نطرح رأيين متخالفين ومتعارضين، ونقدّم على كلّ منهما مثالًا شائًعا منتشرًا ومقبولًا، مُردفين هذين الرأيين براي اخر يتوسّطهما. بعد ذلك نتوصل الى نتيجة، نأمل ان تكون منوّرة ومُرضية للجميع كتابا وقراء.

ممن يأخذ بالرأي القائل بأهمية الاحداث المتشعّبة المتعدّدة والمثيرة، بإمكاننا الإشارة إلى قراء الروايات البوليسية، لكلّ من مؤلفيها مثالًا لا حصرًا كونان دويل، او اجاثا كريستي، او جورج سيمنون، ومَن إليهم مِن كُتّاب الرواية البوليسية.. فهؤلاء القُراء ينتشرون في شتى بقاع العالم، ويفرضون وجودهم الثقيل في إقبالهم على قراءة الروايات المذكورة، حدّ أن ما يُوزع من هذه الروايات يتجاوز في اعداده الآلاف والملايين من النُسخ!.. ويُذكر في هذا السياق أن هناك كُتّابًا من ذوي الوزن الثقيل، أمثال الفيلسوف الفرنسي الوجودي البارز جان بول سارتر كان من قراء هذه الروايات، وقد لا نبتعد كثيرًا في تبيان مواقف أصحاب هذا الرأي إذا ما أشرنا إلى العديد من الروايات العالمية البارزة والمقروءة في شتى اصقاع العالم، مثل الحرب والسلام للكاتب الروسي ليو تولستوي، او رواية فاتنة الرجال للكاتب الأمريكي جون شتاينبك، تنتمي إلى هذا النوع، متعدد الاحداث متشعبها، كما سبقت الإشارة. فالأولى تتحدث عن الاحتلال الفرنسي للبلاد الروسية، والثانية تتحدث عن القراصنة ومغامراتهم البحرية المتعددة والمثيرة.

في المقابل لهذا الرأي هناك مَن يرى خلافًا لهذا الرأي، فيذهب إلى أن التغلغل في أعماق النفس البشرية والتسلّل إلى متاهاتها بعيدة الاغوار، هُم المحقون. من هؤلاء نشير إلى قُرّاء الروايات الحديثة التي تمّ اعتبارها منذ صدورها قبل نحو المائة عام، مثل رواية يوليسيس للكاتب الايرلندي جيمس جويس، او رواية البحث عن الزمن الضائع للكاتب الفرنسي مارسيل بروست، الذي اعتبره العشرات من النقاد والدارسين الادبيين، علامة فارقة في تاريخ الرواية، فهاتان الروايتان اللتان تُعتبران مِن العلامات الفارقة في تاريخ الرواية الحديثة، رواية القرن العشرين تحديدًا، وكلٌّ منهما تحتوي القليل من الاحداث الخارجية/ الاكشن، بل إن رواية يوليسيس تدور احداثها في يوم واحد، 24 ساعة فقط، علما أنها رواية ضخمة تقع في مجلدين اثنين.

بين هذا الرأي وذاك وُجد رأي آخر، يمكن اعتباره وسطيًا، هو رأي العديد من الكاتب والباحثين الادبيين، ينتصب واقفا في مقدمتهم الإنجليزي ليون إيدل، الذي ضمّنه كتابه الفاتن عن" القصة السيكولوجية"، مؤلف هذا الكتاب يرى، بكثير من الحق، أن الادب ما هو إلا تجربة إنسانية يصوّرها صاحبها الكاتب ويعبّر عنها في رواية قد تكون ذات أحداث متشعّبة مثل رواية الحرب والسلام المذكورة آنفًا، أو قد تكون رواية تيار الوعي، مثل رواية عوليس المشار إليها سابقًا. فماذا أراد صاحب هذا الرأي أن يقول؟.. يُجيب هو عن هذا السؤال قائلًا ما مُفاده، إن رواية الحرب والسلام، مثلًا، تختلف عن سواها من العشرات والآلاف من الروايات التي كتبها جنود مُضمّنين إياها ذكرياتهم بكلّ ما حفلت به من أحداث بانها لم تشمل التجارب الروائية المتعمقة والرائية لعمق الحياة والحرب مثل رواية الحرب والسلام. ويذكّر هذا الرأي برأي آخر هو رأي الفيلسوف والمنظر الادبي الاغريقي العظيم أرسطو طاليس في كتابه الخالد عن" الشعر". فهو يرى أن الكتابة الأدبية بعامّة إنما تسعى إلى نقل تجربة مُتعمّقة ووُجهة نظر حسّاسة متخيّلة ومُميّزة في عرض صاحبها لها، بمعنى أن الكاتب المُبدع إنما يصوّر ويجسّد فيما يُنتجه من أعمال أدبية ما هو مُحتمل الوقوع وليس ما سبق وحدث!

إلى ماذا يُمكننا أن نَخلُصَ مِن هذه الآراء المتضاربة، المتفارقة، تباعدًا وتقاربًا؟.. يُمكننا أن نَخلص إلى الرأي التالي، ممثّلًا في عدد من النفاط، هي:

*ان العمل الروائي، قد يكون قليل الاحداث وقد يكون في المقابل مُتعدّدها، غير أنه لا هذا الرأي يحسم النفاش بين المختلفين، وإنما يحسمه العُمق في تناول التجربة الإنسانية المتخيّلة والنامية وفق حَبكة أحسن صائغها نسج أطرافها، وقدّمها إلينا نحن القراء، على طبق من عُمق في التناول ودقة في العرض، وهو ما يؤدي بالتالي إلى إحداث ما يرمي إليه كاتب الرواية من تأثير وأثر في نفوس قُرّائه. علمًا أن هناك نقادًا يتحفّظون على رواية الاكشن/ أو البوليسية ويخرجونها بالتالي من دائرة الاعمال الأدبية رفيعة المستوى.

* ومن هذه النقاط المُميّزة للعمل الادبي الإبداعي الروائي، أن الرواية ليست موضوعًا فحسب وإنما هي صياغة في الأساس، بدليل أن الموضوع قد يكون واسعًا، كبيرًا وشاغلًا للجميع، وعندما يُقبل على كتاباته وعرضه في رواية كاتبان، يُمكننا ملاحظة أن أحدهما أبدع أيما ابداع، وأن جظ الابداع لم يُحالف الآخر. ويُذكّر هذا بما تردّد لدى نقادنا العرب القدماء، مثل ابي عثمان ابن بحر الجاحظ، عندما قال كلامًا مفاده أن المعاني مُلقاة على قارعة الطريق، غير ان المبدع الحقيقي، هو الذي يتمكّن من تقديم صياغة مترابطة متماسكة لها.

* ومن هذه النقاط التي تُرسخ مفهوم الرواية لدى كُتّابها وقرائها على حدٍّ سواء، هو التغلغل إلى أعماق النفس البشرية، وذلك عبر تصوير التجربة المتخيلة، ومحتملة الوقوع، سواء كانت مُتعدّدة الاحداث ومُتشعبتها، أو كانت مَحدودة الاحداث مُتعمّقتها، فلكل من هذين النوعين من الروايات قراؤهما، علمًا أن قُرّاء الرواية الحديثة باتوا، كما تدُل التجارب، أقرب إلى الرواية النفسية، قليلة الاحداث لكن عميقتها، في التجربة والعرض، بدليل أن الروايتين المذكورتين آنفا، أقصد روايتي يوليسيس والبحث عن الزمن الضائع، باتتا منذ صدورهما في القرن العشرين المنصرم للتوّ، روايتي القرن والحداثة الأدبية في الآن ذاته.

***

ناجي ظاهر

اعتُبر الكاتب الأمريكي ارنست هيمنجواي (21 تموز1889/ 2 تموز1961). منذ سنوات بعيدة، في حياته وبعد مغادرته عالمنا بإرادته، واحدًا من أبرز الكتاب المبدعين باللغة الإنجليزية، وقد اتخذت روايته القصيرة "الشيخ والبحر"، منذ صدورها الأول موقعًا خاصًا في نتاجه الادبي، قليل العدد (7 روايات و6 مجموعات قصصية وكتابان نثريان)، وفير الأهمية والعمق الإبداعي. ويكفي أن نقول إن هذه الرواية القصيرة خوّلت صاحبها بعد ثلاث سنوات من صدورها، للحصول على الجائزة الأدبية الأولى في العالم وأعني بها جائزة نوبل الفرع الادبي، كما يكفي ان نقول إن طلّاب المدارس الثانوية في بلادنا دأبوا على قراءة هذه الرواية التي تُقدّم صورة لصراع الانسان مع الطبيعة منذ سنوات بعيدة.

لهذا كله ولغيره، سنتحدث فيما يلي عن هذه الرواية، محاولين الإجابة عن سؤال طالما اقلق الكثيرين في الفترة الجارية خاصة، وهو كيف كتب هيمنجواي روايته العظيمة هذه.

كان ذلك في عام 1950، عندما كان هيمنجواي يفكر فيما يودّ ان يكتب، في الفترة الراهنة، فقد سبق له وأن كتب وأصدر العديد من الروايات اللافتة في مقدمتها "وداعا للسلاح"، التي تتمحور احداثها حول الحرب الاهلية في اسبانيا، تلك الحرب التي شارك فيها همنجواي ذاته كمناضل أراد ان تتجاوز نضالاته حدود بلاده، زد على هذا كان يفكر في إرضاء ضيفين عزيزين (احدهما رجل من هوليوود والأخر ضابط من واشنطن)، حلا عليه في بيته، الجميل "فينكا فيجيا"، الواقع قرب هافانا، والذي يبعد عن سان فرانسسكو دي باولا بمئتي متر او أكثر.                      

وبينما هو يفكر في هذا وذاك، طرأت على باله فكرة طالما راودته كتابتها ولم ينفذها لسبب ما قد يتعلق بالضيوف الكثيرين الذين يتردّدون عليه زوارا في هذا الوقت او ذاك، المهم ان هذه الفكرة ألحت عليه بشكل لا يحتمل التأجيل أكثر، الامر الذي دفعه باختصار، لأن يتوجّه إلى زوجته ورفيقة دربه ماري، طالبًا منها كتابة لافتة، قلّما كتبتها ونصبتها في مدخل بيتهما، تلك اللافتة تضمنت بناء على طلب هيمنجواي جملة مفادها "يمنع الدخول دون موعد".. وكان ان وصلت الرسالة الى أولئك الضيفين وكل منهما غال وعزيز، فاستأذنا وانصرفا رغم علمهما برغبة الكاتب المشهور صديقهما المقرّب في بقائهما. اما هيمنجواي فقد دخل إلى غُرفته الخاصة، مشغله، وتناول أحد أقلام الرصاص كعادته في الكتابة، وراح يكتب بصعوبة أولًا، غير انه انطلق خلال اتضاح الفكرة الرئيسية وتحدّدها في وُجهة.. اخذت تتضح رويدًا رويدًا، يكتب بسرعة كبيرة، جاريًا وراء الاحداث التي راحت تتتالى وتترى واحدة تلو الأخرى، لاحةً عليه في كتابتها. وها هو يتصادق، ملتصقا ببطل روايته/ سانتياغو، البالغ من العمر عتيًا/ الثمانين عاما او نحوها، لكن المُحبّ للصيد والبحر، والطفل مانويل الذي رافقه دائما ولم يرافقه.. هذه المرة، نتيجة الحاح ذويه ، بل ها هو يتمكّن من تصويره بدقة تجلّ عن الوصف، وها هي الرواية تصل إلى احدى ذراها الشامخة العالية، وذلك بمشهد مواجهة بطل الرواية، العجوز او الشيخ، لسمكة قرش، ضخمة وهنا يندمج هيمنجواي في الحدث او الوصف، حدّ أن القارئ، أنا مثلا، يندمج بمتابعة احداث تلك المواجهة بكلّ ما ضمته من تفاصيل، وكأنما هو يراها، لا سيما عندما تستشيط تلك السمكة محاولة الإفلات من قبضة صيادها المُدرّبة المكينة، ويتوقّف القارئ طويلًا ومديًدا عند جُملةٍ يُطلقُها ذلك الصياد الهُمام هاتفًا بصيده المتمرّد العنيف :" انت تستطيعين ان تهزميني لكن لا يمكنك القضاء عليّ"، هكذا تشتد المعركة بين الصياد العجوز وصيده الضخم، وتنتهي المعركة بانتصار العجوز/ الانسان في معركته مع اعتى الكائنات البحرية، سمكة القرش الضخمة، ومسجلًا انتصارًا بشريًا عليها، أو على الطبيعة كما رأى بعض نقاد هذه الرواية وقرائها المتماهين معها ومع ما طرحته. ومع هذا كلّه، تنتهي الرواية بأن يجرّ صيادُنا العجوز ذو القوة غير العادية، إلى جانب قاربه تلك السمكة، لكن ما يحدث أن ما ينزف منها من دماء يستدعى بقية الأسماك للإقبال على التهام كلّ ما اكتنزت به من لحوم شهية، الامر الذي لا يُبقي لصائدها المقدام سوى هيكلها العظمى.. وهذا ما يتبينه عند وصوله الشاطئ الذي انطلق منه.

كتب هيمنجواي في الأسبوع الأول حوالي ثلاثة الاف كلمة، من أصل حوالي الثلاثين ألف كلمة (الرواية بترجمتها العربية التي قام بها ونفذها منير البعلبكي وقعت في 136 صفحة)، وتابع فيما بعد في كتابته واصفًا لنا، نحن القراء، المشهد الروائي المعيش، وكأنما نحن نراه ولا نقرأه فحسب. بعد انتهاء هيمنجواي من كتابة النسخة الأولى على عجل بقلم الرصاص كما سلف، قام بقراءتها كعادته بعد الانتهاء من أي رواية سبق له وأن كتبها، وبعد مراجعته المشدّدة هذه، قام بطباعتها كلمة كلمة، جُملة جُملة وفقرة فقرة، الامر الذي مكّنه من أن يقرّبها من الكمال.

بعد عام من كتابة هيمنجواي روايته هذه، أرسلها إلى ناشره، فقام هذا بطباعتها، وقبل أن تصدر كان القراء قد حجزوا 15 ألف نسخة منها، وبإمكاننا القول، نقلا عن مصادر أخرى موثوقة، أن الرواية سجّلت نفسها منذ البدايات الأولى لصدورها واحدة من أفضل الروايات الامريكية الصادرة آنذاك، أما الذروة التي بلغتها هذه الرواية فقد كانت عام 1954، أي بعد صدورها بعامين، وذلك بتخويلها صاحبها الحصول على الجائزة الأدبية الكبرى في العالم، جائزة نوبل للأدب.

أثار ما أحرزته هذه الرواية من نجاح الكثيرين، فزعمت صحيفة كوبية، تدعى "اكسلسيور"، ان هيمنجواي "سرق"، فكرتها من صياد كوبي عجوز في الثامنة والستين من العمر، يدعى ميغيل راميرز، رواها له، الامر الذي استفز صاحب الرواية واغضبه، فتوجه نحو بلدة ذلك العجوز الكوبي، وبيده مسجل، وعندما وقف قُبالته، راح يوجّه إليه السؤال تلو السؤال، فقام ذلك العجوز بالردّ عليه، وكانت نتيجة تلك المقابلة بين كاتب الرواية وبطلها المزعوم، تبرئة كاتبها.

***

ناجي ظاهر

يقال إن الصدى انعكاس لما نهمس وننطق به، يرد إلينا بما تحدثنا به أنفسنا ونقوله، وقد يعلو أثره ويقوى بعلو الصوت ووضوح النبرة. لكن ماذا عن ذلك الصوت الذي لا يسمعه أحد غيرنا؟ الصوت الكامن في أعماقنا، الذي يحاورنا ونحاوره، ويعيش فينا ويتنفس من هوائنا، وينتنسم من عبيرنا ويتشرب مشاعرنا وأفكارنا.

ذلك الصوت الداخلي هو الصدى الحقيقي لما نفكر به وما نشعر به في دواخلنا. وهو على الدوام رفيقنا في رحلة الحياة بحلوها ومرها، يوجهنا أو يخذلنا، يدفعنا للأمام أو يثقل خطواتنا للخلف.

الإنسان مخير بين أن يجعل صوته الداخلي حراً، واثقاً، إيجابياً، يتغذى على قيمه ويستمد طاقته من همته ونشاطه؛ أو أن يتركه ضعيفاً ساكناً، لا يعرف سوى بث الإحباط واليأس. الصوت الإيجابي يحول الحلم إلى هدف، والهدف إلى حقيقة، ويختصر المسافات، ويرى في نقص المهارات فرصة للتعلم والنمو. أما الصوت السلبي فيحول العوائق إلى جدران، ويجعل من كل محاولة بداية للفشل، حتى تذبل طاقته وتخور قواه، فيتحول إلى عبء على نفسه وعلى من حوله.

تجارب عملية من العمل والحياة

في بيئات العمل، نرى أثر الصوت الداخلي بوضوح. في إحدى الشركات، كان هناك موظفان التحقا في نفس الوقت معاً. الأول واجه التحديات بنظرة إيجابية، واعتبر كل خطأ أو خطوة يخطوها فرصة للنمو والتعلم، وطلب الملاحظات لتطوير نفسه والإرتقاء بها. خلال عامين، تمت ترقيته إلى منصب قيادي لأنه كان يرى في المشكلات مهام قابلة للحل والنهوض به. أما الثاني، فكان يفسر أي توجيه على أنه انتقاد وتدمير لشخصيته ومهنته، ويقابل التحديات بالعناد والتأجيل أو الرفض، ويشعر دوماً بالاضطهاد وأنه ضحية من يتعاملون معه، فبقي في مكانه جامداً كجمود الصخر دون تقدم أو تطور.

وفي الحياة الشخصية والاجتماعية، قد نجد أمثلة لأشخاص فقدوا مصدر رزقهم فجأة وتعرضوا للظلم والجور. فالبعض استسلم لشعور العجز والنقص في داخله، بينما اختار آخرون أن يستمعوا لصوتهم الداخلي الإيجابي، فنهضوا من جديد وفضوا الغبار من عليهم، ينظرون للأمام دون أن يتحسروا أو يحبطوا مما حصل لهم، فبدأوا أعمال بسيطة لو رأها المرء لاستخف بها وأدار ظهره لها، تطور وضعهم وعملهم فساروا في التخطيط لمشاريع صغيرة وتعلموا مهارات جديدة تنفعهم في أعمالهم، فتحولت الأزمة إلى أمل وضوء مشرق ونقطة انطلاق نحو مسار أفضل.

حتى في مجال ممارسة الألعاب الرياضية، يلعب الصوت الداخلي دوراً حاسماً في الفوز والتتويج. فاللاعب الذي يركز على الفوز ويحافظ على تحفيز نفسه بكلمات إيجابية، ينال ما يفكر به وتهمس له كلماته، حتى لو تأخرت نتائجه، بصبره وجهده واستمرارية سعيه وكده، ينال فرصة أكبر للعودة وتحقيق الانتصار الذي يحلم به واقعاً مملوساً، مقارنة بمن يترك الإحباط واليأس والشعور بالفشل والتراجع يتسلل لنفسيته فيدمر ما بقي منها ويفتت قواها وقوتها.

الخلاصة

الصوت الداخلي ليس فكرة عابرة أو جامحة، بل هو محرك أو مثبط لكل قرار نتخذه، وأحد العوامل الخفية التي تحدد مسار حياتنا. صيانته وتغذيته بما هو نافع ضرورة ومنطلق مهم لا رفاهية أو تضييع للأوقات. اجعل صوتك الداخلي ضوءاً ونبراساً يعلو بكل ما تملكه من طاقات متدفقة تسهم في جلب النفع والخير لك، ويحمل في نبراته بناء الأمل والتفاؤل، ويزرع فيك الإصرار والعزيمة. فالحياة لها رجالها ونساؤها الذين يمضون بصوتهم الجياش، يتركون صدى وبصمة وأثرًاً لا يزول.

***

د. أكرم عثمان

 14/8/2025

كان شكل الشعر الغرناطي يشبه الخزفيات ذات الطابع الواحد لدى معاصريهم المدجنين من الحرفيين، فنجد في هذا الشكل الواحد يتكرر في نموذج واحد الى ما لا نهاية. إن المذهب التأسيسي الغرناطي المحافظ قام بعملية بعث وإحياء لأشكال إجتماعية ثقافية قديمة بصورة قوية، من المؤكد أنها لم تكن تملك تمتلك النموذج أو المثال، وهكذا تحول الشاعر البلاطي الذي كلف بالتغني بأمجاد السلطة، تحول إلى موظف يراعي كل الاصول، وهناك عدد من الوزارات كل مسؤولياتها أن تحرر الرسائل الرسمية للسلطان الغرناطي وهي تكتب في أوراق حمراء، وهو اللون المتخذ كشعار لإمراء قصر الحمراء .

وهنا يجب أن نشير إلى أن طريقة أو مذهب هؤلاء الشعراء الموظفين- أن هناك دائما بحث مستمر عن شكل لطيف وممتع يمكن تطبيقه في المناسبات المختلفة شأن القوانين الادارية ذات الصيغة الموحدة، وقد سبق وأشرت إلى أن مذهبهم هو مذهب طائفة الحرفيين، الذي كان يسعى إلى المادة الرقيقة للغة العربية بإشراف شيخ أو معلم كان يصحح ويهذب ويزخرف العمل لدى المتعلمين المبتدئين ويقوم يقراءة كتبه الخاصه التي ألفها وخصصها لتكون صالحة للاستشهاد بها في الاوقات الرسمية أو في الاحتفالات. ومن هنا تشابه أسلوب الشعراء الذين كانوا يعملون في خدمة القصر (قصر الحمراء)، ومن هنا جاء الخلط واللبس في إثبات القصائد المنقوشة لمؤلف بعينه، هذه النصوص هي نتاج هؤلاء الشعراء الذين جمعتهم الوظيفة المشتركة كما جمعتهم علاقة المعلمين بالمتعلمين أو الاساتذة بالتلاميذ.

إن أول شاعر موظف من الناحية التاريخية هو إبن الحكيم الرندي(1261-1309) الذي لم يحفظ من شعره نماذج كثيرة، ذلك لأنه فضلا عن كونه رئيسا لقلم أو قسم الكتابة بقصر الحمراء، كان رئيسا للوزراء ووصل إلى أن أستولى على السلطة الملكية، مع ما كان تتوجه به إليه من قصائد رسمية، ليس هناك مايمنع أن تكون القصائد المكتوبة على المدخل الرئيسي، هي قصائد من تأليفه. كان من حسن حظه بقيام تلميذه إبن الجياب الغرناطي (1261-1348) الذي كان رئيسا لقلم الكتابة طيلة خمسين عاما في خدمة السلاطين بالقيام بحفظ شعره أو ديوانه.

أما إبن زمرك( 1333-1393) الذي كان تلميذا لابن الخطيب، الذي كان بدوره تلميذا لابن الجياب، فعندما كان يعمل كشاعر رسمي في البلاط، لديه مسحة شعرية أكثر علوا ورقيا- لانه في تصوري كان أفضل الشعراء الغرناطيين الثلاثة الذين عملوا كموظفين في القرن الرابع عشر.

أما إبن الخطيب تلميذ إبن الجياب وأستاذ ابن زمرك، فقد كان أكثر الثلاثة تحذلقا، ربما يرجع ذلك إلى قدرته على جمع كل ألوان المعرفة، فقد كان كاتبا أصيلا أستطاع في إسلوب يتسم بالصعوبة أن يتعامل مع أكثر الموضوعات المتباينة.ونشير من بين قصائده المدحية، قصيدته اللامية التي يقال أنها كتبت على جدران قصر الحمراء، والتي ألفها بمناسبة عودة محمد الخامس إلى العرش.

 وفي النهاية، رغم إنشغال الشعراء الموظفون في غرناطة بأعمالهم الادارية، فإنهم حافظوا على حضورهم الادبي ‘ فجعلوا من الشعر وسيلة للتعبير عن مشاعرهم وتجاربهم الحياتية والمهنية وأمتزج في نتاجهم الادبي الحس الابداعي مع الخبره اليومية، فأنعكس في قصائدهم طابع يجمع بين الرسمي والوجداني، مما أغنى المشهد الثقافي الغرناطي وخلد أثرهم في تاريخ الادب الاندلسي.

***

رنا فخري جاسم

كلية اللغات/ جامعة بغداد

صنع الله لم يكن يكتب ليرضي الآخرين أو السلطة، فقد كان يكتب كما يختبر المبحرُ صلابةَ الريح في مواجهة كل زمانٍ آتٍ. لم يكن يهادن المعنى ولا يتصالح مع الصمت، بل يترك الكلمات تتقدّم أمامه ككشافات صغيرة في ممر طويل. والذين يكتبون بهذه الطريقة لا يرحلون فعلًا، إنهم فقط يبدّلون العنوان: من صفحة الأرض إلى مكتبة الغيب، وهناك، بين رفوف لا تراها العين، يتركون لنا الكتب كإحداثيات للعثور عليهم، كأنهم يخفون أرواحهم بين السطور بانتظار قارئ يفتح الباب.

 حاولت وأحاول أن أنعيه، لكني وجدت النعي أضيق من حياته، والكلمات أقل من قامته.

وهكذا، لم تكن رواياته سوى انعكاسٍ لذلك النهج: كتابة تواجه، وتكشف، وتعيد ترتيب الأسئلة قبل الإجابات. كتب اللجنة وكأنه يضع مرآة أمام مؤسسة كاملة، مرآة تصرّ على أن تُظهر خلفية المشهد لا واجهته؛ وكتب ذات ليضع حياة امرأة في مواجهة بلد بأسره، بكل ما فيه من تاريخ، وشوارع، وملامح عابرة على شاشة الأخبار؛ وكتب شرف ليكشف أن السجن الحقيقي ليس خلف القضبان فقط، وإنما يختبئ في عقل السلطة وأخلاقها، في نبرة الأوامر أكثر مما في صرير الأبواب الحديدية.

ثم، في لحظة من لحظات الحقيقة النادرة، تلك اللحظات التي تختبر الفرق بين المثقف العضوي والمثقف التائب، رفض جائزة الدولة أمام وزيرها، وحوّل الاحتفال إلى محاكمة علنية للشرعية الزائفة، وكأنه يضيف فصلًا جديدًا إلى رواياته، فصلًا بلا ورق، كُتب في الوجوه المندهشة والقلوب التي انتفضت في القاعة.

إن رحيل صنع الله إبراهيم ليس غيابًا بقدر ما هو إعادة توزيع لحضوره: بعضه يبقى في الذاكرة الشخصية، في حكاية أو لقاء أو جملة عابرة، وبعضه يستقر في النصوص التي نعرفها عن ظهر قلب، وبعضه يظل في السؤال الذي يطرحه علينا بعد رحيله: هل نحن على قدر ما نقرأ؟

***

إبراهيم برسي

 

احتلت فرنسا الجزائر عام 1830م ثم توغلت في المدن الداخلية الا أن صدته المقاومة سرعان ما ضهرت عام 1831م بقيادة عبد القادر الجزائري وقد أصدرت سلطات الاحتلال قوانين جائرة فانتزعت الأراضي الزراعية من يد أصحابها ثم أصدرت قانون جعل الجزائر جزء من فرنسا وقتلت آلاف الجزائريين الامر الذي دفع المقاومة الى اعلان (جبهة التحرير الوطنية الجزائرية)عام 1954م وقيام الثورة حتى نالت الجزائر استقلالها عام 1962م بعد نضال طويل وتضحيات بلغت المليون شهيد اضطر الرئيس الفرنسي (ديغول) الى عقد أتفاقية (ايفيان) ومنح الجزائر استقلالها وبذلك تم تشكيل حكومة جزائرية وطنية.

مفدي زكريا..شاعر الثورة

يقال: انه لكل ثورة شاعر او خطيب يكون ناطقا باسمها ولسانها المعبر عن أهدافها ووسيلة اعلامها. فكان(مايكوفسكي) شاعر الثورة الروسية لعام 1917م و(محمد مهدي البصير)شاعر ثورة العشرين العراقية، و(الجواهري) شاعر ثورة 14 تموز في العراق و(ميرابو) خطيب الثورة الفرنسية 1789م و(مفدي زكريا) شاعر الثورة الجزائرية ... ولد في مدينة (تومرت)عام 1913م ودرس هي مدارسها ثم انتهى الى جامعة الزيتونة في تونس ومنها بدأ نشاطه الأدبي في الصحف والمجلات الجزائرية والمصرية واللبنانية ثم انضم الى جبهة التحرير الوطني الجزائرية واخذ يدعو الى النضال والفداء فدخل السجن خمس مرات وعذب حتى مزقت السياط جلده وفي سجنه اخذ يكتب الأناشيد الوطنية التي كتب بعضها بدمه وأرسلها الى الثوار وقد جمع شعره بعد ذلك في ديوان (اللهب المقدس) الذي اعتبر ديوان الثورة الجزائرية الذي ار فيه بطولاتها الأسطورية .. ومن الجدير بالذكر ان ابنه قد ترك دراسته في الكلية والتحق بالثوار وقد ارسل رسالة الى ابيه يزف فيها بشرى التحاقه بصفوف جيش التحرير وكان عمره (18)عاما فاجابه والده بقصيده يحثه فيها على النضال والفداء من اجل تحرير بلاده واستقلالها ، وأخيرا تمكت مفدي من الهرب من السجن وغادر الى تونس حيث توفي فيها يوم 17 / 8 /1977م

النشيد الوطني للثورة الجزائرية

نظم مفدي عدة قصائد وطنية وهو في سجنه من ابرزها النشيد الوطني الذي اتخذته الحكومة نشيدا وطنيا وقد نظمه عام 1955م بعنوان (اشهدوا) وقام بتلحينه الفنان المصري محمد فوزي وهذا مقطع منه:

قسما بالنازلات الماحقات 

 والدماء الزاكيات الرافقات

*

والبنود اللامعات الخافقات

في الجبال الشامخات الشاهقات

*

نحن ثرنا فحياة اوممات

وعقدنا العزم ان تحيا الجزائر

فشهدوا

* المناضلة جميلة بوحيرد الثورة الجزائرية .

شاركت المرأة الجزائرية في الثورة في المدن والأرياف وقد بلغ عددهن اعداد كبيرة ومن ابرزهن : جملة بوحيرد ، زهرة ظريف، سامية بخضاري وغيرهن ... في عام ١٩٥٧ م اصيبت جميلة برصاصة في كتفها عندما كانت تحمل رسائل إلى قادة جبهة التحرير نقلت على أثرها إلى المستشفى وقد تعرضت أثناء العلاج إلى انواع التعذيب حيث صرحت قائلة (.. لقد تحملت التعذيب طوال ثلاثة ايام بالكهرباء فقد وضعت اقطاب كهربائية في موضع العفة مني وفي فتحتي انفي وفي اذني وفمي وتحت ابطي وفي نهاية نهدي الاثنين اللذين ما يبرحان محروقين وعلى فخذي وقد دام هذا التعذيب طوال الليل حتى كان يغمى علي وادخل في بحران الهنديان ..)

وكان الهدف من وراء هذا التغريب هو اجبارها على الاعتراف بمكان بعض قادة جبهة التحرير الا انها لم تعترف بشيئ وقد وكلت عائلة جميلة المحامي (جاك فيرجيس) للدفاع عنها الا ان المحكمة الفرنسية اتهمتها بتهمة اخرى وهي انها كانت تحمل القنابل إلى المقاومة فحكمت عليها المحكمة بالاعدام مما اثار الرأي العام في فرنسة نفسها ضد هذا القرار بالإضافة الى الجهود المحامي الذي كان له الفضل الاكبر في الافراج عن جميلة بو حيرد بعد ان مرت بمأساة وتحملت انواع التغريب من قبل رجال المظلات الفرنسيين. وكان عمرها انا ذاك لا يزيد على (٢٢) عامًا، في عام ١٩٦٢ تزوجت من الرجل الذي انقذها محاميها (جاك فيرجيس).

***

غريب دوحي

 

تحوّل منذ سنوات بعيدة إلى كاتب روائي يُشار إليه بالبنان، ويصلح أن يكون نموذجًا يمضي آخرون في أثره وعلى خطاه، فقد خلّف انتاجا روائيا رياديا في مجاله، ما فرض كتابة العشرات وربما المئات من الكتب والاطاريح الجامعية عنه وعن نتاجه الروائي الغزير من ناحية، وما أدى من ناحية أخرى إلى تحويل العديد من رواياته، او معظمها بالأحرى، إلى أفلام سينمائية شاهدها، إضافة الى مثقفي الامة بسطاؤها وأميوها أيضًا. وقد عاش عمرًا مديدًا مكّنه من بناء عالمه الروائي المتكامل وفي مركزه الحارة العربية المصرية، والتاريخ المصري بشقيه الفرعوني القديم والمصري الجديد. ابداعاته هذه خوّلته لأن يكون أول كاتب روائي عربي يحصل على جائزة نوبل الأدبية لعام 1988، ورغم أن الكثيرين عزوا فوزه بهذه الجائرة ألى تأييده لاتفاقية كامب ديفيد، بين مصر وإسرائيل، فإن أحدا لم يشكك في قيمته وقيمة عطائه الروائي الريادي في ادبنا العربي المعاصر.

كل هذا الحضور الطاغي للكاتب الروائي نجيب محفوظ (11 كانون الأول 1911- 30 آب 2006)، وجّه إليه الأنظار وجعل من تجربته في الكتابة الروائية، هدفًا تتطلع إليه وإلى ما حفل به من اسرار، وإلى معرفة مكنوناته وخفاياه، فما هي الارهاصات الأولى التي أحاطت بحياته؟.. بماذا اتصفت حياته مع الكتابة الروائية، ما هي الدوافع التي حركت شُعلة الابداع في داخله. بل كيف كتب وما هي طقوس الكتابة التي اتبعها ومارسها؟

الكاتب الراحل جمال الغيطاني، صاحب الرواية الشهيرة الزيني بركات، أحد مُرافقي كاتبنا ومحبيه الكبار، وضع عام 1980 كتابًا حواريًا معه أطلق عليه عنوانا دالّا هو نجيب محفوظ يتذكر، وقد وجّه إليه فيه العديد.. العديد من الأسئلة التي دارت حول حياته ودوافعه الأولية للسلوك في طريق الكتابة الروائية، إضافة الى الكثير من الأسئلة حول العملية الإبداعية لديه. وقد صدرت الطبعة الثالثة من هذا الكتاب مُرفقة بمقدمة توافق على كلّ ما ورد في الكتاب، وكأنما هي من كتابة محفوظ ذاته، عام 1987. هذا الكتاب لفت نظر الكاتب الدكتور عزت قرني، فأقبل على قراءة الطبعة المذكورة من هذا الكتاب، وقرر ان يركّز ما ورد فيه من معلومات تتعلّق بحياة محفوظ مع الكتابة والابداع، مركّزًا على العملية الإبداعية، بكلّ ما حفلت به من طقوس، بعضها سبق وعُرف عن محفوظ وبعضها الآخر يكشف في الكتاب أول مرّة، كما قرر ان يصدر ما سجله في دراسة، في كتاب خاص أطلق عليه عنوانا دالا هو فعل الابداع الفني عند نجيب محفوظ.

يتحدّث مؤلف هذا الكتاب في قسمه الأول عن حياة محفوظ مع الابداع الروائي الفني، وعما اكتنفها واحاط بها من ملابسات، ويتحدّث في القسم الثاني من كتابه عن الفعل الإبداعي الفني الروائي، الذي مارسه محفوظ أولًا ومكّنه بالتالي مِن المُضي في طريق الكتابة الطويل الصعب والممتد. يُشير الكاتب عزت قرني، مستعينًا بما ردّ به نجيب محفوظ على محاوره جمال الغيطاني حينًا وعلى تعليقات الغيطاني/ مُحرّر الكتاب، حينًا آخر. من أجل تقديم صورة كاملة أو قريبة من الكمال، نحاول فيما يلي أن نقدّم صورةً موجزة جدًا لمحفوظ، دوافعه، تكوينه وممارسته العمل الابداع، محاولين قدر الإمكان استخلاص الدرس من هذه التجربة الرائدة فعلًا وقولًا.

*كانت نشأة نجيب محفوظ في طفولته في حي الجمالية نسبة الى بدر الدين جمال امير الجيوش والقائد المشهور في العصر الفاطمى وباني اهم اسوار القاهرة. في طفولته انتقلت عائلته للإقامة في حي العباسية، غير أنه بقي مرتبطًا إلى أخريات كتابته الأدبية بحي الجمالية، بل إن محفوظًا يطلق تصريحًا طريفًا، مُفاده انه كلّما أعياه العثور على الموضوع المناسب للكتابة الروائية، كان يتذكّر ذلك الحي أو يسير فيه لتنثال عليه الذكريات والمواضيع، وهذا لا يعني ان ذاك كان مصدره الأول والوحيد، فقد تعددت مصادره في الكتابة الروائية وقد استمد مصادره هذه من اماكن عاش او سار فيها ووضع اسماءها عناوين لعدد من رواياته أيضا، ومن قراءاته واحداث حياته استمد الثلاثية والكرنك مثلا، في حين استمد بعضها مما قرأه واطلع عليه من وسائل الاعلام، اللص والكلاب مثلا.

فيما يتعلّق بالبدايات الأولى، نقرأ في الكتاب، أن محفوظًا نشأ في طفولته الأولى في أجواء وطنية ملتهبة، ثورة عام 1919، وانه تشرب من هذه الأجواء وتأثر بها، لا سيما وأن والديه كانا متحمسين ومتشجعين لحزب الوفد الوطني بقيادة الشخصية الوطنية المعروفة سعد زعلول، الامر الذي ساهم في بلورة الحس الوطني لدى محفوظ وادى الى تعلقه الشديد بالتاريخ المصري، ودفعه بالتالي إلى افتتاح حياته الأدبية بكتابة ثلاث روايات تعترف مادتها من التاريخ الفرعوني وهي: كفاح طيبة، رادوبيس وعبث الاقدار، وكان محفوظ قد خطط لكتابة العديد من الروايات المماثلة لهذه، إلا أن ظروفا خاصة دفعته لكتابة الروايات الواقعية ومنها زقاق المدق، خان الخليلي والثلاثية الروائية بين القصرين، قصر الشوق والسكرية، وما إليها من الروايات.

كتاب الفعل الإبداعي عند نجيب محفوظ يتوقّف مُطوّلًا عند موضوع عنوانه، متطرّقًا إلى عدد من جوانبها وخطوطها العامة، التي تكشف عن اسرار العملية الإبداعية الفنية لدى محفوظ كما رواها للغيطاني، في مقدمتها التهيئة، الوقت وتنفيذ الكتابة ذاتها وما بعدها. فيما يلي نتوسّع قليلا بكلٍّ من هذه النقاط أو الاسرار.

*يعتبر نجيب محفوظ نفسه قارئا نهما، علما انه لم يكن في بيته ابان طفولته سوي رواية(تأسيسية) واحدة هي رواية حديث عيسي بن هشام لمحمد المويلحي، ويرى محفوظ في عملية القراءة امرا لا بُدّ منه وفي غاية الضرورة للكاتب، فتراه متنقلًا بين المكتبات باحثًا عن كلّ ما هو جديد وجادّ من الإصدارات الحديثة، ويُقبل على قراءة كلّ ما يقوم باقتنائه من هذه الكتب، وقد قرأ محفوظ، كما يرد في الكتاب، الكثير والغزير من الابداعات الأجنبية، كما أنه يقرأ باللغة الإنجليزية أيضًا، ويتقن الفرنسية، ويذكر الكتاب أن محفوظًا قرأ أمهات الروايات الحديثة للعشرات من الكتاب الروس أمثال تولستوي ودستويفسكي، وقرأ للفرنسيين أمثال اميل زولا ومارسيل بروست، كما قرا للانجليز أمثال الايرلندي جيمس جويس، والامريكي ارنست همنجواي ( لم يحبب لهذا الأخير الا رواية واحدة هي الشيخ والبحر). هذا بصورة عامة أما بصورة خاصة فإن محفوظًا يكثّف قراءاته بعد فروغه من الكتابة اليومية. هذه الكتابة التي تتواصل في العادة مدة سبعة أشهر من العام، جراء اصابته بمرض السكري. التهيئة للكتابة بهذا تعتبر طقسًا هامًا ولا بدّ منه في ممارسة محفوظ للكتابة الروائية.

*منذ سنوات بعيدة، ومنذ البدايات الأولى، في الخامسة والعشرين من عمره، عندما قرّر محفوظ ان تكون الكتابة الروائية حرفته ومحور حياته، أدرك أنه لا بُدّ له مِن أن يقوم بتنظيم وقته، وتقسيمه بصورة صارمة، فوقت للوظيفة في وزارة الأوقاف، ووقت للمقهى، وهو أحد مصادر الاستلهام لدى محفوظ، إضافة الى وقت للراحة، يوم الخميس، وآخر للعائلة/ يوم الجمعة، وبقيّة الأيام ابتداءً من الساعة الخامسة مساء حتى الثامنة، للكتابة والإنتاج الكتابي، الروائي تحديدًا. هكذا يُلاحظ أن محفوظًا حريص على تقسيم وقته، من أجل إنجاز ما يريد انجاه من كتابات روائية. هذه الكتابة تتمّ بشكل يومي، مع التركيز الشديد على دينامية التطور الحتمي الداخلي لأحداث الرواية، أما كيف تتواصل الكتابة، فإن محفوظًا يقوم بمعايشة شخصيات روايته الذين عادة ما يتمّ استقاؤهم من الواقع، بيد أنهم يتحوّلون في الرواية إلى شخوص آخرين غير أولئك الذين سبق وعرفهم الكاتب كما يقول، إلى هذا هو يقوم بمعايشة أحداث الرواية، فتراه منقطعا خلال فترات طويلة نسبيًا، بهذه المعايشة، الامر الذي يُمكّنه من مواصلة الكتابة بيسر اقل.

*عندما يفرغ محفوظ من كتابة روايته، بعد أشهر أو سنوات، هو كتب الثلاثية خلال سنوات، في حين كتب الحرافيش في سنة، علمًا انه فكر فيها سنة تحضيرية، يقوم بتبييض الرواية مُعيدًا النظر فيها وفيما خرجت عليه، ويحتاج بعد ذلك إلى وقت كي يراجعها وكي يُعدها للنشر. كتابته للرواية بهذا تستغرق منه في العادة وقتًا ليس قصيرًا، وما يهمه أولًا وقبل كلّ شيء أن يكون راضيًا عما سجّله فيها من مواقف واحداث، يقودها ويكوّنها التخييل الفني الروائي، أكاد أقول التوالدي، وان يكون مناسبًا لكاتب يريد ان يقدم أفضل ما لديه لقارئ يتوقّع منه الكثير.

***

ناجي ظاهر

(لقد أقبلت عليها كما تُقبل البطة على الماء، ولم تنقطع قط دهشتي من أنني أصبحت كاتبا)... سومرست موم

لقيت الرواية الأولى للأديب والمسرحي البريطاني سومرست موم (ليزا فتاة لامبث)، نجاحا كبيرا دفعه للتخلي عن مهنة الطب والتفرغ للكتابة. فوجئ الناس بإزميل ينحت الطبيعة البشرية بدقة هائلة؛ ففي الرواية يقدم موم للقارئ شخصية فتاة مفعمة بالطموح والحياة، ورافضة لبيئة الحرمان التي كانت سمة أحياء لندن الفقيرة آنذاك. غير أن الرغبة في تعويض الإحساس بفقدان الأب ستدفع فاتنة الحي إلى التعلق برجل متزوج يكبرها سنا، لتنتهي الأحداث بوفاة ليزا، بينما الأم الجشعة تعدّ ببرود نقود التأمين.

تفرّغ سومرست موم للكتابة التي قال بأنه بدأها كأمر طبيعي مألوف لا انفكاك عنه، تماما كالبطة التي لا انفكاك لها عن الماء. وفي سيرته التي تُرجمت إلى العربية تحت عنوان (عصارة الأيام)، لم يكتف موم بسرد تجربته الحياتية والصعاب التي اعترضت مسيرته الأدبية، وإنما برع كذلك في عرض نقائصه ككاتب، وملاحظاته على أساليب الكتابة لدى أسلافه ومعاصريه على حد السواء.

إن الإنسان العادي هو الذي على الكاتب أن يعالجه، فهو يحكي ذاته ولا يجد سببا لاصطناع شخصية أخرى. لذا كانت ذخيرة موم دوما هي عامة الناس، أولئك المغمورون الذين يظهرون على حقيقتهم، ولا يخفون تصرفاتهم الشاذة لأنه لم يخطر لهم أنها كذلك. فالعادي إذن، يقول موم، هو ميدان الكاتب الأخصب؛ يُمدّه بمادة لا تنضب بسبب ما فيه من جدة وتفرد وتنوع لا حد له. 

لا يخفي موم احتجاجه على الكتابة المنمقة والمثقلة بالتطريز والعبارات المحشوة. ويلقي بالمسؤولية على المؤثرات الشرقية التي تضمنتها توراة الملك جيمس، والتي أساءت للسان الإنجليزي البسيط والصادق، حيث تنافس الكُتاب في تقليد أسلوب كلام الأنبياء العبرانيين. كل ذلك التكلف كان يُخفي برأيه شخصيات مرهقة، وأسلوبا يعاني من فقر الدم. وحين يُجري تشريحا لما خطه قلمه في حداثة سنه، يجزم بأنه مدين في نجاح أعماله إلى تلك القدرة الطبيعية على الوضوح والتأثير، من خلال الدقة المتناهية في استخدام المفردات. طبعا أغنى موم رأسماله الأصلي باكتساب عشرات النماذج التي برع في التمييز بين خصائصها في الكتابة، والنفاذ من خلال الكتابة إلى عمق شخصية الكاتب وطريقته في الملاحظة.

أُعجب سومرست موم بنثر الأديب الإنجليزي جون درايدن، وصرّح أن النثر لم يُكتب قبله بمثل تلك الروعة. ولكي يخرج من دائرة الانطباع إلى الدراسة الدقيقة، فقد لخص ببراعة سمات أسلوب درايدن لتحديد خصائص النقلة التي أحدثها في الكتابة آنذاك. يقول موم:

" لقد أينع درايدن في لحظة هانئة. وكانت تسري في عظامه الجمل الجهيرة، والصنعة الهائلة من لغة العصر اليعقوبي، ولكنه فضل النعومة الراقية المرهفة التي ورثها عن الفرنسيين. أحال اللغة إلى أداة لا تلائم التعبير عن الموضوعات الجدية فحسب، بل تستطيع أن تسجل الخواطر الخفية العابرة؛ وبذلك كان رائد فن الأسلوب الموشى (Rococo). وإذا ذكّرنا سويفت بقناة فرنسية، فإن درايدن أشبه بنهر إنجليزي يتلوى في طريقه حول التلال وبين القرى الوادعة، وهو مغرق في الصمت عندما ينبسط في مجراه، ومسرع في تدفقه حين توعر طريقه."

لتبدع كتابة جيدة ومتألقة، ينبغي لأسلوبك أن يرتكز على ثلاث دعامات، وهي بحسب موم، أسلم مستوى من الكتابة سمحت به نقائصه الطبيعية.

أول دعامة هي الوضوح، فلا يجوز للكاتب أن يغلف معانيه بالغموض، أو يضفي سحرا على العبارة يحول بينها وبين أن تكون واضحة لدى القارئ. إن الكلمة بنت الفهم الدقيق للطبيعة البشرية، ولا حجة لأنصار الغموض من الُكتاب، لأنه يتسلل إلى الكتابة إما تحت وطأة الفكرة المشوشة التي تتكون أثناء عملية الكتابة لا قبلها، وإما لهزالة الأفكار التي يحاول الكاتب إضفاء هالة عليها. وقد ينشأ كذلك بسبب النزعة الارستقراطية التي تحمل الكاتب على أن يُغلف معانيه بالغموض كي لا تستطيع العامة المشاركة فيها.

وأما الدعامة الثانية فهي البساطة التي تمتحن قدرة الكاتب على إخفاء الجهد الذي بذله أثناء الكتابة. ينبغي للعبارة الفخمة والمفعمة بالارتباطات الشعرية أن تكون ناتجة عن إلهام معين، بمعنى آخر، فإن الكلمة التي لها طغيانها بكل تأكيد، إنما وُجدت من أجل معناها، وإذا لم يُلق الكاتب بالا إلى المعاني فكأنه لم يكتب شيئا.

تتطلب البساطة جهدا قاسيا، وهي تحتاج إلى الذوق أكثر من القوة، وإلى الإلهام أكثر من العظمة. إن النثر الجيد، يقول موم، ينبغي أن يشبه حديث الناس ذوي التربية الحسنة.

والدعامة الأخيرة هي الجرس، أي الموسيقى الخاصة بالنثر والتي بدونها لا يكون الأداء كاملا، وهي تنفي عن البساطة احتمال الجفاف، وتفترض أن يكون مزاج الكاتب أرهف من مزاج قرائه، فيتفطن للرتابة التي يمكن أن تسببها إيقاعات معينة في كتاباته.

أصرّ موم على أن يكون كتابه خلاصة تجاربه في الكتابة بعيدا عن أية صيغ وعظية. ولك أن تتعجب من صراحته البسيطة وغير المتكلفة، وهو ينتقد مساره في عالم الكتابة، أشد مما قد يفعل أي ناقد به! فالرجل الذي طرق مبكرا أبواب الشهرة والمجد، يفصح للقارئ عن أخطائه وعيوبه، والنقائص التي شابت أسلوبه في الكتابة، كأنه يُفشي بأسراره لصديق مقرب ويتوقع منه الكتمان. ففي جمل قصيرة ومفعمة بالحيوية، يسطر موم اعترافات ليس لها مثيل في تجارب الكُتاب الآخرين وسيرهم، بابتسامة ساخرة، وإنكار للحدود الوهمية التي يختلقونها حرصا منهم على معبد الفن الجميل وسدنته.

ألم يكتب يوما مستنكرا: لا عذر لفنان يتعالى على الناس، وإنه لأحمق إن ظن أن ما لديه من معرفة أخطر مما لديهم؟!

***

حميد بن خيبش

كما قيل عمّن شابهه من الكتاب والادباء، خاصة من جانب الشهرة والانتشار، هو كاتب ملأ الدنيا وشغل الناس، واقام علاقات أدبية وطيدة مع أبناء الأجيال الشابة والكاتبات الطالعات من النساء، تمثّلت في العشرات والمئات وربّما الآلاف من المقالات التي حفلت بها العشرات من الصحف، في زمن الصحف، وفي المواقع الإلكترونية في الزمن الراهن. كتب الكثير.. الكثير، ومع هذا وذاك لم يُصدر في حياته كتابًا واحدًا مكتفيًا بما يسّرته له مقالاته من محبة وتقدير مَن كتب عنهم ومَن تفاعل معهم.

شاكر فريد حسن من مواليد بلدة مصمص في المثلث، عام 1960 وتوفي فيها قبل عامين، عام 2022، عن عمر ناهز الستين عامًا فقط، تعرّفت عليه بداية عندما كان في العاشرة من عمره، وكان ذلك عندما كنت في زيارة لأخيه غير الشقيق، الكاتب والشاعر المترجم الراحل نواف عبد حسن، وتمّت هذه المعرفة بعد ان رفع صوته طالبا رؤيتي، والالتقاء بي، فصدّه مضيفي/ اخوه، طالبًا منه أن يغور مِن وجهه، ومتوجّهًا لي بقوله هذا أخي الصغير.. إنه يريد أن يكون كاتبًا. كلهم يريدون أن يكونوا كتابًا وشعراء، يقصد جميع أولاد تلك الفتر، أوائل السبعينيات، عندها طلبت منه أن يهدأ قليلًا وان يشجّع أخاه، قائلًا له يبدو أن الديك الفصيح من البيضة بيصيح، وأعتقد أن اخاك يطلب منك ان تشجّعه.. فلا تحبطه. عندما خرجت مُغادرًا بيت مُضيفي، رأيت أخاه الصغير شاكر، فلوّحت له بيدي مشجعًا ومحبذًا. بعدها التقيت به في العشرين.. وبعدها في الثلاثين من عمره، اما لقاءاتي التالية به فقد تمّت حينًا عبر هذه المادة الأدبية التي ينشرها في هذه الصحيفة أو تلك المجلة. في السنوات العشرين الأخيرة نشط شاكر فريد حسن مُصعّدًا في نشاطه المتّقد منذ بداياته الأولى، فراح يكتب المقال تلو المقال، وذكر أصدقاء مقربون منه، انه كان يكتب في اليوم الواحد ثلاثة او أربعة مقالات، اما الصحف الورقية فقد رحّبت به، خاصة صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية، التي عمل مراسلا لها خلال فترة قصيرة من الزمن.

لم ينقطع شاكر فريد حسن عن الكتابة والنشر خلال ما يُعادل نصف عمره الأخير الا ليعاود هذا الفعل المحمود، وقد غطّت كتاباتُه قطاعات واسعة من الكتاب والكاتبات الطالعات، حتى انه بات بإمكانك أن تسأل عمّن لم يكتب عنه، بدلا من السؤال التقليدي وهو عمّن كتب، فقد كتب عن كلّ مَن أرسل إليه مجموعة شعرية او قصصية او حتى رواية. لم يُهمل أي هدية أدبية تلقاها واضعًا، كما ذكر في أحد مقالاته، نُصبَ عينيه أن يكتب عن كلّ كتاب تجشّم صاحبُه عناءَ إرسالهِ وإهدائه بالتالي إياه.

عليه، يُحسب له أنه قام بتشجيع العشرات، وربّما المئات عبر كتابته عنهم، والترويج لكتاباتهم، وقد لاقت كتاباتُه هذه الاستحسان لدى معظم مَن كتب عنهم، إذا لم يكن كلّهم، وتجلّى عرفان هؤلاء وشكرهم له، في عشرات ردود الفعل التي تلت رحيله المبكّر والمفاجئ للكثيرين، وبدا ضمن ردود الفعل هذه، التأثر والحزن الشديدان، لفقدانهم مُساندًا، داعما ومعاضدا من طراز مرغوب به ومُحبّب، بل إن عددًا مِن هؤلاء، قام بنعيه والتأريخ لحياته، وأعقب ذلك بما كتبه عنه من تقريظ وثناء.

غلبت على كتابات شاكر فريد حسن، عدة صفات منها: المقالة الصحفية المُحبّذة والمشجّعة، الكتابة المؤدلجة، والشكل غير الثابت للنوع الكتابي. فيما يتعلّق بالشكل غير الثابت، نقول إن كتابته تراوحت فيما بين المقالة القصيرة والطويلة بصورة نسبية، بل إنها لم تعدُ كونها تعليقًا مطولًا على مقالة تمّ نشرها في إحدى وسائل الاتصال الاجتماعي، ولعلّ هذا يقودنا إلى السرعة الشديدة في الكتابة، إذ يبدو منه أن صاحب تلك الكتابات كن يكتب بسرعة وكأنما هو في سباق مع الزمن، وللحقيقة لم تخلُ كتابات شاكر فريد حسن، بصورة عامو، من الأخطاء النحوية والصرفية التي كان بإمكان أيّ محرّر مسؤول تصويبها، وهو ما لم يفعله محررو المواقع الالكترونية، ربّما لأنهم كانوا يقرؤون المواد المقترحة للنشر بسرعة كبيرة، وربّما لأي سبب آخر يتعلّق بنظرتهم الى اللغة، او عدم معرفتهم، او سُرعتهم في النشر، شأنهم في ذلك شأن صاحب المادة المُرسلة، دون ان تتم مراجعتها جيدًا. أما فيما يتعلّق بالكتابة المؤدلجة فاننا نقول إن شاكر فريد حسن كان مُقرّبًا نَفسه إلى الفكر اليساري، لهذا رأيناه يستثني، عن قصدٍ أو غير قصد، معرفةٍ أو عدم معرفة، البعدَ الفنيّ لما يقوم بالكتابة عنه مِن نتاج أدبيّ، فهو يشير بهذا الصدد، إلى الكاتب وما يتّصف به مِن توجّه يساريّ أو وطنيّ، كما يشير إلى المضمون الكتابي، ولا يتطرّق إلى الجانب الفنّي إلا في القليل النادر، وهو ما جعلنا نقول أنه لم يكن يتطرّق إلى الجوانب الفنية فيما يقوم بالكتابة عنه. هل أثّر عاملُ السرعة في الكتابة والنشر في مثل هكذا توجّه؟ ربّما.. لكن لا اجزم. فيما يتعلّق بالمقالة الصحفية المُحبّذة والمشجّعةِ، المشجعةِ فقط، أعتقد أن كاتبّنا حذا بتوجّههِ هذا حذو الكُتّاب والباحثين الذين ظهروا في رُبع القرن الأخير، سواء في العالم العربي بصورة عامة، او في بلادنا بصورة خاصة، فقد دأب أولئك وهؤلاء، بصورة عامة، على الكتابة المُشجّعة والمُحبّذة، تلك الكتابة التي يُمكنُها أن تقبل رفع أسهم عطاء العمل المكتوب او المنقود، أو صاحبه للدقة، في حال رغبة مَن يكتب، وفي المقابل خفض هذه الأسهم إلى اسفل الدرجات في حال رغبة الكاتب، وبما أن مَن يكتبون في عالمنا العربي، وفي بلادنا خاصة، ومنهم كاتبنا شاكر فريد حسن، يريدون المُحافظة على العلاقات الشخصية فيما بينهم وبين مَن يكتبون عنهم، فقد رأينا هؤلاء يرفعون مِن أسهم أي عمل ادبي يقومون بالكتابة عنه، وأقول لمن لا يُقنعه هذا الكلام، راقب ما يُكتب ويقال، خاصة في امسياتنا الأدبية والثقافية عامة، وراقب مدى ما يرد فيها من مديح، ثناء وتقريظ مبالغ فيهما. شاكر فريد حسن بهذا، عرف ما هو المطلوب، فراح يُقدّمه للجميع على أطباق من ابتسامات وافراح.

ماذا يقول هذا، أعتقد أنه يقول، في أبسط ما يقوله، إننا نعيشُ فترةً خاصةً لها ملامحُها الغامضة وغير الواضحة، وإن وسائل الاتصال الاجتماعي، لعبت دورها في هذا الاتجاه، فاستبعدت الناقد، كما يرى  الاكاديمي البريطاني رونان ماكدونلد في كتابه عن" موت الناقد"، وقرّبت اللايك والكومنت، وبين ذاك وذا، أفسحت المجال لكلام المُجاملات فيما بين الناس، كتابًا ومكتوبًا عنهم، وقد تمّ هذا كله في متاهة التطور الكمّي الذي نعيشه هذه الفترة، الذي اكاد اجزم انه سيمضي في فترة قد تطول وقد تقصر، سيولّي، وسوف يُعيد إلى الانسان وابداعاته الحقيقية وزنَهما الجدير بهما، قد يحدث هذا برفقة الذكاء الاصطناعي وربّما بدونه، ليتحوّل ما نشهده مِن تحوّل كمي إلى تطوّر كيفيّ، بالضبط كما حدث في كلّ تطور حقيقي وجدير.

لقد انصرف الكُتّاب في الفترة المُضبّبة-من ضباب، الجارية عن النقد الادبي، بمعناه العلمي السابق، ذلك النقد الذي يُقيّم العمل المنقود مُضيئًا إياه مِنَ الداخل، على اعتبار أن الناقد هو قارئ القارئ كما يقول الدكتور المُفكّر المبدع زكي نجيب محمود، في إحدى مقدماته لمجلة الفكر المعاصر، التي كان يرأس تحريرها وكانت تصدر في السبعينيات. نعم لقد انصرف هؤلاء عن هذا المفهوم الراقي والعميق للكتابة عامة والنقد خاصة، ومضوا في الطريق السهل، طريق المديح والثناء الذي يرغب به الجميع ويحبّونه، بالضبط مثلما يرغب الناس عامة والكتّاب خاصة. توضيحا ودلالاة على ما أقوله، أوجّه السؤال التالي: كم مِن القراء يقبلون على قراءة المقالات المدائحية المتلفّعة بضباب العلمية والمنهجية، وكم منهم يُقبلون على قراءة المقالات الجادة؟.. في رأيي واعتقادي أن عددَ قراء مَن ذكرتهم أولًا يفوق، بما لا ُيحدّد أو يُقاس من ذكرتهم فيما بعد من أصحاب الكتابات الجادة.

بالعودة إلى كاتبنا المرحوم شاكر فريد حسن، أقول باختصار شديد، إنه أفاد ادبنا، في المدى القريب، وذلك بتشجيعه مَن يحتاج إلى التشجيع والاشادة، أما فيما يتعلّق بالمستقبل فلنترك الزمن يقول كلمته، وقد أوحيت بها في السطور السابقة، ويُمكننا حاليًا ونحن نستذكر كاتبًا كان له كبير الأثر في حياتنا الادبية والثقافية، أن نكتفي بالنظر إلى النصف المليء من الكوب.. أقصد التشجيع والتحبيذ.

***

ناجي ظاهر

نصوص صديقي الشاعر شوقي مسلماني شبكة هائلة من الرؤى والأفكار والإحالات تحيد بالقارئ عن حياده وتتشعّب لتشمل، إلى الشِعر، بوّابات معرفيّة تاريخيّة، سياسيّة، فلكيّة، فيزيائيّة.

وأنا كأكاديمي دارس للفيزياء في العراق وللأدب العام والأدب المقارن في المانيا أجد بإمتياز شعراً كثيراً في تنوّع إبداعه يثبت وحدة المعارف في النظريّة النسبيّة، الميكانيك الكمّي، نشوء الكون.. بالإضافة إلى معادلات آينشتاين وماكس بلانك وشرودنجر وهايزنبرج ورذرفورد ومَن جاء بعدهم ممّن تعمّدوا خيالاً أقرب ما يكون الى الخيال الشعري.

وهذا ما كان يحثّنا لنسأل أستاذ الميكانيك الكمّي في السنة الدراسية الثالثة والرابعة عن معنى مصطلح "دالّة الموجة" Wavefunction التي ترد في معادلات شرودنغر بصيغتها الرياضيّة في التفاضل والتكامل، وكان الأستاذ يؤكّد أن: "الأمر تقصر دونه الكلمات إذا تحتاج للخيال".

ونصوص الشاعر مسلماني هي من هذا العالم في إمتداده الكوني واللانهائيّ بعيداً من ضيق أفق الانسان إذا تحجّر.

***

د. كريم الأسدي

.....................

في ما يلي بعض ممّا قرأت من إبداعه في صحيفة المثقّف الأستراليّة، وبعض الصحف والمجلاّت العربيّة:1816 shoqi

1 ـ

الوقوف

على قدمين

يحتاج إلى رأس.

2 ـ

ترتيبُ حياة

صناعةٌ عمياء.

3 ـ

الكسوفُ والخسوفُ

أخيراً إلى مظاهر فِرجة.

4 ـ

الدرسُ لا ينتهي،

وكم سنحتاج للحظّ.

الحظُّ السيّىء ثلثاه الإهمال،

والمجنون يقول إنّه العاقل.

5 ـ

كلّما

ماتَ طفلٌ فينا

اتّسعتْ صحراء.

6 ـ

هذا الفضاء

فوضى إلى أقصى نقطة

تجعلني أجزم أنّي لو لي يد

لأقتربتُ على نحوٍ أرقّ، أشفّ.

*

ما حاجتنا

لأحزمةِ الصخور،

لأي حاجة تولد شموس،

تولد كواكب، أقمار،

وتموت نجومٌ اختناقاً أو إنفجاراً

ومعها عوالم لا عدّ ولا حصر لها،

جاهدتْ لتكون ذرّةً ذرّةً،

ولبلايين السنين،

كأنّ كلّ هذه العمارات الهائلة،

المضيئة، المظلمة، المبصرة، المغمِّضة،

الواقفة، القاعدة، الماسيّة، الذهبيّة،

الفضيّة، الحجريّة، المائيّة، الغازيّة،

لكي تغرق ممزّقةً في الثقبِ الأسود،

الذي عنده يتجمّد حتى الوقت.

*

وما سبقَ

هو أقلّ من رأس إبرة

في مجرّتنا ـ دربِ اللبّان

التي هي واحدة

من بين أكثر من 200 ألف مليون مجرّة،

ومجرّتُنا ذات المئتي بليون شمس

وترليون كوكب وقمر

وسُحب لا تنتهي من الصخور والحجران

هي مجرّد ربّما طفل يحبو

بالنسبة لأجسامِ زميلاتها ـ الديناصورات.

*

وبالمناسبة،

مشت الديناصورات على الأرض

قبل 65 مليون سنة،

كان بعضها بطول 10 طوابق.

*

ولكنّه الكون

الذي كلّه فوضى،

ولكنّها الفيزياء، الكيمياء، ما تشاء،

في جبروتِ وعظمةِ المادّةِ الساخرةِ الخالدة.

7 ـ

لا يعلمُ المعوجَّ فيهِ

من يجهل حقيقةَ ذاتِهِ.

8 ـ

هذا الإنفجار

خارج إرادةِ الناس

إنّه نتاجُ يأسِهم.

9 ـ

ميْت

في كلِّ غائب.

10 ـ

ذاهلة

حواسُّ الميْت.

11 ـ

السؤال

هو إذا المِحرقة

تعني أنْ يُحرق شعبٌ آخر؟.

12 ـ

دمٌ كثيرٌ يُسفك

تحت عينِ الشمسِ الغاضبة

من أجلِ حيّزِ ثلج.

13ـ

قال عالِمٌ جليلٌ

أنّه بإكتشافاته،

إنّما ليعرفَ

كيف يعمل عقلُ إلهه.

*

لم يعثر عليه في السماء

وأكّد لذاتِه أنّه موجودٌ في رأسه

ولكن في أيّة خليّة؟.

*

اخترع

خوذةً الكترونيّةً

وسمّاها "خوذة الله"،

لمعرفة الخليّة المعنيّة،

لمعرفة تركيبها الكيميائي

وآليّة عملِها الفيزيائي.

14 ـ

من يصرّ على خريطةٍ مثقوبة

سيضلّ أكثر إلى الثقبِ الأسود.

15 ـ

مِنْ

سُوءِ حظِّ المثاليّة

أنّ الفيزياء

ماديّة.

16 ـ

سترى

بعقلِك الصاحي

ما لا تراهُ بعينيك الآن.

ستضحك أو ستبكي.

الفراغُ كثير.

17 ـ

الأرضُ تدور

والمغزلُ يدور.

***

فوزي عبدالله.. وموعد سخيّ مع المطر

ابتدأت علاقتي بالشاعر فوزي جريس عبدالله (1988-1942)، ابن بلدة المغار الذي اقام جُلّ حياته في الناصرة، وكوّن فيها عائلة ما زالت تقيم فيها، بعد رحيله عن عالمنا، في السبعينيات الاولى وتواصلت حتى ايامه الاخيرة في الحياة. ابتدأت هذه العلاقة بعد ان اصدر مجموعته الشعرية الاولى "موعد مع المطر"، وقد اثارني ما كتبه عنها صديقه في حينها الشاعر توفيق زياد، وما كتبه عنها ايضًا الصديق الكاتب اسبير عبود، فقررت ان اتعرّف عليه، واذكر انني قمت يومها بكتابة مقالة قصيرة عنه نشرتها صحيفة "القدس"، الامر الذي اثاره وكان أن جمعتنا جلسة في مقهى ابو ماهر القريب من عين العذراء، تعرّف فيها كلٌ منا على الآخر لتبدأ صداقة تدوم حتى رحيله قبل سبعة وثلاثين عاما.

كتب فوزي عبدالله واصدر خلال حياته القصيرة نسبيًا العديد من المجموعات الشعرية والدراسات الادبية، كما اسس مجلة "المواكب" التي انتقلت ادارة تحريرها بعد رحيله المبكر إلى الشاعر الصديق جمال قعوار، كما بادر لإقامة العديد من المؤتمرات وشارك في الحياة السياسية وكان رجلًا ثائرًا، اطلق عليه اصدقاؤه صفة البلدوزر لما اتصف به من نشاط فائق وسرعة حركة. وقد اتصف ما كتبه فوزي من اشعار بالحماسية متتبعا خطى شعراء الحماسة العربية ومقتفيًا آثاراهم ولم يكتب، فيما اعلم شعرًا نثريًا او قصيدة النثر، واذا فعل فإنما قام بهذا ضمن حيّز محدود جدًا، ذلك انه كان مطلعًا على التراث العربي القديم ومتشبعًا بقيمه وجمالياته المعروفة. مؤلفات فوزي هي: "موعد مع المطر" - الناصرة 1966، و"الطيور المهاجرة" - الناصرة 1973، و"الفارس يترجّل" - الناصرة 1974، و"شدوا الخطى" - الناصرة 1974، و"قصائد عن الخروج والعودة" - الناصرة 1987، و"قراءة في سفر التكوين"- الناصرة 1988، وله قصائد نشرتها الصحف والمجلات في فترته، خاصة مجلة "المواكب".

اما في الدراسة الادبية فقد كانت له اجتهادات ملموسة ويُذكر انه الف كتابًا عن الرومانسية في الشعر العربي، كما كتب سلسلة هامة جدًا من المقالات النقدية، حاول فيها ان يؤسس لحركة نقدية منهجية، وقد نشر بعضًا منها في صحيفة "الصنارة"، علمًا انه كان احد المساهمين في شركة اصدارها، اما مجلة "المواكب" الدورية التي كانت تصدر كل شهرين مرة، فاذكر انه اختار اسمها من عنوان قصيدة جبران خليل جبران التي حملت نفس الاسم وغنت ابياتًا منها السيدة فيروز. وكان فوزي حريصًا كل الحرص على ان تُشدّد مجلته هذه على نشر الابداعات المحلية، خلافًا لمجلة "الجديد" الثقافية الشهرية التي كانت تنشر الادب المحلي والعربي وحتى المترجم من لغات اخرى، وقد اعتمد في تحديده هذا للمواكب على منطق اننا يفترض ان نخدم حركتنا الادبية اولًا وان نقدم افضل نماذجها إلى القراء العرب في كل مكان ثانيًا. اما مبادراته في اقامة المؤتمرات الثقافية فقد تنوعت وتعددت واعتقد انها تركت آثارًا لا يمكن تجاهلها في حياتنا الثقافية، ومما اذكره له بكثير من المحبة انه اتاح لي المشاركة الفعالة في مؤتمرين احدهما عن الاغنية العربية والآخر عن الشعر العربي.

بالعودة الى مجلة المواكب ومؤسسها فوزي جريس عبدالله ، اذكر قصة تستحق ان تروى. كان ذلك في اواسط الثمانيات، وكنت حتى تلك الفترة قد عملت بصورة متقطعة على امل ان اتفرغ للكتابة والابداع جريًا على طريقة الكاتب العربي المصري عباس محمود العقاد، الذي عاش متفرغًا للكتابة، اذكر حينها ان نقاشًا دار بيننا، فوزي وانا، يمكنني ان الخصه على النحو التالي:

قال لي فوزي: اعتقد ان الوقت حان لأن تعمل.. لا يوجد كُتاب متفرغون في عالمنا العربي.. حتى نجيب محفوظ عمل في وظيفة.. دع الكتابةَ هواية تمارسها في الليالي. واجعل النُهر للعمل والعيش. الآن قد تجد من يشغلك.. غدًا عندما تكبر لن يشغلك احد.. الحق حالك.. اسمع مني.

اعترف ان ما قاله لي فوزي اثر في قليلًا، فسألته واين اعمل. يومها اقترح علي ان اعمل في صحيفة يمون عليها، إلا انني رفضت بادعاءات اثبتت الايام هشاشتها، عندها اقترح عليّ ان اعمل إلى جانبه في مجلته " المواكب"، فوافقت وابتدأت العمل معه والى جانبه في مكاتب المجلة التي كانت تقوم في بيت مستأجر يقع في منطقة حي الميدان في الناصرة. وقد عملت معه حتى ايامه الاخيرة، واذكر انني عندما دخلت عليه لأودعه، اسوة بآخرين من اصدقائه ومحبيه، في بيته القائم في حارة الزهر، سألني وسط ابتسامة غامضة عمًا اذا جئت اودعه. فنزلت من عيني دمعة حارة. فما كان منه الا ان ربّت على كتفي قائلًا هذه هي الحياة نولد ونموت. لا تحزن يا صديقي.

رحم الله فوزي فقد كان محدثًا لبقا طليّ المنطق، يميل الى رواية النكتة، ويحسن التعامل مع الاخصام كما مع الاصدقاء، كما كان خطيبًا مفوها يحسن الخطابة في المجالس الخاصة والعامة، وقد رافقته في العديد من الجولات لجمع الاشتراكات لمجلة المواكب، وشهدت عن قرب كيف كان يقنع الحاضرين بأهمية ان نكون معًا وان نؤسس لثقافة حقيقية تبتعد عن ثقافة القطيع وتحترم المبدع الحقيقي، ومما اذكره في هذا السياق، صرخته الخطابية المدوّية في مبنى سينما ديانا في الناصرة، احتجاجًا على اخراج السلطات الحاكمة الحركة التقدمية عن القانون وهي: تعريّ ايتها الديموقراطية الاسرائيلية لنرى بشاعتك المغطاة بأوراق التين.

جمال قعوار.. وغبار السفر

كان الشاعر جمال قعوار (19 كانون الاول 1930 - 24 حزيران 2013)، واحدًا من اقرب المقرّبين إلى فوزي جريس عبدالله، لهذا ما ان رحل فوزي عن عالمنا وهو في اوج شبابه وعطائه، حتى كان من الطبيعي ان يتولى جمال امر تحرير المجلة وكل ما يتعلق بها من ادارة، وذلك من اجل الاستمرار ومواصلة المشوار الصعب. وكان اول ما فعله جمال هو انه نقل مكاتب المجلة إلى محالٍّ تقوم في بيته القائم في حي الامريكان، كما كان من الطبيعي ان تنتقل هيئة التحرير للعمل معه وإلى جانبه، وقد كنت اتردد على مكتب "المواكب"، في اصدارها التواصلي الثاني في بيت جمال، بصورة عامة، كل اسبوع مرة فكان يستقبلني بابتسامة لم تفارق محيّاه حتى ايامه الاخيرة في الحياة. مرفقًا اياها بحفنة من الاخبار اليومية وفنجانًا مليئا بالقهوة العربية الاصيلة. وكان يعجبني في جمال تواضعه العلمي الآسر، ومما اذكره عنه انه كان كلّما استمع إلى كلمة استعصى عليه فهمها، يتوجه الى رفيقه الدائم القاموس المنجد ليبحث عن الكلمة حتى يعثر على معناها الدقيق، كما حدث مع كلمة "العلوج"، التي وصف بها وزير الاعلام العراقي محمد سعيد الصحاف، ابان الحرب الثلاثينية على بلاده العراق الاجانب بهذه الصفة. وهنا اود ان اوضح معلومة خاطئة منتشرة عن اطروحة الدكتوراه التي اعدها جمال وحصل لقاءها على الاجازة، فقد اعتقد الكثيرون انها في اعراب القران، بمعنى ان جمالا اعرب القرآن الا ان الأطروحة دارت حول ما بحثته الدراسات التي اعدها اصحابها عن اعراب القران الكريم.. وشتان ما بين فهم هذا البعض وبين الواقع.

كتب جمال في جُلّ ما اصدره في حياته، القصيدة العربية التقليدية، ويذكر كاتب هذه السطور انه تعلّم خلال دراسته الابتدائية قصيدته "جنى الحصاد" لجمال، تلك القصيدة التي كانت مدرجة ضمن المنهاج التعليمي، في كتاب "سنابل من حقول الادب"، كما كتب جمال القصة والرواية، والقصة للأطفال لا سيما مع زميله الكاتب الصديق محمود عباسي اطال الله في عمره ، اضافة الى الاناشيد المدرسية بالاشتراك مع صديقه الشاعر المرحوم جورج نجيب خليل، ويُذكر له وهو ما عرفته عن قرب، أنه كتب المئات من الابيات الشعرية التي زين بها اهالٍ من الناصرة مكاتيب دعوات لأعراس ابنائهم واحبائهم، بالضبط كما كاتب المئات من الابيات الشعرية التي نقشها اهالٍ على اضرحة ابنائهم واعزائهم الراحلين. وقد كتبت مقالًا ضافيًا عن كتابة جمال قعوار وأصدقائه للأطفال، نشرته في غير هذا المكان.

اصدر جمال في الشعر عددًا وفيرًا من المجموعات، وكان اولها "سلمى" واغنيات من الجليل" صدرت الاولى عام 1956 والثانية عام 1958، وكان آخرها " في مواسم الضياع" صدرت عام 2002، وجمع جمال مختارات منتقاة من اشعاره في كتاب ضخم اطلق عليه عنوانًا وداعيًا هو " قصائد من مشيرة العشق"، صدر عام 2000.

عام 1973 وقع حادثٌ عنصري ضد جمال قعوار فدفعه للخروج عن طوره، وقد تمثل هذا الحادث في توجيه طالبة جامعية له صفة " عرفي ملوخلاج- عربي قذر"، فما كان منه إلا أن توجه إلى اوراقه واقلامه يبثها لواعج المه وحزنه، ولم تنته تلك الليلة إلا بعد ان فرغ من كتابة مجموعته الشعرية النثرية الوحيدة وهي "غبار السفر"، ومما يذكر عن هذه المجموعة أن صاحبها كتبها نثرًا إلا انها لم تختلف كثيرًا عمّا كتبه من شعر عربي وفق البحور العربية الخليلية المعروفة.

لقد اجريت اكثر من مقابلة مع جمال، والطريف انني كنت اوجه إليه الاسئلة مكتوبة وكان يفاجئني، بعد ساعات بإجابات مفعّلة – من تفعيلة، تنتهج اسلوب شعر التفعيلة، كان جمال من اكثر من عرفتهم من اصدقاء، معرفة باللغة والبحور الشعرية، وكان في المقابل انسانًا متواضعًا لا يدعي ولا يتكبر.

ومما اذكره عنه في هذه المناسبة، انه خصص العديد من اعداد مجلة "المواكب"، خلال تحريره لها، لتكريم كتاب وشعراء من بلادنا، وكان لكاتب هذه السطور أحد هذه الاعداد التكريمية ونشر فيه جمال عددًا من الدراسات عنه، اضافة إلى عدد من كتاباته القصصية، وعندما اقترحت هيئة تحرير المجلة تكريم جمال وقع اختياره على كاتب هذه السطور ليقوم بإعداد العدد وتحريره. وهناك طرفة لافتة وقعت خلال اعدادي هذا العدد من مجلة "المواكب"، تقول تفاصيلها اني توجهت اكثر من مرة إلي صديق عمر جمال قعوار وصديقي ايضًا الكاتب الشاعر المرحوم طه محمد علي ليكتب كلمة عن جمال، وعندما كاد وقت اصدار العدد يأزف دون ان يلبي طه طلبنا، توجهت اليه في بيته القائم في حي بئر الامير، ليُملي عليّ ما اراد كتابته.. وهكذا كان، وقد اعترف طه في كلمته هذه انه كان يستفز جمالًا في نقاشاته معه الخاصة باللغة العربية ليتعلم منه.

***

ناجي ظاهر

هناك مشاهد عابرة تمضي أمام أعيننا كما تمضي الغيوم في السماء، لكن بعضها يتوقف في القلب كأنه وُجد ليقيم فيه. مشاهد لا تقاس بضخامتها، بل بقدرتها على أن تهزّ في أعماقنا أوتارًا خفية، فتوقظ أسئلة قديمة عن الإنسان، وعن ذلك الخيط السري الذي يربطه بأرضه وسمائه، وباليد الخفية التي تصوغ ملامحه حين تتبدل البيئات وتتغير الظروف. من ومضة كهذه، تبدأ الحكاية…

ثمة لحظات في العمر لا تأتي صاخبة. بل تتسلل على أطراف أصابعها. توقظ في القلب أسئلة بحجم الكون. لحظات صغيرة، لكنها كالنقطة على سطح ماء راكد، ما تلبث أن ترسم دوائر متسعة في بحر الفكر.

قبل أيام، كنت أعود من سوق في أستراليا. الشمس تزين الأفق بخاتم من نور. وفجأة، وقع بصري على شاب عربي الملامح، يبتعد عن سيارته بخطوات محسوبة نحو صندوق قمامة بعيد. كان يحمل أكياسًا صغيرة، كأنها أمانة يريد ردّها إلى مكانها الصحيح. مشهد بسيط. لكنه اخترقني كشعاع من نور. أكان سيفعل هذا لو كان في بلده الأم؟

عندها همس في ذاكرتي صوت علي الوردي: "لو غيّرنا ظروف الناس لتغيرت أخلاقهم". رأيت الإنسان كشجرة. لا يحدد طيب ثمرها سوى التربة التي تغرس فيها. ذلك الشاب لم يبدّل قلبه بين ليلة وضحاها. لكن الأرض التي وطأها غيّرت ماء جذوره. في موطنه القديم، ربما ضاقت مساحات النظام. وجفّت ينابيع المرافق. وخفت صوت الثقافة التي تحرس الجمال. فكانت الأفعال على صورة المكان.

أما هنا، حيث القانون كالنهر الجاري. والمرافق كالغصون الممدودة. والنظام كهواء نقي يملأ الرئتين. صار الفعل النبيل امتدادًا طبيعيًا للمشهد العام. وأدركت أن الإنسان مرآة محيطه. وأنه، كما يقول باندورا، يتعلّم كيف يكون من خلال العيون التي تحدق فيه، والأيدي التي تحاكيه. حتى يصبح ما يراه جزءًا مما هو عليه.

ثم اتسعت الرؤية. رأيت الأمر يتجاوز الفرد إلى الجماعات. ورأيت أستراليا أشبه بحديقة عظيمة. غرست فيها شتلات من أمم متباعدة. بعضها جاء يحمل بين أوراقه غبار خصومات الماضي. لكنها هنا أورقت بسلام واحد. وشربت من ماء مشترك. حتى بدا كأن جذورها جميعًا تنبع من نبع واحد.

 سألت نفسي: ما الذي جعل العداء يتحلل هنا، ويظل متحجرًا هناك؟ أجابتني الأرض: لأنني هنا ظللتهم بعدل القانون. وأطعمتهم من ثقافة تحتفي بالاختلاف كأنه لون في لوحة. لا شق في جدار. وحين يكون القانون مظلة واحدة. والتنوع طيف نور واحد. تزهر القلوب بما تعجز عن إنباته أرض الصراع.

 ثم تذكرت… هذه المعجزة ليست وقفًا على أرض بعينها. بل هي بذرة يمكن أن تزرع في أي تربة، إن نُزعت منها شوك الطائفية، وسُقيت بماء المساواة. العراق، على سبيل المثال، يمكنه أن يزهر إذا صار القانون سيد الجميع، والهوية الجامعة سقفًا يأوي تحته الجميع بلا تمييز.

لكن الأمر يحتاج إلى يقظة المثقفين. إلى جرأة الإعلام. إلى منابر الفكر. عيون ترصد ليل الخطاب المسموم. رياح تنثر غبار التعصب. وينابيع تُسقي القلوب من ماء الوطن الواحد. حتى يعود الناس يشعرون أن الوطن ليس رقعة على خريطة، بل روحًا تسكن أرواحهم.

 وطافت بخاطري حكاية أستاذ أسترالي: منذ خمسين عامًا، حين فرضت الحكومة ارتداء حزام الأمان، استقبل الناس القرار كحجر في مجرى حياتهم. حاولوا دفعه جانبًا. لكن الزمن صقله حتى صار جزءًا من طبيعة الطريق. وتكرر المشهد في زمن كورونا، حين أقامت القوانين جدران الحظر. ارتفعت الأصوات بالرفض. ثم ما لبث أن صار الالتزام بالخروج للضرورة عادةً يسكنها الرضا. بعد أن اكتشف الناس أن الأمن نعمة تليق بالتضحية.

وهنا أشرق في ذهني صوت وليام جيمس: "ما نكرره بأيدينا، ينقش نفسه في أرواحنا، حتى يغدو عادة لا تحتاج إلى أمر ولا نهي". فهمت أن القوانين شرارة البداية. لكن القناعة هي النار التي تبقى متقدة في القلب. وما يُصنع اليوم بسطوة النظام، قد يصبح غدًا طبعًا يسري في الدم. كما يسري الدفء في عروق شجرة تحت شمس الشتاء.

***

حميد علي القحطاني

ليحيى السماوي

مدخل: جرح الغياب ونزف الفقد المتواصل

يفتتح ديوان "شاهدة قبر من رخام الكلمات" على وقع صرخة وجدانية عميقة، جرح طال أمده يزيد على خمسة وعشرين عاما من الغربة القسرية التي اقتلعت الشاعر من جذوره. يعود السماوي بعد طول غياب إلى عراق تاهت فيه بقايا الأمان، ليجد أمه قد رحلت عن عالم الأحياء، تاركة وراءها فراغا لا يشغله سوى مرارة الذاكرة. يقول في الإهداء: " إلى روح الطيبة أمي وقد غفت إغفاءتها الأخيرة قبل أن أقول لها تصبحين على جنة " ص٥

هذا الفقد الذي لم يُسوَ، لم يتحول إلى ذكريات تلين القلب، بل بقي حجرا ثقيلا يحفر في النفس نزفا، يتردد صداه في أرجاء الديوان ككل. عين الشاعر لا تغلق على ألمها، بل تظل مشرعة على وطن مسلوب وأم حنونة غابت بلا وداع.

جدلية الأم والوطن: عباءة الحزن وانكسار الوطن

تتحول الأم في عمق النصوص إلى رمز وطنٍ مكسورة صورته، وطن لم يجد حاضنه الآمن، تماما كما فقد الشاعر حاضنته الأولى:

" كيف أغفو؟

سواد الليل يذكّرني بعباءتها السوداء

وبياض النهار يذكّرني بالكفن ..

يا للحياة من تابوتٍ مفتوح!

أشعر أحيانا أن الحيَّ

ميتٌ يتنفّس

والميتَ حيٌّ

لا يتنفس " ص١١

"عباءتها السوداء ليست مجرد رمز حداد، بل علم يتهادى فوق خرائب الوطن، يوشح وجوهنا بالألم والخذلان.">> العباءة التي هي الستر والدفء، تصبح رمزية لقهر الوطن واحتضانه الجريح. هنا تتداخل جراح الأم والفقد الشخصي مع جراح الوطن السياسي، في مفارقة لاذعة بين الغياب والحضور، الموت والاغتيال الرمزي للذاكرة الجمعية.

الذات المهشمة: بين طفولة لا تكبر وشباب متعب

يقدم السماوي في نصوصه ذاتا ممزقة تمشي على حافة زمنين متقاطعين:

" قبل فراقها

كنت حيًّا محكومًا بالموت ..

بعد فراقها

صرتُ ميتًا

محكومًا بالحياة " ص٨

هذا التشبيه يصور الطفولة والكبر في تداخل، يمثل طباقا مركبا بين البراءة المثقلة والنضج المتعب، يعكس الصراع النفسي العميق لدى الشاعر الذي لم يستطع التخلص من وطأة الحزن المتواصل فيصرخ  مستغيثًا :

" أغيثوني

أريد أوراقًا من ماء

لأكتبَ كلماتٍ

من جمر " ص ٢٣

لغة الصور والتجربة الحسية: استعارات مشبعة بالوجد

لا تنفصل صور السماوي البلاغية عن الواقع الحسي، بل تنبع من وجدان متألم ينبض بالحياة والحنين، كما في قوله:

"دفء أمومتها وليس حطب موقدنا الطيني:

 أذاب جليد الوحشة في شتاءات

عمري " ص٢٤

هنا تتحول الأم إلى طاقة حية، تعادل الحطب في أهميته للدفء والحياة، لكنها تفوقه في إنقاذ الذات من جليد الوحدة والوحشة التي تكمن في الشتاء الروحي؛ استعارة تنضح بحضور عاطفي أمومي لا يعوض.

التكرار كطقس إيقاعي: ترانيم الحزن والتذكار

يركز الشاعر على تكرار كلمات مفتاحية مثل (الأم، الوطن، القبر) ليخلق جرسا موسيقيا في النصوص:

"الأم... الطيبة... الوطن... القبر... الأم... الطيبة... الوطن... القبر..."

التكرار لا يعيد فقط المعنى، بل يشكل إيقاعا يستحضر الوجدان، كأنه أهازيج تأبينية ترفع راية الحزن والحنين في آن واحد.

التناص الروحي والثقافي: الأثر الديني والذاكرة الشعبية

ينسج السماوي تناصا ذا أبعاد روحية ودينية في نصوصه:

" لم تكن أنانيةً يومًا

فلماذا ذهبت إلى الجنة وحدها

وتركتني

في جحيم الحياة ؟" ص٢٢

تأتي مفردات قرآنية بعذوبة إنسانية بعيدة عن الخطابة، مما يضع النص في تواصل مع ذاكرة إيمانية تعمق تجربة الحزن لتتصل بالكون والوجود. كما تتسلل رموز الثقافة الشعبية العراقية مثل التنور وخبز العباس والنواعير، فتمنح النص بعدا لذاكرة شعبية تحيل الخاص إلى عام، والوجدان إلى ذاكرة جماعية:

" آخر أمانيها:

أن أكون

مَن يُغمض أجفانَ قبرها ..

*

آخر أمنياتي:

أنْ تُغمِض بيديها أجفاني ..

كلانا فشل

في تحقيق أمنية

متواضعة " ص١٣

تقنية الحذف والفراغات التأويلية: لغة الصمت المتحدث

يستخدم السماوي تقنية الحذف الموجعة حين يترك جملا معلقة:

" لست سكرانًا ..

فلماذا نظرتم إليَّ بازدراء

حين سقطتُ على الرصيف؟

من منكم

لا ينزلق متدحرجًا

حين تتعثر قدماه بورقة

أو بقطرة ماء

إذا كان يحمل الوطن على ظهره

وعلى رأسه

تابوت أمه ؟" ص١٦

يتوقف عمدا، محولا الفراغ إلى مساحة مفتوحة أمام القارئ، ليصبح الصمت لغة أبلغ من الكلام، يعكس عمق الحزن وتعقيدات التواصل مع الغياب:

" وحده فأس الموت

يقتلع الأشجار من جذورها

بضربة واحدة " ص ٧

نبرة التهكم والسخرية المرة: الظل على الحزن

في مزيج مؤلم بين الحزن والهزل، يقول الشاعر:

"حين مات أبي ترك لي فاتورة كهرباء ..

حين مات ولدي

ترك لي بدلة العيد الذي

لم يعشه ..

أمي؟

تركت لي عباءتها ..

سأتخذ منها سجّادة للصلاة ..

أما أنا

فسأترك لأطفالي

قائمة طويلة

بأمنياتي التي

لم تتحقق ..

منها مثلا:

أن يكون لي وطن آمن

وقبر " ص٢٤

 فتركت لي عباءتها."

تعكس العبارة قسوة الحياة والموت، وحالة الشاعر بين فقد الأحبة وعبء الحياة، فتمنح النص بعدا إنسانيا يمكن أن يلامس أي قارئ.

الخلاصة: نحت رخام الذاكرة وشهادة الوجدان

يرسم يحيى السماوي في هذا الديوان لوحة شعرية مأساوية تنحت من رخام الكلمات قبرا لا يموت، محافظا على ذاكرة شخصية ووطنية تغلغلت في الأعماق. يربط العمل الشعري ما بين فقد الأم كجذر روحي، والوطن كغربة مؤلمة، والذات الممزقة بين زمني الحنين والاغتراب.

 لغة الديوان شاعرية، غير متكلفة، تتدفق مع نبض التجربة الصادقة، بلغة استعارات وكنايات تعكس أعمق طبقات الحزن والحنين.

يصلح هذا النص لأن يقرأ كتأبين للأمهات جميعا، ومرآة لوجع المنفى العربي، وشهادة أدبية على أن الرخام الحقيقي ليس ما يوضع على القبور، بل ما ينحت من الكلمات في قلوب القراء.

***

بقلم الأستاذة: ليلى بوشمامة / المغرب

احببت القصص الشعبية والحكايات منذ بداية تفتح مداركي الاولى، وكان ذلك بعد ان اقام الاهل في بيت مستأجر، قام في الحي الشرقي من مدينة الناصرة، وكان من حسن حظي او من محاسن الصدف، ان يقوم هذا البيت قريبًا من بيت مدير البوسطة/ دائرة البريد في المدينة ابي توفيق، فهد الملا، ومن غرفة شقيقته كفيفة البصر مبصرة القلب السيدة قادرية، وكنا نناديها تحببًا وتدللًا جريًا على ما فعل محيطون بها " آدو". هذه السيدة كانت تأتي الينا في ليالي الشتاء الطويلة وتشرع في رواية حكاياتها الرائعة، لاستمع اليها انا الطفل الصغير بانبهار فاق انبهار جميع ابناء عائلتي، حتى انه تغلغل في لحمي وعظامي وبات فيهما. حكايات هذه السيدة ايقظت في داخل مارد الطموح، فشرعت بالتفكير في رواية الحكايات مثلما كانت تفعل، وقد بالغت في تفكيري هذا حتى انني بت اتمنّى لو ان الله يمكنني من تحريك فمي كما تحرك هي فمها مرسلة الابتسامة تلو الاخرى، كلما شعرت انها قدمت لنا الحركة المشوقة المثيرة في هذه القصة او تلك، واذكر انني كنت آنذاك اقلد السيدة " آدو"، فاجمع ابناء الحارة ممن هم اصغر مني في العادة او من مجايلي. اروي لهم حكاية السيدة المحترمة تلك واطلب منهم ان يقوم كل منهم بأداء ما اقترحه عليه او ما يختاره من ادوار ابطال ما ارويه من قصص. هذا الحب للقصص والحكايات كبر معي يومًا بعد يوم وسنة بعد سنة، وواضح انه فتح ابواب الامل والطموح امامي فمضيت سائرًا فيها متنقلًا من فترة إلى اخرى ومن مرحلة الى سواها، فمن كتب المبدع العظيم كامل كيلاني للأطفال إلى كتب الف ليلة وليلة (الكتاب الاهم في حياتي)، ومن مؤلفات عباس محمود العقاد الى كتب طه حسين، وها انذا اموت حبًا في مؤلفات ابراهيم عبد القادر المازني ومصطفى صادق الرافعي، بل ها هي تأتي فترة اكتشف فيها الروايات الاجنبية المترجمة إلى اللغة العربية ضمن سلسلة "كتاب الجيب" و"روايات عالمية" اللتين كانتا تصدران ابان تلك الفترة في القطر العربي المصري. ابتدأت الكتابة وانا على مقاعد الدراسة الاولى، وكان من حسن حظي ان يعلمني اثنان من محبي اللغة العربية ومن ذوي العلاقة بمجلة "اليوم لأولادنا" التي كانت تصدر في تلك الفترة. هذان المعلمان اعجبا ببعضٍ من كتاباتي فقاما بنشرها في تلك المجلة. في اواسط الستينيات ابتدأت الكتابة متلمسًا طريقي، وكان ان ارسلت احدى قصصي الى برنامج ادبي اذاعي كان يحرره في حينها الكاتب عرفان ابو حمد، ويساعده فيه الشاعر جمال قعوار، فقام بنشرها، ولم يكتف بهذا وانما ارسل الي مكافاة مالية افرحت قلبي وشددت من عزيمتي في المضي في الطريق ذاته. بعدها نشرت لي صحف مثل "اليوم" وبعدها "الانباء" فـ "المرصاد" شيئا من كتاباتي. عام 68 تجرأت وارسلت قصة كتبتها عن امي ومدينتي الناصرة وعن مدى محبتي لهما. وضعت لها عنوان "الكلمة الاخيرة" وارسلتها الى اهم مجلة ادبية كانت تصدر في تلك الفترة وهي مجلة "الجديد" الثقافية الشهرية، وقد فوجئت في نهاية الشهر بقصتي منشورة في المجلة، فشعرت انني تحولت من قارئ لتلك المجلة الى كاتب فيها، كما شعرت انني اصبحت كاتبًا وانني وضعت خطوتي الحقيقية الاولى على طريق الادب الطويل، وهو ما دفعني لزيارة مكاتب المجلة الكائنة في وادي النسناس القائم في مدينة حيفا، للتعرف على محرر المجلة الشاعر سميح القاسم الذي سيفتح لي الابواب كلها وسوف يصبح من اعز الاصدقاء، حتى ايامه الاخيرة في الحياة.

هذا عن شخصيتي في تلكم الايام، اما عن الشخصيات الاخرى التي التقيت بأصحابها وربطتني بهم علاقة مودة ومحبة، حتى ايامهم الاخيرة في الحياة، خاصة من ابناء الجيل الماضي، فإنني اواصل الكتابة فيما يلي عن شخصيات وذكريات.

طه محمد علي.. القصة وقصيدة النثر

كنت تعرفت على اسمه من خلال نتفٍ له او عنه نشرت في صحيفة "اليوم"، وكان اسمه بالنسبة لي واحدًا من الاسماء الادبية البارزة في مدينتي، وكان طه محمد علي (1931- 2011)

في حينها قد نشر، في مجلة "لقاء" العربية العبرية قصته "قناني فارغة"، فاخذ مكانه اللائق به بين كتاب القصة القصيرة في بلادنا، اضاف الى أهميته هذه انه التقى بالكاتب الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر حين زيارته مدينتي الناصرة في اواخر السبعينيات، وان وسائل الاعلام آنذاك اشارت الى ذلك اللقاء. بعد تردد طويل قمت بزيارة طه، وفوجئت باستقباله الباسم لي، اذ كنت متوقعًا ان يستهين بي على اعتبار انه كان رجلًا مكتمل الرجولة وكاتبًا معروفًا وانا ما زلت اضع خطواتي الاول على مدارج الحياة والابداع الادبي. ترحيب طه، تواضعه وابتسامته الذكية الدائمة، كل هذا شجعني على زيارتي له والتردد عليه كلما سنحت الفرصة. علاقتي اليومية به تواصلت حوالي العشرين عاما. وقد التقيت في دكانه الصغير المتواضع بمعظم كتاب وادباء بلادنا خاصة الناصرة. من معرفتي المديدة هذه بطه اسجل ما يلي. فقد كانت بدايته مع القصة، وكان متأثرًا بما قراءه من قصص للكاتب الفرنسي ذائع الصيت جي دي موباسان، واذكر انه كان معجبًا جدًا بقصة "العُقد" التي تحدثت عن مفارقات الحياة، وتفكير كل انسان بما يخصه متناسيًا احيانًا انه ليس واقعيًا وانه ربما يكون في واد ومن يظنه خصمًا في واد اخر. واذكر في هذا السياق انه اشار إلى هذا الكاتب قائلًا انه تأثر به كثيرًا. من الادباء والشعراء الذين كانوا يترددون على دكان طه لبيع الاثريات والتذكاريات اشير بقوة الى الشاعرين جمال قعوار وقريبه ميشيل حداد، وكان طه كما قال لي اكثر من مرة يحاول الاستفادة من معارف جمال قعوار الادبية واللغوية، اما علاقته بميشيل حداد فقد قامت في البداية على محبة مشتركة منهما للقصيدة النثرية لدى كتابها خاصة محمد الماغوط، صاحب المجموعة الشعرية المشهورة في تلك الايام "غرفة بملايين الجدران"، لقد اخذ طه بيد ميشيل حداد، حتى انه كتب له مقدمة مجموعته الشعرية الاولى "الدرج المؤدي الى اغوارنا"، وامتدح فيها هذا الضرب من الشعر معتبرًا اياه اغناءً واضافة حقيقية إلى شعرنا العربي الحديث. محبة طه هذه لمحمد الماغوط كانت تتجلى تقريبًا في كل جلسة او حديث، وكان يتمنى ان يكتي قصيدة في مستوى قصيدة الماغوط، وقد ابتدأ في كتابة هذا النوع من الشعر بعد بلوغه الخمسين من عمره، وكانت قصيدته النثرية "شرخ في الجمجمة"، واحدة من اوائل كتاباته ولاقت للحقيقة حفاوة من القراء واصحاب الجرائد والمجلات، بل انها نشرت في اكثر من صحيفة ومجلة في الداخل والخارج، الامر الذي شجع طه على المضي في كتابة هذا النوع من الشعر (النثري)، بل حفزه على نشر مجوعته الشعرية الاولى وهي "القصيدة الرابعة"، بعدها كتب طه ونشر الكثير من الشعر النثري، برزت من بينها قصيدته عن موكله الصفوري البسيط الذي كان سيدعو بحارة الانتربرايز لتناول اللبنة والبيض المقلي لو انه رآهم والتقى بهم. غير ان طه عاد إلى هذه الشخصية، بعد ان حصل تقارب بينه وبين الحزب الشيوعي الاسرائيلي، ليكتب قصيدة اخرى تتحدث عن الشخصية الصفورية البسيطة ذاتها وعن تفجيرها للبحارة ذاتهم. الامر الذي اثار حفيظة صديق طه المقرب الكاتب الشاعر احمد حسين فأشار الى هذا التناقض في الموقف، وفق المصلحة، وكتب مقالة نارية انتقد فيها طه واذكر انه نشرها في حينها في مجلة "المواكب" الادبية، التي سأعمل محررًا فيها فيما بعد. كان طه باختصار شخصية بسيطة متواضعة وكان ذرب اللسان دمث الخلق وامتاز بالسخرية اللاذعة في حياته وكتابته، حتى انني اجبت مَن اجرى مقابلة معي عنه ىساخرًا بعد رحيله قائلًا: ان طه كان اكبر من شعره وانه كان ساخرًا كبيرًا ولو استمع الى الان وانا اتحدث عنه بعد موته لتساءل هل انا مت حقا؟

ادمون شحادة.. ادب وطموح

افتتح ادمون شحادة (1933-2017) مكتبته التي اطلق عليها اسم "المكتبة الحديثة" تيمنًا واملًا في اوائل السبعينيات، وكنت قبل افتتاحه مكتبته هذه قد عرفته عبر ما كتبه من مقالات عديدة عن العروض المسرحية في مجلة "المرصاد" التي رحبت بي دونا عن غيرها كاتبًا، فكنت اقرأ ما يكتبه وينشره واشعر بأهمية ان اتعرف عليه وان ابتني معه علاقة صداقة ادبية تشبه تلك العلاقات التي عرفت واشتهرت في عالم الادب عربيًا وعالميًا، لهذا ما ان افتتح ادمون مكتبته الحديثة هذه حتى كنت من اوائل المترددين الزائرين لها، وقد اكتشفت منذ زيارتي الاولى له في مكتبته، انه لم يكن اقل مني رغبة في ابتناء تلك العلاقة، لهذا سرعان ما توطدت الاواصر بيننا وقد استمرت حتى بعد ان اضطره المرض ملازمة بيته وتوكيله ابنته امر ادارتها. من معرفتي المديدة لادمون، كنت اكتشف يومًا اثر يوم ذلك الطموح الذي ميزه وجعله يحقق حلمًا راوده – كما قال لي- اكثر من عشرين عامًا، وقضى بان يترك مهنة النجارة التي عمل فيها مدة عقدين من الزمن، ليتفرغ لإدارة مكتبة يلتقي فيها بمن احب واراد من الكتاب والشعراء. في مكتبة ادمون تعرفت على مبدعين من مختلف المشارب والاعمار، وقد كتبت عن هؤلاء في غير هذه الصفحات. وكان ادمون محبًا للأدب، كتب الاغنية والقصيدة النثرية متأثرا بميشيل حداد وبعده بطه، كما كتاب المسرحية، القصة والرواية، وحتى المقالة الادبية، واذكر انه كان ميالًا لكتابة المسرحية، واصدر فيها عددًا وفيرًا منها البيت الصاخب، وهناك حكاية طريفة تتعلق بعلاقتنا المشتركة احب ان ارويها. مفادها ان ادمون اخبرني في اواسط الثمانينيات انه يريد ان يكتب مسرحية تتحدث عن بير زيت وعن احدث تدور رحاها في الضفة الغربية المحتلة، الا انه حائر بين نوعية كتابتها فهل يكتبها مسرحية ام رواية. عندها سالته عما يشعر به فذكر انه يفضل ان يكتبها رواية، هكذا ولدت روايته "الطريق الى بير زيت"، وقد ذكر ادموني تحبيذي كتابتها رواية في اكثر من مناسبة ولقاء ادبي، ما زاد في تقديري له. كان ادمون خِلافًا للكثيرين في مقدمتهم طه محمد علي، يحاول الكتابة في كل الانواع الادبية، ولم يركز على نوع محدد، الامر الذي اثر على استقبال القراء لكتاباته المتعددة المتنوعة، علما انه كان انسانًا جديًا، ويحب الادب واهله، وهو ما قلته عنه في اكثر من كتابة ومحاضرة.

ميشيل حداد.. رائد قصيدة النثر في بلادنا (1)

عمل ميشيل حداد (1919 - 1996)، معلمًا للرسم والموسيقى، وكان محبًا للأدب والصحافة، لهذا كان من اوائل من سعوا لتأسيس مجلة ادبية اجتماعية في البلاد هي مجلة "المجتمع"، التي سأعمل فيما بعد محررًا فيها الى جانبه، وقد حرص ميشيل على ابتناء علاقات جيدة بوسائل الاعلام خاصة الصحف والمجلات، فكان يشجع كل من يطرق به فيأخذ بيده وينشر له في مجلته او في مجلات اخرى. بل انه سعى ايضا للقاء بكل من علم عنه انه محب للأدب والفن وحاول التعاون معه وتشجيعه اما في النشر عبر صحيفة او مجلة وحتى في كتاب مشترك مع آخرين. تعرفت إلى ميشيل في دكان طه محمد علي للتذكاريات الكائن في شارع الكازانوفا، وقد ربطتني به علاقة محبة ومودة منذ اللحظات الاولى للقاء، اذ كان اجتماعيًا يتصف بدماثة الخلق. ونقاوة اللسان، وكان ميشيل كما عرفته جيدًا يمتلك اذنًا موسيقية رهيبة إلا انه لم يدرس اوزان الشعر العربي المعروفة الامر الذي حرمه من كتابة الشعر، لهذا على ما اعتقد، ما ان اكتشف مجلة "شعر" اللبنانية واصحابها من شعراء قصيدة النثر، يوسف الخال خاصة، حتى دب عليهم وحاول ان يبتني معهم علاقات ادبية، بل انهم نشروا بعضًا من كتاباته في مجلتهم كما اخبرني. علاقة ميشيل بطه دفعته منذ بداية تعرفه على مجلة شعر لإجراء الاحاديث المطولة حول هذه القصيدة وكان ميشيل يستمد طاقته وقوته على الاستمرار من طه، فقد اقتنع هذا الاخير بهذا النوع الوافد من الشعر ورأى فيه مساحة طيبة لتطوير القصيدة العربية، وهو ايضًا لم يكن يعرف الاوزان الشعرية العربية القديمة، لهذا يبدو ان شيطان الشعر قد ابتسم له، مقنعًا اياه انه بإمكانه ان ينتمي الى ملكوته الخاص، وبعد تردد مديد اقبل طه على كتابة قصيدة النثر، وهكذا شد احد الشاعرين من عضد الآخر، وتوقف الاثنان في خندق واحد، صديقين محاربين.. مدافعين عن قصيدة النثر. ومناديين بأهميتها في تطوير شعرنا العربي وانتقال به من الثابت المقيت الى المتحول المنشود، وفق تعبير ادونيس- على احمد سعيد، صاحب كتاب "الثابت والمتحول"، وقد اختلفنا في نقاط تتعلق بهذا النوع من الشعر واتفقنا، ودخل النقاش ذات عام الكاتب الناقد نبيه القاسم فوجّه سؤالًا بسيطًا وواضحًا لطه، وضمنا لميشيل، لماذا لا تسمي ما تكتبه نثرًا جميلًا؟ لقد فتحت كتابة قصيدة النثر لدى ميشيل اولًا وطه ثانيًا ابواب النقاشات واسعة.. وقد امتدت فترات طويلة من الزمن دون ان تتوقف او تصل الى نتيجة.. الامر الذي دفع الكثيرين وانا منهم الى استعارة عنوان مسرحية الكاتب المسرحي الايطالي المبدع بيراندلو وهو " لكل شيخ طريقة".

***

ناجي ظاهر

 

لا أذكر تفاصيل الأمسيات التي أعقبت صدور "ما بعد المركزية الأوروبية" إلا كأحلام ملونة بالحماس. كان الكتاب حدثاً ثقافياً استثنائياً، كأنه عيد لم نتوقعه. في مقاه وسط القاهرة وبين أروقة دار الأوبرا، كان المثقفون المصريون يتهادون النسخ كهدايا ثمينة، وكأنهم يقولون: "هذا ما كنا ننتظره". لم يكن مجرد كتاب، بل كان تمرداً على الزمن الراكد، إعلاناً أن التاريخ لا يروى من فوق منصات الإمبراطوريات، بل من زوايا المقاهي حيث يجلس المهمشون ليحكوا حكاياتهم. 

الصديق إبراهيم فتحي، الناقد والمترجم الراحل، كان يضحك في إحدى الندوات وهو يقول: "هذا الكتاب سيفتح جبهات جديدة.. لن تسلموا من أسئلته!". كأنه كان يعرف أن الأفكار ستتسرب كالنار في الهشيم. في القاهرة، حيث المثقفون اعتادوا أن يطعموا بالفكر الغربي جاهزاً، جاء جران ليقلب المعادلة: "أنتم لستم تلاميذ، بل شركاء في كتابة التاريخ". كانت هذه الجملة وحدها كافية لتشتعل القاعة بالتصفيق، وكأننا نسمعها لأول مرة. 

الفرح الذي خلفه الكتاب لم يكن فرحاً ساذجاً، بل فرح أشبه بصحوة. صحوة من سبات فرضته علينا أكذوبة "المركز والهامش". لسنوات، كنا نقرأ التاريخ وكأننا ننظر إلى مرآة مشوهة، فجاء جران ليكسر المرآة، ويرينا أن العالم مرايا متعددة، كل منها يعكس وجهاً مختلفاً للحقيقة. في ندوات المجلس الأعلىللثقافة بالأوبرا، كان النقاش يدور كرقصة صوفية: أسئلة عن دور المثقف العضوي، عن كيف نصنع وعياً لا يكرر خطاب السلطة، عن جرامشي الذي صار فجأة "مصرياً" في سياقنا المحلي. 

الأمر الأكثر إبهاراً كان اللغة. كيف لكتاب نظري أن يتحول إلى حديث الشارع؟ لأن جران لم يكتب عن "الشعوب" ككائنات مجردة، بل عن لحظة التقاء المثقف بالفلاح، والعامل بالشاعر، وكيف أن الثورة الثقافية تبدأ حين يتوقف "الهامش" عن انتظار التعليمات من "المركز". في مصر، حيث الثقافة الشعبية تنبض بحيوية تتفوق أحياناً على الثقافة الرسمية، وجد الكتاب تربة خصبة. الشباب الذين شاركوا في الندوات كانوا يصرخون: "هذا ما نعيشه!". 

الترجمة، بروحها العربية المصرية، دور المحول الكهربائي. إبراهيم فتحي وعاطف أحمد ومحمود ماجد لم ينقلوا الكلمات، بل أنعشوا روح النص. جملة مثل "الثورة الثقافية هي انتفاضة الوعي ضد الاستلاب" صارت تردد في أروقة جامعة القاهرة كما تردد الأغاني الثورية. كأن المترجمين كانوا يعرفون أنهم لا يترجمون كتاباً، بل يزرعون بذوراً ستزهر لاحقاً في حركات فنية وأدبية. 

اليوم، حين أعود إلى الكتاب، أتذكر تلك الليالي المليئة بـ"قهقهات" النقاش ورائحة الورق الجديد. كان بيتر جران، بلهجته المصرية الطريفة، يقول: "التاريخ ليس متحفاً، بل ساحة معركة". وكأنه كان يعلمنا أن نكتب تاريخنا بأيدينا، لا أن نستعير سرديات الآخرين. الكتاب لم يغير طريقة تفكيرنا فحسب، بل أعطانا جرأة أن نضحك في وجه الوصاية الثقافية، أن نقول لأوروبا: "شكراً، لكننا لسنا بحاجة إلى مرآتكم بعد الآن". 

الآن، وقد صارت "ما بعد المركزية الأوروبية" جزءاً من ذاكرة جيل، أتساءل: ألم تكن تلك الفترة بذرة للربيع الثقافي العربي الذي تلاه؟ ربما. لكن الأكيد أن الكتب الحقيقية لا تنتهي عند غلافها، بل تستمر كصدى يحرك الأسئلة. والصدى الأجمل أنه لم يعد صمتاً.

 مهرجان شعبي..

كانت المفاجأة أن يصبح الكتاب الفكري "حدثا شعبيا". لم نعتد أن تلامس النظريات الماركسية حرارة الشارع المصري بهذا الوهج، لكن "ما بعد المركزية الأوروبية" اخترق القواعد ببراعة؛ فالمثقفون في مصر، الذين طالما تنازعتهم هويات بين شرقية وغربية، وجدوا في هذا الكتاب خريطة للخروج من المتاهة. لم يكن سردًا تاريخيا، بل كان دليلًا عمليا لاستعادة الكرامة: كرامة السرد، وكرامة الوعي، وكرامة أن تكون "هامشًا" يرفض أن يختزل إلى رقم في معادلة المركز. 

الفرح الذي لا يشبه سواه كان فرحًا بالتحرر من "أبوة" الغرب الفكرية. تذكرت كلمات جران في إحدى الندوات حين قال: "التاريخ ليس إرثا تحصيه الشعوب، بل هو ذاكرة حية تنتج مقاومة كل يوم". كانت كلماته كالماء في صحراء؛ فالمثقفون المصريون، الذين عانوا من عقدة التابع والمقلد، بدأوا فجأة يكتبون مقالات تبدأ بعبارة: "كما يقول بيتر جران..."، وكأنهم وجدوا أخيرًا سلاحًا نظريا ضد الاستلاب. 

اللافت أن الكتاب لم يناقش فقط في الجامعات، بل تسلل إلى حلقات مقهى البستان، وإلى جلسات الفنانين في أتيليه القاهرة، وحتى إلى "الواي فاي" المجاني في المولات. كان الشباب يتساءلون: "هل يعني هذا أننا لسنا متخلفين، بل نكتب تاريخنا بطريقة مختلفة؟". السؤال نفسه كان ثورة صغيرة، لأن الثقافة المصرية ظلت لقرون تعيش تحت وهم أن التقدم يسير في خط مستقيم من أثينا إلى باريس، وأن عليها أن تنتظر دورها في ذيل الركب! 

إبراهيم فتحي، بابتسامته الواسعة، كان يحرص أن يقول في كل ندوة: "هذا الكتاب ليس ترجمة، بل هو استعادة لأصواتنا المدفونة". كان الرجل يعرف أن الكلمات التي نقلها من الإنجليزية إلى العربية تحمل في طياتها روحًا مصرية خالصة؛ فجرامشي، بتركيزه على "المثقف العضوي" و"الهيمنة الثقافية"، لم يكن بعيدًا عن واقع عاشه المصريون: فلاحو صعيد مصر الذين يحولون الأرض إلى قصيدة، وعمال المحلة الذين ينتجون وعيًا ثوريا بين آلات الغزل، وحتى "الفلاحات" في الأسواق الشعبية اللاتي يبتكرن فلسفة خاصة للبقاء. 

الكتاب، بفضل الترجمة الحية، جعلنا نرى أنفسنا في مرآة جديدة. لم نعد ذلك "الآخر" الذي يدرسه الغرب في أطالسِه، بل صرنا فاعلين في التاريخ. حتى النقاشات التي اشتعلت حوله كانت جزءًا من رسالته: ففي ندوة بمكتبة الإسكندرية، وقف شاب يسأل: "إذا كانت أوروبا مجرد مركز وهمي، فلماذا لا نكون نحن المركز الجديد؟". رد عليه مثقفٌ مخضرم: "الكتاب لا يدعوك لاستبدال مركز بآخر، بل لتحطيم فكرةِ المركز نفسها!". كانت تلك الإجابة جوهر الثورة: أن نعيش في عالم لا يقاس بالمسافات من عاصمة إلى أخرى، بل بالمساحات التي نصنعها بيننا كبشر. 

اليوم، وأنا أتصفح نسختي البالية من الكتاب، أتذكر كيف كان الوعي يولد كل يوم في تلك الفترة. لم نكن نقرأ فصولًا، بل كنا نعيشها. جران لم يأت إلينا بنظرية جاهزة، بل أشعل نارًا في كل سؤال كنا نخاف أن نطرحه: ماذا لو كانت النهضة العربية لم تفشل، بل اختلفت طريقتها عن النهضة الأوروبية؟ ماذا لو كان "التخلف" مجرد خرافة اخترعها المركز ليبرر هيمنته؟ ماذا لو كنا، نحن المصريين، قد اخترعنا ماركسية خاصة بنا دون أن ندري؟ 

الكتاب علمنا أن الثقافة أقوى من المدفع. وأن الهزيمة الحقيقية ليست في الاحتلال، بل في أن تصدق أنك لا تستحق أن تكتب تاريخك. الآن، وبعد سنوات، لم يعد السؤال: "هل تغلبنا على المركزية الأوروبية؟"، بل صرنا نسأل: "كم مركزًا جديدًا سنصنع قبل أن تنتهي الحياة؟".

***

د. عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم